لا بد لنا من نظرة تحليلية ملموسة لبعض الأنظمة والحركات الدينية الإسلامية من أجل تبصر آفاق هذه الكيانات السياسية وكيفية نموها، وهل ستكون كوارث على الأمم الإسلامية أم ستقدم التنمية والحرية والرفاه للشعوب؟ لدينا جمهورية إيران الإسلامية كنموذجٍ واعدٍ للتجارب التحولية وعلينا قراءة خريطتها الموضوعية، فماذا قدم هذا النظام؟ وكيف هي الأرض الواقعية له؟ وسنلجأ للاحصائيات في ذلك، لأنها تكشف المنجزات والمشكلات. ولكنها وحدها لا تستطيع أن تكشف الصورة كاملة.
(تتكون إيران من خليط من القوميات الفسيفسائية، فالقومية الفارسية تبلغ 50% من عدد السكان، تليها القومية الآذرية بنسبة 24% وهي قومية تعود لجمهورية آذربيجان، تليها القومية المازندارنية التي تبلغ 8% ثم القومية الكردية بنسبة 7%، تليها القومية العربية التي تبلغ 3%، وهناك عناصر قليلة كالتركمان واليهود، والأرمن، والآشوريين)، من كتاب إيران الأبدية، ولكن يقوم المذهب الشيعي بتوحيد السكان فعدد السكان الشيعة يبلغ 90% في حين تصل نسبة السنة إلى 8%. ومن الناحية الاقتصادية يشكل البترول والغاز عصب إيران الاقتصادي، أي 80% من صادرات إيران للخارج، ولكن إيرانَ بلدٌ زراعي أيضاً فيقدر إنتاج إيران الإجمالي من النفط والزراعة بملبغ 100 مليار دولار سنوياً. وإيران كذلك ليست بلداً يعتمد على تصدير المواد الخام فقد بدأت التصنيع ولكنه تصنيع محدود، فقد حققت إيران نجاحاتٍ في صناعة السيارات وفي الصناعات الإلكترونية والصيدلة. المصدر السابق. تشير تلك الحيثيات المختلفة إلى جوانب متضادة في البناء السياسي الإيراني، فتمثل المذهبية السياسية الشيعية عصب النظام وهيكله العظمي، فهي الموحدة لفسيفساء هذه القوميات، التي تم دمجها في مسار نمو النظام السياسي – المذهبي المتكون خلال أربعة قرونٍ خلت، وإذا انفصلت بعض القوميات خاصة الآذرية والعربية فإن هيكل الدولة يتحطم، وهو أمر سياسي مرفوض لكون تمزيق الحدود المعترف بها هو كارثة. ولكن هذا الفهم العصري لا يدخل في وعي المذهبي السياسي، الذي يعتقد ان الدينَ(ويعني مذهبه الخاص) سابقٌ للحدود. أي أنه لا يعترف بما يقوي لحمة النظام. ويذكرُ دستورُ جمهورية إيران الإسلامية طبقاً لمادته الحادية عشرة عالماً قومياً سياسياً واحداً بين المسلمين، فتعتبر إيران نفسها جزءًا من نظام سياسي إسلامي واحد، حيث تقول(يعتبر المسلمون أمةً واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها على أساس تضامن الشعوب ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي). يوجد في هذا النص عدم اعتراف بتعددية الأمم الإسلامية، فلا توجد أمة واحدة، بل أممٌ، وفهم الأمة الواحدة يعود للعصور الوسطى، حيث المسلمون (ملة) واحدة، لكن الشعوب الإسلامية تصادمت بسبب الامبراطورية الواحدة وشكلت استقلالها فتوجهت لتكون أمماً متعددة فتباين الطابعُ المللي عن الطابع القومي، وهذا لا ينفي وجود دين واحد يمثلُ جذورَها الحضارية، بل ان تطورات السياسة الحديثة جعلتْ بعضَ الشعوب التي هي أجزاءٌ من أمةٍ كالأمة العربية أو الآذربيجانية دولاً مستقلة. إذاً يقومُ دستورُ جمهورية إيران على توهم ايديولوجي بوجود أمة واحدة مُفترضة، وعدم الاعتراف بالتكون الحديث لها وهي أنها أصبحت أمماً وشعوباً، وهذا التكون ينهلُ من الإسلام وليس مضاداً له، وبالتالي تغدو أي عملية تعاون ووحدة تجري بين أمم ودول مستقلة لها سياساتها وطرق تطورها الخاصة. ولا يجوز هنا وجود مركز يلغي هذا التنوع ويعتبر نفسه موحداً لها. لكن عدم الاعتراف الإيراني السياسي المذهبي بوجود أمم إسلامية متنوعة، هو جزءٌ من الرؤية الخاصة بتطور المذهبية السياسية المسيطرة داخلها، فمع سيطرة الاثني عشرية بفهمِها الإيراني الخاص، تصاعد دورُ رجال الدين فوق شبكةٍ هائلة من التنظيمات الدينية الاجتماعية، التي راحت تضخُ الأموالَ لكبار رجال الدين، وهي شبكةٌ مختِرقة لتكونات الشعوب والأمم الإسلامية، استمرتْ قبل وبعد تكون هذه الأمم المستقلة، وأنشأتْ ثقافةً عابرةً للحدود كثقافة المذاهب السنية كذلك والمسيحية في العصور الوسطى والحديثة، ونظراً لتشابك مصالح رجال الدين والمنظومة الاجتماعية ولضخامة هذه المصالح فصارت تكويناً فريداً معاكساً لتطور بقية الأمم، وعبر عن تصاعد هيمنة كبار رجال الدين على الحياة، لكن ليس من موقع الشريك لرجال السياسة بل من موقع المسيطر من أعلى. يقول فهمي هويدي في كتابه عن الثورة الإيرانية وكان متحمساً لها بأن آيات الله العظمى يمتلكون موارد مالية هائلة تتجاوز إمكانية دول.
صحيفة اخبار الخليج
25 سبتمبر 2008
مستقبل السياسة الإيرانية المذهبية (1)
حكايات من تاريخنا (67)… مذكرات فخرو والأنصاري
كانت البحرين في طليعة بلدان الخليج العربي التي ظهر فيها التعليم النظامي الحديث مبكرا وذلك منذ أواخر العقد الثاني من القرن العشرين الفائت، ومع انها كانت معروفة بريادتها الثقافية والحضارية في المنطقة منذ فجر الحضارة العربية والاسلامية حيث ظهر منها العديد من الرموز الأدبية والفلسفية والفكرية والفقهية على مر العصور الاسلامية والتي ساهمت باسهامات هامة متميزة في إثراء هذه المجالات المذكورة. الا ان ظهور التعليم النظامي الحديث فيها منذ وقت مبكر من أوائل القرن العشرين (1919) يعد بلا شك نقلة نوعية مهمة في تاريخ البلاد والمنطقة المعاصر ساعد على ظهور ونمو نهضة علمية وثقافية تنسجم مع روح العصر وتقدمه الحضاري، ولاسيما بعد ظهور صناعة النفط.
وكان من نتائج هذا الظهور المبكر للتعليم النظامي وتطوره سريعا بدءا من التعليم الابتدائي الى الثانوي ثم الجامعي ان برز لدينا رواد في تاريخنا المعاصر في مختلف حقول العلم والمعرفة والثقافة يشار لهم بالبنان، سواء في الأدب أو الشعر أم في الفن والاعلام والصحافة، وغيرها من ضروب الثقافة والعلوم الاخرى. وأحسب ان اسماء الرموز الريادية في هذه المجالات معروفة وليست بحاجة في هذه العجالة لاستعراضها. على انه في المجالين الفكري والبحثي السياسي المعاصرين ورغم عراقة الثقافة والحركة السياسيتين في البلاد فان الأسماء والرموز اللامعة المشهورة البحرينية المعروفة في عالمنا العربي تكاد تنحصر في اسمين فقط هما الدكتور علي محمد فخرو (76 عاما) وزير الصحة ثم التربية والتعليم الأسبق ثم سفيرنا السابق في فرنسا ثم أخيرا الرئيس السابق لمجلس أمناء مركز الدراسات والبحوث والمتخصص الآن في كتابة مقال صحفي اسبوعي رصين ينشر في الإمارات والبحرين، فضلا عن أنشطته كمحاضر أو محاور فاعل في المنتديات والندوات المحلية والخارجية التي يدعى اليها. أما الثاني فهو الدكتور محمد جابر الأنصاري (نحو 70 عاما) الذي كان عضوا في الاجتماعات التحضيرية للاتحاد التساعي عشية انسحاب بريطانيا من محمياتها ببعض مجلس التعاون، وأحد مؤسسي أسرة الأدباء، ثم أصبح عضوا في مجلس الدولة ومسئولا عن دائرة الاعلام، وأخيرا فهو الآن استاذ جامعي بجامعة الخليج العربي ومستشار ثقافي لجلالة الملك حيث يحرص جلالته على اصطحابه معه الى مؤتمرات القمة الخليجية والعربية وغيرها من الفعاليات الدولية الأخرى. ولذا فلربما يعد الأنصاري هو ارفع المستشارين الثقافيين للرؤساء والملوك العرب وذلك من حيث مستوى عمق الثقافة والمستوى الفكري النظري والسياسي الذي يتميز به، وباعتباره واحدا من المفكرين السياسيين العرب المتميزين والمعروفين على الساحة السياسية والفكرية العربية، ولاسيما في ضوء ما صدر له من كتب عديدة تتضمن بحوثا ودراسات فكرية وسياسية. ورب سائل يسأل لماذا الرموز والرواد البارزون على الساحة الفكرية والتنظيرية والسياسية معدودون لا يكاد يعرف عنهم عربيا سوى هذين الاسمين، كما ذكرنا؟ قد يعجب المرء أن من لديهم قدرات واسهامات فكرية في هذا المجال، هم بالعشرات وليس هذين الاثنين فقط، ولكن لأسباب موضوعية وذاتية وظروف سياسية وتاريخية معقدة لم تسنح لهم الفرصة للتفرغ الكامل للانكباب على التأليف والبحث النظري والفكري.. وفي اعتقادي الشخصي ان في مقدمة هذه الاسباب انشغال معظمهم بالعملين الحركي السياسي والسري والفكري معا. في حين برزت اسماء مفكرة عربية معروفة انشغلت بهذين المجالين، كما في العراق، الا انها عرفت بإسهاماتها النظرية السياسية والفكرية وكذلك في مصر وبعض الدول العربية الاخرى. وبالتالي يمكن القول ان تمكين المفكرين فخرو والانصاري من التفرغ للتثقيف الذاتي والعمل البحثي العلني حتى خلال سني توليهما مناصب ومسئوليات ادارية رسمية وابتعادهم عن الانشطة السياسية الحركية للمعارضة سواء السرية منها ام العلنية، كل ذلك ساهم في بلورة وبروز اسهاماتها الفكرية والسياسية التي ينبغي ان نعتز بها كبحرينيين جميعا ايا كان اتفاقنا او اختلافنا مع اطروحاتهما، كليا او جزئيا، وأيا كان تقييمنا لمواقفهما من الأحداث والقضايا التي مرت بها الحركة السياسية البحرينية المعاصرة على امتداد الخمسة عقود ونيف التي برزا سياسيا فيها. لقد افتقدت الساحتان الثقافية والسياسية خلال العقدين الماضيين، وعلى الأخص منذ نحو عشر سنوات خلت الكثير من الرموز والرواد المهمين دونما ان تسنح لهم للأسف فرصة كتابة ولو سطور من مذكراتهم، حيث ذاكرة المرء مع تقدم العمر خوانة لا أمان لها، فضلا عن الصحة. ولعل فخرو والانصاري هما من كبار مثقفينا وباحثينا في الحقل الفكري والسياسي حيث تكتنز جعبتاهما بذكريات احداث ومعلومات سياسية تاريخية مهمة لا حصر لها عن احداث سياسية وتاريخية فهما اما شاهدان عليها واما كانا مؤثرين لكل منهما دور في صنعها ولاسيما أن كليهما تولى مسئوليات وتقلد عدة مناصب إدارية رسمية مهمة، علاوة على اسهاماتهم الفكرية وكلاهما محسوبان على التيار القومي العام وحيث هنا يحسب لقيادتنا السياسية بأنها حينما منحتهما ثقتها بتولي تلك المناصب والمهام الإدارية والوزارية فإنها لم تتدخل في معتقداتهما وقناعاتهما الفكرية الخاصة. وبالتالي أرى من الأهمية بمكان، بل ومن منطلق المسئولية الوطنية العليا التي يضطلعان بها واسهاما في كتابة تاريخنا، بأن يسرع كل منهما بكتابة مذكراته قبل فوات الأوان، مادامت صحة وذاكرة كل منهما مازالت بخير. أطال الله في عمريهما ومتعهما بموفور الصحة والذاكرة الحية الدائمة.
صحيفة اخبار الخليج
25 سبتمبر 2008
سلعة المعرفة !
مطالعة كتاب الفيلسوف الأمريكي » الفين توفلر« الذي كتبه بالتعاونِ مع زوجته هايدى وعنوانه: »إنشاء حضارة جديدة .. سياسةُ الموجة الثالثة«، تطرح سؤالاً يكمن في المفارقة التي تفرض نفسها بين أطروحة هذا الفيلسوف وأطروحتي كل من فوكاياما وهانتجتون عن »نهاية التاريخ« وعن »صراع الحضارات«. نحن نعلم أن الدعاية الغربية نفخت في هاتين الأطروحتين بحيث قدمتهما كما لو كانتا فتحاً جديداً مُبيناً في العلوم الاجتماعية خاصة في الفلسفة وعلم التاريخ، ورغم الثغرات المنهجية البينة فإنهما كانتا وما زالتا مدار بحث مؤتمرات وندوات علمية وأكاديمية وموضوعاً لملفاتٍ متخصصة في مجلات ودوريات علمية رصينة، وتخطتْ حدود الاهتمام بهما الإطار الأمريكي والغربي، لينشغل بهما أهل الثقافةِ والفكر في العالم كله، فيما الصمت والتجاهل يحيق بأطروحة مثل أطروحة توفلر وزوجته عن إعادة قراءة مراحل التاريخ البشري وفق رؤية جديدة باعثةٍ على التأمل. إن الدوائر الأكاديمية الغربية تُقدم تلك الوجوه التي تحت ذريعة نزع الايدولوجيا، تقدمُ أيديولوجيتها الخاصة في التبشير بعهدِ الهيمنة الجديدة في صُورها المبتكرة، وهي ترفض أو تتجاهل أي أطروحةٍ لا تتسق تماماً مع هذا العهد. ومع أننا لسنا مدعوين لتبني تفسير الزوجين توفلر للتاريخ، لكن الاطلاع عليه من زاوية التعرف إلى رؤيةٍ أخرى غير تلك التي تحظى بالرواج أمرٌ مفيد، لأن ذلك يُوفر إمكانيةً للنظر بشكلٍ آخر لما يجري في المجتمع المعاصر . برأي توفلر إننا نعيش اليوم» حضارة الموجة الثالثة«، وجوهرها هذا التغلغل الواسع لمنجزات العلم والتكنولوجيا المعقدة في الاقتصاد والتي غيرت حياة المجتمع وحالته النفسية. إن المعرفة في مختلف مجالات الحياة هي السلعة الرئيسية لحضارة الموجة الثالثة، حيث تزيح إلى المرتبة الثانية الخامات الطبيعية ورأس المال والطاقة وموارد العمل، وبالتالي فان النظريات الاقتصادية المؤسسة فقط على الانتفاع بالثروات المادية لن تعود كافيةً لتفسير ما جرى وما يجري. يُقسم الزوجان توفلر التاريخ البشري إلى ثلاث موجات رئيسية: الموجة الأولى هي الموجة الزراعية والتي امتدت حوالي عشرة آلاف عام، بدءاً من الألف الثامنة قبل الميلاد وحتى حوالي ٠٥٧١ميلادية، عندما كفّ التطور الزراعي عن النمو مقابل نمو الصناعة في دول أوروبا الغربية، حيث حلتْ الموجة الثانية، أي الموجة الصناعية، التي ما زالت مستمرة نظرا للتطور غير المتكافئ بين دول العالم، حيث أن هذه الموجة التي بدأت قوية في أوروبا أخذت في الانتشار في كل القارات، وهي لم تفقد بعد كل طاقاتها، بيد أن الموجة الثالثة، أو ما بعد الموجة الصناعية، قد أخذت في شق طريقها بقوة منذ منتصف القرن العشرين، والعالم هو اليوم ساحة تجاذب بين نزعتي تطور مختلفتين. إن الموجة الثالثة التي هي في ذروة اندفاعها تحدث من الآثار النفسية والمعنوية الشيء الكثير، وتؤسس لمفاهيم وتصورات ثقافية وأخلاقية جديدة. وهذا التفسير المختلف لتطور التاريخ يتطلب فهما مختلفا للعمليات الجارية، غير ذلك الفهم الذي يريد أن يضع نهاية للتاريخ، أو يفسر العمليات الجارية فيه، بما فيها المواجهات الدامية، كما لو كانت مجرد مواجهات بين الأديان والحضارات والثقافات.
صحيفة الايام
25 سبتمبر 2008
حكومة علاقات عامة بامتياز
حكومة تقتر على أبناء شعبها ولا تتحرج من تنغيص حياتهم بقطع الكهرباء عنهم في عز الصيف اللاهب، من دون ان يكلف أحد منها نفسه تقديم اعتذار لائق للناس عبر “تلفزيونها الفقير” (مع الاعتذار وتوقيرنا للمسرح الفقير ) أو صحافتها النجيبة…
وحكومة لا يرف لها جفن وهي تقوم بإذلال الناس على النحو الذي جسدته ممارساتها المتخبطة في طريقة توزيع ما أسمته بعلاوة الغلاء البالغة 50 دينارا، والتى هي في الواقع ليست أكثر من ذر للرماد في العيون توهما بأنها إنما تستطيع احتواء سخط الناس على موجة الغلاء التي استحوذت على جل مداخليهم …
هذه الحكومة التي تُقتر على شعبها رغم تضخم إيراداتها النفطية، في نفس الوقت الذي تُظهر كرما حاتميا استثنائيا وهي تنفق ببذخ مُسف على أنشطة علاقاتها العامة الخارجية كما الداخلية (لعل تحقيقا واحدا فقط، نزيها ومحايدا، فيما أنفقته الحكومة على وفدها الجرار إلى جنيف لتلميع صورتها أمام العالم في مجال حقوق الإنسان، لا بد ان يكشف حجم الفساد المحيط بتلك العملية الحكومية الاستنفارية . فالأمر لم يكن يستأهل كل تلك الفزعة والهبة الحكومية الباهظة التكاليف)..
إن حكومة بهذه المواصفات (المؤسسة طبعا على وقائع ممارساتها)، تستحق بجدارة لقب حكومة العلاقات العامة الأولى شرق أوسطيا بامتياز.
ولعل ذلك ينطوي على قدر من الاستفزاز كافٍ لتحريك ديوان الرقابة المالية المتثاقل باتجاه تتبع ورصد حملات العلاقات العامة التي ما انفكت الحكومة تشنها في الداخل والخارج، وكذلك وزاراتها التي راحت تنسج على منوالها في هذا المجال “الإبداعي” معتقدة إن ذلك سوف يشفع لها تواضع أدائها، باعتبار ذلك هدرا التفافيا غير مبرر.
مسارات السياسات المذهبية (5 – 5)
لعب قانون الصراع الاجتماعي التقليدي دوره في الحركات المذهبية السياسية التي نشأت على أساس تغير الخريطة التجديدية العربية وانتقال مركزها إلى مواقع إنتاج النفط، وهو قانون التفتت المستمر لهذه الحركات نظراً لإنتاجها السياسة داخل الدين، فلا يغدو الخلاف السياسي سوى خلاف ديني، وهو أمر يتنامى مع تفاقم الصراع السياسي. يدخل الصراع الطبقي المحوري في كل مجتمع إلى داخل كل حركة دينية، لكن الفارق بينها وبين الحركات التحديثية اللادينية، أنها لا تفهمه وترفضه، وهي ظاهرة موضوعية مثل قانون الجاذبية، فيبدو لها ذلك الصراع كانحراف عن الاستقامة الدينية وكنزوع للكفر والانحراف عن الإيمان الحق. وهكذا فإن حركة الإخوان المسلمين بعد التآكل المستمر للنظام الناصري ومجيء الضربة الإسرائيلية العدوانية، راحت تسود في وعي الفئات الوسطى المصرية وتتغلغل في عامة الناس. ويؤدي القمع إلى تقبل الناس لمثل هذه الحركات ووصولها للقاع الاجتماعي.
ولم يستطع علم النظام أن يتنبأ بالهزيمة في يونيو أو أن يكشف الفساد في مراتبه العليا، فاصبح خاضعاً لقدر غير مرئي، وتداخلت عودة قيادات الاخوان من السعودية بمناخ الهزيمة والارتداد الفكري عن الحداثة، وبظهور نظام السادات الذي عكس صعود الأقلية الاستغلالية في النظام البيروقراطي الناصري إلى سدة الحكم بشكل كلي. وإذ هي شجعت القوى المذهبية السياسية فإنها اعتمدت سياسة فرق تسد بين القوى المذهبية الدينية وقوى التحديث، لتصعيد استغلال ونفوذ تلك الأقلية التي فتحت لها الأبواب على مصاريعها. وكان النظام الناصري قد لجم الصراع الطبقي، وكون معيشة معقولة للعمال والفقراء. فجاءت التطوراتُ لتفجر الصراع الاجتماعي المحبوس، خاصة ان النظامَ الجديد قد فتحَ بعض القنوات السياسية العلنية، فوسع المشكلات الاجتماعية بشكل خطير ثم صعّد أدوات سياسية معارضة تفجر هذه المشكلات، فتمظهر ذلك بثورة أسعار وجياع وقتل رئيس النظام نفسه. عبر هذه التطورات دخل الصراع الاجتماعي المصري العميق إلى حركة الاخوان التي كان صراعها الوجودي مع النظام الناصري، قد جعلها تعيش في لغة ماضوية، فتكرس مثلها مثل الحركات المذهبية السياسية تجريدات ذلك الصراع ومستواه المعرفي، فكانت رؤيتها لكون النظام الناصري نظام كفر ونظاما فرعونيا واستيرادها مختلف المقولات الجاهزة من العصر القديم، قد أدى إلى أن تبث في جماعات من العامة مثل هذه المقولات الخطرة، وكانت لها سابقاً قبل هذا الاحتدام مع النظام العسكري الشمولي بعض الآراء الليبرالية الواعدة كما كان لها وعيها الشمولي العسكري هو الآخر المصور على أساس انه الجهاد. وهكذا فإن الدكتاتورية السياسية أضرت بكلا الفصيلين المناضلين الناصريين والاخوان، ولكن مع ذهاب النظام الناصري تبدلت الحياةُ السياسية وحدثَ اصطفافٌ جديدٌ للقوى الاجتماعية، وأخذ الصراع الاجتماعي يحتدم، ولم يكن ثمة قنوات وحتى الآن سبيل لتغيير ذلك، من دون وحدة القوى السياسية الشعبية المصرية ضد البيروقراطية الاستغلالية الحاكمة لنصف قرن. لكن اللافتات الدينية كانت تفرق الشعب المصري أولاً بين مسلمين ومسيحيين، ثم بين المسلمين أنفسهم على أساس المذهبية السنية ودرجات تطبيقها وفهمها، فهناك المعتدلون وهناك الغلاة، وهناك العلمانيون الاجتثاثيون للإسلام الخ.. لقد غدا فكر الإخوان المسلمين هو فكر البؤرة النضالية السياسية لأغلبية النشطاء السياسيين، وبسبب المقولات الدينية السابق ذكرها للجماعة، فإن التطبيق الحرفي للإسلام التأسيسي، المأخوذ بشكل غير دقيق، قد أدى إلى مدرستين، إلى تأويل النصوص لشيء من الليبرالية والحداثة، وهو الطابع السني الغائر المتدرج الإصلاحي العقلاني، وإلى البقاء عند النصوص الحرفية ورفض الحداثة والديمقراطية تماماً. كان هذا الانقسام بسبب بث الخطاب الديني المسيس عبر مقولات: الجنة أو النار، المؤمنون أو الكفار، وهو خطابٌ يسترجعُ ليس وعي السنة بل وعي الجماعات الخارجية، غير المدنية والبدوية، وهو أمرٌ يعبر عن الانقسام في الجماعة نفسها بين القلة الغنية والقطاعات العامة المفقرة والرثة، فتم استخدام المقولات الاخوانية الأولى وخاصة لمرحلة سيد قطب، التي هي أقرب لمقولات الخوارج منها للسنة، والتي عادت تتجسد في بيانات حارقة لأهل الكفر، والرفض العارم (للجاهلية) الجديدة. ومن جهة أخرى فإن الجماعة الوسطية السنية مع تقاربها مع التحديث لم تتبن التحديث كلية، أي لم تنقل إلى وعي العلمانية والديمقراطية والوطنية، متصورة ذلك كنفي للإسلام، لكن ثمة اجتهادات أخرى صغيرة في الجماعة تحاول أن توجد مثل هذا المركب الصعب. وهذا ليس صراعاً على المقولات والنظريات بقدر ما هو تعبير عن مستوى هذه الفئات الوسطى المتذبذبة بين القديم والحداثة، والتي غذت فئات شعبية مُعدمة بمثل هذه الأفكار فحولتها نظراً لمحدودية فهمها للإسلام والعلوم إلى (جهاد) دموي وهجرات للمناطق المهجورة والجبلية، وإلى تقبل للمأثور مهما كان، فغدت موجات من اللاعقلانية والارهاب. إن عدم قدرة الجماعة على الفهم العصري الديمقراطي للإسلام يعود لضخامة أفكار التقليد الموروثة، ولتحويل الدين إلى دولة، وبالتالي إلى عدم تبني التصورات السياسية العصرية اللادينية، وهي تعني قيام دولة مصرية علمانية، أو عراقية علمانية الخ، بمعنى أن تجعل الاشتغال بالسياسة سياسياً فقط، أما الحقول الأخرى فهناك حريات للمؤمنين بما يعتقدون. وهذا يعود لإرث الجماعة، التي عاشت على مقولات المؤمن والكافر، وعلى شحن أعضاء الجماعة السياسية بالموروث الديني، الجاذب، والمقدس، والذي يغدو واسعاً وشعبياً، يمكن من خلاله الوصول للحكم، ولمقاعد البرلمان ومجالس النقابات. ولكن لهذه الشعبية التسلقية آثارها الخطرة، فسوف يأتي زمنٌ يتفاقم فيه الكفر بالإسلام، نظراً لهذه الوعود الخلابة التي تـُعطي بلا حساب باسم الدين، ويجد العامة المخبولون بهذه الجنان الأرضية، أنهم يعودون لذات السياسة القديمة للطبقات الاستغلالية. وإذا أضفنا بأن الاتجاهات التحديثية ستعمق عداءها للإسلام، بسبب هذه السطوات، فإن زمناً من الفوضى وسيطرة الليبرالية المنفلتة من كل انتماء وطني أو ديني أو عقلاني يلوحُ في الأفق، وهذا ما يتغلغل في جمهورية إيران الطائفية التي تبنت هذا الدواء الداء.
صحيفة اخبار الخليج
24 سبتمبر 2008
اليوم الفاصل بين عهدين
لن تمر مرور الكرام الأزمة التي عصفت بالأسواق المالية منذ الاثنين الأسود الذي صادف الخامس عشر من سبتمبر الجاري، حيث انهارت مؤسسات عرفت بوضعها المتين، ولم يخطر في الأذهان أنها يمكن أن تتعرض لهزة بهذا العمق والجدية. أكثر من ذلك، هناك مِن بينَ الخبراء، مَن يرى أن ما جرى من انهيار ليس سوى قمة جبل الجليد المطمور في عمق المحيط، وان تداعيات أخرى لهُ آتية لا ريب فيها، لأن الأزمة أصابت منظومةً متكاملة، ما أن يتعرض أحد أجزائها للعطب، حتى تتصدع بقية الأجزاء، بنسبٍ تزيد أو تقل. قام البناء الرأسمالي العالمي، في الأساس، على نبذ فكرة تدخل الدولة في ضبط الأداء الاقتصادي، وترك القوة العمياء للسوق تتحكم في هذا الأداء، تحت حجة أن السوق قادرة بنفسها على تصحيح أي خلل تقع فيه. ومن سخرية الأقدار أن نجد المؤسسات المالية التي رأت في تدخل الدولة حَجْراً على الحرية الاقتصادية تستغيث بهذه الدولة ذاتها لإنقاذها من المأزق، حين أثبتت الحلول الأخرى عجزها، أو على الأقل عدم كفايتها، في وقف الانهيار، فكان المخرج الوحيد للأزمة هو تدخل الحكومة الأمريكية بضخ مئات المليارات من الدولارات في الأسواق. والأمر نفسه، حدث في بريطانيا حين تدخلت الحكومة لإنقاذ »هاليفاكس- بنك اوف سكوتلاند« عن طريق قيام بنك لويدز بشرائه بمبلغ ٢١ مليار جنيه إسترليني، وبالمثل قام البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان، بضخ ٠٨١ مليار دولار في الأسواق عن طريق زيادة مشترياتهما من سندات الخزانة الأمريكية. وترتفع أصوات الخبراء الاقتصاديين الداعية لإعادة النظر في الموقف من تدخل الدولة في ضبط الاقتصاد، انطلاقاً من الدروس المريرة للأزمة الأخيرة، حيث تتم المطالبة بقواعد أكثر تشدداً، وإلا فان تداعيات هذه الأزمة مرشحة للاستمرار، مما يُنذر بالمزيد من الخسائر. وتلفت النظر الانتقادات الحادة التي وجهها كل من المستشارة الألمانية انجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني جون براون لفوضى السوق، فالأولى انتقدت النظام المالي الأمريكي لسماحه بمعاملات تحمل قدراً كبيراً من المخاطرة، بما يلحق الضرر بمختلف الأسواق المالية في العالم، واستهجنت ضعف الإشراف الحكومي على هذا النظام. وقالت إنها دعت إلى فرض رقابة أكبر وشفافية أوسع على الأسواق الدولية خلال اجتماعات قمة الثمانية العام الماضي، التي عقدت في ألمانيا، إلا أنها لم تلق آذاناً صاغية من قبل المسؤولين الأمريكيين. مثل ماركيل وجه رئيس الوزراء البريطاني بدوره انتقادات لاذعة لأداء الأسواق المالية، وهو الآخر وصف سلوك حي المال والأعمال في لندن، بغير المسؤول، داعياً لاجراءات صارمة من جانب الحكومة في الإشراف على الأداء الاقتصادي، منعاً للفوضى التي أدت في النهاية إلى ما أدت إليه من انهيار. كأن الاثنين الأسود يُشكل يوماً فاصلاً بين عهدين في الاقتصاد العالمي.
صحيفة الايام
24 سبتمبر 2008
حالي من حال العرب!
يسألك المتتبعون للأخبار كونك مصاب بداء السياسة، وهو داء لا يعرف حالة التقاعد، ولا مؤشرات انك دخلت في وضع الشيخوخة السياسية وربما الخرف، فعليك أن تلهث وراء كل ما يدور حولك، طالما انك تنتمي للعصر الذي تعيش. ما رأيك في أزمة المهجرين في العراق وكيف ستواجه الدولة محنتهم؟ فهناك للمعضلة جانبان أو وجهان إنسانيان، الأول قانوني والآخر إنساني، ولا يمكن طرق أبواب بيوت باتت مسكنا لشريحة من الشعب، لم يجد خياره وهو يهرب من أتون الموت ومخالبه إلا سقف بيوت آخرين، مارسوا وضعية مماثلة هو هروبهم من الموت كذلك. حان الوقت لكي يعود الإنسان إلى داره ويسكن في بيته كحق مشروع من حقوق الملكية الفردية وهي مرتكز أساسي في الدستور لمن يفهم أيضا ما معنى الحريات بمفهومها الواسع.
المسألة سهلة لمن حملوا القرار وطرقوا البيوت، ولكنها كانت صعبة للغاية لمن عاش بـ »وهم« أن يصبح له »دار أمان«. من يسارعون في إخلاء البيوت لأصحابها الشرعيين، عليهم في الوقت ذاته أن يهيئوا للطرف الآخر حقه البديل، فهؤلاء أيضا عراقيون وليسوا مكبة زبالة تنقل من حالة استقرار إلى أوضاع مزرية بلا استقرار! في الجانب الآخر عندما بدا السؤال أهم: هل أنت متابع لما يدور في قمة دمشق الرباعي؟ كان جوابي كالعادة »حالي من حال العرب« فمن منا لا يحب رباعيات الخيام، أو الكونشرتو الرباعي الوتري لبيتهوفن، غير أن الآخرين مولعون »بالهيام الرباعي« في جورجيا، فهناك خصوم رباعية بارزة في هذه اللحظة كالبيت الأبيض الأمريكي وجورجيا المدللة، وأوكرانيا المضطربة التي لا تعرف أين تضع قدماها في الجغرافيا السياسية (الجيوبولتيك)، لتاريخ طويل من العلاقات الرفاقية لدولة عظيمة لم تجتث جذورها من التربة الأوكرانية، فما زال »الاتحاد السوفيتي« حلماً في ذهن الشارع الأوكراني، وفي الوقت ذاته هناك عشاق جدد في ذلك الشارع يغنون بلغة أمريكية ويفضلون هجرة اللغة الروسية، فهم يتبجحون أنهم بحاجة للخلاص من هيمنة تلك اللغة (السياسية أيضا) يقعون بالمقابل أسرى لهيمنة لغة جديدة، في القبول بالزواج من العريس الجديد في المنطقة كحلف الناتو، متوهمين عشاق هذه المرحلة أن الناتو قوات حماية لهم من الغزو الروسي المنتظر، وبأن الناتو فعلا قوة همها حماية الحريات الواسعة للديمقراطيات الجديدة في المنطقة، متناسين عشاق هذه اللحظة أن الديمقراطية الروسية أيضا صناعة غربية وبماركة أمريكية مسجلة، غير أن الفارق الكبير بين حلم يلتسن وبوتين في بناء دولة عظمى في القارة الأوروبية مختلف أولا وفي كافة أنحاء العالم، وهو الحلم القومي العميق لكل جيل بوتين، الذي لا يمكنه أن يقبل بروسيا منهارة، ضعيفة، وملحق صغير في قاطرة الغرب، فروسيا ليست فسيفساء بلدان البلقان، ولا جزيرة من جزر أرخبيل الانتيل الخاضع لأوامر الكومنولث القديم. كان على عشاق اللحظة المتيمين أن يفتحوا عيونهم بكل وضوح إن خارطة بلدهم وجغرافية الأمكنة مرهونة بالتاريخ أيضا، وبتوازنات لا يمكن التغاضي عنها، لا عسكريا ولا اقتصاديا، لهذا كانت روسيا هذه المرة هي من تقود عزف تلك الكونشرتو في المنطقة، وهي مستعدة – كما يبدو – أن تلعب بالأوراق القفقاسية كلها، فتلك البقعة الحيوية والجيواستراتيجية، لا يمكن للدب الروسي تركها تضيع من أنامله وأنيابه. وبما أن حالنا من »حال العرب« في تتبع قمة رباعية هامة في الشرق الأوسط تكون دمشق مفتاحها وعمودها الفقري، فان الملفات التي تم تداولها قديمة / جديدة، غير أن القمة تحاول الإسراع بقطار الوقت المبطئ، بالرغم من أن الوضع الإسرائيلي والأمريكي يعيش حالة فقدان التوازن السياسي بسبب الانتخابات الرئاسية، والتي من المتوقع أن تستبدل فيها جلود الثعابين (تعبير مجازي)، وتتحول إلى هيئة تماسيح تخوض في البحر الأبيض المتوسط، وبرغبة بلدان شرق أوسطية لعب دورها الإقليمي. تلك الدول التي تسعى لإبعاد المنطقة عن أتون الحرب ووضع أسس الحوار السياسي لمعالجة كل المشاكل العالقة – وهي أهم خصلة حميدة لهؤلاء الوسطاء »الطيبين« في عالم تميز بوحشية العولمة، إذ بعثت روسيا في الأزمة الجورجية برسالتها للقوى العظمى، عن إن العالم ينبغي أن يشاد على مبدأ التعددية القطبية، وربما ما يمثله ساركوزي من ازدواجية في الحوار »نموذجا صارخا« عندما يحاول دائما أن يبرز نفسه وحزبه بل وشخصيته عن خطاب كتلة يمثلها، وبأنه متفرد ويغني للعالم الجديد بلغة فرانكو – أمريكية، متناسيا انه عضو في الاتحاد الأوروبي! فيما اهتم صوت مجلس التعاون الخليجي بنبرة واقعية وعاقلة طحنتها حروب مجاورة، لوثت مياهها وهزت مشاريعها التنموية »ولخبطت« خططها المستقبلية، لهذا تعلمت من أن علاقة الجوار ومشاكلها لا تحل بالقوة، وهذه الحكمة الخليجية ينبغي على ساكشفيلي تعلمها، وإلا ضاعت عليه كل جورجيا أو أكثر من القطعتين المنزوعتين حاليا، وهي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا. أما إخوتنا في الإسلام تركيا، فان توازن القوى والمصالح الاقتصادية والاستثمارية تشكل توجهاتها الجديدة، ما يجعلها لاعبا مهما، بدأ يواصل أكثر لعبته مع الجميع، بحيث تصبح تلك الدولة الكبيرة نقطة ارتكاز هام بين قارات ثلاث مستقبلا، فلن تنزعج منها كل السياسات الخارجية، فهي تعزف في الكونشرتو الرباعي لحنا متناغما، فرجلها في آسيا الوسطى وحضنها في روسيا وقلبها في الناتو وعقلها في الاتحاد الأوروبي، بينما كل كيانها التاريخي صار أورو – إسلامي، فالكمالية المتمدنة من منظور حكام أنقرة مفادها، إن الدين والعلم وصراع الحضارات لا تتعارض، مثل السياسة البراغماتية الحالية قابلة للتعايش جنبا إلى جنب. وسيط يحسن اللعبة ومقبول من جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة.
صحيفة الايام
24 سبتمبر 2008
مسارات السياسات المذهبية (4)
لا بد لنا لفهم حركات المذاهب السياسية الإسلامية من العودة الوامضة لتاريخية هذه المذاهب وعلاقاتها بالسياسة بدرجة خاصة، فقد تمحورت المذاهبُ السنيةُ على ذاتِها في بدءِ نشأتها في القرن الثاني الهجري خاصة، وكان موقفها من علم الكلام موقف التقبل بعض الوقت ثم الرفض، وأخذت تعالجُ مسائلَ التطور من خلال النصوص الدينية وحدها، قبولاً أو تأويلاً. كان علمُ الكلام حينئذٍ يتمظهرُ بحركة الاعتزال السنية التي كانت تتأولُ حرفيةَ النصوص من أجل مزيدٍ من الانفتاح على العصر وقتذاك، ثم كانت الفلسفةُ قفزةً أخرى في عملية التأويل، ولكن الفلسفة حين صاغها فلاسفةُ السنة وهم ابن خلدون وابن باجة وابن رشد، كانت ذروة تطور وعي المسلمين النظري في فهم العصر الوسيط برمته، وهي الخميرةُ التي انتقلت إلى أوروبا، وأسست بداية النهضة الحديثة العالمية. ولكن المذهبية السنية عند الأئمة ابي حنيفة النعمان ومالك والشافعي وابن حنبل، رفضتْ التفلسفَ، وإن كان أبو حنيفة والشافعي قد قبلا اجتهادات الفلسفة من داخل قراءتهما للنصوص الدينية بخلق عقل ديني متفتح على تطورات الحياة، ولكن الأئمة الأربعة رفضوا التبعية للحكومات، وتوجه الثلاثةُ الأُولُ إلى درجاتٍ مختلفة من الاجتهاد. والأربعة كذلك رفضوا (الثورة) ورفضوا التوظيف السياسي من قبل الدول، وشكلوا الاستقلال السني المذهبي، وهو الأمرُ الذي قاد المذاهبَ السنيةَ للتنوع والاجتهاد والمقاومة، وإن كان الكثير من تلامذتهم لم يلتزموا نظراتهم العامة هذه ودخلوا في تبعية للحكام وعدم التطوير للاجتهاد، وكان ابن حنبل رغم رفضه الشديد للاجتهاد لكنه لم يقبل الثورة وانعطفت أفكار تياره إلى الاعتراض على الحكم ومرونته وليس على تشدده. وهو خطٌ انغرس بعدها في زمن غياب الاجتهاد مع تصعيد الجهاد ضد الغزو الصليبي وشكل ما عُرف بحركات السلف الجهادية، وكان تركيز هذا الخط على التقبل الكلي للمأثورات الدينية قد عكس تدهور العلوم عند المسلمين. في حين قامت الاثنا عشرية على أساس مختلف، على وعي دولة مكتملة، لها نصٌ واحد، من القرآن حتى أقوال الأئمة، وأدت الصراعات ضد هذا الاجتهاد الإسلامي إلى محاصرته وإلى رفضه للتنوع والتعددية وجاءت التعددية لديه فقط داخل واحدية النص، وعدم القبول بأي حكم خارج التناسل الإمامي. وكان المسار الاثناعشري المتوجه نحو إيران قد جعله يتشكلُ وفقاً لنمو القومية الفارسية الملكية المطلقة المتوارية تحت أطروحاته، فظهر الحكمُ السلالي الإلهي، والذي راحَ يبحثُ لنفسهِ عن شكلٍ سياسي عبر العصور، وليست غيبة المهدي سوى شكل هذا البحث عن نظام سياسي عادل متوافق مع الجذور والتطورات السائدة في الوعي المذهبي. ومن هنا كان التباين مع التوجهات السنية التي كانت في جذورها بدوية جمهورية، لا تعرف المراتبية الطبقية والسلالية، ومن هنا كان عدم القبول بحكم أسرة مقدسة أو بجماعة دينية مطلقة، وقد أخذ هذا المسارُ يُضرب من قبل الحكومات الدينية الأسرية المطلقة ويُجير لها. هذا المسارُ الديني المزدوج العام يخضعُ للأوضاعِ الملموسة في كل عصر ومرحلة، وكنا قد رأينا كيف أخذت الحركاتُ العصرية التحديثية العربية الإسلامية تعودُ إلى التقليدية والشمولية مثلما حدث ذلك للحركات المعارضة الإسلامية القديمة:الاعتزال والقرامطة والزيدية الخ، نظراً لإبقائها على النظام التقليدي بثوابته، وعدم تغييره، فالماعون الإقطاعي هو نفسه، وهو الذي يعيدُ طبخَ المواد المستوردة ويعيدُ تشكيلَها، فلم يحدث تغيير لهذا الماعون، ونوافيه هي عمليات تحرير الفلاحين وتحرير الإسلام من أقلياتِ الاستغلال النصوصية وتحرير النساء وتحرير الحكم من الاستبداد. وتمظهر ذلك في العراق بذوبان حزب البعث في الهياكل السياسية الإقطاعية البدوية، فيظهر الدكتاتورُ كنتيجةٍ لتمركزِ السلطات بين يديه، ولنمو الفساد وهدر الثروات على التسلح والبذخ، ومن هنا كان الصدام مع الثورة الإيرانية واستغلال ضعفها للتوسع، فكان هذا الغزو يشيرُ لخللٍ عميق في النظام، الذي لم يجدْ سوى التراجع عن رؤية البعث القومية العلمانية والذوبان في الشكلانية السنية المحافظة، وتحويلها إلى رايةِ حربٍ ضد الاثناعشرية، وكان انجرارُ بعضِ الدول العربية لهذا علامةً أخرى على تفاقم الطائفية، وبدء اتساعها السياسي المخيف، فغدا ذلك مبرراً للقوى السياسية الحاكمة في إيران لتوقف مد الثورة الشعبية وتسليم الحكم لكبار رجال الدين التقليديين. نستطيع أن نقول إن هذه الارتدادات للوعي الطائفي بين الضفتين الفارسية والعربية، تعكس الصعود الكبير للأقليات الحاكمة الاستغلالية وتضخم ثرواتها، وغياب أي علاقات ديمقراطية مع الجمهور ومع التراث الإسلامي، وراحت الضفتان تضخان الموادَ العتيقة وتعيدان إحياءها وإعادة عقارب الساعة للوراء.
صحيفة اخبار الخليج
23 سبتمبر 2008
تغييب الاعتدال
لا تبدو مفهومةً التدابير التي اتخذتها إدارة الأوقاف السنية ضد الشيخ صلاح الجودر، إلا إذا كان السبب وراءها لا يتصل بما يقوله على المنبر الديني أو في كتاباته الصحافية، وإنما يتصل بالمواقف العملية التي يتخذها الرجل في سعيه لترميم الشرخ بين مكونات المجتمع الطائفية والمذهبية. ومواقف الشيخ صلاح، سواء في خطبه أو في كتاباته أو في نشاطه الميداني تلتقي مع الدعوة التي أطلقها جلالة الملك بالتقارب بين المذاهب، وتشجيع الحوار بين أصحابها، ونبذ القطيعة، وهو ما دأب الجودر على التأكيد عليه مراراً، وقاله لكل من اتصل به في اليومين الماضيين داعماً ومؤازراً. الشيخ صلاح الجودر يمثل حالةً متقدمةً في الخطاب الديني والسياسي، في تجاوزه للحساسيات الطائفية والمذهبية، وترفعه على الصغائرِ الناجمة عنها، وفي تمسكهِ بالوسطيةِ والاعتدال وسيلةً للدعوة بالتي هي أحسن، وفي تبنيه للقضايا الوطنية العامة التي تُوحد أبناء هذا المجتمع، ويمكنني أن أُضيف انه من رجال الدين النادرين في هذا البلد الذي أظهر مقدرةً في الانفتاحِ على الآخر، إسلامياً مثله أو وطنياً من التيارات الأخرى، من خلال مشاركاته في الفعاليات الوطنية الجامعة. وهو بهذه الوسطية والاعتدال والتسامح لم يتخلَ عن قناعاته ومواقفه المستقلة، وعما يراه صحيحاً، فهو يُجاهر بآرائه، دون أن يرى في ذلك ما يُعيق التفاهمَ مع الآخرين، والوصولَ إلى مشتركات معهم. المُحزن أن المعنيين بمراقبة الخطاب الديني لم يجدوا إلا صاحب هذا الصوت المتسامح، المعتدل هدفاً لإجراءاتهم، فيما المنابر تضج بخُطب التكفير والشحن الطائفي وبث البغضاء المذهبية، وكل ما من شأنه أن يبعث على الفرقة، لا بل والفتنة. وهو أمر يدعونا للسؤال: لماذا يكون صوت الاعتدال والتسامح والوحدة الوطنية هدفاً لمثل هذه الإجراءات، وهل يُدرك من يتخذها نتائجها السلبية على صعيد إفراغ الساحة الدينية والمجتمعية والسياسية من نهج الاعتدال والوسطية والمجادلة بالموعظة الحسنة، لتترك هذه الساحة لغُلاة المتعصبين والمتشددين والمنافقين، الذين قادونا لما نحن عليه من فرقة، ويمكن أن يقودنا إلى ما هو أسوأ من ذلك، إذا ما تُركوا منفردين يصولون ويجولون، فيما التغييب من نصيب المعتدلين وخطاب الاعتدال الذي يُمثلونه، ومن هؤلاء الشيخ الجودر شخصياً. نحن ضد الاستخدام السياسي الحزبي للمنابر الدينية، وقلنا هذا الكلام مراراً، ودعونا إلى فك قبضة دُعاةِ هذا الاستخدام على المنابر الدينية، لكن ما يقولهُ الشيخ الجودر وما يكتبهُ لا يندرج ضمن نماذج هذا الاستخدام، انه خطاب وطني جامع ينطلق من المقاصد السمحاء للشريعة وللدين في الإعلاء من قيمةِ الحوار والأُخوة، ونبذ الظلم والفساد بأنواعه، لا الفساد الأخلاقي وحده، والدعوة إلى إزالة الظلم وتصحيح الأوضاع من منطلقِ الولاء للوطن ودعم المشروع الإصلاحي والذود عنه. الاعتراف بالخطأ فضيلة، والمطلوب ممن اتخذوا ما اتخذوا من تدابير ضد الشيخ صلاح ليس الاعتراف بخطأهم فحسب، وإنما تصحيحه بالعودة السريعة عنه، صوناً للصدقية، وحتى لا نحسب أن هناك من يسعى لتغييب صوت الاعتدال، وتسييد صوت التعصب والبغضاء.
صحيفة الايام
23 سبتمبر 2008
مسارات السياسات المذهبية (3)
إن ثلاثَ دولٍ كبيرة في المشرق وهي مصر والعراق وسوريا تقاربت في حركة سياسية تحديثية، ولكن الحرث في الأرض لم يتعمق ثم ذهب، بسبب عدم جذريتها التحديثية، فهي ظلت أنظمةً استبدادية، وتقومُ فيها الفئاتُ العليا في الحكم بنخر الثروة فتتهاوى الثورة. وبهذا فإن التجديدات على مستوى التراث والعصر تغدو مصلحية مرهونة بالحكم. وبهذا فإن هذا الخليط من الايديولوجيات: القومية والسنية المذهبية والماركسية والليبرالية وصل إلى التفكك الداخلي، والتضارب، لكون أي فكر يربط نفسه بسيطرة دولة يذوي، وبهذا نرى محمود أمين العالم الماركسي يتفق مع محمد عمارة على اشتراكية النظام. وفيما يتعلق بموضوعنا وهو قراءة التوجهات المذهبية فإن التوجهات السنية الرسمية في هذه الأنظمة أخذت تبتعد عن الناس، فقدرتها على ربط المذهب بالعصر محدودة، وهو أمرٌ يتعلقُ بالتحديات النظرية خاصةً تحديات الماركسية والليبرالية، كذلك غدت مُلحقةً بالنظام وفتاواها تدورُ في فلكه، مثل عدم نقد الاشتراكية والتأميمات أو بقبولها ببعض الحداثة القشورية للأنظمة. أي أنها وجدت نفسها مؤدلجة وغير مرتبطة بالحركة الشعبية الناقدة للأنظمة. في حين ان حركة الاخوان المسلمين ربطت نفسها بذلك، وتوجهت وقتذاك إلى معاداة حركة الحداثة العربية حتى بمستواها الوسطي المتقلقل، بسبب الصراع على السلطة في مجلس قيادة الثورة ثم في الحياة، وبهذا حدث انقسامٌ كبيرٌ في التوجهات السنية السياسية السائدة. فصار الصراعُ السياسي المذهبي بين السنة والشيعة المتكون في الساحة العراقية خاصة، صار صراعاً بين مستويات السنة نفسها، بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم، فوجدنا الصراعَ بين الجمهوريات والملكيات العربية السنية هو المستعر كما في اليمن. كان هذا يعبر ليس فقط عن هروب قيادات الاخوان المسلمين إلى السعودية، بل عن حركة أكبر هي حركة تبدل مراكز الثروة، وبالتالي تبدل السكان وانتقالهم وحركة أفكارهم. ونظراً لتحول المراكز الصحراوية والريفية إلى الهيمنة على أهم مصادر إنتاج الثروة فقد راحت تضخُ ثقافتَها للمراكز المدنية المسيطرة سابقاً خاصةً في مصر، وتبدى ذلك ايديولوجياً في خفوت الناصرية والليبرالية والماركسية والبعث، فمراكز الجزيرة العربية راحت تضخُ موادَ المذهب السني الشديد النصوصية والحرفية، وهو مذهب لا يُعملُ العقلَ كثيراً في مواد الدين، ويأخذها كمادة خام مقبولة بشكل متوسع، وهو أمرٌ يسايرُ الأوساطَ البدوية وشبه الحضرية، ولكن تغلغله في مدن كبرى كالقاهرة ودمشق وبيروت، يعبر عن هذه الهجرة الواسعة للسكان الريفيين إلى هذه المدن المتسعة، وتفاقم الأزماتُ فيها، فإذا دُعم ذلك بتنظيم قوي كالاخوان مرفود بثروة نفط ضد نظام أخذت تتفاقمُ تناقضاتهُ الداخلية، يحدثُ ذلك تبدلٌ للصراع السياسي، ويظهرُ تفاوتٌ للمذاهب السنية وصراع في مستوياتها، فالآراء المجلوبة من مستوى صحراوي تناقض المستوى المدني الهش غير المتجذر في المدينة الحضرية، التي تعيش أوساط كثيرة منها في القرون الوسطى معيشةً ومقاماً مهمّشين من سلطة مستبدة. وهكذا فإن التشدد في اللباس والمظاهر والشعائر الدينية تأخذ في السيطرة على المفهوم الديني الساعي سابقاً لمواكبة الحداثة. علينا هنا أن نرى التأميمات ومصادرة الأملاك الخاصة من قبل الحكومات (العسكرية) للملكيات الصناعية بدرجة أساسية في ذلك الحين ليس ضرباً للملكية الخاصة في وسائل الإنتاج فحسب، ولكن كذلك بأنها حركة تتسم بالمغامرة وبغياب بُعد النظر ومؤدية لتباطوء صناعي على مستويات عدة وتصعيد للبيروقراطية والفساد. وبطبيعة الحال كانت هذه التأميمات من وجهة نظر الماركسية والقومية والسنية الرسمية إنجازاً، بتبريرات مختلفة، ولم تقم هذه الحركات بمقاربات دقيقة لهذه القضية الحساسة على مستوى الدين والعصر. وبطبيعة الحال وضعت ذلك الحركات الدينية السنية أو الشيعية في العراق وقتذاك، مثل هذه المصادرات المرعبة للملكية الخاصة في خانة الجريمة.
صحيفة اخبار الخليج
22 سبتمبر 2008