كان يوم الاثنين 15 سبتمبر/ أيلول يوم الاستحقاق بالنسبة إلى أسواق المال. وعلى شاشة «CNN» ظهر الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ألان غرينسبان ليعلن أن مشكلات القروض قد تنامت لترتقي إلى أزمة مالية، وهو ما يحدث مرة في كل قرن. وعندما يخرج الرئيس الأميركي ووزير ماليته ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي دفعة واحدة على المدينة والعالم ليخبروا بأن أميركا على حافة انهيار كبير، فذلك يعني أن ما تعانيه أميركا اليوم أكبر من مجرد أزمة. لقد ذهب البعض إلى حد القول «إن أميركا تغلق أبوابها[1]». وإذا كانت أميركا ستظل تصر على قيادتها للعالم فهل من عاقل في هذا العالم يبحث عن بطاقة سفر على ظهر السفينة «تايتنيك».
«عبَدَة» السوق كثيراً ما رددوا أن الأسواق تصحح ذاتها في النهاية. أما الآن فقد آن الأوان لتصحيح هذه المقولة من قبل أقطاب أنظمة السوق أنفسهم. الرئيس بوش حذر في خطابه المتلفز في 24 سبتمبر/ أيلول من أن «أسواق المال لا تعمل كما ينبغي». وفي اليوم نفسه استرسل الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي في أول خطاب له بعد تصاعد الأزمة الأميركية في انتقاد الرأسمالية ليقول «إن فكرة وجود أسواق بصلاحيات مطلقة من دون قيود، ومن دون تدخل الحكومات هي فكرة مجنونة.. فكرة أن الأسواق دائماً على حق هي فكرة مجنونة». وأشار إلى أن الأزمة عميقة، و«أننا في حاجة لإعادة بناء النظام المالي والنقدي العالمي من جذوره[2]». ما الحل؟
الرئيس الأميركي، نيابة عن سلطاته المالية، يناشد الجميع بمساندة المشروع المستعجل باعتماد 700 – 800 مليار دولار من أجل إنقاذ أميركا من الانهيار المصرفي الشامل. ولئن أثار ذلك جدلاً واسعاً في الولايات المتحدة من حيث عبء ذلك على دافعي الضرائب أو الشك في قدرة هذا المبلغ على الحل الذي يتطلب قرابة 1500 مليار دولار (ضعف المقترح)، إلا أن النهج ذاته ليس جديداً.
فإذا كانت وزارة الخزانة الأميركية بالاشتراك مع مجلس الاحتياطي الفيدرالي لم يسمحا في مــارس/ آذار المـاضي بـإفلاس مصـــرف «Bear Stearns» الاستثمــاري الخاص بتمويل ابتلاعه من قبل منافسه «J.P.Morgan Chase»، فلم يراود أحداً الشك بعد ذلك في إمكان الدعم المركزي للعملاقين العقــاريين شبه الحكوميين – شركتي «Fannie Mae» و«Freddie Mac» اللتين تستحوذان على 43% من سوق العقار الأميركي.
قيل حينها إن إفلاسهما كان سيؤدي إلى شل النظام المالي العالمي. واليوم أيضاً لا يجب أن يشك أحد في أن الرئيس سيمضي على هذا الطريق.
لقد دهش المجتمع المالي الأميركي لطريقة تدخل السلطات. قامت بفرض إدارة الدولة المباشرة، ما أدى إلى فقدان أسهم المؤسسات لقيمتها: فقد المستثمرون الحق في التأثير على الإدارة. عدا ذلك فقد جرى حظر صرف أية فوائد على الأسهم الاعتيادية والمفضلة. بكلمات أخرى، فإن ما جرى شكل في الحقيقة تجريداً لحملة الأسهم في كل من «Fannie» و«Freddie» من الملكية. لم يقدم لهم أي عرض بالشراء، بل وضعوا ببساطة أمام الأمر الواقع. تحولت الوكالات القريبة من الدولة إلى ملك للدولة. أي تم تأميمها. والآن ستدار من قبل الوكالة الفيدرالية لتمويل الإسكان. وليس اعتباطاً أن كثيراً من الماليين الأميركيين تهامسوا فيما بينهم مطلقين على ذلك نعت البلشفية[3].
أما كبار المديرين السابقين فقد طردوا مكللين بالعار، ومن دون تعويضات نهاية الخدمة التي كانوا يترقبونها. وفي خطابه المشار إليه طالب الرئيس الفرنسي بوضع قيود على الرواتب والمكافآت التي يحصل عليها مديرو البنوك والمؤسسات المالية.
الحل راديكالي إلى حد. وكأن الرأسمالية أصبحت تراجع نفسها في كبريات «مسلماتها». ولعل الخطوة الانتقالية على هذا الطريق هي الانتقال من الرأسمالية إلى رأسمالية الدولة. لكن، هل سيتبين ذات يوم أن الدواء كان أسوأ من المرض؟
جوهر الأزمة المالية العالمية الحالية ليس في نقص السيولة، بقدر ما أن هذا النقص ليس سوى مظهر من مظاهر حالة عدم التحديد للقيم العادلة للأصول المالية ذات البنى المعقدة للغاية. كانت شركتا «Fannie» و«Freddie» غير قويتين بما يكفي لكي تعطي شبه قيم سوقية لطيف واسع من الأوراق العقارية آخذة مخاطرها على عاتقها. فجاء أوان الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركيين كي يفعلا ذلك. وقد فعلا ذلك، كيف؟ عن طريق تشغيل آلات طبع الدولارات بأقصى طاقاتها. ولم يكن ذلك في الواقع سوى سياسة لدحرجة الأزمة مع إضعاف الدعائم الأساسية التي يقوم عليها أداء النظام المالي لوظائفه.
لنقرأ ذلك بتعابير أخرى: الذي حدث هو أن رأسمالية الدولة في الولايات المتحدة الأميركية أخرجت من عمل قطاع العقار الأميركي ومجمل النظام المالي الأميركي روح السوق. وليس أبسط من الدخول في هذه اللعبة، لكن الخروج منها سيكون صعباً للغاية. فبشكل غير مباشر عنى ذلك أن السلطات المالية الأميركية أخذت على عاتقها أعباء مخاطر قادمة أكبر. وهذا ما تعنيه الحملة الدائرة الآن من أجل دعم مشروع اعتماد مبلغ 700 – 800 مليار دولار، التي يدعو إليها الرئيس بوش. لكنه حتى الأزمة المالية على هذا النحو ليست هي الأصل، بل هي مظهر لأزمة أعمق تتمثل في ثالوث الأخطار المحدقة بالاقتصاد الأميركي الذي يجب تناوله لاحقاً: الدَّين الأميركي الذي يتزايد بوتيرة مليون دولار في الدقيقة، تزايد النفقات العسكرية ارتباطاً بالسياسة التوسعية واستخدام القوة حول العالم، وأخيراً، ارتفاع أسعار النفط لسبعة أضعاف في السنوات الماضية.
[1] صحيفة «زافترا» الروسية، 24 سبتمبر/ أيلول .2008
[2] محطة «بي بي سي»، 25 سبتمبر/ أيلول .2008
[3] راجع: «الخبير – Expert»، 27 سبتمبر/ أيلول .2008
صحيفة الوقت
29 سبتمبر 2008