بيتٌ صغير في البستيين، وثمة رجلٌ كهلٌ يمضي على كرسي متحرك. يضعُ سماعةً على أذنه لكي يسمع الأصوات، يطرقُ الحديدَ، يرسم بمسطرةٍ دوائرَ لآلة، لم يعملْ في دائرة أو شركة لسنوات طويلة، وليس لديه معاش تقاعدي، ويدفع من جيبه لكي يصمم تلك الآلة.
ارتعاشةُ يديه، تعبهُ، كلُ هذا يجعلك تعود بذاكرتك إلى تاريخه النضالي الطويل، وكان هذا الاختراع يلازمهُ كحلمٍ متغلغلٍ في عروقه، الآن سلمَ كلَ دمهِ وأيامه من أجل أن يتحول الحديد إلى اختراع. وأخيراً اعترفت وزارةُ الكهرباء البحرينية بأن ما اشتغل عليه الباحثُ محمد جابر الصباح هو آلةٌ مخترعة لها كل مواصفات الاختراع وأعطته شهادة رسمية بذلك بعد أن عاينها وفحصها عدةُ مهندسين في الوزارة المذكورة.
إنها قصةٌ طويلة تعبرُ عن مسيرةِ كفاحٍ مضنية، بدأتْ منذُ أن كان محمد جابر مسجوناً قبل عدة عقود في جزيرة جدة، سنة 1965، وهناك خطرت عليه الفكرةُ لأول مرة، وهي أن يحولَ الماءَ إلى طاقة كهربائية. ضحك منه رفيقهُ الراحل عبدالله المعاودة الذي كان مجاوراً في المدينة والمعتقل وقال: أتحولُ الماءَ إلى طاقة، أي حلم غريب هذا؟ وهذا ما قاله كثيرون لمحمد جابر وابتسموا مداعبين لهذا الرجل الذي كان قوياً فتياً وقتذاك.
واستمر المخترعُ المجهول يقرأ ويرسم ويطرقُ المعادنَ، ويحولُ الملاعقَ إلى أدوات تحرك السائل، ويطور آلة القياس الخشبية بثقوبٍ في داخلها لكي تتحرك وتدور في دائرة أكبر من معدل مسطرة القياس العادية، من أجل أن تغدو آلة تحويل الماء إلى طاقة كهربائية بحجمٍ أكبر.
تحولت الفكرةُ بعد سنوات إلى شيءٍ حقيقي، إلى جسم مادي فيه كل تصاميم المخطط المرسوم في الذاكرة. وأخيراً قرأ بعض الأصدقاء اعتراف الوزارة بأن ما صممه محمد جابر الصباح هو آلة ذات مواصفات جديدة في العالم وليست حلماً غامضاً تداعب هذا الكهل، فهي تقومُ بامتصاص الماء وتحريكه وإنتاج كهرباء منه، لكن هذا الامتصاص والتحريك والتشغيل، وتغيير الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهرباء، يتجاوز المقاييس الموجودة عالمياً، وتكون آلةً تعمل لمدة أربع وعشرين ساعة، بدلاً من الآلات التي تشتغل لعدة ساعات قليلة فقط، وتقوم بذلك بكمية أقل من السائل.
هذا النشاط الطويل والحلم العلمي الصعب تم في ظروف بالغة الصعوبة، فمحمد جابر ينتقلُ من شقةٍ إلى شقة، ويحمل كتبه وأوراقه وأدويته، ويشتغل في السياسة والنضال داخل البرلمان الوطني في سنة 1974 ثم يواصل الحلم في السجن الجديد لمدة عدة سنوات أخرى ولا يشبع الواقعُ المر من لحمه وهو لا يتخلى عن تغييره، ثم يخرج من السجن والحلم لم يخرج من عقله، ويعمل لعودة البرلمان مجدداً، ويحول بيته إلى منبر للديمقراطية لعدة سنين، والاختراع لا يزال ممسكاً بتلابيب عقله ولكنه يقترب من التصميم العلمي، من القياسات الدقيقة، من صهر المعدن، ويظهر على الحديد، ويتشكل.
كم مضى على ذلك؟ أكثر من أربعين سنة، وهي قصة مثيرة تصلح لذاكرة الأجيال والسينما. ولكن حتى في هذا العمر المديد لم يكتمل الحلم تماماً، ولا يزال ناقصاً، والرجل تبدل من الرجل النشيط والأسود الشعر، إلى كائن منحن، يجثم في كرسي، ويصعب عليه الدخول إلى هذا الكرسي المتحرك، فيجثم عليه بصعوبة، وهو يمضي إلى الحوش حيث عروسته غير المكتملة، يريدها أن تفارقه وتتحول إلى كائن يهدر بالطاقة، يمضي بسماعته في الأذن، وبأدويته وكرسيه المتحرك يتحرك، فلا الوزارة أعطتهُ شيئاً غير ورقة لا تغني ولا تسمن من صناعة، غير إشادة من بضعة سطور، فلا يتحول التصميم إلى تصميم يجري اختباره وتصنيعه، فهو فكرة صحيحة لكنها بعد لم تنتج من الماء نوراً.
ويتصل محمد جابر ببعض الهيئات العلمية في الهند لتمده بأدوات يشتريها من جيبه الخاص، وبمبالغ كبيرة خاصة في مثل ظروفه حيث يحتاج إلى النقود من أجل فاتورة الكهرباء الثقيلة، وليس من أجل أن يصنع الكهرباء الرخيصة. ويندهش الصناعُ الهنود من الفكرة ويطلبون تصميمها باستيرادها من أجل نشاطهم الخاص وتصنيعهم المجهول هناك، فلا يحصل المخترع البحريني حتى ربما على براءة اختراع.
الجهات الرسمية في البحرين تقف مكتوفة اليدين، فلا ثمة دعم مالي ليتحول الاختراع إلى شيء متحقق، ولا حتى مساعدات مادية لتقوم هي بتنفيذ الفكرة. كان لدينا مخترعون قلائل يئسوا من الأمراض الصناعية التي تتغلغل في أجسادهم بسبب التعامل مع المواد الصناعية والكيميائية، فتركوا هذه المغامرات إلى المصحات. فلا يوجد لدينا ما يُسمى ببراءة اختراع، ولا مكآفات مجزية لهؤلاء الذين يخاطرون بأعمارهم وأجسادهم من أجل إنجاز علمي صناعي من هذا القبيل، وليس ثمة معاهد تقنية ومؤسسات تتبنى مثل هذا الاختراعات وتحولها إلى سلع، وتعطي المخترع حقه. وقد واصل الأخ محمد جابر بروح فدائية هذا المشروع، وتحدى كل الصعوبات المذهلة، المرض والفقر، وعدم التشجيع واللامبالاة، وجاء إقرار وزارة الكهرباء بهذا الإنجاز تتويجاً لمسيرة مضنية، والخوف من أن تتحول الآلة الباردة الصامتة الآن إلا من طرقات هذا العجوز العنيد إلى خردة حديدية وذكرى عابرة. نتمنى أن نتجاوز الإشادة الورقية وأن تكون هناك مساعدة حكومية أو خاصة تحيلُ هذا الحلمَ الذي واكب حلم البحرين بالحرية والديمقراطية والتقنية المتقدمة إلى سلعة مصنعة تهدر بالطاقة.
محمد جابر الصباح مخترعاً
عن الكهرباء في بلدٍ نفطي
في ضوء الانقطاعات المستمرة للكهرباء عن مناطق البحرين المختلفة لفت نظري مقال عن الكهرباء على موقع الحوار المتمدن، ربما ما كنت سألتفت إليه لولا أن الناس ضجت من عجز الجهاز الإداري المعني بخدمات الكهرباء في بلادنا عن تقديم الخدمة الواقعة على كاهله تجاه الناس، خاصة في مثل هذا الجو اللاهب وفي هذا الشهر الكريم بالذات.
وجدت المقال المذكور يحكي عن معاناة العراقيين مع انقطاع الكهرباء المستمر، وهو صيغ بلهجةٍ ساخرةٍ، تشفُ عن حجم هذه المعاناة وأوجهها المختلفة، والعراق مثلنا بلد نفطي وثرواته هائلة، لكن هذا البلد يعيش وضعاً استثنائياً، فهو منذ سنوات في حالة حرب أو ما يشبهها، والبنية التحتية هناك دُمرت بسبب الحروب العبثية التي فرضها على هذا البلد المنكوب الطغاةُ تارةً، والغزاة تارةً أخرى، ثم عمليات التخريب والإرهاب التي تنفذها “القاعدة” وتفرعاتها.
لذا فان المرء يستطيع أن يتفهم لماذا يعاني العراقيون من مشكلة انقطاع التيار الكهربائي في الظرف الاستثنائي الذي تعيشه بلادهم، باعتبار ذلك وجهاً من أوجه المعاناة العامة في ذلك البلد الشقيق التي نتمنى أن تنجلي قريباً، ولكن كيف نلتمس للمسؤولين عن الخدمات الكهربائية في بلادنا العذر، ونحن نعيش في وضع طبيعي مستقر، ولا تشكو البلد، ولله الحمد، من ندرة في الموارد ولا عجز في السيولة، أمام تدفقات عوائد النفط الهائلة، التي يتمنى المواطن أن تنعكس على شكل تحسين ملموس في الخدمات الضرورية، وبينها التغلب على مسلسل الانقطاع الدوري للكهرباء في كل صيف.
هل يمكن أن يكون مقبولاً أن الدولة ورغم كل الوعود التي تُطلق، عاجزةً عن بلوغ حلٍ نهائي لمشكلة انقطاع الكهرباء، خاصة وأننا مررنا بتجارب مريرة خلال هذه السنوات، بينها تجربة انقطاع التيار الكهربائي عن البحرين كلها ذات يوم أسود في صيف لاهب منذ سنوات قليلة. حينها قال المسؤولون أن ما حدث لن يتكرر، وأن الدولة بصدد وضع نهاية لمعاناة المواطنين في هذا المجال، لكن هذا لم يجد طريقه للتنفيذ حتى اليوم، فالكهرباء ما زالت تنقطع حتى هذه اللحظة ولساعات طويلة، في غياب الآلية المتحضرة التي يُفترض أن تحكم سلوك الجهاز المعني في مثل هذه الحالات بالإشعار المسبق بموعد انقطاع التيار وعودته كي يأخذ المواطنون ما يلزم من احتياطات على نحو ما أشارت الزميلة عصمت الموسوي في مقالها أمس.
ويمكن الاستطراد في هذا الحديث بالسؤال عما إذا كانت الانقطاعات الدورية للكهرباء تندرج في إطار خطة معلومة لتقنين الاستخدام بسبب عجز في الخدمة، أم أن الأمر عائد إلى خلل دوري يؤدي لهذه الانقطاعات بسبب كثافة الاستخدام، وفي كلا الحالين فان الأمر يكشف عن فشل. فكيف يصح في بلدٍ غني مثل البحرين، يشهد كل هذا التوسع في المشاريع وفي النمو العمراني أن يغفل موضوع توفير الطاقة الكهربائية الضرورية، فتُدار الأمور بطريقة التقنين كما لو كنا في ظرفٍ استثنائي، أو تترك للصدفة وحدها، فمتى ما اشتد الضغط على الخدمة انقطعت الكهرباء. وننهي الحديث بسؤال: إذا كنا عاجزين عن تدبر أمورنا في مسألة مثل الكهرباء، فكيف سنتدبرها في ما هو أكبر، كإستراتيجية التنمية المستقبلية؟
المستقبل الغامض!!
عندما أرى وأقرأ وأسمع عن كم وحجم الصدقات والزكوات والمساعدات التي تجمع وتضخ من بيوت مال التجار والمحسنين والوجهاء والجمعيات الميسورة والشركات وبعض البنوك، أدرك كم هو حجم الفاقة والفقر والعوز في مملكتنا وكم هو بالغ ومخيف ومروع، إذ إن ما تجمعه الصناديق والجمعيات الخيرية والأهلية لتتبرع به إلى أهل الحاجة يبدو في حجمه الهائل كما لو إنه معد ومجهز لثلثي سكان المملكة، وهي نسبة إذا ما قارناها بنسب أخرى قبل عقدين تقريباً لا تبشر بالخير، خصوصاً أن الغلاء الفاحش في ارتفاع جنوني وتدني الأجور في هبوط مستمر والبطالة لا تزال تعالج مشكلتها تارة بعقلانية وتارة أخرى بتخبط.
إذن ما العمل في ظل هذا الوضع؟ كيف يمكننا التغلب على هذه المشكلة؟ كيف يمكننا تشكيل مجتمع مكتف بما لديه من خيرات ومقدرات وقادر على ضمان مستقبله ومستقبل الأجيال التي ستعقبه؟ متى ستتوجه الصناديق الخيرية والجمعيات الخيرية والأهلية لتدشين مشاريع أهلية يستفيد منها المجتمع بدلاً من توجهها إلى جمع الأموال من أجل أهل الحاجة؟
المؤلم في الأمر أن الوضع الحالي صار يتعامل مع كثير ممن كانت رواتبهم محسوبة على ذوي الدخل المحدود على أساس محلك سر، إذ لا يمكن لهؤلاء من ذوي الدخل المحدود حتى توسعة المنزل الذي يسكنونه من أجل ضمان غرف متواضعة لأبنائهم، وغير قادرين على تلبية حاجات أبنائهم الدراسية إلا بشق الأنفس، ويعلم الله ماذا تعني كلمة ‘شق الأنفس’، وغير قادرين على إتمام ‘ماجلة’ البيت من بعد نصف الشهر، فأي وضع هذا؟
أعتقد بأنه بات من الضرورة التوجه إلى ‘رامز’ بالشكر والامتنان، ذلك أنه على الأقل تمكن من تلبية كل احتياجات ذوي الحاجة بأبخس الأثمان، وساعد بعض العائلات من أجل إكمال أبنائهم مشوارهم الدراسي، كما ساعد بعض الأزواج والبيوت المفتوحة للتو على تأثيث منازلهم وتلبية كل حاجاتهم ومستلزماتهم الحياتية اليومية، وربما ساعد كثيراً من الأسر على شراء ما يمكن أن يزهو به أبناؤهم في مناسبات الأعياد والحفلات، كما خفف عليهم الضغط الاستهلاكي وغير ذلك من ‘المتيسرات’، ولكن هل سيظل ‘رامز’ هو الحل الأبدي لمثل هذه الأسر؟
إذ كيف يمكننا قراءة الواقع الراهن في ظل المتغيرات العالمية على كل الصعد؟
كيف يمكننا قراءة المستقبل والأمن الاجتماعي في ظل تفاقم الضغط الاجتماعي على أبناء الوطن من كل النواحي؟
لا أعرف كيف أتخيل وضع أبنائنا القادم في ظل هذا المأزوم، كل ما أعرفه أن الوضع غامض ومحير ومخيف ولا شيء آخر
كتـّاب نحن ولسنا ” بطبالين “
خلال سنوات عملي المديدة في الصحافة، لم أجد يوماً وزيراً أو مسئولاً يقر بتقصير أو يعتذر عن تجاوز أو خطأ.. فكل ما في مدينتنا الفاضلة على ما يرام ولا يعتري سير العمل عندنا نقص أو شائبة حتى ليكاد يحسد – من يقرأ البيانات والتصريحات التي تعج بها صحفنا- البحرينيين لما هم فيه من سعة ودعّة لولا أن الكل يعرف حقيقة ما يعيشون.. لذلك على الأرجح لا يتطور العمل ولا تحلحل المشكلات وكيف؟! والمسؤولون يحجمون عن الاعتراف حتى بالمشكلات، ناهيكم بمعالجتها!!
أحياناً يتبدى لي أن بعض مسؤولينا لا يعبأون حقاً بالعامة، فكل ما يهمهم هو ما يتناهى لمسامع القيادة من خلال الحاشية والصحف.. يفسر ذلك تفانيهم في تجنيد الصحف ليعكسوا عن أدائهم الصورة التي يريدون..
ونحن في الصحف – وإن كنا قد ألفنا الردود الدافعية المنكرة- نجد أن وزارة التجارة اعتلت في السنوات الأخيرة العرش بردود تتجاوز صورتها التقليدية في الإنكار والنفي؛ لتوبيخ الكاتب وتسقيط من تسول له نفسه التعرض لمنجزات الوزارة وليراجع القراء كافة ردود الوزارة المذكورة وفي جميع الصحف وعلى جميع الكتاب؛ ليتيقن من صدق ما نقول..!
اليوم على سبيل المثال نشرنا رد وزارة التجارة على إحدى مقالات محدثتكم.. ومن يقرأه يستشف حقيقة أن الوزارة لا تعي دور الصحافة، وأن إدارة العلاقات العامة لا تعي دورها؛ وإلا لما جاءت ردودها لمناكفة شخص الكاتب لا طرحه ورسالته!!
قد يكون هذا لأن الوزارة لا تدرك.. أن لميس ضيف وكل زملائها لا يكيدون حقداً شخصياً على هذه الوزارة أو تلك، وليس لنا معهم ثأر من أي نوع. فنحن لا نفتعل القضايا ولا نستل المزاعم من جيوبنا.. إننا ننقل نبض الشارع وهمومه كما يقتضي واجبنا.. وفي نهاية المطاف وبدئه، فالقارئ الذي يعايش الأوضاع هو من يحكم على مصداقية ما يطرحه الكاتب، وليست الوزارات التي تنصب نفسها الخصم والحكم في آن!!
فلتتشدق الوزارات كما تحب بإنجازاتها ولننشر نحن النواقص والمثالب، ما يفصل بيننا هو عبود وجسوم وأم علي وجعفر الذين يعيشون على أرض الواقع لا في الأبراج العاجية.. فلتقل التجارة ودراساتها أن الوضع التضخمي في البحرين هو الأفضل في المنطقة، وأن جهودها في احتواء الغلاء لا تنكر.. الحكم بيننا هم الطبقة المتوسطة التي تآكلت تباعاً في السنوات الأخيرة.. لا ما يقولون.
وعلى أي حال، فنحن لا نحجب عن أحد فرصة الرد.. أما نعت الكاتبة بالجهل والغباء وعدم الموضوعية فهي ديدن من يتشارعون في المقاهي والطرقات لا على صفحات الصحف.. بجانب أن الرد على مقال من 400 كلمة بـ 1400 كلمة من منطلق ‘الكلمة بعشر’ فأمر غير مقبول أيضاً.. فقد بسط القانون حق الرد للجميع شريطة ان يأتي في صلب الموضوع ولا يشخصن القضية في محاولة لزجر الكاتب عن قول المزيد..
وإن تم نشر رد الوزارة المسهب اليوم، فما فعلنا إلا لنري القارئ نُذراً يسيراً مما نلقاه. ومن المعروف حسب قانون المطبوعات والنشر ان الرد يكون بحجم الموضوع المردود عليه وأن يتم التخاطب فيه معنا كشركاء في بناء الوطن – لا – كأبواق تجاوزت مهمتها في تلميع المسؤولين ومنجزاتهم وعليه استوجبت خرسها.. فنحن لسنا طبالين لأحد.. وكلما استوعبت الوزارات ذلك أسرع.. كلما سهلت على نفسها وعلينا الكثير..
الوقت 9 سبتمبر 2008
نقـد ركاب الموجة
حين كان الشارع قومياً حاداً كانوا قوميين متطرفين صاخبين. وحين صار الشارع ناصرياً صاروا ناصريين. وحين صار الشارع ماركسياً صاروا ماركسيين. وحين صار الشارع طائفياً صاروا طائفيين.
انها نخبة تركب الموجة الشعبية في كل مرحلة وظرف. انها نخبة التلاعب باللغة والفذلكة الكلامية وتمييع المواقف وخلط الأوراق والتورم الذاتي.
ولكل مرحلة من هذه المراحل أسبابها، فالشعب ليس(ببغاء عقله في أذنيه) كما قال أحد الشعراء، والشعب كذلك ليس كائناً مقدساً لا يعرف الأخطاء، والانقسامات والتشوهات، بل هو قوى متعددة محكومة بسببيات اجتماعية وظروف اقتصادية في كل فترة، دأبه أن يبحث عن منافذ سياسية لكي يغير أوضاعه المتردية والمضنية.
والقوى السياسية التي تتصدر حياته تتحمل مسئوليات قيادته في هذا الطريق أو ذاك، في خلق الروابط الفاعلة معه كي يحقق أهدافه ويحسن معيشته.
الخطورة في القوى السياسية أن يسودَ فيها ركابُ الموجة، وطلاب المصالح ويقرروا مصيرها، والمشكلة الطويلة المريرة التي عاناها طوال تاريخنا السياسي هي في هذا الشكل من الركوب، هي في هذه النوعية التي لا مبادئ لها سوى القفز فوق ظهور الناس للوصول إلى أهدافهم.
وقد عانينا خلال العشرين سنة الماضية من خطورة التيارات المذهبية السياسية وشقها لصفوف شعبنا، وبعثرتها لنضاله وحركته الاجتماعية الموحدة، وانسياق الشعب وراءها والذي تم لأسباب موضوعية كثيرة، ولتبدل الدول المؤثرة في المنطقة، وما ساد فيها من حركات طائفية أعادت الوعي والحياة إلى العصور الوسطى.
وإذا بدا أن هذه التيارات قد تركت التطرف وبدأت تتلمس الخريطة الموضوعية لبلدنا، وأمامها طريق طويلة في هذا، لتدرك بأن وعيها الإيديولوجي هو أحد أسباب عجز واقعنا عن متطلبات الناس في التغيير، فإن بعض ركاب الموجة الذين خيبت هذه الموجة نفسها آمالهم، و(أنحرفت) كما يقولون، فنبذتهم وراحت تبحث عن شراء الأصوات الانتخابية أكثر من الحفر في الواقع ونقده وتغييره، أحسوا بفاجعتهم الشخصية، وأن جثومهم فوق ظهر الحصان الجامح لم يؤد إلى رفعهم فوق الأكتاف ليصلوا إلى العرش، والكرسي.
وبدلاً من أن يوجهوا سهام النقد لهذه الحركات ويقارنوا بين الدعاية الرهيبة التي كانوا يرددونها والصرخات المدوية التي يطلقونها لكنس الأرض من الشر والأرذال، ثم يتمعنوا في حجم (المنجزات) الهزيلة التي حققوها، بدلاً من ذلك يوجهون النقد إلى قوى كانت دائماً مقموعة ومهمشة ومضحية! إن أعظم منجزاتكم هي إنكم فرقتم شعباً كان متحداً، وحولتم خريطة بلد إلى خرائط! بدلاً من أن يلوموا(رفاقهم) الطائفيين الذين كانوا يوجهون الحركات الفوضوية للحرق وهدم المؤسسات الأهلية، وكانوا دائماً يقولون انها من عمل الحكومة بدلاً من أن يلوموا رفاقهم هؤلاء الذين كانوا يرسلون مثل هذه الأوامر، والذين تحولوا من صائدي الملايين في بضع سنوات، (دون أن يسألوهم من أين لك هذا) يلقون اللوم على تنظيم لم يحصل من هذه المرحلة على ما حصل عليه هؤلاء، ومن قطفهم ثماراً جاءت من سذاجة الشعب ومن خداعه! ولكن لا تظنوا أن الشعب سيبقى هكذا ! لكن راكب الموجة لا يريد إصلاحاً وتغييراً، بل نجومية سياسية وكراسي، وإلا لقام بنقد هؤلاء الرفاق المرحليين الذين صعد معهم على سفينة الفوضى وأجرمَ معهم بما أجرموا، وفعل معهم ما لا يُقبل من مبادئه الوطنية التقدمية، فمحى فكرا وأزالَ نظرية في لمحةِ عينٍ، ضارباً بعرض الحائط بشهاداته ودراساته. عادَ إلى شعائره العتيقة، التي يريد أن يركب ظهرها هي الأخرى، لا لتوصله هذه المرة إلى العرش المكين، بل لينقد جمعية متواضعة الحضور في ظل تكالب الطائفيين على لحم الناس.
بماذا أجرمت هذه الجمعية وتستحق هذه الاتهامات؟ بسبب إن بعض أعضائها صار في مؤسسات حكومية وهم على عدد الأصابع الواحدة ونتيجة عملهم واختياراتهم، ولحسن الحظ لم يصيروا وزراء أو وكلاء وزارات كما أصبح بعض ركاب الموجة! بل حتى عندما كانوا نواباً في دورة المجلس السابق، وكان بعضهم مستميتاً في الدفاع عن مصالح الناس، وتتبع الاختلاسات والرشاوى، لم يلق من ركاب الموجة الذين ترنحوا من فوق ظهر هذه الموجة الطائفية وفقدوا توازنـَهم العقلي والأخلاقي، إلا كل تشهير شخصي لا يرقى أبداً إلى مستوى مناقشة سياسية تحليلية عامة.
في الوقت الذي يلملمُ هذا التيار أشلاءه ويعددُ اسماءَ شهدائه ويبحث عن أوراقه وتاريخه، ويتذكر السنوات الطويلة التي قضاها في السجون، ويلوذ بالصمت عن الرد على هذه الشتائم، يتحمل من ركاب الموجة العاقرة كل سباب بعدم الكلام، ويتوجه إلى البحث عن سبل العمل والوحدة مع التيارات الأخرى من أجل المواطن الضائع بين حشود العمالة الأجنبية وهجمة الهوامير على الشواطئ وعلى دخله، ويتحمل من بعض ركاب الموجة الذين تناقصوا لحد كبير بعد أن اتسعت حفلات الغنائم، المسئولية عن كل خطأ في البلد وكأنه بيده السلطة أو أنه يحكم هذه الجماهير الكثيفة التي لا تـُحرك إلا ضد التاريخ؟ بل انه إذا مات أحد رفاقهم طعن في الجمعية والتيار وحملهم مسئولية موته الشخصي، في حين إن الرفيق المذكور سانده أصدقاؤه بقوة ووقفوا معه، عبر التوظيف والدعم المالي، وثمة حيثيات ومستندات في ذلك، والرفيق تعرض لمرض ومات بسببه، ولا يملك أي تنظيم سياسي أن يقاوم مثل هذه الأمراض الخطيرة، ولكن رجل الاتهامات والنقد الشخصي لا يريد أن يعرف أي حقيقة موضوعية، وأن يسأل عن الواقع، بل في رأسه كراهية يريد أن يفرغها بأي شكل رافضاً احترام سنه وعلمه المفترضين. وإذا كان الرفيق العاطل الفقير كما يقول راكب الموجة يعاني البطالة والفقر أما كان من راكب الموجة أن يتصل برفاقه القدامى الذين كان يجتمع معهم ليرسلوا فاكسات النار إلى البلد، وقد أصبحوا مسئولين كبارا وتجاراً، بيدهم الوظائف والفلوس الكثيرة، أن يترفقوا بالمناضل المريض العاطل؟ أم أنكم لا تتذكرون إلا روائح الشواء البشري؟! ولا تلتموا إلا على كل مصيبة وحفلة غنائم؟ لا ينتظر من ركاب الموجة إنتاج فكر وتنمية عقل نضالي وخلق تراكمات له، تتغلغل بين الناس وتصبح قوة مادية مؤثرة، بل هم يبحثون عن حصان جديد يركبونه، وأي جماعة أخرى من البسطاء المفرغين من أي وعي عميق يمتطونها لتنفخ في هذه النجومية المريضة التي إهترأت من كثرة ما خدعت وزورت التاريخ.
أخبار الخليج 9 سبتمبر 2008
ليبيا وتلوينات الثورة الخضراء
في العشرة الأيام الأخيرة من شهر أغسطس لفت انتباهي عدة أخبار هامة نقلتها وكالات الأنباء عن ليبيا وكأنها تسلط الضوء على الذكرى التاسعة والثلاثين على ثورة الفاتح من سبتمبر مع ثورة كثيرا ما أثارت حولها زوابع خلقت اضطرابا في البيت الأبيض مما دعا قوى عالمية مناهضة وثورات عدة في العالم الثالث آنذاك كانت ليبيا واحدة منها.
ومع الانهيارات الكبرى في نهاية القرن المنصرم ومشهد التحولات المتزايدة نحو العولمة والديمقراطيات الجديدة ورياح صناديق الانتخابات وشعارات حقوق الإنسان، كان على ثورة الفاتح أن تعيد النظر في الكثير من سياساتها وأطروحاتها الفكرية أيضا فتتحول من التشدد إلى المرونة ومن الراديكالية الثورية إلى البراغماتية دون أن تترك لعبة المناكفات والاهتمام بدورها الإقليمي في دعم قضايا وحركات تتعاطف معها وبتعبير بعض الساسة والمراقبين بمنظور الثورة الخضراء ومنهجها الاستثنائي!
فقد طالعتنا البراغماتية الليبية الجديدة بكل وضوح في تصريحات سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم القذافي بأن بلاده قبلت المسؤولية عن حادث لوكيربي لسبب واحد هو رفع الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة عليها من قبل الغرب وبتعبير ابسط وأوضح حينما قال لم تكن في أيدينا حيلة، منتقدا بقوة جشع اسر الضحايا، هذا الظهور البارز إعلاميا لسيف الإسلام فجأة قبل الفاتح سبقه بفترة قصيرة إعلان عن اعتزال سيف الإسلام عن السياسة في محاولة لبلبلة الإعلام الغربي التوجهات الليبية وسياساتها الخارجية والداخلية.
في ذات الوقت وجدنا فيه نجل موسى الصدر يحرك ورقته مرة أخرى برفع دعوى قضائية ضد القذافي حيث أصدرت السلطات اللبنانية لائحة اتهام ضد الزعيم الليبي تتعلق باختفاء الصدر منذ نحو ثلاثة عقود.
مثل تلك الخطوة الرمزية قد تذكرنا بالتوقيت وبمفاوضات عسيرة من اجل المال وابتزاز ليبيا الراغبة في الخروج من معطف الماضي المثقل بالتبعات السياسية وبتصريحات سيف الإسلام المهمة حول الإشارة للأهالي الذين يتاجرون بدم عائلاتهم كما وردت في تصريحه للـ بي بي سي فان هناك أكثر من لوكيربي عائلي ينتظر الآخرين بلهفة استلام تعويضه السخي من بلد نفطي غني في مكرماته الثورية على بلدان العالم الثالث ومنظماته المحتاجة!
وفي الوقت الذي تحاول عائلة الصدر ضرب اسفين في العلاقات الليبية - الايطالية عبر قضية اختفاء الإمام موسى الصدر كانت المفاوضات السياسية بين الحكومتين تخطو نحو انجازات العصر فتكون حكومة بيرلسكوني أكثر من شجاعة ولتكون خطوات القذافي أكثر من عظيمة عندما تنتزع اعترافا بل وتعويضا بلغ خمسة مليارات على شكل دفعات ومشاريع تخطو بليبيا نحو التقدم غير أن الأهم في الصفقة هو مبدأ الاعتراف بجريرة الحقبة الكولونيالية.
وإذا ما كانت ايطاليا واقعية وشجاعة تحاول الخروج من شبح الماضي فان حكومات مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تتفنن في المماطلة الدبلوماسية رافضة حقيقة الدماء التي نزفت على يدها وبحجم الثروات المنهوبة من تلك البلدان. اعتقد أن اكبر خطوة جريئة وبراغماتية تميزت بتبادل المصالح هي قدرة وسرعة الحكومة الليبية وقادتها وزعيمها بالتعامل مع متغيرات القرن الواحد والعشرين لكي تكسر الحصار وتفتح صفحة تاريخية جديدة مع الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
وتميزت الأيام العشرة الأخيرة من أغسطس ليس بتلك الأخبار الساخنة التي تهم ليبيا والقارة والاقانيم الثلاثة الإسلامي والعربي والأفريقي وإنما دهشة الخبر الغريب والعجيب تلك البيعة الاستثنائية للقارة الافريقية بقبائلها وعشائرها ومنظماتها التي جاءت حاملة ليس ريش نعامها وعاجها وارثها الثقافي وحسب بل وببيانها التاريخي في ٨٢ /٨/٨٠٠٢ عندما توج عدد من ملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ إفريقيا الرئيس الليبي معمر القذافي ملكا لهم وبايعوه باعتباره ملك ملوك أفريقيا.
لسنا هنا بصدد مناقشة رقصة السامبا الافريقية الجديدة ولسنا هنا إزاء اكتشاف العجائب الافريقية الخفية وسحرها وبخورها وإنما لحقيقة مهمة وهو كيف اقتنعت هذه الأعداد الكبيرة من الشخصيات بالعودة بعالم القرن الواحد والعشرين إلى عالم ومجتمع ما قبل التاريخ اللهم إننا أصبنا بانتكاسة كبرى أو رسالة موجهة لمن يهمهم الأمر عن أن لقب ملك الملوك ليس حكرا على احد طالما اتفقت الجماعات فيما بينها على خيار التنصيب والمبايعة. فلماذا لا يبايع الأفارقة على مستوى قاري ينسجم ويتناغم مع طوباوية الحلم الافريقي الذي ينوي الزعيم الليبي تحويله إلى واقع ممكن في ظروف مناخية متقلبة في القارة مع بؤس سياسي كبير يواجهها كنموذج الصومال. دون شك إن الطواحين الافريقية ليست اعتيادية غير أن الأفارقة يصرون على بناء عالمهم وفردوسهم بطريقتهم ورقصاتهم السياسية العارية!!
صحيفة الايام
9 سبتمبر 2008
تعميم ديوان الخدمة المدنية
مِن أي وجهٍ قـلـّبنا فحوى تعميم ديوان الخدمة المدنية الذي أعادت وزارة التربية تعميمه على العاملين في الجهاز التربوي، سنجد أنفسنا أمام نصوصٍ تُذكر بالقانون الذي ما زال يثقل ذاكرة أجيال من البحرينيين، نساءً ورجالاً، ألا وهو قانون أمن الدولة سيء الصيت.
بأحكام هذا القانون عاشت البحرين واحدة من أسوأ مراحل تاريخها الحديث، حيث سادت التدابير الاستثنائية، وتعرضت حقوق الإنسان للانتهاك، وغُيبت السلطة المستقلة للقضاء، ولسنا في حاجة لتعداد أوجه الحصاد المُر لتلك المرحلة على كل الأصعدة.
بإلغاء قانون ومحكمة تدابير أمن الدولة تنفس المجتمع الصعداء، وولجت البحرين مرحلةً جديدةً تميزت بمقادير من الحريات العامة، بما في ذلك حرية الاحتجاج السلمي والتظاهر وتنظيم الإضرابات والاعتصامات المطلبية، التي قدمت البحرين بصورة مشرفة إلى العالم من زاويتين: الأولى هي عراقة ورسوخ تقاليد العمل المطلبي والسياسي فيها، بما يعكس نضج المجتمع المدني وتطوره، والثانية هي وجود التشريعات الضامنة لحرية هذا النوع من الأنشطة، مما شكل رصيداً للدولة جرى التنويه به من قبل المنظمات الدولية المعنية.
في الفترة الأخيرة كنا شهود على مؤشرات سلبية في هذا السياق، بينها تعميم الخدمة المدنية المشار إليه، والذي يصادر هو الآخر السلطة المستقلة للقضاء، ويمنح الأجهزة الحكومية سلطات واسعة في التعاطي مع الأنشطة الاحتجاجية والمطلبية، وهي سلطات تحمل طابعاً تعسفياً، خاصة وأن تقدير استخدامها راجع للجهات الإدارية المعنية، فضلاً عن أن النفس الذي صيغ به التعميم يكشف مثل هذا التوجه.
التحرك الذي يخوضه الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين ضد هذا التعميم ينسجم ومصالح القطاعات العمالية والمهنية التي يمثلها الاتحاد، وينسجم أكثر مع ضرورات العمل من اجل صون الحريات النقابية وحرية الاحتجاج السلمي المضمونة بقوة القانون، وهو تحرك يجب أن تتضافر جهود الجمعيات السياسية والمؤسسات المهنية والحقوقية وكل مؤسسات المجتمع المدني من اجل إنجاحه.
ومن الطبيعي أن تتوجه الأنظار أيضاً نحو مجلس النواب، الذي يجب أن يُظهر أعضائه الحرص المنتظر على مستقبل الحريات، لا أن تخضع مسألة مثل هذه للتجاذبات والمناورات السياسية، مع وجود مؤشرات قوية في هذا الاتجاه، مما يجعل من الحاجة إلى إضفاء الطابع الوطني على هذه القضية، باعتبارها قضية تعني الجميع، وباعتبار أن صون وتطوير الحريات العامة في البلد قضية لا تعني فئة بعينها، كما يراد أن يُصور الأمر.
وفي التاريخ عبرة، فعندما سنت الدولة قانون أمن الدولة في السبعينات عملت على ترويج فكرة انه موجه ضد اليساريين فقط، محاولة منها لإقناع الآخرين بالوقوف معه، لكن التجربة برهنت أن الجميع اكتوى بسياط هذا القانون حين أصبح نافد المفعول.
حدثان في ذكرى ” الفاتح من سبتمبر “
حفلت الذكرى التاسعة والثلاثون لذكرى الانقلاب العسكري الذي قاده الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي على النظام الملكي السابق في الأول من سبتمبر 1969م والمعروف رسميا في ليبيا بـ ” ثورة الفاتح “.. حفلت هذه الذكرى هذا العام بحدثين مفاجئين هامين من العيار الثقيل بالغي الأهمية وعظيمة المغزى والدلالات: الحدث الأول: وقد جاء عشية الاحتفال الليبي بالذكرى ويتمثل في إعلان رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني أثناء قيامه بزيارة لليبيا وتوقيعه مع القذافي “اتفاق تعاون وشراكة وصداقة” عن تعهد روما بدفع خمسة مليارات دولار، تكفيرا وتعويضا عما ارتكبته بلاده من آثام وجرائم وخسائر بحق الشعب الليبي خلال فترة تعرضه للاستعمار الايطالي الذي دام ثلاثة عقود ونيف (1911 – 1942). حيث اعرب برلوسكوني باسمه وباسم الشعب الايطالي عن الاعتذار إلى ليبيا “عن الجراح الغائرة التي سببها الاستعمار الايطالي” لها. ويشمل اتفاق التعاون بين البلدين إزالة ألغام ترجع إلى عهد الاستعمار الايطالي لليبيا، وشق طريق سريع ساحليا من غرب ليبيا (على الحدود مع تونس) إلى شرقها (على الحدود مع مصر).
وبصرف النظر عما يقال عما تبتغيه ايطاليا من وراء هذا الاعتراف من تحقيق استثمارات يسيل لعابها عليها داخل ليبيا، وبصرف النظر أيضا عن زهادة المبلغ الذي ستدفعه ايطاليا والذي سيكون في شكل استثمارات ومساعدات في مشاريع تتعلق بالبنية التحتية، إلا أن هذا الاعتراف رسميا بجرائم الاستعمار الايطالي في ليبيا من قبل أعلى سلطة في ايطاليا هو حدث تاريخي بالغ الأهمية غير مسبوق عربيا بكل معنى الكلمة، يسجل تاريخيا لصالح النظام الليبي، باعتباره النظام العربي الوحيد الذي أجبر مستعمر بلاده على الاعتراف بجرائمه، والاعتذار عما اقترفه بحق شعبه من آثام وآلام.
وما كان ينبغي على كل الدول العربية التي تعرضت للغزو والحكم الاستعماري ونهبه ثرواتها والجرائم التي ارتكبها بحق أبناء هذه الشعوب طوال حقب مديدة أطول من الحقبة الاستعمارية الايطالية لتفوت هذه الفرصة الذهبية المتمثلة في الانجاز التاريخي الليبي لتتخذ منه تلك الدول العربية التي تعرضت للاستعمار قدوة وحافزا للمطالبة بحقوق شعوبها في الاعتذار والتعويض من قبل مستعمريها، وعلى الأخص الجزائر حيث كانت حقبة الاستعمار الفرنسي من أطول وأشرس الحقب الاستعمارية الغربية (أكثر من 130 عاما) والمغرب وتونس ومصر والسودان والصومال وجيبوتي واليمن وسوريا ولبنان ودول الخليج العربي، وصولا إلى فلسطين حيث جرائم الاحتلال الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وبحق الشعوب العربية متواصلة منذ 60 عاما. ولا يمكن تحريك واستنهاض هذه المطالب المشروعة من الدول المستعمرة (بكسر الميم) بدون إطلاق حرية الضغوط الشعبية، ولعل منظمات وجمعيات حقوق الإنسان العربية وبتنسيقها وبتعاونها مع كبرى منظمات حقوق الإنسان العالمية المشهورة، تتحمل مسؤولية رئيسية تاريخية للاضطلاع بهذه المهمة الوطنية والإنسانية العالمية البالغة الأهمية انطلاقا من السابقة الايطالية – الليبية التي تحققت، لاسيما إن المجتمع الدولي والأمم المتحدة قد أدانا الحقبة الاستعمارية وطالبت هذه المنظمة الأخيرة بتصفية بقايا المستعمرات في مطلع ستينيات القرن الماضي فضلا عن الجرائم بحق الإنسانية ومنها جرائم الإبادة لا تسقط بالتقادم .
الحدث الثاني: وهو على النقيض تماما من الحدث الأول وهو يتعلق بجريمة لا تسقط أيضا بالتقادم، ويتمثل في إعلان القضاء اللبناني رسميا أيضا اتهامه النظام الليبي ومسؤولين ليبيين باختطاف مؤسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الإمام موسى الصدر ورفيقيه محمد يعقوب والصحفي عباس بدرالدين عام 1978م أثناء حضورهما احتفالات”الفاتح” من سبتمبر بليبيا. كما اصدر المحقق العدلي القاضي سميح الحاج مذكرات إلقاء قبض بحق مجموعة من رجالات النظام الليبي وإحالتهم على المجلس العدلي في لبنان لمحاكمتهم. وبغض النظر عن ملابسات هذه القضية والظروف الغامضة لاختفاء الإمام الصدر ورفيقيه في ليبيا بعدما أخلت ايطاليا مسؤوليتها عن الاختفاء بالبراهين القاطعة بعدم قدومهم إلى روما، وبغض النظر أيضا عن مدى حقيقة تورط القيادة الليبية في جريمة هذا التغييب المأساوي الغامض للإمام الصدر ورفيقيه، رغم إن العالم بأسره يعلم اليوم الجهة المتورطة في الجريمة ، فإن العبرة في إعلان القضاء اللبناني إنما تتمثل في اهتمام الدولة اللبنانية بسلطاتها الثلاث، وعلى الأخص القضائية بمتابعة محنة ومأساة هذه الشخصية اللبنانية الفذة رغم مرور نحو 30 عاما على وقوعها وعدم طي ملفها ضد مجهول. هذا على الرغم من كل ما مر ويمر به لبنان من أحداث ومحن معقدة جسام.
وما كان لموقف الدولة اللبنانية بقيادتها وسلطاتها الثلاث أن يتحقق بصدد قضية مأساة الإمام الصدر ورفيقيه لولا أن هذه الدولة هي دولة تعددية توافقية نظامها دستوري ديمقراطي تعددي دينيا وسياسيا، فكم من مشايخ ورجال دين وفكر وسياسة وصحافة وثقافة غيبهم الموت أو الاغتيال غدرا في السجون العربية أو في ظروف غامضة في ظل أنظمة شمولية وطوى النسيان جرائم اغتيالاتهم بل طويت ملفات قضاياهم واستسلم ذووهم لقدرهم المفروض. وليبيا التي دفعت أرقاما خيالية بالمليارات ابتزها الغرب منها تعويضا عن تفجير طائرة لوكيربي، وليبيا التي حققت انجازا تاريخيا عربيا غير مسبوق بإجبار ايطاليا على الاعتراف بجرائمها الاستعمارية تجاهها، ليبيا هذه تستطيع بكل شجاعة إما إجلاء حقيقة سر غموض اختفاء الإمام الصدر ورفيقيه على أراضيها حيث كانوا ضيوفا على قيادتها، ، وإما تعويض لبنان وأهل المفقودين الثلاثة المغيبين إذا ما أصابهم مكروه، لا سمح الله، أنهى حيواتهم ، والاعتذار رسميا للبنان ولذويهم ومن ثم يمكن تأسيسا على ذلك فقط فتح صفحة ليبية – لبنانية جديدة من العلاقات بين البلدين، والقول عندئد “عفا الله عما سلف”.
فهل تقدم ليبيا على هذه الخطوة الشجاعة مع شقيقتها لبنان الأقرب والأولى بالمعروف من خطواتها الشجاعة مع الغرب لطي صفحة الماضي الأليم؟!
أخبار الخليج 9 سبتمبر 2008
الدولار وتداخل السياسي والأخلاقي بالاقتصادي
إذا كان العامل السياسي قد طغى خلال الفترة الماضية على الاقتصادي في تحديد الموقف من ارتباط عملتنا الوطنية بالدولار الأميركي، فإن العامل الأخلاقي قد أدخل جديدا ليتداخل السياسي والأخلاقي في مسألة اقتصادية – مالية بحت تمس المصلحة الوطنية بعمق.
وبما أن ذلك يهم كل القطاعات والطبقات والفئات الاجتماعية فمن أجل أن يبنى الموقف على أسس علمية لنسترشد بما يطرحه علماء الاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية الدولية حول وضع الدولار في النظام النقدي – المالي – الاقتصادي العالمي المعاصر.
كان جيف فرانكل، أستاذ جامعة هارفارد، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس الأميركي بيل كلنتون بالاشتراك مع مينزي تشين قد نشرا في عام 2005 بحثا معمقا ومؤسسا على تشكيلة واسعة من المعطيات الإحصائية المالية الاقتصادية التاريخية، وخرجا باستنتاج يقول بأن اليورو سوف يزيح الدولار الأميركي من موقعه كعملة رئيسية عالمية في عام 2022.
لكنه ومع تسارع معدلات صرف سعر الدولار والضعف العام الذي لحق بوضعه الاستراتيجي في السنوات الأخيرة بنتيجة تنامي الدين الحكومي على الولايات المتحدة الأميركية تجاه الصين واليابان فقد تناقلت وسائل الإعلام البريطانية قبل فترة قريبة تصحيحات جيف فرانكل لتلك التنبؤات.
أصبح فرانكل يرى بأن انهيار الدولار وخسارته لوضعه كعملة احتياطية عالمية رئيسية سيحدث قبل عام 2022، وتحديدا مع حلول عام 2015.¹ ويتفق جوزيف ستيجليتس، الاقتصادي الأول في البنك الدولي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد مع هذا الاستنتاج تماما.ففي حديث مباشر مع هيئة الإذاعة البريطانية أكد على أنه بنتيجة الارتفاع الهائل في العجز الأميركي المزدوج (عجز الميزانية وعجز الميزان التجاري الجاري) فإن مواقع الدولار بدأت في التصدع، كما أن علامات أفوله كعملة عالمية صعبة رئيسية بدت تلوح في الأفق. وحسب رأي العالمين الاقتصاديين فسيكون لتراجع الدولار في النظام الاقتصادي العالمي آثار جيوسياسية سلبية بالنسبة لأميركا، ما سيجد تعبيره في تراجع تأثيرها العالمي.
وفي هذا السياق نصح مسؤولون واقتصاديون معروفون من مؤسسات مالية دولية دول الخليج تحديدا بالتخلي عن الارتباط بالدولار، كان آخرها نصيحة صندوق النقد الدولي للسعودية، إلا أنها رفضت النصيح ²، كما أصرت البحرين على عدم التخلي عن الدولار في الأوقات الصعبة حتى بعد خسارته حوالي 35% من قيمته في السنوات الأخيرة ³ .
ما الذي يحدث من حولنا في الحقيقة؟ الأزمة الاقتصادية العالمية حقيقة واقعة اليوم. وللخروج من الوضع الناشئ يبحث الاقتصاديون عن أسباب هذه الأزمة ليس في الوضع الحالي، بل في الأمس.
لما حاول رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول الابتعاد عن نظام برايتون- وودز والتخلص من الأوراق النقدية الأميركية التي أغرقت السوق دون مقابل مكافئ من الذهب، فإن محاولته لم تنجح. بكل بساطة تخلت أميركا في عام 1973 عن مبادلة دولاراتها بالذهب.
تم الانتقال بداية إلى تعويم سعر صرف الدولار، ومن ثم تخلت أميركا تماما عن ربطه بالاحتياطات الذهبية. والآن، فإن كميات إصدار الدولار أصبحت تتحدد بحاجات المجتمع والاقتصاد الأميركي وحده. وأصبح عدد الأوراق النقدية المطبوعة يجري بتسارع غير منطقي من وجهة نظر الاقتصاد العالمي. ففقط بين عامي 1995 و2006 تعاظمت كتلة النقد الدولارية حول العالم بمقدار 90%.
وأصبحت مطابع الدولار الأميركية تلفظ إلى الأسواق 635 مليون دولار في اليوم الواحد. ولا حاجة إلى الدهشة حين نرى أن بلدانا كثيرة، وهي تلحظ الأخطار المحدقة بالاقتصاد الأميركي راحت تخشى من أن تتحول مدخراتها بالدولار إلى مجرد أوراق.
ترى هل صحيح أن الوضع على هذا القدر من الجدية؟ هل صحيح ما يدعيه المحللون بأن حياة أميركا، دولة ومجتمعا، غارقة في الديون إلى الحد الذي يضع الاقتصاد الأميركي على مهب الريح؟ وأن الولايات المتحدة، وهي تهوي، تشد العالم المرتبط بها نحو الهاوية؟
المعطيات الإحصائية تشير إلى أن دين الدولة الأميركية الخارجي مع بداية عام 2008 قد زاد عن 16 تريليون دولار. أما إذا تحدثنا عن الدين الأميركي عموما، بما في ذلك الالتزامات المالية للشركات والأفراد، فإن هذا الدين يفوق الاقتصاد الأميركي ذاته خمس مرات تقريبا. وهذا ليس شفا الإفلاس، بل ما بعد حدوده.
ومع ذلك فإن الدولار بقي محافظا على مواقعه الأساسية في الأسواق العالمية. يهبط، لكن ببطء نسبي. ويمكن تفسير هذا ببساطة: إذا الدولار فقد قيمته فالأزمة تنتظر الاقتصاد العالمي برمته.
لكن الدولار محاط بالأخطار من كل الجهات. العامل الأول لهبوطه هو ضعف الاقتصاد الأميركي المستمر. ولا يغرن أحدا أن الناتج الإجمالي المحلي الأميركي قد نما بنسبة 3. 9% وأن نسبة البطالة قد انخفضت شيئا وأن الطلب على الاستهلاك يبقى مرتفعا.
للتبسيط يمكن تشبيه ذلك بحالة مواطن خليجي، وهو كثير إحصائيا، يركب سيارة حديثة ويقطن بيتا فاخرا وينفق ببذخ، بينما هو غارق في الدين حتى أذنيه (حسب آخر معطيات فاق متوسط نصيب البحريني من القروض الشخصية الأربعة آلاف دينار !).
أما بالنسبة لدين السكان في الولايات المتحدة حاليا فلا يوجد له مثيل في أي بلد في العالم. وبسبب تزايد الطلب على القروض فإنها تصبح أغلى. لم يعد أحد يستطيع الاقتراض بتسهيلات عامي 2002-2003 حيث كانت نسبة الفائدة عند حدود 1%، بل أنها أصبحت تفوق بكثير الفوائد على إعادة التمويل والتي رفعت إلى
5. 25%.
أمام بلدان العالم طريقتان لتفادي خطر الدولار على اقتصاداتها: إما التخلي عن الدولار كلية، وهذا يهدد بانهيار الدولار، وبالتالي تآكل احتياطات تلك الدول من الدولارات، وإما تقوية الدولار والاحتفاظ بإمكانيات التصدير إلى الولايات المتحدة. لكن الاقتصاد الأميركي ذاته لا يسمح بذلك بسبب ضعفه. الاقتصادات الكبرى تعمل على حلول مركبة في الاتجاهين معا.
أما الدول الأصغر حجما فخيارها الصحيح هو التخلص من الارتباط بالدولار، حتى مع صداقتها لأميركا، لسببين: أولا: الحد من المزيد من الخسائر واتقاء عاديات انهيار الدولار المحتمل على اقتصادها، ثانيا، أن إجراءها هذا لن يؤثر على الاقتصاد الأميركي كما لو فعلت ذلك الصين أو الهند أو أوروبا أو روسيا
1 http://www.newsland.ru/News/Detail/id/239575/
2 Gulf Times , 15 August, 2008, Saudi may ignore IMF forex reform call
3 مقابلة سمو ولي عهد البحرين مع CNN، 29.08.2008
إخفاقـات مركـبة..
توقع تقرير صادر عن معهد التمويل الدولي أن حجم العوائد النفطية لدول الخليج الست سيتجاوز هذا العام الـ 600 مليار بعد أن جاوز العام الماضي حاجز الـ570 مليار دولار؛ هذا وقدرت مؤسسة ميرل لينش العالمية فوائض الميزان التجاري الخليجية بنحو 65 مليار دولار؛ فهل أحسنت دول الخليج إدارة هذه العوائد؟! وكيف وظفت هذه الوفورات والفوائض للاستعداد لمستقبل ما بعد النفط (مستقبل ما بعد انخفاض أسعار النفط) مستقبل ما بعد إيجاد بدائل للنفط؟!
سؤال تكشف إجابته إخفاقات السياسات الاقتصادية الخليجية؛ وحقيقة النجاحات الهشة التي نعيش بوهمها.. فجلُ ما فعلته دول الخليج – وأثرياؤها المقربون من السلطة الذين انتفعوا برذاذ عوائد النفط على شكل صفقات ومناقصات – هو توجيه تلك السيولة للخارج حيث وصلت استثمارات القطاع الخاص الخليجي في الخارج لألف مليار دولار في حين لا تتجاوز استثماراتهم في دول المجلس الـ 20 مليار دولار ‘ما نسبته8.1% فقط من إجمالي الاستثمارات’.. أما حجم الاستثمارات الحكومية الخارجية فغير معلن بطبيعة الحال.. وكل ما نعرفه هو أن دول الخليج سخرت فوائض النفط للاستحواذ على موانئ وفنادق وبنوك عالمية ‘منها بنكي ماربيل لنش وسيتي بنك وعدد من الموانئ الأمريكية’ بصفقات خيالية يشكك البعض بجدواها وعوائدها..
يأتي ذلك في الوقت الذي توقعنا فيه كشعوب أن تستغل دولنا تلك العوائد للتأسيس لصناعة تُصوب اختلال البنية الإنتاجية والصناعية لاسيما وأن كل المعطيات متوفرة: وفرة في رأس المال؛ موقع جغرافي ملائم؛ وسائل نقل ميسرة؛ تركز في المعادن والمواد الخام؛ وفرة في الأيدي العاملة والعقول والكوادر. ولكن دول الخليج انشغلت عن هذا التحدي بتوظيف عوائد النفط في استثمارات مجهولة الحجم ‘محجوبة عن الرقابة’ وذرت الرماد في عيون الشعوب الغافلة بتحديث بنيتها التحتية وتحقيق رفاهية نسبية لمواطنيها ‘بعضها على أية حال’ وذلك لصرف الانتباه عن الإصلاحات الضرورية لمواجهة تحديات المستقبل.
علماً بأن دولنا لم تكتف بإهمال الصناعة فحسب، بل تبنت اتفاقيات تئد القطاع الصناعي الخاص في مهده. والمفارقة تكمن في أن دول الخليج؛ القريبة من النموذج الاشتراكي في هيمنتها على مناحي المشهد الاقتصادي والسياسي؛ تتبنى – في الوقت عينه – النموذج الرأسمالي في التجارة لتعفي نفسها من تقديم أي حماية ضريبية أو حوافز وضمانات للقطاع الخاص ليستثمر بدوره في الصناعة. وهو ما وضع الصناعات الخليجية الوليدة في موقع تنافسي قاسي مع صادرات الدول الأخرى..!!
وما ترونه الآن من تآكل الطبقة الوسطى ما هو إلا نتاج طبيعي لهذا الوضع المختل؛ فالوفورات التي انتظرنا أن توجه للإنتاج – رُحلت – للخارج. فكانت النتيجة أن المواطن العادي لم يستفد من ارتفاع موارد بلاده؛ بل تضرر من ارتفاع كلفة الإنتاج في الدول المصدرة؛ ما حول ارتفاع النفط لوبال على الشعوب التي اجتاحها الغلاء والتضخم..
إن خريطة الإخفاقات الاقتصادية لدولنا معقدة.. وعلى دول الخليج أن تعي أن ارتفاع أسعار النفط لن يستمر ولن يثبت.. فقد شهدت السبعينات طفرة خيالية في السعر، ما لبثت أن خبت في الثمانينات والتسعينات.. وإن لم تبادر دولنا لاقتناص الفرصة السانحة لبناء أرضية إنتاجية وخدمية حقيقية الآن.. فمتى إذن؟!.
الوقت 8 سبتمبر 2008