إن السيطرةَ الإقطاعية تصيرُ دائماً هي مضمون الظاهرات الاقتصادية، في حين يغدو الشكلُ رأسمالياً، وهذا التناقضُ هو مشكلُ البضاعة الأساسية، التي هي المادةُ الخامُ الكبرى التي يقومُ عليها الاقتصاد كالفوسفات أو النفط أو القطن، ومن ثم يتغلغلُ في كل ظاهرات الإنتاج والحياة. فكما رأينا كيف غدت سلعة النفط وهي البضاعة الأساسية التي ستحركُ نظامَ الإنتاج برمتهِ متناقضةً بين سيطرة الإدارة السياسية الاستعمارية – المحلية، ذات التوجه السياسي المفروض من أعلى، وبين طبيعة السلعة ذات المعايير الاقتصادية الحديثة المجلوبة من الغرب والمعبرة عن عالم (حر)، فنرى في(البضاعة) صراع التشكيلتين وتباينهما. فهنا إقطاع وهناك رأسمالية، هنا قديمٌ مهيمن، وهناك حديثٌ براني خارجي، وكما يبدو ذلك في السلعة التي تشكلُها قوةُ العمل فإن قوةَ العمل ذاتها تعيشُ نفس التناقض.
فقوة العمل المنضمة لأحدث نظام اقتصادي عالمي وقتذاك تكون مُخرجةً من حقولٍ خربة أو كاسدةٍ أو من مغاصاتٍ انتهى زمانها، أو من اقتصاد رعوي ضاق بأهله، أو من ريف متخلف تكنولوجياً واجتماعياً. ومن هنا فالعاملُ وهو يبيعُ قوةَ عملهِ يبيعُها في وقتِ كساد أو أزمة أو انهيار أو ضعف، ولهذا فإن المعروضَ من قوة العمل يكون كبيراً، فتتدنى الأجورُ إلى أدنى حالاتها، في سلعةٍ هي ثمينة جداً على المستوى العالمي. فالمجتمعُ المتخلف التابع لا يعرضُ سلعتيهِ: النفطَ والعمالَ، وهو في حالةِ حرية، بل في حالة تبعية، فيعرضهما بأسعار متدنية، سواءً على المستوى السياسي الذي يظهرُ في امتيازات النفط الممنوحة بشكلٍ أسطوري للشركات الأجنبية، أو في حالة أجور العمال التافهة. ومن هنا فهو يقدمُ قوةَ العمل وهي في مجتمع تقليدي، مصنوعةً من موادِ عيشهِ البسيطة كالأرز والخبز والأسماك أو العدس والفول، أي كل المواد التي تصنعُ جسمَ العامل بأسعار متدنية جداً. مثلما أن أماكنَ سكنهِ هي الأكواخُ والبيوتُ الكبيرة المزدحمة بالأطفال، ذات الإيجارات البسيطة أو المملوكة للعائلة الكبيرة، مثلما أن معرفته معدومة وعقله مشحون بالخرافات، وهو يجلبُ للاقتصاد الحديث ما تعلمهُ من عادات في أعمالٍ سابقة أو من فنون تعايشت واقتصاد مختلف، كما يجلبُ خاصةً أميتَهُ التي تكون بعيدةً جداً عن قراءة اتفاقيات النفط أو كيفية تشغيل الآلات. وهكذا فإن العاملَ القادمَ لاقتصاد عصري يكون قادماً من اقتصاد حرفي ينهار، فيعرضُ قوةَ عملِهِ كبضاعةٍ تشكلتْ في اقتصاد تقليدي، ومن هنا يتحدثُ هذا العامل شكلانياً، أي يصيرُ جزءا من عالم الحداثة وهو يحملُ داخلَهُ علاقات المجتمع الإقطاعي وثقافته، فيقوم بتغيير الثوب البحري أو الريفي أو البدوي، ويلبس البنطلون، الذي هو زي موحد سواء في مصر أم بريطانيا، مثلما يلبسُ القميصَ أو يضع النظارة، أو يتعلم بعض جوانب المهنة الحديثة. وحين يرتقى أكثر يعرف بعض أسرار هذه الآلات الجديدة بعض الشيء، من تشغيل وملحقاته. إن التناقض في البضاعة له مستوياتٌ متعددة، ففي البضاعة ذاتها كجسد مادي خالص، وهي هنا تتبدى كشكل سائل، فإنها تبقى في أرضها الذي ظهرت منه بجسدها نفسه أو ببعض مشتقاته، في حين انها تحصل لها تطورات هائلة حينما تنتقلُ للعالم الآخر الغربي. ففي الإقطاع تظلُ مادةَ تشغيلٍ لبعض المحركات أو مادةً ثقيلة للشوارع، أما في الغرب المستورد فإنها تظهر بكل تركيباتها وتتشكل عليها مجموعةٌ كبيرة من الصناعات. وعلى مستوى آخر فإن هذه المادة حين تتحول إلى رأسمال في البلد المستخرجة منه تتحول إلى مداخيل في اقتصاد إقطاعي، أي تتجه أساساً لخدمة الطبقة الإقطاعية الحاكمة، وإداراتها وجيشها وشرطتها، والجزء الباقي يتوزع بين التجارة وقوة العمل. أي أن المداخيل في البلد المصدر تتوجه أغلبها لعمليات اجتماعية وسياسية لا تضيفُ تراكماً نقدياً على البضاعة، بل تصبُ في جهة الاستهلاك الجماعي، خاصة مداخيل الطبقة الحاكمة، في حين إن التجارة توظفُ بعضَهُ لعمليات استيرادية معاكسة لعملية التصدير، والجزء الأخير الأقل شأناً يظهر كأجور. وفي حين تتضاءلُ رأسماليةُ البضاعة المنتجة في البلد المصدر، وتستحيلُ إلى علاقات إقطاعية اجتماعية وسياسية وثقافية، فإن كل ينابيع رأسمالية البضاعة تظهر حين تصل إلى البلد المستورد، فتظهر مكونات كثيرة لها، كما تتصاعد قيمها بتحولها إلى مواد مصنعة، فتطور السوق الرأسمالية بقوة. ويتعاكس التصدير والاستيراد حول البضاعة المركزية، وهي مركزية فقط في حياة البلد المصدر، لكونها مادة خاما أولية أو شبه مصنعة تكون أقرب للمواد الزراعية منها للصناعة، فتؤدي عملياتُ التغيير الاقتصادية في البلد المصدر إلى جلبِ مواد مصنعةٍ من البلد المستورد للنفط، فيغدو هذا البلدُ الغربي المستورد سابقاً هنا مصدراً، وبهيئةٍ معاكسة للحالة الأولى. لكن السلع الغربية المصدرة ليست هي سلع زراعية أو مواد خاما بل هي سلع مصنعة، كالسيارات والثلاجات الخ أو بعض المواد المكملة للصناعة النفطية. فإذا كانت سلعُ البلد المصدر النفطية تسهمُ في تغذية التطور الصناعي في البلد الغربي، أو الياباني، فإن نفس هذه السلع المصدرة تغذي الاستهلاك الجماعي والفردي، فتنشأ حالتان متضادتان، حالة استهلاك وبذخ وتضييع لثمار قوى العمل في الشرق، وحالة إنتاج وتوسع اقتصادي وتراكم قيمي في الغرب.
إن المجتمع الإقطاعي يجذرُ إقطاعيتَهُ ويوسعها، ويحدثُها تحديثاً شكلياً، بسبب ان البضاعة ظلت بضاعة، ثم تحولتْ إلى سلسلةٍ من البضائع المشتراة، ولم تتحول إلى رأسمالٍ صناعي مجدداً، في حين إن البضاعة المستوردة بالنسبة للغرب ظهرت كرأسمال صناعي أو كفائض من رأسمال صناعي، ليزداد إنتاجها لهذا الرأسمال. وفي الجزء المخصص للسوق المحلية فإن البضاعة تخلي بعضَ أرباحها على شكل مداخيل للمقاولين أو للشركات التي يتم شراء المواد منها لمصنع التكرير، فتظهر فئات تجارية منتفعة، تحول هذه المداخيل لمتاجر أو هي تطورُ متاجرَها القديمة التي كانت تتعامل بمواد عتيقة، ولا تتوجه هذه الفئات التجارية للمساهمة في بضاعة النفط عبر الإنتاج، حيث يمنع عليها قانون الاحتكار مثل هذا، فالسوقُ النفطية سوقٌ سياسية بالدرجة الأولى. بل هي توجه رساميلها التجارية لشراء أدوات الاستهلاك من الغرب، أو أنها تتحول بعد تراكمات مالية كبيرة إلى نقد عابر للبلدان، أي إلى صرافة وبنوك، لكنها بعدُ لا تعود للمنبع الذي نشأت منه. إن بعض أرباح النفط المحلية تتحول إلى تجارة بالسلع الحديثة، فالغرب هنا يربح على مستوى شراء بضاعة النفط الرخيصة، وعلى مستوى بيع البضاعة الاستهلاكية التي أنتجها بفضل تطوره الاقتصادي المستقل، وبشكل سلع عالية القيمة. ففي حين تغدو البضاعة مصدر استهلاك وبذخ وانتفاخ اقتصادي في جهة، تغدو من الجهة الأخرى مصدر إنتاج. فتصبح الأجور المقدمة للعمال مصدر بناء حياة خاصة، وتصبح لدى التجار مصدر ثراء، وكلتا الطبقتين العمالية والتجارية (الصناعية والمالية مستقبلاً)، فالعمال يصبحون على ضفاف البضاعة النفطية، لا يعرفون منها سوى شكلها المباشر، في حين لا يعرفها التجار أصلاً، بل يفرحون ببعض مداخيلها ويحولونها إلى استيراد، وفي هذه العلاقات غير الإنتاجية العميقة بالمادة – السلعة الأساسية، تظهر الأفكار المصاحبة لعملية الإنتاج هذه. فالعمال يستوردون الأفكارَ الخاصة بنضالهم الاقتصادي من تجارب الأمم التي سبقتهم في الدخول في عالم الرأسمالية، والتجار يستوردون الأفكار الليبرالية من نفس العالم. وسببيات الاستيراد تعودُ لطابع الإنتاج والاستهلاك، فالعمال يناضلون من أجل تطوير أجورهم وأوضاعهم ولا يعملون من أجل تأميم الصناعة النفطية أو تحريرها من الإقطاع، فتظل أفكارُهم مثل عمليات شغلهم تتسم بالسطحية، وبالمعالجة المحدودة للمادة. في حين ان التجار وهم يستوردون البضائع الغالية ويحولون بلدهم إلى مدين في علاقاته الاقتصادية، يستوردون البضائع الفكرية الغربية في بعض أشكال الحرية، مصورين هذه البضائع بأنها صانعة الحرية والتعاون بين المستورد والمصدر، بين البلدان المتخلفة التابعة والبلدان الرأسمالية المتطورة المسيطرة. وهكذا فإن الفئات العمالية الفقيرة أو البيروقراطية والتجار المستوردون يشكلون بدايات الصراع الديمقراطي ضد الغرب، في حدود مستوى تطور القوى المنتجة، وتلك مسألة تخضع لسياق تطور الأبنية الاجتماعية في كل بلد. في حين إن الإقطاع في علاقاته بتوريد السلع المهمة يدعم سلطاته، ويرمم الأبنية الاجتماعية المهترئة، محافظاً على ذات العلاقات التقليدية، التي لها قوانينها الاقتصادية الخاصة، فتصبح القصور مؤثثة بالاثاث الباريسي من دون أن تعرف شيئاً عن موليير.
صحيفة اخبار الخليج
10 اغسطس 2008
النفط رأس مال العرب (7)
أولمبياد بكين بعيون سياسية (6)
التحدي السياسي والأمني كان مؤسس الأولمبياد المعاصر المؤرخ والنبيل الفرنسي بياردو كوبرتان يطمح من إعادة تأسيس دورة الألعاب الاولمبية الدولية على أسس انسانية فنية جديدة قوامها المساواة والندية بين فرق المجتمع الدولي الحديث، ندية تقوم على المنافسة المتكافئة الحرة بعدما كانت الالعاب الاولمبية الاغريقية تقتصر على الاحرار من الرجال فقط وتقصي النساء والعبيد. وكانت المبادئ الرياضية التي أرساها كوبرتان ليست سوى نتائج وثمرة تطور الثقافة الانسانية الديمقراطية التي بلغتها اوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، ولذلك كان من ضمن القواعد والمبادئ التي ارسيت لمسابقات اولمبياد المعاصرة التحلي بالقيم الاخلاقية، والاحترام المتبادل بين المتبارين، والتقيد الصارم بقوانين وقواعد الألعاب، واحترام احكام التحكيم، والابتعاد عن العنف والخداع للتحايل على قوانين اللعبة. كما تم ارساء مبدأ عدم اقحام السياسة والصراعات السياسية في المسابقات الاولمبية الدولية لكي لا تؤثر على اجراء المسابقات وهي تتوخى التقيد بتلك المثل الانسانية الرياضية النبيلة. لكن لو خرج دو كوبرتان اليوم من قبره ونظر إلى الحال الذي باتت عليه الالعاب الاولمبية لصعق ذهولا لما آلت إليه من تبدل كبير وافول لمعظم المبادئ والقواعد التي انطلقت تحت راياتها المسابقات الدولية، حيث اخترقها وباءان متداخلان من اوسع ابوابها ألا هما التجارة والسياسة بعدما كانا لعقود يخترقانها من اضيق ابوابها أو على استحياء. وهكذا فقد جرى التخلص من الشعارات والمثل والقوانين التي عرفت بها الالعاب الاولمبية الحديثة تدريجيا فلم تعد الالعاب مقتصرة على الهواة حصرا بل جرى ادخال المحترفين فيها الممولين من اساطين المال والشركات التجارية والاعلانية، وشيئا فشيئا جرى التوسع في ادخال هؤلاء المحترفين جنبا إلى جنب مع دخول الشركات الاحتكارية التجارية الرأسمالية وعلى الاخص الإعلانية والإعلامية منها. وبدت الالعاب الاولمبية تفقد بريق روحها الإنساني المتحضر الذي ظل يميزها طوال عقود مديدة حتى مع كل ما اعتورها من سلبيات ومشاكل. ولم تكن السياسة أو التسييس غائبا عنها بل كان حاضرا في معظم الدورات منذ انطلاقتها المعاصرة لكنها اشتدت على نحو سافر خلال الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ومن ذلك الدعوات المتبادلة إلى مقاطعة المشاركة كما فعلت الولايات المتحدة في دورة موسكو عام 1980 وردت عليها هذه الاخيرة بالمثل في دورة لوس انجلوس عام 1984، لا بل ان الدولة المستضيفة في الدورة الحالية (بكين 2008) سبق لها ان قاطعت دورة روما عام 1960 لقبولها مشاركة جزيرة تايوان تحت اسم «جمهورية الصين«. وتأسيسا على ما تقدم نستطيع القول إن الاجواء والحملات السياسية التي رافقت ومازالت ترافق دورة بكين الحالية ليست مقطوعة الصلة عن تاريخ طويل من التراكمات التسييسية، ويلعب الغرب اليوم دورا مخربا كبيرا في فرض هذا التسييس واستغلال المثل الديمقراطية والانسانية بانتهازية فجة لتوظيفها في سياق حربه النفسية على الصين، ليس لأنها تختلف عنه في النظام الاجتماعي كدولة اشتراكية بل وكدولة منافسة أيضا في مجال التجارة الدولية. ولعل الولايات المتحدة في مقدمة الدول الغربية التي انبرت لشن مثل تلك الحملات النفسية واستغلال كل شاردة وواردة من السلبيات والاحداث الداخلية لاثبات فشل الصين في استضافة الدورة. ولقد كان من ابرز التحديات السياسية التي واجهتها ومازالت تواجهها الصين في هذا الصدد تتعلق بمدى جاهزيتها لتقديم خدمة اعلامية حرة متميزة تقوم على الشفافية الكاملة من دون قيود باعتبار نظامها السياسي شموليا وليس ليبراليا تعدديا، وعلى الاخص فيما يتعلق بخدمات «الانترنت«، ومع ذلك وعلى الرغم من الحملات الغربية التي مازالت تتوالى عليها استطاعت بكين ان تقدم تنازلات بفتح خدمة الانترنت بلا قيود في المركز الاعلامي الأولمبي وان كان البعض يشكك بوجود وحجب على مواقع حركات المعارضة الصينية. ولم تتوان منظمة العفو الدولية عن استغلال الدورة لاتهام الصين بخيانة القيم الاولمبية الانسانية التي تعهدت بكين باحترامها لأن سجلها في احترام حقوق مازال سيئا، وايا كان الامر من هذه الانتقادات وهي لا تخلو على أي حال من الصحة فان بكين تعاملت في استعداداتها للدورة بمرونة سياسية هائلة كنظام اشتراكي يقوم على حكم الحزب الواحد، ووصلت بها هذه المرونة إلى درجة عدم ممانعتها من مشاركة غريمتها الرأسمالية المنشقة عن الوطن الام «تايوان« وذلك بعد ان تم اعتماد اسمها كما هو مدرج رسميا لدى اللجنة الاولمبية «تايبيه الصينية«. أما من الناحية الامنية فبالرغم مما واجهته بكين من تحديات سياسية امنية تمثلت في تأجيج أزمة اقليم التيبت وكذلك فيما يقوم به المتطرفون الاسلاميون من اعمال ارهابية كان اخطرها الهجوم الانتحاري الذي وقع قبيل أيام من افتتاح الدورة في اقليم شينجيانج ذي الغالبية الاسلامية والذي ادى الى مقتل 16 جمركيا فان هذه العمليات اليائسة لم تحل دون اقرار اللجنة الاولمبية بما اتخذته بكين من استعدادات امنية كافية واسعة النطاق كما اقر بها رئيس اللجنة جاك روج وهو الذي اشاد بالتحضير الصيني الممتاز للألعاب، ووصف القرية الاولمبية بأنها «الافضل بكل المقاييس« واكد أن دورة بكين ستنجح.
صحيفة اخبار الخليج
10 اغسطس 2008
انقلاب على “الانقلاب”
ليس واضحاً إلى أي مدى تدرك القوى الداعية للإصلاح في العالم العربي التحولات الحاسمة في توجه الدوائر النافذة في العواصم الغربية نحو دعم الإصلاحات، والضغط على الأنظمة العربية للإقدام على خطوات في هذا الاتجاه. ولكن هذا أمر تجب ملاحظته، فلو قارنا الأمر بما كانت عليه الأحوال في الفترة بين ٢٠٠٢ – ٣٠٠٢ أي قبل وبعد غزو العراق، الذي ترافق مع خطاب تعبوي، بل يمكن وصفه حتى بالأيديولوجي، قادته الولايات المتحدة وبعض حلفائها حول ضرورة نشر الديمقراطية في العالم العربي. لكن ما نشهده الآن هو انقلاب على الانقلاب، فإذا ما تذكرنا أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط كانت، وعلى مدار عقود، قبل صعود المحافظين الجدد ترتكز على مبدأ الحفاظ على الأوضاع القائمة وتجنب تغييرها، طالما كانت ضمنت تحالف أنظمة المنطقة معها، وأن هذا المرتكز تعرض لما يشبه الانقلاب عليه، خاصة مع إدارة بوش الابن، فإن المنقلبين أنفسهم انقلبوا مجدداً على رؤيتهم للشرق الأوسط الجديد. وهي الرؤية التي تبلورت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ١٠٠٢، وتمحورت في أن غياب الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط فرخ المجموعات الأصولية والإرهابية المتطرفة، وأنه يجب التوجه لعلاج بيئة التفريخ هذه عبر نشر الديمقراطية، حيث سمعنا تكرار مفردات الإصلاح والتغيير التي جاءت تحت ضغط لا يمكن نكرانه مارسته الإدارة الأمريكية ودبلوماسيوها على موقع القرار في الأنظمة العربية بالتخلي عن بعض سلطاتها لشعوبها، وهو أمر لا يمكن، أيضا، نكران أنه أثار قلقاً لدى العديد من الأنظمة المعنية. هناك رأي صائب لبعض المحللين ذهب حينها إلى أن هذه الأنظمة اضطرت، مسايرة للموجة تحت الضغوط التي تتعرض لها، للإقدام على بعض التغيرات الشكلية التي لا تطال الجوهر ولا تبلغ العمق، معولة على أن الأمر سيكون وقتياً، وأن مثل هذه الموجة لا بد أن تنحسر مع تغير الإدارة في البيت الأبيض، ومجيء إدارة أخرى أكثر إحاطة بالتعقيدات القائمة في المنطقة، وأميل للتعاطي مع مسألة التغيير أو الإصلاحات بالتدريج، أو حتى صرف النظر عنها كلية طالما كان الوضع القائم لا يشكل تهديداً استراتيجياً للمصالح الأمريكية في المنطقة، فتعود الأمور لما كانت عليه. وهناك من يذهب، وله في ما يذهب بعض أو حتى كل الوجاهة، أن الإدارة الأمريكية لم تكن جادة أصلاً في مسألة الإصلاحات والتحول باتجاه الديمقراطية في البلدان العربية، وأنها استخدمت الأمر مجرد واجهة أو ذريعة لتبرير غزوها للعراق، أمام حقيقة أن هذا البلد كان محكوماً من قبل نظام ديكتاتوري مستبد، فما أن تيسر لها احتلاله، حتى أدارت ظهر المجن لكل مزاعمها. وهذا القول يفسر جانباً من التغير في سلوك الإدارة الأمريكية، ولكن علينا أيضاً الالتفات إلى حقيقة أن صناديق الاقتراع في الانتخابات التي جرت في أكثر من بلد عربي، والعراق أحدها، حملت إلى الهيئات النيابية أغلبية لا يمكن أن تكون محل ثقة الدوائر الغربية، فكأن السحر انقلب على الساحر، وبات الانقلاب على الانقلاب لا مفر منه.
صحيفة الايام
10 اغسطس 2008
أعطوهم الفرصة
تنتقل بين المحطات التلفزيونية، تبحث عن برنامج ثقافي أو سياسي، توقفك قناة دبي الفضائية، برنامج ثقافي لا نبالغ ان قلنا انه من أفضل البرامج الثقافية التي تبث في المحطات الفضائية، انه برنامج »نلتقي«، الذي تقدمه مذيعة بحرينية متألقة كانت تقدم برامج جميلة في تلفزيون البحرين، في بلدها، ولكنها هاجرت للأسف، انها الاعلامية المتميزة بروين حبيب.
كوادر بحرينية إعلامية للأسف هاجرت الى محطات أخرى، لسبب لا اعرفه، ربما يساعدني في معرفته المسؤولون في وزارة الاعلام.
استبشرنا جميعاً خيراً عندما أقدم وزير الإعلام جهاد بوكمال على إعادة عدد من الوجوه البحرينية التي ألفناها على شاشات التلفزيون، فلدينا العديد من الإعلاميين المتميزين، لا أود أن أذكر أسماءهم كي لا أنسى احدا منهم، يستطيعون ان يقدموا الكثير ويسهموا في التطوير والبناء التلفزيوني أو الإذاعي، ولكن ما يحتاجونه هو منحهم الفرصة والثقة، ولا ضير لو تم تدريبهم وان نضع ميزانية للتدريب من أجل ان نفاخر بإعلاميي وطننا، لا ان نستبدلهم بإعلاميين من الخارج.
هذه دعوة صادقة الى القائمين على تلفزيون وإذاعة البحرين الى تمكين الشباب البحريني وإعطائهم الفرصة من أجل ان تكون إذاعتنا ومحطتنا الفضائية بوجوه بحرينية.
ما دفعني لهذه الدعوة هو طغيان الوجوه غير البحرينية التي تطل علينا في نشرات الأخبار، ولا أعرف السبب وراء ذلك، فهل مهنية الاجنبي أكثر من البحريني؟ أشك في ذلك، وإن كان كذلك فهل توجد هناك خطة لإعداد إعلاميين قادرين على المنافسة.
في نفس نشرة أخبار الثامنة، يذيع النشرة الرئيسة وافد عربي، ويذيع النشرة الاقتصادية أو الرياضية بحريني، وددت لو أن المسؤولين يعرفونني ما هي الميزة في الوافد حين تقديمه الأخبار وما هو النقص في البحريني.. بالنسبة لي لم أجد فرقاً، بل يجذبني البحريني لأسمع منه نشرة الاخبار خصوصاً عندما تتضح خلال تقديمه اللكنة البحرينية، ثم لماذا فقط نشرة أخبار البحرين من بين نشرات اخبار دول مجلس التعاون يقدمها غير مواطن؟
ربما لا يعرف المسؤولون ان البحريني ينجذب لبني جنسه حتى لمن يقدم له الأخبار، فأخبارنا الوطنية حري بأبناء هذا الوطن ان يقدموها.
صحيفة الايام
10 اغسطس 2008
نموذجان في لحظة واحدة!!
تزامنت مسألتا طلب تقديم الرئيس السوداني البشير للمحكمة الجنائية الدولية، والتي أثار زوبعتها أوكامبو فجأة، مع العلم أنها مبيّتة لكونها كانت تطبخ من وراء الكواليس بكل هدوء لوقت طويل، فأقام أوكامبو بتلك الدعوة العالم ولم يقعده في الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية وبشكل خاص في السودان نفسه، والذي بات همه الداخلي والخارجي الدفاع عن وضع الرئيس ومن خلاله الدفاع عن سيادة البلاد وشرعيتها الدولية والسياسية، فمحاكمة الرئيس السوداني تمثل محاكمة الوطن السوداني الجريح نفسه، والمعرض لمشاريع تقسيمية عدة إن لم يتحرك الشعب السوداني نفسه من اجل مشروع جديد للسودان الديمقراطي القائم على معالجة ووحدة وطنية حقيقية يتم فيها تقاسم وتداول السلطة من خلال المناخ الديمقراطي السلمي القائم على شرعية المواطنة المتساوية وحق الانتخاب والترشح لكل مواطن سوداني دون استثناء، كجزء أساسي من حق وإرادة الشعب التي ينبغي أن يؤسس لها الدستور ويحترمها الجميع ويحتكم لها الجميع بكل رحابة وواقعية سياسية واقتناع ومساواة وتسامح. ومن خلال هذا المشروع السياسي الانتخابي والديمقراطي القائم على أساس التدوير والتداول للسلطة تنزع من أنياب العسكر والبطانات القديمة كل مخالبها، بدلاً من المتاجرة السياسية بأمور وطنية ودينية مضللة ومخادعة.
ما قامت به سابقا المنظمات الدولية والداخلية حول قضايا دارفور والجنوب والواقع السوداني المزري لسنوات طويلة من ممارسات القمع والإقصاء والعصبيات الدينية وغير الدينية، كانت لا بد وان تفضي لمثل هذه التدخلات الفجة، فمن جهة كانت هناك ممارسات إثنية ودينية وجغرافية غير عادلة تم على أساسها اقتسام الثروة والسلطة، ما حرك الماء الراكد في السودان بعد أن تفاقمت الظروف الحياتية السيئة للسودانيين والسودان. وكما يقال »رب ضارة نافعة«، حركت المياه الراكدة في بعض الينابيع المتجمدة، بعد أن تحول السودان إلى كتل وذرات من الشظايا والانقسامات، وأفرزت الحياة السياسية على مدار العقود الأربعة منظمات وقوى متعددة لم يدرك النظام المركزي كيف يعالجها جذريا لأسباب ومكونات هيكلية في بنية النظام العسكري نفسه آنذاك والمحتمي بنزعة دينية لم تعد شكلاً وصيغة نهائية تناسب السودان التعددي بتاريخه الطويل من انجازات نضالية ووعي سياسي متقدم.
تأتي زوبعة تقديم البشير للمحاكمة الدولية في ذات الوقت الذي تم فيه تقديم كاراجيتش لمحاكمته إلى محكمة لاهاي نفسها بتهم الإبادة العرقية وجرائم الحرب وغيرها من التهم، كمغزى سياسي عالمي عن أن لا أحد بإمكانه الإفلات من العقاب، ولكن ذلك الموضوع ليس دائما يتم انجازه، فمن يلعب بالأوراق الخلفية للمحاكمة والمحكمة قوى دولية لها اليد الطولى في اصطياد النمور الهاربة أو في تحديد حدود الغابات التي تركض فيها، فهناك سياج لا يمكن لتلك النمور الهائجة تخطيه. هكذا ترك كاراجيتش طوال هذه السنوات يعيش حياته المتخفية، كاشفا في هذه اللحظة عن تلك الصفقة الأمريكية مع الجانب الصربي في البوسنة قبل الانتهاء من التوقيع على اتفاقية دايتون، التي كان مهندسها وعرابها السفير الأمريكي ريتشارد هولبروك الذي كان وسيطا في قبرص لاحقا ولكن القبارصة اليونانيين لم يقبلوا بطريقته الملتوية فانتهت مهمته دون أن ينجح في تمرير أوراقه.
في اللعبة الحالية هناك طرفان أحدهما لا بد وان يكون كاذبا، إما هولبروك أو كاراجيتيش أو الاثنان معا، فالأول يدّعي انه لم يعد كاراجيتيش بعدم تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية المعنية بجرائم الحرب لمجرد الموافقة والانتهاء من حرب البوسنة بتوقيع اتفاقية دايتون، فيما يؤكد كاراجيتش عن انه اتفق مع هولبروك عبر الوسيط،أن تكون الصفقة، صفقة عدم التسليم، مقابل اختفاء كاراجيتيش والانسحاب من الحياة العامة. ما يثير الاستغراب أن تلك الصفقة لم يتم توثيقها رسميا، ما يعني أن الساسة بإمكانهم نقض وعودهم بكل سهولة متى ما تغيرت المصالح، ومن جهة أخرى تبدو مسألتان مهمتان لا بد من إجلاء سرّهما الغامض، الأول لماذا عاش كاراجيتيش حياة سرية إن لم نقل نصف سرية طالما انه ضمن من هولبروك ومن ثم قوى »النيتو« بعدم التعرض له وتسليمه؟. والثاني هل كان الاتفاق معنيا بمدة زمنية لها علاقة بطبيعة اللعبة؟
الأوراق المعلنة حاليا في وسائل الإعلام من شخصية تعيش خلف القفص بمستوى كاراجيتيش تحدد الدور الأمريكي الخفي في تحريك ماكينة الإعلام الضخمة لمحاكمة واصطياد كاراجيتش، فقد نفد صبر الاتحاد الأوربي وديمقراطيي الصرب من معوقات صرب البوسنة – التي تلعب دورا معطلاً في دخولهم في عضوية الاتحاد الأوروبي – الذين رغم أقليتهم في الإقليم يصرون على التحكم في الأغلبية البوسنية وغيرها دون مراعاة المتغيرات الدولية الجديدة في القرن الواحد والعشرين وكل ما اعترى القارة الأوروبية من تغيرات كبيرة.
ما قدمه الإعلام الأمريكي والأوربي في قضيتي البشير وكاراجيتيش لا يبعدنا كثيرا عن قدرتهما الأخطبوطية أيضا على تغيير المياه في دهاليز الأمم المتحدة، فلتلك القوتين الأمريكية والاتحاد الأوروبي المتحالفتين، مفاتيحهما الكثيرة مثل ما لهما أيضا مغاليقهما من العلاقات الخفية والمعلنة، وقد كان واضحا توقيت لعبة كاراجيتيش والبشير في لحظة زمنية واحدة »فالمواطن العالمي« العادي في زمن الثورة المعلوماتية سيجد نفسه حائرا في الورقتين وسيسأل نفسه دون شك ما الذي يدور في العالم هذه اللحظة؟ وأيهما أفضل أو اقل أو أكثرهما يستحق المحاكمة، إذ تختلط الأوراق السياسية كلما خرجت من دائرة النخب السياسية الواعية، والتي تمتلك صياغة القرار وتفسيره وتبريره!
ربما سيجد الإنسان العادي عندما يحتار في المتابعة والاهتمام يوميا بين قضيتي كاراجيتيش والبشير، انه سيفضل لحظتها قرار متابعة أخبار الأولمبياد في الصين المتهمة أيضاً بأمور كثيرة من الماكينة الدولية نفسها!
صحيفة الايام
10 اغسطس 2008
مزايدات ماكين وأوباما
لافتة وذات دلالات تلك ‘المبادرات’ الإعلامية المندلعة منذ بعض الوقت بين مرشحي الرئاسة الأمريكية، مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما ومرشح الحزب الجمهوري جون ماكين، بخصوص السياسة الخارجية الأمريكية ومنها على وجه الخصوص تلك المتعلقة بمصير الوجود العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان.
فالمرشح باراك أوباما يؤكد أن استمرار وجود القوات الأمريكية في العراق يعتبر خطأً استراتيجياً يتوجب تصحيحه سريعاً، وإنه إذا ما انتُخب رئيساً فسوف يعمل على تقليص عديد هذه القوات من العراق وتركيز معركته على طالبان والقاعدة في أفغانستان وجوارها.
فيسارع المرشح الجمهوري جون ماكين للرد عليه باتهامه بأنه بخططه الرامية إلى سحب القوات الأمريكية من العراق إنما يعلن ‘استسلامه للعدو’!
دعونا نسلم بدايةً بأنه كلما تقدم الوقت بالمرشحين أوباما وماكين، وصولاً إلى يوم الامتحان الذي يُكرم المرء فيه أو يهان، اليوم المضروب لإجراء الانتخابات الرئاسية (نوفمبر المقبل) كلما تحول الوقت إلى سوط مشهر في وجهيهما، يلسعهما حال ‘شعوره’ بهبوط مستوى المزايدة السياسية لأحدهما أو لكليهما معاً، خصوصاً فيما يخص أكثر الملفات سخونةً وحضوراً على أجندة السياسة الخارجية للطبقة الحاكمة الأمريكية بشقيها الجمهوري والديمقراطي، وفي مقدمها قضايا أفغانستان والعراق وفلسطين وإيران.
أوباما وحزبه الديمقراطي اللذان صدّعا رؤوس الأمريكيين طوال الفترة الماضية بمزايداتهما على إدارة بوش والحزب الجمهوري فيما يتعلق بإجلاء القوات الأمريكية من العراق، تراهما اليوم قد انتحيا أكثر فأكثر جانب المراوغة والمخاتلة السياسية. فهما لا يريدان أن يبدوان، مع اقتراب موعد الحسم الذي يكون فيه الكلمة الراجحة ‘لهوامير’ ممولي الحملات الانتخابية وصانعي الرؤساء، أقل عسكرتارية من نظيريهما الحزب الجمهوري ومرشحه جون ماكين.
جون ماكين نفسه الذي ظل يحرص خلال عام 2006 على وضع مسافة بينه وبين المحافظين الجدد (Neocons) الذين تحولت لهم الكلمة العليا في الحزب الجمهوري وفي الإدارة الأمريكية منذ مجيء فريق بوش-تشيني إلى السلطة في عام ,2001 وتذكير محاوريه من الإعلاميين الذين التقوه آنذاك بأنه ينتمي إلى مجموعة الواقعيين (Realists) في الحزب الجمهوري مثل: برنت سكوكروفت، جون ماكين، هذا ومنذ أن ضمن اختيار الحزب الجمهوري له كمرشح للرئاسة عن الحزب وهو لا يفوت فرصة لإثبات ولائه التام لهذه الجماعة الإيديولوجية ‘اللاهوتية’ المتطرفة التي تحكم قبضتها على المسارين السياسي والاقتصادي للدولة الأمريكية زهاء ثمانية أعوام. كما إن مجموعة المستشارين المحيطين به ينتمون إلى الجماعة إياها، ناهيك عن تبنيه لعقيدة المحافظين الجدد المتمثلة في ضرورة تركيز السياسة الخارجية الأمريكية على تحويل تلك الأنظمة الأوتوقراطية والدول المتشددة إلى ديمقراطيات تستظل برعاية الولايات المتحدة.
وهو منذ ذلك الحين لم يعد يضع نفسه في عداد الواقعيين داخل الحزب الجمهوري ولم يعد يستخدم اسم برنت سكوكروفت في لقاءاته الإعلامية لتأكيد هذا الانتماء.
أما منافسه باراك أوباما فبحسب إيلي ليك (Eli Lake) الذي كتب في نيويورك صن الليكودية، مقالاً بعنوان: ‘توقعات معاكسة’ (Contra Expectations)، فإن ‘أوباما ليس جيمي كارتر وإنما هو رونالد ريغان’. وهو -أي إيلي ليك- بناءً على معرفته واحتكاكه باثنين من أبرز مستشاري أوباما وهما ريتشارد كلارك وراند بيرز، يخلص إلى أن أوباما قد يكون ‘نيوكون’ (Neo-Con) أي محافظ جديد في صورة أقرب إلى اليمينية المتطرفة كيرك باتريك التي بنت شهرتها من خلال تطاولها على سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الخاصة بحقوق الإنسان وتبنيها لمذهب الأوتوقراطيين الأصدقاء. وبحسب إيلي ليك فإن أوباما يمكن أن يكون أقل سذاجةً وتردداً في استخدام القوة من الجمهوري ماكين.
مثل هذه الانطباعات والقراءات الأمريكية لشخصيتي المرشحين ليست ظاهرة على السطح، حتى الآن على الأقل. وهي تبقى -كي نكون منصفين- انطباعات وحسب، ليست بمنحى عن أهواء وأمزجة وتوجهات أصحابها.
إلا أنها لا تبتعد كثيراً عن الواقع الذي راكمته التجربة التاريخية التي أفرزتها لنا سياسات الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية (المحصورة طبعاً في حزبين اثنين وهما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) وتطبيقاتها النمطية الملتزمة بالتعبير عن مصالح الطبقة السوبر التي أتت بهم إلى المنصب الأرفع في الحياة الأمريكية.
وعلى ذلك لم يشذ أي رئيس أمريكي عن قاعدة التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل وعن دعمها والدفاع عنها بكل الوسائل وهو ما ينطبق على موقف تلك الطبقة الأوليغارشية من الاتحاد السوفييتي السابق ومن كوبا وكوريا الشمالية وإيران والعراق قبل الغزو وسوريا والآن من قضية نشر الدرع الصاروخية في كل من بولندا وجمهورية التشيك… الخ.
والحال أن كلاً من المرشح الجمهوري جون ماكين والمرشح الديمقراطي باراك أوباما يدركان أن مزايداتهما ما قبل الانتخابات الرئاسية غير ملزمة لهم لأنها غير ملزمة للطبقة التي ستأتي بأحدهما لخدمتها. فلا غرو أن تشهد الأسابيع المقبلة ارتفاعاً محسوساً في حمى هذه المزايدات.
وقد رأينا كيف عمد باراك أوباما إلى رفع سقف هذه المزايدات عمداً خلال جولته الخارجية التي شملت 8 دول هي: العراق وأفغانستان وإسرائيل والأردن والكويت فيما تسميه واشنطن الشرق الأوسط الكبير، وألمانيا وفرنسا وبريطانيا في القارة العجوز، وخصوصاً موقفه من إسرائيل التي اعتبرها معجزة ووجه منها تهديدات صريحة لإيران.
ولم يتأخر رد جون ماكين المزايد على هذا الموقف، فحين سُئِل هل سيقوم بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس في حال وصل إلى البيت الأبيض رد بالإيجاب، وعند سؤاله عن موعد ذلك قال ‘فوراً’. ورداً على سؤال عما إذا كان يؤيد هجوماً إسرائيلياً على إيران أجاب بأنه لن يناقش أموراً افتراضية ولكنه تابع ‘يمكنني أن أقول التالي: إن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بضمان عدم حصول محرقة ثانية. هذا الأمر سيكون من بين مهماتي كرئيس للولايات المتحدة’.
ويخال لمَن يستمع إلى مزايدات الرجلين وهما يقذفان بها من دون حرج، ربما لمجانيتها، أنهما يملكان الحيز الكافي من الخيارات التي تتيح لأحدهما إذا ما فاز بالكرسي الرئاسي، تحقيق وعوده.
أما الواقع فهو ليس كذلك، فإننا لو تأملنا تصريحات أوباما في أوروبا وتحديداً في لندن، فسنجد أنه أفصح عملياً عن المأزق الذي تجتازه القوات الأمريكية في أفغانستان عندما شدد على ضرورة قيام أوروبا بزيادة مساهمتها العسكرية في أفغانستان قائلاً: ‘أود بوضوح أن يتم تقاسم بعض العبء’. علماً بأن ألمانيا وكندا وحتى فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والأطلسية رفضت مراراً الاستجابة لطلب الولايات المتحدة زيادة عديد قواتها في أفغانستان لاسيما في المناطق الجنوبية الساخنة.
كما إن اعتراف أوباما في لندن ‘بأنه مقتنع بأن كثيراً من القضايا التي نواجهها في الداخل لن تحل بفاعلية إلا إذا كان لدينا شركاء أقوياء في الخارج’ يؤكد محدودية الخيارات التي يزايد عليها هو ومنافسه الجمهوري جون ماكين.
صحيفة الوطن
9 اغسطس 2008
أولمبياد بكين بعيون سياسية (5)
التحدي الرياضي والفني من نافلة القول ان المسابقات الرياضية العالمية في مجتمعنا الدولي المعاصر باتت مسرحاً من مسارح التنافس الدولي السلمي الشريف، وهي وسيلة من وسائل ابراز الامم لتفوقها الفني والابداعي الحضاري. ولذلك فإن البعد السياسي الضمني لمثل هذه المبارزات السلمية الحضارية المشروعة غير خاف وذلك في سياق السباق على قصب السبق لابراز كل دولة مشاركة في الاولمبياد تفوقها وتفوق شعبها ورقيه في هذا المضمار. بهذا المعنى فلئن كانت ثمة أبعاد واهداف متعددة لاستضافة الصين الاولمبياد الثامن والعشرين الحالي والذي دشن افتتاحه رسمياً يوم أمس الجمعة، كالابعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية والسياحية.. إلخ، فإن البعد الفني والرياضي من الاستضافة هو في طليعة هذه الاهداف. فلم تستضف الصين الاولمبياد وتنفق كل هذه الاموال الطائلة لمجرد تحقيق المصالح والابعاد السياسية والاقتصادية والتجارية فحسب، لا بل من اجل ايضاً ابراز قوتها وتألقها وابداعها الرياضي بين الامم، وابراز كذلك ابداعها الفني في فقرات حفل الافتتاح.. فهل تتمكن بكين من تحقيق هذا الهدف المزدوج الرياضي – الفني؟ مما لا شك فيه وكما تشير توقعات طائفة كبيرة من مختلف المحللين الرياضيين فإن تصدر الصين وفوزها بوافر من الميداليات الذهبية مرجح جداً استناداً ليس فقط لاستعداداتها الكبرى وتأهلها لهذه الدورة أو لكونها تلعب على ارضها وبين جمهورها، بل ولما قطعته الصين من شوط وخبرات في مضامير الدورات الاولمبية السابقة، وعلى الاخص منذ دورة لوس انجلوس عام 1984م التي فاز فيها اللاعب الصيني شيوى هاي فنغ بأول ميدالية في الرماية، كما احتلت الصين في نفس هذه الدورة المركز الرابع في عدد الميداليات الذهبية وفاز فريقها للسيدات في الطائرة بذهبية الدورة. وفي دورة سيدني عام 2000م فاز الصينيون بـ59 ميدالية، وجاءت الصين في المركز الثالث في عدد الميداليات. اما في دورة اثينا في اغسطس 2004م فقد فازوا بـ63 ميدالية من بينها 32 ذهبية. ولا شك ان الذين جردوا حملة نفسية اعلامية سياسية على الصين لاحباط قدرتها واستعداداتها لاستضافة الأولمبياد، وحركوا قوى الثورة المضادة في الداخل، وسمحوا بكل هوجات الحملات المعارضة ضد بكين في كل محطات وصول الشعلة، تارة باسم حقوق شعب التيبت وطوراً آخر باسم حقوق الانسان، وطوراً ثالثاً بتضخيم المخاطر البيئية والأمنية.. نقول لا شك ان هؤلاء جميعا وفي مقدمتهم واشنطن ليسعدهم هزيمة الصين رياضياً او ابعادها عن الصدارة في اي لعبة من ألعاب الاولمبياد فضلاً عن محاولة ابهات تألقها الفني في حفل الافتتاح. ولهذا لم يخطئ من قالوا ان الصين تسعى من خلال هذه الاستضافة الى ان تصبح قوة عظمى ليس في السياسة الدولية فقط كما هي الآن فعلاً، بل وفي الرياضة. والصين التي احتلت المركز الثاني بعد الولايات المتحدة في أولمبياد اثينا لا شك في انها تطمح إلى ازاحة واشنطن من على عرشها، وهي تهيأت لهذه الحرب الاولمبية الرياضية بجيش قوامه 639 رياضياً يفوق عدد جيشها الذي ارسلته الى اولمبياد اثينا (407 رياضيين) ولعل في مقدمة الالعاب التي تراهن بكين على تصدرها فيها بعدد الميداليات كرة الطاولة التي يرمز لها في التاريخ السياسي الدولي المعاصر بأنها الوسيلة التي مهدت للتقارب الامريكي – الصيني في مطلع سبعينيات القرن الماضي مما سمح لاحقاً للصين الشعبية بدخولها الامم المتحدة 1971م بعد 22 عاماً من حرمانها من هذا الحق المشروع. كما تراهن الصين على ألعاب الريشة الطائرة والجمباز والغطس والى حد ما في الملاكمة. وان كانت هذه المراهنة في هذه الألعاب تكتنفها بعض المصاعب لعل ابرزها كون لاعبي الصين من الهواة الفعليين لا من المحترفين الممولين. اما فيما يتعلق بفقرات وعروض حفل الافتتاح، فبالرغم من اننا نكتب هذه السطور الآن قبيل موعد الحفل بساعات قليلة فإن كل المراقبين والمحللين يتوقعون ان هذا الحفل سيكون من اروع حفلات الدورات الاولمبية المتعاقبة على مدى تاريخها منذ انطلاقتها في عام 1896م. فالصين التي عرفت بعراقتها الحضارية في الفنون والزخرفة والرقص والازياء والرياضة والموسيقى ومختلف الفنون الاخرى لن تعجز عن تقديم عرض افتتاحي شائق متألق مفاجئ يبهر ملايين العالم ويبز ان لم يكن كل المدن التي استضافت الدورات الاولمبية فعلى الأقل معظمها. ذلك بأن حفل الافتتاح كما هو معروف لا يقل أهمية عن التألق والفوز الرياضي فهو مفتاح النجاح في تنظيم الدورة وفألها الأول للصعود الى القمة الأولمبية، وهو الرسالة الفنية الحضارية للدولة المستضيفة والموجهة للعالم لاظهار تفوقها وعظمة مواهب شعبها. ولذلك لطالما عد حفل الافتتاح بأنه سر الاسرار الاولمبية وعادة ما يحاط بكتمان مشدد من السرية ترقى الى مستوى الاسرار العسكرية. وبالرغم من تمكن تلفزيون كوريا الجنوبية، حليفة الولايات المتحدة، من تسريب بعض اللقطات التدريبية الباهتة لحفل الافتتاح، وذلك في سياق الحرب النفسية التي يشنها الغرب وحلفاؤه على أولمبياد بكين، فإن هذه اللقطات تبقى محدودة وضئيلة الأهمية، فما يخفيه الصينيون من مفاجآت فنية وابداعية راقية أكبر بكثير من هذه اللقطات المحدودة، وهو ما نتوقع ان تتحدث عنه اليوم السبت وسائل الاعلام والصحافة العالمية.
صحيفة اخبار الخليج
9 اغسطس 2008
النفط رأس مال العرب (6)
يقوم المضمون الاقطاعي العربي الموغل في القدم بدمغ أية ظاهرة واردة من الخارج، فيحيلها إلى هيكليته ويمتص حداثتَها في تخلفه، ورأسماليتها في اقطاعيته. فامتيازات النفط وواردته تقسم بين الشركة الغربية والعائلة الحاكمة أو قيادة الحزب أو قيادة الدولة، فبدلاً من أن تكون ملكية النفط إنتاجية خاصة أو تابعة لدولة ديمقراطية، تصبح ملكاً لأطراف سياسية متنفذة، تعكس مصالح الطبقة المسيطرة في البلد المعني. وفي حين يخصص قسم صغير للخدمات ومصالح الدولة العامة تقوم ذات القوى المحلية المهيمنة وحلفائها في الإدارة بشفطِ قسمٍ آخر من ذلك التقسيم الثنائي، غرب مستكشف مستورد، وشرق منتج مالك، وهي تسميات على غير مسمى.
هكذا يقوم الاقطاع بتحويل ملكية رأسمالية حديثة إلى ملكية اقطاعية أساسية، في موارد الإنتاج الكبرى، ثم تجري كل العمليات الاقتصادية الفوقية بطريقة رأسمالية من تحديد للرأسمال الثابت أو المتغير وأسعار المواد الخام وبيعها، ولكن المضمون الأساسي، وتحديد أساسيات الدخل، تتم من خلال عوامل سياسية مسيطرة على العلاقات الاقتصادية، وهو أمر لا يختلف عما حدث في العصرين الأموي والعباسي. وهذا يندرج على الاصطفافات التجارية وطبيعة العائلات التجارية التي تتشكلُ من خلال قرارات سياسية عليا، عبر تشكل علاقات سياسية معينة بين الطبقة المسيطرة وهذه العائلات التجارية، فيجري السماح لعائلات معينة أو منع عائلات معينة من التجارة أو من الدخول إلى البلد، أو إعطاء جنسيات معينة حق مزاولة مهن مهمة، كما حدث للعائلات الأوروبية المهاجرة في بعض الأقطار العربية ومنحها امتيازات لا تـُمنح لمهاجرين آخرين. وتقوم العائلة المالكة للأرض والعباد أو المكتب السياسي للحزب الحاكم أو هيئة الضباط المتنفذة، بتقريب أو إبعاد الموظفين الكبار وتحديد بناء الوزارات والإدارات تبعاً لمصالحها ونفوذها ومداخيلها. بل حتى الموظفون الصغار يتأثرون بالسيطرة الإقطاعية على أجهزة الدولة، فهي ترتبُ الدوائرَ لخلق صراعات مذهبية أو دينية أو قومية وتكون خالية من الأفكار المناوئة لها، وتخفض الرواتب هنا من أجل ضبط السيطرة وخلق الفئات الدنيا المحتاجة. وإذا كان المضمون الاقطاعي هو المشكل لجوهر الملكية العامة فالطلاء الغربي الخارجي يكون متحداً بذلك المضمون، عبر المظاهر الحديثة والأشكال المحاسبية الغربية، لأن السلعة الخام لن تبقى في البلد المعني، بل سوف تكون من نصيب البلد الغربي، فليس مكان الإنتاج سوى مكان عابر، في حين يكون البلد الغربي الرأسمالي هو المكيفُ للسلعة من أجل حاجته ومشروعاته وتطوره. فيغدو البلد (المستورد) هو المنتجُ، ويصير المشتري هو المتحكم في عملية البيع. يغدو مكان إنتاج السلعة ضمن النظام الاقطاعي المحلي مستهدفا لغايات سياسية بارزة، أهمها استمرار تدفق المادة الخام الثمينة، كمادة خام أو كمادة محولة بعض التحويل، في حين تبقى العمليات التقنية والاقتصادية العميقة من اختصاص البلد المستورد، وهذه التحولات العميقة هي التي تبقي البلد المتطور مسيطرا ورأسماليا في حين يبقى البلدُ المصدر اقطاعيا تابعا. وإذا حدثتْ تطورات رأسمالية في البلد المصدر فإنها تبقى رأسمالية فوقية أو سطحية لا تصل إلى تصنيع المادة الخام إلى اقصى مدى. وليست المادة الخام ثمينةً إلا لظروف اقتصادية تاريخية تتعلق بأهميتها في بلد الاستيراد المسيطر، وليس في البلد المصدر، فمن اكتشفها أو زرعها وخلق شبكة إنتاجها المحلية وشبكة توزيعها الدولية هو البلدُ المستوردُ، لظروفٍ اقتصادية مرحلية تتعلق بتطور قواه المنتجة من مصانع ومعاهد بحث، ولدور السلعة المستوردة البارز في هذا الإنتاج، وحين تـُشاع مثل هذه السلعة أو تحل محلها بدائل كالقطن الذي نافسه الحرير والنايلون والقماش العادي، فإن نظام الاستيراد المسيطر يتغير. ولا تقتصر قوى نظام التصدير المحلي المنتج المفترض على الطبقة الاقطاعية المالكة أو المشاركة في الملكية، بل على قوى تقدم مساندة مالية وخدماتية وعملية للمشروع، كالمقاولين الذين يستأجرون عمالاً أو يبيعون مواد مفيدة للمشروع، أو كالتجار الذين يشترون جزءاً من المادة الخام أو المكررة ويوظفونها في السوق المحلية أو يصدرونها للسوق القريبة، ولابد لهؤلاء أن يكونوا مقبولين من قبل الطبقة المسيطرة، حيث يمثلون جزءاً من الحزام الاجتماعي الحامي للمشروع. أما العمال فهم يجلبون بسبب قوة عملهم، التي يخضع تطورها لتطور قوى الإنتاج في المشروع، وهنا تكون قوى الإنتاج(متدنية) فليست هي سوى استخراج مادة أولية، فتغدو المادة العضلية هي السائدة، وحتى لو كانت من الحقول والمراعي، وهي مرحلة البروليتاريا وتدني الأجور والاضرابات، وفيما بعد ستتغير قوى العمل. كما تتحكم العملية السياسية في تكوين قوى العمل بشكل كبير كذلك. وخلافاً للعديد من المجتمعات حتى في العالم الثالث نفسه يجد المجتمع العربي النفطي نفسه مفرغاً من تاريخه ومن قدراته على التحكم في البضاعة الثمينة فتلعب العوامل الخارجية دور المسيطر (القدري) عليه، فحتى التطورات الأموية والعباسية الحضارية كانت تجري في مناطق أخرى.
صحيفة اخبار الخليج
9 اغسطس 2008
وجوهنا وحدها تُشبهنا
حين نعود إلى ألبومات الصور القديمة التي جمعتنا يوماً مع آخرين، في أمكنة وأزمنة مختلفة، تنتابنا مشاعر فياضة. كلما قدمت الصورة، نأت اللحظة التي صُورت فيها بعيداً، وازداد الفضول في أنفسنا لرؤية ما الذي خلفه الزمن على أجسادنا وأرواحنا من ندوب. الصورة التي تعود لعشر سنوات ماضية أو عشرين سنة يمكن أن تثير في النفس ذلك الشلال من الأسئلة والتداعيات عن أين كنا وأين أصبحنا. أذكر صديقاً قديماً لفت نظري مرة إلى ملاحظة أظنها دقيقة تماماً، قال إن أي إنسان حين يُحدق في صورة جماعية تجمعه وآخرين فإن أول ما تقع عليه عينه هي صورته هو بالذات. لدى الناس فضول كبير لرؤية ذواتهم منعكسة على مرآة أو مطبوعة على ورق مقوى هو الذي نسميه الصورة. وإذ نعود لصورنا القديمة فأول ما نفعله هو التحديق في أنفسنا التي كانت، في صورتنا. حينها تتداعى الصور والأفكار، ها نحن في وضعٍ يمكننا من ملاحظة ما الذي فعلته السنون فينا، ما الذي غيرته من الملامح وخلّفته في الروح. ثم تأخذ العينان في التنقل بين من هم معنا في الصورة، وهنا أيضاً يشغلنا السؤال عن المصائر التي أحاقت بهؤلاء: أين هم الآن، قبل أن ينثال شريط الذكريات عن الأزمنة التي مرت والأحلام التي كانت. أكثر الصور مدعاة للفضول هي صور أطفالنا. حين تفاجأ بأن قامة ابنك اليوم هي في مثل قامتك وربما أطول فإن صورته وهو في المهد، أو وهو يلهو بألعابه في سنوات طفولته الأولى، أو صورته مع زملائه وزميلاته في سنة أولى روضة هي ذلك الصاعق الذي يفجر مخزون الذاكرة، ويتركه ينثال عن حكايات وانطباعات. يا الله! أيعقل أن ذلك كان منذ زمن بعيد، وإن هذا الزمن مر بالجوار دون أن ننتبه، وإن هؤلاء الذين كانوا قبل ومضة عين أطفالاً في المهد، أو أطفالاً يلهون بألعابهم مع أقرانهم قد كبروا حتى باتوا يضاهونك في القامة ويحرجونك بالأسئلة الصعبة التي لا تستطيع أن تجيب عليها، ليس لأنك لا تريد وإنما لأنك ببساطة شديدة لا تعرف. إذا كانت صورة الأطفال، أطفالنا تحديداً، هي مدعاة الفضول، فإن صورة من نحب هي الأكثر مدعاة للحيرة والتأمل. إن صورته، أو صورتها، تستحثك على التحديق، في الملامح وفي تفاصيل التعابير، في ما يشبه الاستغراق التأملي الصوفي. صورة الحبيب هي طيفه، هي توقيعه الذي لا يُمحى في النفس. لا أعرف من القائل »إن وجوهنا وحدها تشبهنا، وحدها تفضحنا«، الوجه هو المدخل الأثير للنفس، للروح، والصورة زمن، ولأن الزمن في سيرورة أبدية لا تعرف التوقف هكذا دونما نهاية، فإننا ابتكرنا الصورة خديعة ذكية كي نُوهم أنفسنا بأننا أخذنا من اللحظة الهاربة ملمحاً نبقيه زوادة للقادم.
صحيفة الايام
9 اغسطس 2008
حوار الملك: من أجل خطاب ديني متعايش متزن
أكثر من حدث شهدته البحرين في الايام القليلة الماضية جميعها ذات اهمية بالغة ومن بينها لقاء جلالة الملك برجال الدين، وكان الهدف من وراء هذا اللقاء هو التأكيد على ثقافة الحوار الديني من اجل ترشيد الخطاب الديني في اطار ثقافة التعددية والمسؤولية بعيداً عن التطرف والتصعب والتكفير واثارة الطائفية التي من المؤسف حقاً نجد من يغذيها ويروج لها على مستويات مختلفة لاغراض عقائدية او سياسية باتت معروفة في حين ان الاصلاح الديني، كما عبَّر عنه جلالة الملك، ينبغي ان يكون بوابة للاصلاح على كافة الصعد يدعم الوحدة الوطنية والتسامح والتعايش بين الطوائف والمذاهب والديانات الاخرى في ظل دولة المؤسسات والقانون وفي ظل حقوق المواطنة والواجبات خاصة في هذا الوقت المحكوم بتجاذبات خارجية على الصعيد الاقليمي تدفع في تعميق الطائفية ودعم الفكر الديني التكفيري.
على اية حال خطاب جلالة الملك في ترشيد الخطاب الديني خطاب واضح وضوح الشمس، والمطلوب من رجال الدين وسائر اطراف المجتمع ان يترجموا هذا الخطاب الداعي للمحبة والتآخي بين افراد المجتمع والتعايش بين مكوناته المختلفة من إثنية ودينية وغيرها ترجمة صادقة ومسؤولة غير محرضة على العنف والكراهية بين الشعب الواحد كما يفعل بعض خطباء المساجد الذين غالباً ما تجد خطابهم الديني غير متوازن وغير متسامح ملخصه يدعو للتمييز الطائفي والمذهبي، والامر الآخر هناك من يدعو من فوق المنابر الحسينية الى تحريض الشباب على العنف واعمال التخريب والخروج على القانون بشكل يمس استقرار البلاد والمصالح الوطنية ويعرض الممتلكات العامة والخاصة الى اعتداءات مرفوضة.
ومن هنا تأتي أهمية ما قاله جلالة الملك لدى استقباله محافظ واهالي المنامة خاصة عندما قال: من الواجب علينا جميعاً السعي للمحافظة على المكانة التي تستحقها البحرين على الصعيدين الداخلي والخارجي، فأهل المنامة رواد في التعايش والتسامح وكما تعلمون انه وفي مساحة لا تتجاوز الكيلو متر مربع في المنامة نجد المساجد في مقابل الكنائس ودور العبادة لجميع المسلمين ولمختلف الديانات والطوائف، وبذلك ضربت المنامة اروع الامثلة والنماذج في التعايش بين جميع الديانات، فعلينا المحافظة على هذه السمات الخيرة.
ومن هنا ايضاً تأتي اهمية ما اشار إليه حينما خاطب رجال الدين.. لا تخفاكم طبيعة التحديات والمحاذير المحيطة بالبحرين والمنطقة، ولا بد من سد الثغرات امام المؤثرات الخارجية، كلما تقاربتم وقاربتم الصف كمسلمين ومواطنين بحرينيين متعايشين ومتصالحين سعد بكم الوطن والمواطنون وئاماً واستقراراً وامكننا السير قدماً في مسيرة التنمية الشاملة التي لا يعلو عليها هدف من اجل رفع المستوى المعيشي للمواطنين وتلك هي مسؤولية الجميع بلا استثناء.
اذن فخطاب جلالة الملك لرجال الدين رسالة واضحة وصريحة شديدة التفاؤل، ونعتقد ان هذه الرسالة لا تقتصر على رجال الدين وحدهم وانما ايضاً تشمل كل الجهات الرسمية والاهلية خاصة وان المرتكزات التي انطلقت منها هذه الرسالة هي الحفاظ على الوحدة الوطنية والارتقاء بالخطاب الديني والتعايش والاستقرار ودعم التنمية والوقوف بحزم امام الاجندة الخارجية والتبعية والتحديات الداخلية خدمة للوطن والمواطن وخدمة للبحرين التي يجب ان تظل مشرقة على جميع المستويات ورائدة كما كانت في ذاك الزمن الجميل الذي لا تحكمه فتاوى التطرف الديني.
صحيفة الايام
9 اغسطس 2008