المنشور

باراك أوباما منتصراً


ليس للمحة لونه المختلفة، وليس لزوجته ذات اللون غير الأبيض، بل لتصعيده عناصر النضال الديمقراطية الصغيرة المحاصرة والصاعدة في الحزب الديمقراطي الرأسمالي. لا يُقاس البشر بالألوان والمنابت العرقية بل بالمواقف المغيرة لمصير الأغلبية الشعبية في كل بلد. ولا يتاح للعمال والفقراء في أمريكا أن يصعدوا على مسرح السياسة العليا، وأن يقرروا مصير الأمة، بل لهم أن يقرروا ذلك من خلال الحزبين الرأسماليين الديمقراطي أو الجمهوري ممثلي الطبقة التي تسيطرُ عليهم وتستغلهم! وفي هذا خيرٌ وتقدم مع ذلك، لأن قيادة هؤلاء العمال لم يحن موعدها بعد، وهي تحتاج إلى الكثير من المعرفة والتقدم الاجتماعي.
ويقوم المتنفذون في الحزبين بتوظيف الرأي الشعبي الكاسح لمصلحتهما، والرأي الشعبي الأمريكي الكاسح هو رافض لعهد الحزب الجمهوري الأكثر يمينية وخدمة للطبقة العليا، من دون مراعاة لأكبر الشرائح الشعبية المتضررة من سياساته العسكرية والحربية التي جرت العالم إلى حافة الهاوية. صحيح إن هذه السياسة وجهت ضربةً كبيرة لبعض الأنظمة الشرقية الدكتاتورية الدموية ولكنها لم تجعل القوى الشعبية في هذه البلدان سيدة الموقف على الأرض، واستغلت ذلك لفرض امتيازات اقتصادية خاصة في المجالات النفطية. وكان هذا الزج الكبير بالقوات الأمريكية مكلفاً للشعب الأمريكي الفقير خاصة، من جهة جر أبنائه للحروب ومن جهة تصعيد الضرائب والتكاليف وإنقاص الخدمات الاجتماعية عليه. فجاء المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية معبراً عن هذه الأغلبية الشعبية التي قامت جماعة الأقلية الجمهورية، المعبرة عن تجار الأسلحة الكبار والشركات النفطية، بحصارها المعيشي وبإسكات أصواتها. كذلك كانت هذه السياسة التي قادها الرئيس الأمريكي بوش سياسة استعلاء وتصغير للقوى العالمية والإقليمية الكبيرة وفرض صوت عالمي واحد، مما استعدى هذه القوى وجعل العالم يقترب من الحرب الباردة العالمية مجدداً. وكانت سيادة أمريكا العالمية في طور الانهيار فقد أدت سياسة الإدارة الأمريكية في تصعيد نفوذها عبر الجيش والدولار واحتكار النفط إلى تصاعد خسائرها الاقتصادية، وجعل منافسيها الكبار مثل الصين وروسيا وأوروبا الغربية واليابان يصعدون على المسرح الدولي، نتيجة لتعزز اقتصاديات دولهم، وعدم وجود تكاليف باهظة لحروب، فتغير ميزان القوى العالمية، في وقت ظنت قيادة أمريكا أنها كسبت فيه وصعدت. إن انتصار أوباما المتوقع هو نتيجة لهذا التغير في صعود القوى العالمية الكبيرة التي صغرت من الوجود الأمريكي المتنفذ، وجعلت من عالم متعدد الأقطاب ضرورة سياسية لتجنب الدكتاتورية العالمية الوحيدة القطب. فالأمر هو في تصاعد قوى التغيير في داخل الولايات المتحدة وفي العالم الخارجي، فقوى التغيير الشعبية الأمريكية وجدت في سياسة اليمين المتطرف الجمهورية قاصمة ظهر لعيشها ولأرواح شبابها، ووجدت فيها قوى التغيير العالمية أنها سياسة سيطرة وإملاء لا تأخذ مصالح الأمم الكبرى بعين الاعتبار. ومع ذلك فإن السياسة الأمريكية المنتصرة لن تتغير جذرياً، فهي تراعي أولاً مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة، لكنها تكيف ذلك مع المتغيرات العالمية والمحلية، بحيث تكسب شرائح من الطبقة الوسطى الأمريكية ونخب العمال، وسوف تدخل في صفقات وحلول وسط للصراعات الدولية مع روسيا خاصة ومع إيران، بحيث تتجنب سياسة حافة الهاوية والاعتماد الأساسي على الأساطيل الحربية، لكنها ستلجأ إليها إذا لم تجدِ السياسة السلمية. كانت سياسة بوش مكلفة مع اعتمادها على القوة وحدها، وجاء زمن مشاركة الفرقاء الأوربيين والأقطاب، مع وجود سيادة أمريكية بطبيعة الحال، لكون الانتقال إلى المساواة التامة محالا في مثل توازن القوى الراهن. وتجاه العرب فلن تتغير السياسة الأمريكية كثيراً لكون العرب لم يوجدوا لهم قوة مثل الدول الكبيرة، وقيادة طليعية لها ثقل اقتصادي، فهم مهشمون في كلا الحالين.



عبدالله خليفة 
أخبار الخليج 4 سبتمبر 2008
 

اقرأ المزيد

صباح الرؤى المتضاربة ..


بتوصية من البنك المركزي؛ أصدر ديوان الخدمة المدنية قراراً بخفض التوظيف الحكومي في مؤسسات ودوائر الدولة من 3 آلاف موظف سنوياً إلى ألف فقط.. جاء ذلك بعد أن ارتأى البنك المركزي أن بند الرواتب يستهلك نحو 40% من مصروفات الدولة ويشكل عبئاً كبيراً على الموازنة التي تفضل الحكومة على ما يبدو توجيهها للمشاريع حالياً عوضاً عن ضخها للمواطنين على هيئة رواتب!!


هذا القرار – وإن استثنينا ما بجنباته من تجاهل لمطامح الخريجين في العمل الحكومي- فسنجد أن مفارقاته تفوق مبرراته.. فكيف تنوي الحكومة تحديد سقف التوظيف بألف فقط وهي بحاجة لمالا يقل عن 3 آلاف موظف في مستشفى الملك حمد الذي سيفتح العام المقبل تحت مظلة وزارة الصحة!!


ماذا عن الإدارات الحكومية الجديدة التي استحدثتها الحكومة ولم تستكمل هياكلها بعد؛ ومنها على سبيل المثال إدارة التأمين ضد التعطل وهيئة التعليم العالي وهيئة جودة التعليم وغيرهما !! كيف تريد الحكومة الدفع قدماً بمشروعاتها دون كوادر لائقة!!


إن الحكومة تخطط لتوسعة نشاطاتها ومشروعاتها وتجويد عملها ومواجهة الطفرة العمرانية والسكانية بزيادة خدماتها؛ وهو ما لا يستقيم مع توجهها لتقليص أعداد موظفيها.. وما لا يستقيم في الوقت نفسه مع توجه الدولة لتوظيف كل العاطلين الجامعيين وامتصاصهم في قطاعيها العام والخاص. ثم إن الحكومات تزيد من كوادرها سنوياً لمواجهة الأعباء والتحديات التي تتزايد تصاعدياً.. وليس العكس !!!



صباح الحدائق القاحلة !



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


في الوقت الذي يتم التركيز فيه الآن على إنشاء وتطوير كل من حديقة حاتم الطائي في الحد وممشى عراد نجد على الضفة المقابلة إهمالاً جللاً لحديقة المحرق الكبرى وحديقة الكازينو اللتين تحولتا لأرض قاحلة!! أفيصح أن نطور حديقة؛ لنُعدم ونخسر أخرى؟!



بالطبع يصح.. فقد تعودنا أن نتقدم خطوة؛ ونتأخر خطوات!!



اطلبوا الطوارئ.. لقسم الطوارئ؟!



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


لم يخصص لقسم الطوارئ في المحرق؛ رغم ما عليه من ضغط؛ طبيب طوارئ حتى الساعة.. وكل الإمكانيات التي يعمل بها القسم عبارة عن عدد من الممرضات – اللواتي قلص عددهن من أربع إلى ثلاث مؤخراً- ينهضن بخدمة 13 سريراً وعشرات الحالات المستعجلة التي ترد كل ساعة!!


ووفقاً لشهادة المرضى؛ إن الممرضات المتفانيات يبذلن جهدهن في خدمة المرضى رغم وطء الضغط؛ فهلا تفقدت وزارة الصحة القسم وعاجلته بالمدد ليتمكن من مواجهة أعبائه التي تتزايد في هذا الشهر الفضيل!!




للسرقة.. حدود..



ـــــــــــــــــــــــــــ




عشرات آلاف الدنانير تهدر من مال الدولة على نخيل ‘رايحة’ وأشجار ‘جايه’.. أشجار تبدل كل بضعة أشهر وكأنها بضاعة موسمية!!


بالطبع نحن لسنا بسذج ونعي – تماماً- أن تلك الأشجار هي بوابة تنفيع سهلة لذوي الضمائر الميتة ولكن لكل شيء حدود؛ حتى التنفع ومد اليد لا يجب أن يتم بهذا الشكل الفاضح!!


نسأل: لم أبدلتم أشجاراً لم تمر على وجودها أشهر فتأتيك إجابة تدعي بأن تلك الأشجار لم تكن متوائمة ومناخنا!! ألم يطرح هذا السؤال قبل شراء هذه الأشجار والنخيل؟! أيعقل أن لا تتم دراسة مدى ملاءمة الشجرة قبل شرائها التي تكلف للعلم مالا يقل عن 200 دينار ‘شاملة العمولات والإكراميات’؟!


فعلاً.. إن لم تستح فافعل ما شئت..
 
الوقت 3 سبتمبر 2008
 

اقرأ المزيد

حلول عملية لتمكين المرأة


إدماج المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية أصبح موضوعاً مطروقاً من الناحية النظرية بشكل مكثف في الفترة الأخيرة، ولاسيما أن الكثير من برامج الأمم المتحدة تتوجه نحو تمكين المرأة، كما تخصص كثير من الدول إمكانات كثيرة من أجل ذلك، ففي البحرين لدينا المجلس الأعلى للمرأة كهيئة استشارية للسلطة التنفيذية، ولدينا الاتحادات والجمعيات النسائية والنقابية والحقوقية، والتي تسعى جميعها لتمكين المرأة.

ولكن بعيداً عن التنظير، وهو أمر مطلوب، فإن ما يقلق المرأة قضايا مباشرة تتعلق بشئونها الأسرية ولاسيما إذا كانت أمّاً، وهي مشكلات تتداخل بين التعليم والعمل والدور الذي يمكن أن تلعبه المرأة.

قبل يومين اتصلت بي سيدة تقول إن لديها شهادة بكالوريوس، ولكنها جالسة في المنزل منذ أكثر من عشر سنوات بانتظار أن تحصل على وظيفة تناسبها، أو أن تتصل بها وزارة التربية والتعليم، أو ترى اسمها منشوراً في قائمة الجامعيين العاطلين الذين تولى صندوق العمل مهمة توظيف 500 منهم في القطاع العام، ونحو 1400 في القطاع الخاص.

ولكن المشكلة أن كثيراً من الأعمال في القطاعين العام والخاص قد لا تتوافق مع ظروف المرأة التي تحتاج إلى من يرعى أطفالها، أو يقوم بمهمات منزلية تتطلبها الأسرة، والعمل في أكثر الوظائف يتطلب تضحيات قد لا تستطيع كل امرأة أن تقدمها، ولو قدمتها كل امرأة فإن العوائل تتضرر بالنسبة إلى الأطفال والشئون الأسرية.

نسمع الكثير عن أن الحقوق مضمونة للمرأة في الدساتير والكتب، ولكن ما نحتاجه ليس كتباً وإنما حلول عملية تساعد المرأة لكي تخرج من منزلها للعمل من دون أن تتخلخل الأسرة، وأن تستطيع أن تشارك في السياسة والثقافة وغيرهما من المجالات من دون مشكلات حياتية تبدو بسيطة ولكنها ليست كذلك. فكثير من المؤسسات في العالم، بما فيها برلمانات، توفر حضانات وتوفر تسهيلات تحتاجها المرأة ولا يحتاجها الرجل.

المرأة في البحرين تحصل على تعليم وتحصل على حقوق مكتوبة نظرياً، ولكنها تبقى أسيرة انعدام وجود أية تسهيلات عملية توفرها المؤسسات التابعة للحكومة أو الشركات بحيث تستطيع أن تلعب دورها، تماماً مثل أصحاب الإعاقات الجسدية تتوافر لهم تسهيلات خاصة تمكنهم من لعب دورهم في الحياة.
 
الوسط  3 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

بين وحدة الطائفة.. والوحدة الوطنية


كنت في الأساس قد عقدت العزم مقدماً أن أدرج ضمن الموضوعات التي انوي أن أتناولها في هذه الزاوية في الأيام الأخيرة الماضية قبيل شهر رمضان المبارك موضوع الوحدة الوطنية بين طائفتي شعبنا الكريمتين واللتين تشكلان المكونين الرئيسيين لنسيجنا الوطني، ومن ثم الاستفسار عما آلت إليه مبادرة جلالة الملك الهامة بدعوة مشايخ الطائفتين ورموزهما الدينية الكبيرة إلى مائدة حوار مدعومة من الدولة والقيادة السياسية. وسبق أن اقترحت بأن يتم التحضير جيداً لهذا الحوار الوطني الكبير، وألا يقتصر فقط على رجال الدين حتى بالرغم مما لهم والدولة من دور محوري في إنجاح مثل هذا المشروع الوطني الكبير، بل أن تشرك القوى السياسية ممثلة في الجمعيات السياسية والرموز المستقلة في مثل هذا الحوار الذي دعا إليه جلالة الملك، ولاسيما الجمعيات الوطنية المعروف بعدم حملها أية هوية طائفية وبحيادها ونزاهتها في الخلافات والنزاعات المذهبية. وقلت: إن مشروعاً وطنياً توحيدياً كبيراً إذا ما أريد له حقاً النجاح فينبغي التحضير الجيد له بنفس طويل دؤوب وصبور، وان تتساءل الدولة وجميع الأطراف المدعوة للحوار نفسها مقدماً هل هي حقاً بصدد حوار مجاملات يخرج ببيان إنشائي زاه للإعلام فقط، أي فضفاض لا يهش ولا ينش مكتفياً باجترار التأكيد على الثوابت الإسلامية والوطنية والمشتركات المعروفة بين الطائفتين وذلك على شاكلة البيانات التي طالما خرجت بها ومازالت تخرج بها مؤتمرات ومنتديات حوارات الأديان والطوائف والتي تدعى إليها نخب تلك الأديان والطوائف وتخرج بتلك البيانات التي دبجتها ونشرتها وبثتها وسائل الأعلام العالمية فيما الواقع المرير من التشرذم على حاله هو هو؟ ومن ثم ” فكأنك يا زيد ما غزيت “، ام هي، أي الدولة وجميع الأطراف الدينية المدعوة للحوار بصدد ترجمة مبادرة جلالة ترجمة جادة ملموسة على أرض الواقع؟ بحيث يقوم هذا الحوار على أسس ومرتكزات شاملة وسليمة متينة لا تستثني أطرافاً أو قوى فاعلة، دينية أم سياسية في كلتا الطائفتين، ولا تستثني أو تضع فيتو على أي محور أو أي موضوع من الموضوعات والمحاور التي هي جديرة بالمعالجة والحوار.
 بمعنى ألا يكتفى في هذا الحوار الديني التقاربي المنشود بالمسائل الدينية الصرفة فقط، بل ان تشمل محاور الحوار مختلف المسائل والقضايا ذات العلاقة بما يثير من حساسيات مذهبية وطائفية. ومن بين هذه المحاور المهمة، كما سبق أن ذكرت، المحور الإعلامي، والمحور الثقافي، والمحور الاقتصادي والمعيشي بما في ذلك قضايا التوظيف والبطالة، وغيرها من القضايا الأخرى.
 واحسب بأنه لا يوجد بحرينيان يختلفان حول تشابك وتداخل تلك المحاور مع المحور الديني الفقهي، فالخلافات الناشئة والحساسيات التي تراكمت سريعاً خلال السنوات القليلة الماضية بين الطائفتين الكريمتين ليست مجرد على أمور فقهية او دينية صرفة، بل لها مسببات أبعادها وانعكاساتها على جميع المحاور المتقدم ذكرها والتي اقترحنا إدراجها ضمن أجندة الحوار.
 قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز: ( لم تختلف أمتي على القرآن بل اختلفت على الدرهم والدينار). وكنا بصدد بناء على ما تقدم ان نناشد الجهات الرسمية العليا ولاسيما القيادة السياسية الموقرة للإسراع باستخدام كل نفوذها وسلطاتها لتفعيل مبادرة جلالة الملك لكي لا تبقى لا سمح الله حبراً على ورق. وسبق إن اقترحنا أيضا بأن تكون أمسيات شهر رمضان المبارك الجاري شهر الفضيلة والغفران، شهر التسامح والتودد بين المسلمين لتفعيل هذه المبادرة الكريمة التي أطلقها جلالة الملك من خلال إطلاق ورش عمل تحضيرية مشتركة تختص كل منها بمحور مهم من المحاور المذكورة ذات العلاقة بالعوامل التي تثير الحساسيات المذهبية بين أبناء الطائفتين الكريمتين.
 لكن ها هو شهر رمضان المبارك هل هلاله، وقد مضى على مبادرة جلالة الملك زهاء شهرين من دون ان نسمع من الجهات الرسمية والدينية المعنية باحتضان مبادرة جلالته والعمل على تنفيذها وترجمتها على ارض الواقع أي خطوات تذكر بما في ذلك مشروع «المرصد الديني«، ووضع آليات انشائه وتفعيله.
والأهم من كل ذلك ومما يدمي القلب حقاً ها هي النزاعات تتفجر داخل حتى الطائفة الواحدة وتمتد من إطار النقاشات والمشاحنات الساخنة والحملات الإعلامية المتبادلة إلى استخدام العنف الشديد والضرب المبرح لإيذاء الطرف المختلف معه كائنا من يكون هذا الطرف. كما حدث في ندوة ” الثوابت الإسلامية وبدعة السفارة ” في مأتم القائم بإسكان عالي والتي تطورت فيها المشادات الكلامية الحوارية الملتهبة إلى عراك عنيف وخطير بالأيدي. ولا شك بأن هنالك نزاعات وخلافات وان كانت اقل خطورة داخل الطائفة الأخرى.


 
بين وحدة الطائفة.. والوحدة الوطنية (2-2)


ظهر تيار ” جمعية التجديد ” أو ما بات يعرف داخل مجتمع الطائفة الشيعية بـ ” جماعة السفارة ” في أواخر ثمانينيات القرن الماضي من داخل أقبية السجون على أيدي رموز هذا التيار المعتقلين حينذاك لقضايا تتعلق بأمن الدولة، وكان لنفاذ كبار رموزهم بجلودهم من الاعتقال تأثيراً نفسياً لظهور هذا التيار في هذا المكان وبعد مغادرتهم السجون تباعا ظهر التيار على الساحة الاجتماعية والدينية داخل الطائفة الشيعية، واحتدم الخلاف ما بينهم وبين كبار رموز ومراجع الطائفة، وفشل الجانبان في إقناع كل منهما الآخر، بصحة وجهة نظره الدينية الفقهية بعد سلسلة من المحاورات الفردية والجماعية وعززت الأكثرية صحة وجهة نظرها بفتاوى كبار مراجع التقليد في الخارج، والأخطر من ذلك فقد فشلا في التوصل ولو لصيغة مشتركة أو الخروج بميثاق شرف للتعايش المشترك، وعدم إيذاء أي طرف للآخر، حيث جرى تكفير وتفسيق الطرف الضعيف، ولاسيما انه يمثل الأقلية. كما جرت محاربتهم دينيا واجتماعيا بقسوة شديدة بالغة لم يلق شدة صنوفها حتى نشطاء وأفراد التيارات الوطنية واليسارية في القرى من الجنسين خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أثناء محاربتهم باعتبارهم ” شيوعيين كفرة “، وهي المحاربة التي كان نشطاء تيار “التجديد” أنفسهم شاركوا فيها بحمية وبحماسة منقطعة النظير قبل دخولهم السجون، وذلك حينما كانوا أتباعا لكبار مشايخ الطائفة، أو منضمين لأحزابها السياسية الدينية السرية الكبرى وعلى الأخص ” حزب الدعوة “، وهو الحزب الذي كان آنذاك من ابرز القضايا الملحة المطروحة على أجندته السياسية محاربة ” الشيوعية “. وغداة تفجر أحداث التسعينيات والى وقت قريب بدا إن موضوع ” السفارة ” قد طواه النسيان إلى حد ما، لا بل إن المرحوم الشيخ سليمان المدني حينما أبدى استنكاره من إغلاق أو تجميد الحرب على ” جماعة السفارة ” والشيوعيين أمام بعض كبار مشايخ الطائفة وندد بتحالفهم الجديد مع الشيوعيين فرد هؤلاء عليه بأنه يريد فتح جبهة هامشية تلهي الناس عن مطالبها السياسية لكي يبرر تهربه من ” الانتفاضة “.
 وظل موضوع ” جماعة السفارة ” كما ذكرنا شبه منسي إلى وقت قريب، رغم استمرار المقاطعة المحكمة لهؤلاء وتخفيف حدة محاربتهم، ورغم حذر وتجنب أفراد ” جماعة السفارة ” بدورهم من التواجد في الأماكن والمآتم والمساجد غير المرحب أو المرغوب في تواجدهم فيها.
ولكن منذ بزوغ المشروع الإصلاحي لجلالة الملك مطلع الألفية الجديدة استفاد تيار ” السفارة ” من أجواء الانفراج السياسي الجديد وما وفره من هامش للحريات العامة وحرية التعبير أيما استفادة، فأسسوا جمعيتهم “التجديد” ونشطوا علنيا بصورة ملحوظة، وعقدوا سلسلة من الندوات السياسية والدينية العلنية الناجحة واستضافوا فيها شخصيات ورموزا دينية عربية وإسلامية كبيرة من مختلف الطوائف الإسلامية، كما رفعت الصحافة المحلية الحظر المفروض على أخبار أنشطتهم وفعالياتهم درءا من إثارة الحساسيات المذهبية باعتبارهم يمثلون احد تيارين دينيين سياسيين متنازعين داخل الطائفة الشيعية. كما برزت بقوة أقلامهم في الصحافة المحلية ومقالاتهم الفكرية والسياسية والدينية، ولربما اتسعت قاعدتهم الاجتماعية أيضا. وحظيت محاضراتهم وندواتهم المتواصلة بإقبال جماهيري من كلتا الطائفتين، وأصدروا أيضا مجموعة كتب لسلسلة من الدراسات الدينية والاجتماعية والتاريخية والفكرية المختلفة حظيت باعجاب أو اهتمام رموز وجهات سياسية ودينية في البحرين وخارجها، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف جزئيا أو كليا مع رؤاها.
لكن فجأة ظهر ما لم يكن في الحسبان فقد استؤنفت الحملة الدينية التكفيرية التفسيقية مجددا عليهم بشدة وسرعان ما اشتدت الملاسنات والحملات الإعلامية المتبادلة بين الجانبين. ومثلما فسّر مشايخ الطائفة سلبية المرحوم الشيخ المدني من ” انتفاضة ” التسعينيات ومطالبته بمواصلة الحرب على الشيوعيين وجماعة السفارة برغبته في إلهاء الناس عن مطالبهم السياسية الآنية وفي مقدمتها المطالبة بإعادة البرلمان، فسرت جمعية التجديد بدورها سر استئناف هذه الحملة الجديدة المباغتة عليهم بالرغبة في صرف الناس والهائهم عن فشل تيار ” الوفاق ” داخل البرلمان وعلى الساحة السياسية والاجتماعية وتضعضع قواعدهم الجماهيرية.
وأخيرا فقد تطور النزاع إلى العراك بالأيدي على نحو ما شاهدناه وقرأنا عنه في الصحف من أحداث مؤسفة يدمى لها داخل حرم أحد المآتم الحسينية، وهو ” مأتم القائم ” بإسكان عالي خلال ندوة ” الثوابت الإسلامية وبدعة السفارة “. وهنا يتضح لنا جليا الحاجة الملحة إلى ترتيب البيت الداخلي داخل كل طائفة قبل الشروع إلى حوار بين الطائفتين.
لا احد يعلم بالطبع على وجه الدقة كيف تطورت ندوة مأتم إلى عراك بالأيدي بين عضو التجديد الحاضر وجموع الحاضرين، لكن بالتأكيد إن استخدام القوة مهما كانت المبررات في الحوارات ليس اسلوبا حضاريا، بل هو دليل ضعف على من يلجأ إليه، أيا يكن هذا الطرف، ومع إنني أقف على الحياد بين الجانبين ولي أقارب وجيران من كليهما، بل اختلف مع كليهما سياسيا رغم اعتزازي بثقافتي الشعبية وموروثي الديني الذي نشأت وتربيت عليه، إلا إنني أرى من الأهمية بمكان أن يبادر مشايخ الطائفة إدانة الطرف الذي بدأ بالاعتداء كائنا من يكون هذا الطرف. وان يتم إغلاق أو تجميد هذا الملف وإيجاد صيغة للتعايش مع الرأي الآخر دينيا أم سياسيا. ذلك بأن الأحرى بالمطالبين بتوسيع هامش حرية التعبير أن يبدءوا بأنفسهم أولا.
وإذا كانت وزارة الداخلية ليس من مسئوليتها الدخول أو التدخل في صميم المنازعات السياسية والدينية الخاصة بالطوائف مهما استعرت فإنه من صميم مسئولياتها الحفاظ على الأمن وحماية سلامة المواطنين، اذا ما تحولت إلى أعمال عنف. كما من الأهمية بمكان فتح بيوت الله والمآتم لمختلف عباد الله من دون استثناء، وعدم احتكارها أو تجييرها سياسيا أو حزبيا، وذلك على الأقل من باب مقولة الامام علي (ع): ” الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق “، لكي لا نقول اخ لك في الطائفة وفي الدين وفي القومية لا بل في كثير من الحالات هو أخ لك شقيق فعلا من رحم واحدة، حيث ان النزاع المرير بين الفريقين بات يشطر العائلة الواحدة الصغيرة منذ نحو عقدين من الزمن.
وفي اعتقادي الشخصي إن تيار ” التجديد ” بات اليوم تيارا دينيا وسياسيا فرض وجوده على الساحة بعد مرور عقدين على بزوغه ومن العبث استئصاله بجرة قلم أو بندوة، ولا يمكن إلا التعايش معه، مثله في ذلك مثل كل التيارات السياسية الوطنية والدينية العريقة التي فشلت محاولات استئصالها أيا تكن قوتها اليوم.

 
أخبار الخليج 1-2 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

من الكأس المرة ذاتها


ثارث ثائرة الغرب على الاعتراف الروسي بجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين كانتا حتى حرب القوقاز الأخيرة تابعتين لجورجيا، رغم أن هذا الغرب ظهر -  حتى الآن – قليل الحيلة إزاء الواقع الميداني الذي فرضته روسيا في القوقاز في حصيلة المستجدات التي فرضتها المغامرة الجورجية غير المحسوبة.
 الغرب قال في مرافعاته الدفاعية ضد الإعلان الروسي إن وحدة أراضي الدول مبدأ يضمنه القانون الدولي، التي تبدو روسيا اليوم باعترافها بالجمهوريتين الصغيرتين مُنتهكة له. في الجزء المتصل بالقانون الدولي كان منطق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” سيبدو مقنعاً، لولا أن الوقائع تجعل من هذه الأطراف جميعها غير ذات صدقية، حينما تتحدث عن هذا القانون، للدرجة التي تحمل على التساؤل: ما الذي حدث وجعل الدول الغربية تُظهر كل هذا الحرص على القانون الدولي؟
فالولايات المتحدة احتلت العراق البعيد عنها بما لا يُقاس، منتهكة بذلك سيادة بلد مستقل عضو في الأمم المتحدة، على الضد من القانون الدولي بحجة الدفاع عن مصالحها الحيوية، وهي تُكثر على روسيا، الدولة العظمى هي الأخرى حتى لو جار الزمان عليها، أن تدافع عن مصالحها الحيوية في محيط جغرافي لصيق بها وبحدود طويلة مع أراضيها. ولم يظهر الغرب المحتج اليوم على الإعلان الروسي شيئاً من هذه الحمية على القانون الدولي عندما احتل العراق.
 الأمر لا يقف هنا فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو” وقفت جميعها مع إعلان استقلال كوسوفو منذ شهور فقط، رغم الممانعة الروسية، واعتبرت ذلك الإعلان منسجماً مع إرادة أهالي الإقليم في أن يقرروا مصيرهم ويديروا أمورهم بأنفسهم.
 ولو عالجنا الأمر من زاوية قانونية صرفة، بعيداً عن المصالح والاعتبارات السياسية التي ليست خافية عن أولي الألباب، علينا التساؤل عن سر التناقض في مواقف الدول الغربية بتأييد استقلال كوسوفو من دون أن ترى فيه مساساً بمبدأ وحدة الأراضي، وترى العكس في اعتراف روسيا بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
 لا يدور الحديث هنا عن مبادئ في القانون الدولي مُست أو انتهكت، إنما عن لعبة كبرى للأمم المتصارعة، في واحد من الصراعات التي بدت، حتى حينٍ قريب كامنة أو ربما مؤجلة، قبل أن يؤدي طيش الرئيس الجورجي الغر إلى الدفع بها إلى مقدمة الصدارة. وفي هذه اللعبة رمت روسيا بالقفاز نفسه في وجه الغرب، حين قرر ثنائي بوتين – ميدفيديف مدعومين من الجيش والاستخبارات في روسيا أن يحملا الغرب على تجرع الكأس المرة التي سبق لهذا الغرب أن حملها على تجرعها أكثر من مرة مستغلاً حالة الضعف التي كانت فيها في العقود الماضية.

 
الأيام 2 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

هل تتناحر الشعوب لمجرد وجود الفوارق القومية والدينية فيما بينها

تتداول بين عامة الناس ومنذ القدم بعض الانطباعات السلبية والأحكام المسبقة حول طباع بعض الشعوب وتصرفاتها. ولحد ما، يمكن فهم وتقبل هذه الأفكار إذ إنها نتاج تفاعل هذه الشعوب مع بعضها البعض وتكوين هذه الثقافات لديها. ولا زلنا نعتقد بأنها خصائص مختلفة تنفرد بها شعوب دون أخرى ولا يمكن أن يكون غير ذلك نظرا لاختلاف الظروف المناخية والمعيشية، كالفرق ما بين المجتمعات الريفية والمدنية وتأثير قسوة الحياة وما إلى ذلك من موروثات اجتماعية وتاريخية وعقائدية.
فتلك الأمور كانت على مر العصور تتفاعل بشكل طبيعي ولكن تستغل أحيانا لتأخذ منحى عدواني وعنصري بل حتى دموي، وهو ما أدى إلى مجازر تكون نتائجها إبادة أمة كاملة كما حدث على سبيل المثال للأرمن من قبل الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1915.
ودون الخوض في الأسباب التاريخية لتلك الحروب الاستعمارية والمجازر العدوانية والتي نحن لسنا بصددها هنا، يمكن الجزم بان تلك الحروب والمجازر لم تكن أبدا نتاج تلك الاختلافات في خصال الشعوب. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، إذا لم تكن الخصائص العدوانية للشعوب سببا في إشعال فتيل الحروب، فما هي الأسباب المؤدية إلى ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال يمكن سرد ما يلي:  

  1. الحروب الهندية الباكستانية، سنوات 1947، 1965، 1971، 1999 والتي ذهب ضحيتها الملايين من البشر ناهيك عن التأخير الجسيم للتنمية في كلا البلدين. عامة، يوصم الشعب الباكستاني “بالعدوانية “! ولكن متى كانت خصائص الشعوب سببا لحروب طاحنة تؤدى إلى تفكك الدول كما حدث لانفصال بنغلادش عن البلد الأم باكستان، لولا تدخل الدول الامبريالية والاستعمارية والطغم العسكرية الحاكمة في باكستان ومخططاتها لتأجيج النعرات الطائفية والمذهبية بين المسلمين و الهندوس لديمومة حكمها. 
  2. الحرب البوسنية/هيرزيكوفينة سنوات 1992 و 1995 كيف عاشت هذه الشعوب قرابة 70 سنة ضمن دولة يوغوسلافيا الفدرالية في ظل نظام شبه اشتراكي مع العلم أن المسيحيين الارثودوكس والمسلمين عاشو جنبا إلى جنب دون أية مشاكل تذكر، ويعود السبب آنذاك هو احترام ومساواة الدولة لجميع الطوائف والقوميات. في ظل هكذا أنظمة يشعر الفرد كما تشعر الجماعة بالأمن والأمان ولا يحتاج إلى أية حماية ما دامت الدولة تقيم مبدأ المساواة بين جميع الفئات. إذا نستطيع القول أن أسباب تلك الحروب هي تدخل الدول الغربية الاستعمارية واستغلالها الفوارق العرقية وتأجيجها، لتفكيك الدولة اليوغوسلافية كتسلسل لتفكيك الدول الاشتراكية وذلك للانقضاض على ما تبقى من نفوذ الاتحاد السوفيتي ضمن إستراتيجية أمريكا العدوانية الكونية ذات القطب الواحد.
  3. الحرب العراقية الإيرانية سنوات 1980 إلى 1988 التي أشعلتها القوى الغربية الاستعمارية لإعادة الهيمنة على مقدرات شعوب المنطقة تحت ذرائع واهية وشوفينية لجعل شعوب المنطقة تتقاتل على حرب مدمرة راحت ضحيتها أعداد لا تحصى من البشر من كلا الطرفين. وكانت أبواق الدعاية الاستعمارية والرجعية تؤجج المشاعر القومية والشوفينية لكل الطرفين بينما عاشت هذه الشعوب ردحا من الزمن دون الحاجة لتلك الحروب المدمرة.

إذا يمكن القول أن الشعوب مهما اختلفت ثقافاتها وتنوعها العرقي والمذهبي لا يمكن لها أن تشن الحروب وتستولي على الأقاليم المجاورة لها إلا إذا كانت القوى الحاكمة ترى في ذلك مخرجا لها من أزماتها الخانقة أو من قبل تدخل القوى الاستعمارية للاستيلاء على خيرات ومقدرات الشعوب أو لإعادة نهب تلك الثروات كما حدث للعراق، ودائما ما تكون الشعوب هي من تدفع الثمن غاليا. 
لذا يجب عدم السماح أو إفساح المجال لأية بادرة من شانها أن تؤجج النعرات الطائفية أو العنصرية أو المذهبية أو القومية بين الجماهير. وليس خافيا على احد ما حدث مؤخرا من ارتفاع وتيرة التجاذب الطائفي التي أخذت في الاستفحال، حيث إنها ستكون مجالا خصبا لتلك القوى التي لا تكف عن محاولة وقف عجلة العملية الإصلاحية التي وان شابها بعض السلبيات إلا أنها مازالت تعتبر متقدمة ويجب الحفاظ على مكتسباتها لان البديل لن يكون إلا الأسوء في الوقت الحالي على اقل تقدير، وكذلك سوف تكون على حساب تحقيق المطالب المعيشية للجماهير الكادحة التي بدلا من حشدها لأجل نيل حقوقها والمضي قدما لترسيخ المجتمع المدني، يتم جرها للتناحر حول قضايا ومسائل تخدم أجندة القوى الظلامية والمعادية لطموحات وتطلعات جماهير شعبنا العظيم.

خاص بالتقدمي

اقرأ المزيد

البترول رأس مال العرب (19)

من الواضح أن الرأسمال الاجتماعي في الدول النفطية يتوجه معظمه للرأسمال التجاري (بضائع مختلفة)، ثم الرأسمال المالي؛ مؤسسات بنكية، وصرافة، وتحويلات للمحافظ النقدية الغربية والشرقية، ثم الرأسمال العقاري، والأقل للرأسمال الصناعي. لا توجد إحصائيات دقيقة واسعة بهذا الصدد، ولكن النظرة التقريبية تشير إلى تضخم الجوانب غير الإنتاجية، فهي تحتلُ قاعدةَ الهرم الاقتصادي، وهذه ظاهرة حتمية تعود لطبيعة سلعة البترول وتاريخها في المنطقة.
وذلك بسبب خروجها اللاطبيعي، وغير الناتج من تطور البنية الاقتصادية العربية، ثم في هيمنة الإقطاع على تطورها ومداخيلها واتجاه مداخيلها. ترسل شركةٌ إيطالية صانعة لليخوت بإعلاناتها للسكان في دول الخليج، وتظهرُ التوسعَ الكبير في شراء اليخوت المخصصة للترفيه، والأمر غير ذلك في سفن وقوارب الصيد. وقل عن ذلك في استيرادات البلاط والعطور وأدوات الزينة والسيارات الفارهة، بل إن بعضهم يستورد سجائره الشخصية من دول غرب أوروبا. ويؤدي ذلك إلى سيادة الاتجاهات الاقتصادية غير الإنتاجية، عبر البذخ الكبير للحكومات والمسيطرين عليها، ثم في تدفق الرساميل نحو التجارة والعقار والصرافة وتلعبُ التحويلاتُ المالية للغرب دوراً هائلاً في ترسيخ طبيعة التبعية وعدم إنتاجية الابنية الاقتصادية. وما يحددُ سلعةَ البضاعةِ البترولية هو المستهلكُ لا المنتج، فهو مصدرُ اكتشافِها وحركتها النقدية والتقنية، فهذا المركزُ الغربي الإنتاجي يهيمنُ على الظاهرة النفطية، يحددُ قيمتَها وسعرَها وتطورَ الأبنية الاجتماعية التي انبثقتْ فيها. فهو يكرسُ طبيعةَ هذه الأبنية الاستهلاكية ويبدأ ذلك اقتصادياً ثم يتوالى سياسياً وعسكرياً وثقافياً، ويحدث ذلك وطنياً ثم يتدرجُ إقليمياً. ويخضعُ نموُ السعرِ النفطي لسيطرة الغرب، على المستويين العالمي والتاريخي، فنمو السعر يعود بفوائده إليه، عبر ضخ السلع المصدرة منه، التي تكرس الطبيعة الاستهلاكية البذخية، وتتحدد مالياً بهيمنة الرأسمال المالي، حيث تقومُ البنوكُ بضخ النقد إليه، فتغدو البلدانُ النفطية حصالةً كبيرة، تؤدي دور تطوير رأسماليه الصناعي والتقني، حيث يقوم الأولُ بإدخالِ النقد في الصناعة ويقومُ الثاني بتكوين الاكتشافات وتسريع الصناعة. وحتى ارتفاع أسعار النفط لا تعوق الغرب وتنميته الكبيرة، يقول أحد الباحثين(توجد دراسات عديدة على هذا الصعيد، ومنها مثلاً ما أكّده معهد بحوث الطاقة الفرنسي في باريس في نهاية عام 1999م؛ إذ أكّد أنّ رفع أسعار النفط الخام من المعدلات المتدنية التي كان عليها من قبل، إلى ما يعادل 28 – 30 دولارًا، لا يؤثّر سلبيا في نسبة النمو الاقتصادي في الدول الغربية بأكثر من واحد في المائة (1%).. فمن أين تأتي تلك الضجة «السياسية« الكبرى، على مستوى مسؤولين كوزير الطاقة الأمريكي وليس على المستوى الإعلامي فقط، التي تقول إنّ الأسعار الحالية يمكن أن تشكل خطرًا على الانتعاش الاقتصادي في الدول الصناعية ؟)، نبيل شبيب، موقع إلكتروني، إسلام أون لاين. وعبر عقود اكتشاف وصناعة النفط تمكن المصدر الإنتاجي الغربي من الوصول إلى الثورة المعلوماتية، حيث غدت الصناعات المعلوماتية هي عصب التطور الصناعي، ومن هنا قام الغربُ المنتجُ بفكِ أسر الصناعات البتروكيماوية التي غدت صناعاتٍ متدنيةً ملوثةً وما يشبهها من صناعات، فقامت الدولُ النفطيةُ بتحملِ أعبائها، لأنها عاجزة عن اللحاق بمستوى الإنتاج العالمي المتطور، بسببِ أبنيتها الاقتصادية – الاجتماعية – الثقافية التي لا تستطيع القيام بهذه القفزة نحو الصناعات الإلكترونية عصب الثورة التقنية المعاصرة، فتقوم بتقديم المواد شبه المصنعة للغرب نفسه، الذي كسب تراكم مرحلتين كبريين، مثلما تقدمُ لهُ الفوائضَ النقدية. وإذا كان ذلك يتمظهرُ على مستوى توزيعات رأس المال الكلية، بغلبة القطاعات غير الإنتاجية، وتقزم القطاعات الانتاجية، وكون ذلك يمثل مضخةً نقدية كبرى للرأسمال الغربي الكلي المسيطر، فإن القطاعات العاملة تمثل ذلك على مستويات قوى العمل. حيث تتركز أغلبية قوى العمل في القوى المتدنية وبضعف العمالة الماهرة وصغر حجم العاملة التقنية العليا. وهكذا فإن البترول الذي تحول من بضاعة مباعة بأثمان متقلبة إلى مداخيل حسب مواقع الدول وسياساتها الاجتماعية، فإنه صعّد قوى البيروقراطيات الحكومية وجماعاتها وواجهاتها، التي امتلكتْ أكبر المداخيل ووظفته في الخارج الذي راح يتآكل كذلك على المستوى البعيد، ثم هناك القوى التجارية المتنفذة المتداخلة معها التي استفادت من هذا الفيض النقدي،(تصاعدت في هذه الفترة نظرياتُ الفيض الدينية والصوفية)، وتأتي بعدها القوى التجارية المستقلة، وقوى الصناعة الوطنية التي تعاني الأمرين، وأغلب تلك وجهت المداخيل الضخمة نحو تلك الجوانب غير الإنتاجية. ثم لاحقاً توجهت نحو الجوانب الإنتاجية في الصناعات التحويلية، عبر المتاجرة وتصنيع الخامات واستغلال الطاقة الكبيرة الرخيصة. وينعكس ذلك سياسياً بضخامة الهياكل الحكومية البيروقراطية وهي تمثل نزفاً آخر للثروة، ولكن ذلك لا يبدو حالياً بسبب وفرة النقد النسبية. ومن هنا كذلك كانت ضخامة العمالة المهاجرة (بين 15 و 16 مليونا)، وهي التي تقوم بضخ نسبة كبيرة من أجورها نحو الخارج كذلك، لكن في جهات شرقية على الأغلب. لا نستطيع أن نتوغل في العلاقة الدقيقة بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وكيفية النمو المستقبلي، لكون ذلك يحتاج إلى دراسة ملموسة. وتبدو غلبة الطابع غير الإنتاجي كذلك في مستويي الوعي والثقافة، فنجد شكلنةً للإسلام، وفقهاً خارجياً سطحياً، يعكس القوى البيروقراطية السائدة ذات المداخيل المرتفعة التي تحرك الحياة بهذا الاتجاه، وهي تجعله كذلك مصدراً للتوظيفات المالية أيضاً، فتوسع من الرأسمال النقدي الديني. (انتهى)
 
صحيفة اخبار الخليج
3 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

الفنان وكرسي الوزارة

في كثير من الاحيان ما تستند التعيينات الوزارية في عالمنا العربي ليس على ضمان وكسب ولاء الوزير الذي وقع عليه الاختيار للقيادة السياسية فحسب، بل لما يتمتع به من شهرة ونجومية ما في أي مجال برز فيه من المجالات الثقافية والعلمية وحتى الرياضية والفنية، دونما الأخذ بعين الاعتبار بمدى ما يتمتع به من كفاءة وقدرات ذاتية في الثقافة السياسية وفي الادارة والتنظيم الاداري ولذا فإن ثمة امثلة عديدة على فشل واخفاق الوزراء العرب الذين تتوافر فيهم الشهرة والنجومية في المجال الذي برزوا فيه دونما ان يتمتعوا بمقدرة ومواهب كافية في الثقافة السياسية العامة والقدرة على الادارة الناجحة في ادارة المؤسسة الوزارية، فيكون حصاد انجازاتهم كارثياً او دون الحد الادنى المقبول ناهيك عما يشوب سير العمل الاداري في وزاراتهم من ارتباك وتخبط يلمسهما ليست الجهات العليا المعنية بالرقابة الادارية او السلطة التشريعية او الصحافة، بل عامة الناس.
وبطبيعة الحال من المفهوم التفتيش في مدى ضمان ولاء أي وزير للقيادة عند التشكيل الوزاري في أي دولة عربية كالولاء للحزب الحاكم المكلف بتشكيل الوزارة أو القيادة السياسية الذي تعينه لكن شريطة ان تتوافر فيه على الاقل الصفات الادارية والفنية التي تؤهله بجدارة للمنصب الوزاري الذي أسند إليه وليس فقط ضمان ولائه للحكومة او لقائد الدولة الذي عينه، او استناداً لنجوميته في المجال الذي برز فيه كالرياضة او الفن التشكيلي او الموسيقى او الهندسة او الطب او الاقتصاد.. الخ. وعلى العكس من ذلك ففي الدول الديمقراطية المتقدمة وعدد من الدول الاوروبية، فإنه في بعض الحالات يكون التركيز على كفاءة الوزير من حيث الناحية الادارية والثقافية العامة أكثر من مدى تخصصه العلمي أو الاختصاصات التي تختص بها وزاراته. وهكذا وجدنا في كثير من الاحيان ما يسند للمرأة حقيبة وزارة الداخلية بل حتى وزارة الدفاع دونما ان تكون المرشحة بالضرورة منتسبة لهاتين الوزارتين او تدرجت الى مرتبة عليا من سلم المراتب والدرجات العسكرية وان كان بطبيعة الحال عدد من الوزارات يشترط فيها او يستحسن تخصص الوزير المعين بمجال اختصاصات الوزارة التي عين لها. ولا شك في أن الطامة اكبر حينما يعين وزير في العالم العربي يفتقد الى المقدرة والكفاءة في تنظيم وقيادته مؤسسته الادارية الوزارية ومع ذلك يتربع على كرسيها لسنوات طويلة، وبخاصة انه في عالمنا العربي من النادر ان يعترف الوزير بفشله ليترجل من على كرسي وزارته ما لم يزح بقرار سياسي، او يبقى مخلداً في كرسي الوزارة ولا يخرج منه إلا للقبر، اذا ما سنحت له الفرصة وابتسم له الحظ السعيد للتمتع بهذه الاطالة الابدية. قبل فترة وجيزة زفت لنا اخبار اوروبا عن وزيرة ثقافة باحدى الدول السكندنافية، ان لم تخني الذاكرة، احتفلت باستقالتها من الوزارة بالغناء حيث كانت نجمة من نجوم الطرب في بلادها. ومنذ شهور خلت من العام الجاري نجح وزير الثقافة البرازيلي في الاستقالة من منصبه بعد محاولتين سابقتين فاشلتين احبطهما الرئيس لويس لولا ديسلفيا. والمعروف عن الفنان جلبرتو جيل بأنه فنان موسيقي شهير سبق ان حاز جائزة «غرامي« العالمية وقام بتطوير الموسيقى البرازيلية، ويُعد رائداً لحركة التروبوكاليزم الموسيقية المناهضة للفاشية الحاكمة، وقد سُجن مع رفاقه في هذه الحركة من قبل الدكتاتورية العسكرية خلال الفترة 1964-1985م، ثم عاش في المنفى بلندن حتى عام 1972م. وبعدما سئم الوزير الفنان جلبرتو جيل من روتين العمل الاداري الوزاري وما واجهه من صعوبات مالية ادارية تلبي طموحاته وخططه لتطوير وزارته، بالرغم بأنه لم يبق في كرسي الوزارة أكثر من 4 سنوات، علق في مؤتمر صحفي غداة استقالته بعبارة بليغة لتفسير استقالته: «لقد دربت حنجرتي على الغناء الملتزم وليس على القاء الخطب السياسية«. وفي عالمنا العربي كم خسر أحد وزراء الثقافة العرب المعمرين على كرسي الوزارة لتركه مرسمه كفنان تشكيلي كبير ولم يبد طوال مكوثه الطويل في وزارته أي حنين أو اشتياق صادق إلى محراب مرسمه الفني الذي هجره. وها هو الآن يستعد للترجل من على صهوة كرسي الوزارة، بعد مضي نحو ربع قرن فيه، لا للعودة الى مرسمه والاستعداد لمواصلة ابداعاته، إن لم تنضب وهو في خريف عمره، بل للدخول في سباق ماراثوني جديد بدعم من دولته للفوز بكرسي رئاسة «اليونسكو«.
 
صحيفة اخبار الخليج
3 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

البترول رأس مال العرب(18)


تتضخم أوارقُ النقد في الدول العربية النفطية فالرأسمال المالي واسع، وهو عملاقٌ يقفُ على كتفِ قزم هو الآبار النفطية، ولهذا نتائج اقتصاديةٌ كبيرة. هنا يظهرُ رأسُ المال كورق فتتضخمُ مؤسساتهُ كالبنوك ومحلاتُ الصيرفة والشركات المالية المختلفة وشركات التأمين، وتحوزُ هذه نسبة كبيرة من حجم المؤسسات الاقتصادية، فتسيطر على الائتمان والتسليف ثم على التداولين الداخلي والخارجي. يظهر رأسُ المال النقدي في بداية التاريخ النفطي بسيطاً يقعُ على ضفافِ العمليات الاقتصادية، وهو لا يعدو حينئذٍ أن يكون مصرفاً غربياً يقتحمُ النسيج الاقتصادي التقليدي لدول المنطقة، وفي البداية يغدو الربحُ المالي الصرف مذموماً بشكلٍ ديني، لكن الحكومات تقوي البنوكَ الغربية الوافدة عبر جعل الميزانية الوطنية تمرُ
بها، وعبر مختلف الوسائل السياسية كأن تقوم بالاستدانة منها، فيما قوى التجار الأهلية تلجأ للصرافة ويقومُ بها في البداية غيرُ المسلمين، ثم ينخرطُ فيها المسلمون بتوسع، فالفائدةُ تفتحُ الشهية، وهو مشهد يكرر نمط العصور الوسطى بشكلٍ كمي أوسع. إن هذا الخروج الانفجاري لرأس المال النقدي يتحولُ إلى رأس المال المالي، أي يصيرُ مؤسساتٍ متخصصةً في تداول النقد وتضخيمه، وهذا يدل على تراكم النقد وعدم تطابقه مع العمليات الموضوعية في الإنتاج في البلدان الصحراوية. فهو قد تراكم بنسبة أكبر بكثير من حجم الإنتاج في البلد النفطي، ورغم ان ثمة عمليات من الخروج المالي المستمر، ومن الشراء البذخي الاستهلاكي، فإن كم النقد يتزايد خاصةً مع سيطرة الدول المنتجة على نفطها، في سوق التداول العالمي. والبلدان النفطية نمطان أساسيان، الأول صحراوي والثاني زراعي، والأول هو الأغلب والثاني هو القلة، وثمة نمط ثالث نادر هو الصحراوي الزراعي معاً. النمطُ الصحراوي هو الذي تتغلبُ على طبيعتهِ الصحراءُ بشكلٍ كبير، وإن لم يخلُ من الزراعة، وهو البلدُ الأغزرُ بالنفط لأن كونه صحراء واسعة يعني في تضاريس المنطقة القديمة احتواؤه على غابات كثيفة دُفنت وتحولت إلى نفط. وبهذا فهو لأنه صحراء استمرت لقرونٍ طويلة قام بطرد السكان من أراضيه نتيجة لجدبه. وبهذا فهو كسبَ ثروةً كبيرةً وخسرَ سكاناً، وحين توافر الفيضُ النقدي لم يجدْ من يشغله بشكلٍ يعود بالإنتاج للأرض المانحة الخلاقة، فليست هناك مؤسسات اقتصادية ضاربة في التراب الاقتصادي ومتسعة، وليس ثمة كثافة بشرية تستوعبُ الفيضَ النقدي في برامج إنتاجية، وهنا يتماثل ذلك مع أموال الفتوحات الإسلامية، فقد انهمرتْ كالمطر على أرضٍ مجدبة، فوسعتْ أشكالَ الاقتصاد الطفيلية والبذخية. كما أن علاقات الإنتاج المُشكلة بين شركة النفط والحكومة ، هي علاقة سياسية، تستهدفُ فيها الشركةُ دوامَ الإنتاج، وغربةَ السكان عن السيطرة على الإنتاج، وهو ليس سوى تسييل سائل، وتغدو الغربة أكبر بسياسة الاستيراد السكاني: من أين تأخذ هذا الفيض السكاني الآسيوي أو ذاك؟ ولماذا وهل تتحكم فيه الاعتبارات النقدية المحضة أم السياسية العميقة؟ كما أن الحكومة تستهدفُ مبالغ الإيجار، التي توزعها حسب مضارب القبيلة الحاكمة ودوام عيشها الرغيد. بحث مجلسُ الشورى في السعودية مشكلات التعليم فوجد عدم اهتمام مؤسسات التعليم السعودية بصناعات النفط وبصناعة الطاقة الشمسية وتحلية المياه. إن سيطرةَ الكم النقدي الكبير على البناء الاجتماعي يغدو له ظاهراته المتعددة، فلا يوجد في بنائهِ الوطني إلا في دائرةٍ ضيقة للتداول ولإعادة الإنتاج في مؤسسات النفط وفي العمران المنفوش المصاحب له (وهو شكلٌ من البذخ والإهدار المرسوم من قبل الإدارات) وفي الصناعات الاستخراجية والتحويلية المحدودة والجانب الأكبر على الاستهلاك، ولهذا فإن الاستهلاكَ هو القسم الأعظم من البناء الاقتصادي، ويتوجه الفائضُ النقدي الآخرُ لعمليات مماثلة كالائتمان والعقار وهو مهوى الفوائد للرأسمال النفطي، وفي حوار جريدة قاسيون مع الخبير الاقتصادي السوري السابق الذكر لمحة عن طبيعة التوجهات المالية الخلجيية البترولية: – قاسيون: هناك الآن عبارة متداولة بعد مجيء هذه الأموال الخليجية إلى بلدنا أن أسعار العقارات أصبحت أوروبية والأجور سورية . د. الزعيم (لقد توجهت أغلب الأموال الخليجية نحو العقار) إن أولويات التنمية في سورية هي تصفية البطالة والفقر، وهذا لا يتحقق إلا بالاستثمار الكثيف(التكنولوجيا)، برفع الإنتاجية، برفع القوى المضافة، والاستثمار الكثيف بالصناعات التحويلية، فليس لدينا أي استثمارات في الفروع الصناعية الأكثر ديناميكية، وأقصد الصناعات الالكترونية). إن الرساميل النفطية تتوجه نحو جميع أشكال الضمان والربح السريع، ومن هنا فإن النقد تغدو دورته سريعة، ويتوجه نحو العقار مما يؤدي إلى التهام الأراضي واضمحلال الأراض الزراعية وارتفاع أسعارها وارتفاع الإيجارات، وما يتبع ذلك من (صناعة) سياحية، وهي مفيدة إذا لم تكن شكلاً هائلاً من أشكال الهدر البذخي. وهكذا تقوم البلدانُ الصحراوية النفطية بنشرِ طبيعة اقتصادها في البلدان الزراعية، فتضعف الزراعةَ فيها، عبر جلبِ القوى العاملة الزراعية والحرفية ومن ثم تدني إنتاج الأرض والزراعة، ويؤثر كذلك أيضاً في أسعار الحاصلات الزراعية. تقول باحثة مصرية بأن عدد المصريين المهاجرين كعمالة إلى الدول العربية قد تصاعد من سبعمائة ألف سنة 1975 إلى المليونين في 1990 أما في السنوات التالية فقد بلغ عدد المصريين في السعودية وحدها نحو المليون مصري. أما عن طبيعة أغلب مهن هؤلاء فتقول الباحثة(رقية حجازي) فقد انحدروا من بيئة زراعية وحرفية ومهن بسيطة عموماً. (عن مركز الدراسات الاشتراكية). وهذا ما يؤدي إلى تغيير خريطة السكان في المنطقة العربية التي تزحف نحو المناطق الصحراوية، والاكتظاظ في مدنها، وهي العامرة كذلك بفيض سكان آسيوي، فتحدث عملياتُ انتقالٍ للمحافظة الدينية من المناطق الصحراوية للزراعية، فتغدو الثروة كأنها نتاج مصادفات قدرية كما اوضحنا وهو أمر يشيعُ القدريةَ بمعناها السلبي، وتتصاعد كراهيةُ العمل اليدوي وتتضخم الأجهزة الإدارية، وتنتشر ثقافةُ التسطيح واللاعقل.
 
صحيفة اخبار الخليج
2 سبتمبر 2008

اقرأ المزيد

ناصر الغريب.. وجمال المظلوم

بدا الخطيب الحسيني وكأنه انتقى كلماته بغاية الدقة في خطبة الوداع على قبر الفقيد جمال حبيب عمران. كان ذلك يوم الجمعة الماضي، والثالث بعد أن أسلم جمال الروح إلى باريها يوم الأربعاء 27 أغسطس/ آب .2008 بدأ الخطبة مناديا بالصفتين اللتين عرف بهما الإمام أبوعبدالله الحسين: «يا غريب.. يا مظلوم». والمسجى في قبره أمام حشد أقاربه ورفاقه وأصدقائه هو أيضا غريب ومظلوم هذا العصر.
الكثيرون ممن تعاملوا مع هذا المناضل خارج البحرين لن يعرفوه من اسمه الحقيقي، ولابد من التذكير بأنه «ناصر عمر». وهذا هو الاسم النضالي المستعار الذي حمله في المنفى. استعاد اسمه الحقيقي بعد عودته الأولى والقصيرة جدا ليحمله في جولة النفي الثانية إلى دولة الإمارات الشقيقة، حيث عمل لسنوات قبل أن يعود إلى البحرين ثانية مع بداية الإصلاحات العام .2000
هل تذكرتم ناصر، ذلك الإنسان المتواضع الذي بالكاد يسمع صوته، لكنه يسجل حضوره أينما حل بنشاطه الدؤوب وعمله المتفاني. لا يتردد في تنفيذ كل المهام من أبسطها إلى أشدها تعقيدا وخطورة. قد لا تراه في صدارة الفعاليات، لكن نجاحها يكون من صنع يده. ومن على راحة يده نثرت على العالم كله أدبيات وبيانات الحزب والشبيبة والمرأة والعمل الوطني وحقوق الإنسان والسلم والتضامن وكل أشكال العمل النضالي البحريني في الخارج. وفي سبيل ذلك كثيرا ما تعرض لمواقف غاية في الصعوبة. يعشق العمل لدرجة أنه يتناول طعامه واقفا وعلى عجل. ولما سئل مرة: «ناصر، ألا تتذوق طعامك؟»، أجاب مازحا، جادا: «إنه بالنسبة لي وقود من أجل الشغل ليس إلا».
وبقدر ما كان جمال – ناصر قاسيا على نفسه في كل شيء تقريبا، كان رحيما كالأم تجاه رفاقه، خصوصا في أوقات الشدة. ولست مبالغا في ذلك. لقد رمتني الأقدار في أحد المعتقلات العربية. وبين خليط من المجرمين التقليديين و«مجرمين» مناضلين من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، كنت محسودا بنوعية الطعام الذي ظنوا أن أمي تحمله إلي بين وقت وآخر. والحقيقة أن جمال – ناصر هو الذي كان يحضر الطعام بيده ويحضره إلي، ومعه أخبار عما يدور خارج جدراني الأربعة. كان يملك من الدماثة والمرونة ما يجعله ينجح في معظم الحالات في التحايل والتمويه من أجل الوصول إلى حيث يعجز الآخرون عادة. ومع ذلك فقد انقطع حبل الوصل معه وحرمت من نعمه بعد أن غيبتني الديمقراطية- الوطنية إلى مكان آخر لم يستطع «ناصر» الوصول إليه.
كم استقبل ناصر من ضحايا فترة غياب الديمقراطية وودعهم إلى حيث العلاج في مختلف بلدان العالم. ورغم أن صحته لم تساعده على مواصلة الدراسة الجامعية إلا أنه ساعد الكثير من الطلبة المستجدين ليعبروا الطريق إلى جامعات العالم فأصبحوا الآن اختصاصيين يخدمون الوطن في مختلف المجالات. كم من الأفكار الخام قدمها جمال لتصبح نواة لأعمال جدية فيما بعد. بعد أن ينهك عمل النهار جسده النحيل يستريح شطرا من الليل إلى طاولته ليكتب ويكتب أشياء لا يُطلع الآخرين إلا على بعضها ليجد الآخرون فيها صيدا لإنتاج نضالي لاحق.
ذلك هو ناصر الغريب. أما جمال المظلوم فهو الذي عاد إلى وطنه بعد بدء الإصلاح، لكن الإصلاح لم يتعرف عليه من قريب أو بعيد. لم يحصل على عمل لائق أو أي تعويض، وظل يكابد ضنك العيش غريبا ومظلوما في وطنه حتى أصبح فريسة سهلة للمرض الذي أدخله المستشفى مرارا. لم يفرد له المكان اللائق حتى بين صفوف مناضلي حقوق الإنسان وهو الحقل الذي عمل فيه لسنوات. لكنه ظل يدافع عن هذه الحقوق بأعلى صوته. وبعيدا عن الأضواء حمل بصمت بعضا من قضايا العائدين وإن كان أسوأهم وضعا. قبل يومين فقط من وفاته حمل رسالة من أحدهم إلى البرلمان، لكنه لم ينتظر الجواب فرحل. عمل جاهدا من أجل إقرار المصالحة الوطنية وفق مبادئ العدالة والإنصاف، لكنه مات والدولة لا تزال مترددة عن الإقدام على هذا المشروع، وهو يطالبها بتحقيق هذه النقلة الحضارية في العلاقة بين الدولة والمجتمع. وجمال هو ابن المنبر الديمقراطي التقدمي وأحد أعضائه المؤسسين وحامل أفكاره إلى كل الناس البسطاء الذين يحتك بهم على الدوام ويعمل معهم على مختلف المبادرات.
مع ابنتنا حصة زرنا جمال قبل أشهر في بيته المتهالك الذي يتكدس فيه مع والدته وأخوته. جمال نفخ من روحه جمالا أخفى كل عيوب ذلك البيت الذي اصطفت في كل حواشيه أصص نباتات مختلفة تشعرك وكأنك في حديقة. أهدى جمال لحصة أصيصا بعد أن انتزع منها تعهدا بالاهتمام به. ورغم أن حصة لم تزر سوريا إلا أنها قارنت المنزل بما شاهدته في المسلسلات السورية وصارت تتحدث عن البيت «الدمشقي» الذي أحضرت منه هذه الزرعة. كما حلا لها باستمرار أن تقلد بعذوبة صوت جمال الناعم الذي سمعته لمرة هي الأولى والأخيرة.
وعندما كنا في السيارة عائدين إلى البيت تلقينا وزوجتي الخبر المؤلم. تلقفتنا حصة في الصالة فسألتها أمها: «هل تذكرين عمي أبو خلود؟ بتلقائية فتحت فمها لتقلده. لم نمهلها: عمي جمال توفي قبل قليل. تسمرت حصة في مكانها ولم تسألنا عما أعددناه لعيد ميلادها الثالث عشر يوم السبت. بدت وكأنها كانت تعرفه طيلة تلك السنوات. هو هكذا جمال يغزو قلوب الصغار والكبار بنفس السهولة.
قصة عائد آخر دفع ثمن عودته ما تبقى من حياته فمات قبل الأوان بعد أن نسته الدولة ونسيه الإصلاح. وعائدون كثيرون لايزالون يعانون آثار غربتهم التي انسحبت على حياتهم وحياة أطفالهم بعد العودة. الإصلاح، المصالحة الوطنية، العدل والإنصاف كلمات تكاد تفقد معانيها بالنسبة لكثير من العائدين إن لم تتجسد واقعا. والدولة لاتزال مطالبة بالوفاء لحميد عواجي وجمال عمران وللأحياء من العائدين المكابدين.
أما رفاق جمال وحاملوا مُثله وقيمه النضالية فمطالبون بإحياء ذكراه العطرة وفاء لكل ما قدمه، بما في ذلك حياته. 


 


jalil-sora-site.jpg


 

اقرأ المزيد