طالعت إحصائية عن ترتيب الجامعات في العالم، من حيث جودة التعليم فيها، تضع واحدة من الجامعات الإسرائيلية في الترتيب رقم ٠٦ بين أهم ٠٠٥ جامعة، في ما أتت اعرق جامعاتنا العربية في ذيل القائمة وغاب غالبيتها عن القائمة من الأساس. وعلينا هنا التذكير بحداثة تأسيس الجامعات في إسرائيل قياسا للعمر العريق لبعض جامعاتنا العربية. حسبنا هنا الإشارة إلى أن جامعة فؤاد الأول، أي جامعة القاهرة حاليا، قد تأسست في العام٥٢٩١. وليس عبثا أن مفكراً وتربوياً وأكاديمياً مثل الدكتور طه حسين الذي كان علما من أعلام الجامعة قد أولى مسألة التعليم الجامعي كل الاهتمام الذي نعرفه عنه، ليس في كتابه: »مستقبل الثقافة في مصر« وحده، وإنما في العديد من دراساته ومقالاته الأخرى. وقد أصدرت جريدة »الجمهورية« المصرية كتابا يتضمن سلسلة مقالات لطه حسين لم يسبق أن نشرت في كتاب، وإنما في الجريدة ذاتها، التي قدمتها بصفتها جزءا من تراثها الذي تعتز به، كون طه حسين نشره على صدر صفحاتها، لدرجة أن السلسلة التي صدر عنها الكتاب المذكور حملت اسم: »تراث الجمهورية«. الكتاب يحمل عنوان »طه حسين ومعاركه الأدبية«، وقد قدم له الناقد الراحل رجاء النقاش، وواضح من عنوان الكتاب انه يتضمن سجالات عميد الأدب العربي في أكثر من مجال، بينها المجال التربوي، وخاصة التعليم الجامعي، وضمن أشياء عديدة يأخذ طه حسين على الدولة المصرية يومذاك إنها لجأت إلى العلماء الأوروبيين والأمريكيين تستعين بهم في بعض الأمور، فيما لم تأبه بخمسة علماء مصريين ذهبوا إلى اسبانيا ليدرسوا نحو خمس سنوات، وعادوا يحملون أعلى الدرجات، ثم كان مصيرهم بعد العودة الإهمال جميعا. فيما كانوا هم قد ظنوا أن بلدهم ستلقاهم فتحسن لقاهم وتضعهم حيث ينبغي أن يوضعوا، وتنتفع بهم كما يجب أن ينتفع الوطن الرشيد بأبنائه الذين علمهم فأحسن تعليمهم، وانفق في هذا التعليم ما شاء من الجهد والمال، وعقد بهم ما شاء الله من الأمل والرجاء. مشكلة مثل هذه سنجدها شائعة اليوم في كافة بلداننا العربية، بما فيها بلدنا البحرين، وخلال رقادي في مستشفى السلمانية منذ أسابيع قليلة سمعت حكايات كثيرة عن كفاءات بحرينية من الأطباء بدرجات علمية عالية، وعمل بعضهم في مستشفيات مرموقة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وحين عادوا للوطن لم يجدوا سوى الجحود والإهمال، فاضطر بعضهم للعودة أدراجه أو الهجرة لبلدان خليجية للعمل، فنالوا هناك من التقدير ما هم أهل له. يضاف إلى ذلك مشاكل كبرى من نوع نقص الحريات الأكاديمية التي حولت جامعاتنا إلى ما يشبه المدارس التي تدار من مدراء صارمين يرهبون التلاميذ بعصاهم الطويلة، بدل أن تكون صروحا للبحث العلمي والدراسة والجدل، الذي يؤسس لمدارس واتجاهات فكرية وثقافية على نحو ما نعرفه في الجامعات الأجنبية العريقة، التي كثيرا ما تكون بمثابة المصهر الفكري والأكاديمي الذي يثري المعرفة ويولد الوعي بالمشكلات الكبرى ويساعد على تشخيصها وتأصيلها معرفيا.
صحيفة الايام
18 اغسطس 2008
أين تقع جامعتنا؟
أدخنة وغبار أغسطس
ربما لا يتذكر الاطفال الذين ولدوا قبل الغزو واثنائه وبعده مرارة تلك الشهور العصيبة »شعور الانسان انه لاجئ« وبأن الوطن صار في حضن الشيطان ودباباته المتغطرسة ورجاله، وهم يجوبون شوارع الكويت وضواحيها، بعد ان امتلأت السماء بغبار الكراهية وانتشر دخان الموت في كل زاوية من زوايا البيت الكويتي. في تلك الايام القصيرة من ايام اعلان نبأ الغزو واحتلال صدام للكويت، كان علينا نحن الذين نتجرع في المنافي كؤوس مرارة حرمان عودتنا للوطن ومنعنا ملامسة ترابه، حوارا ساخنا حول تراجيدية الكويت. ذلك الشعور المركب من الحنين والحسرة لدى الفرد فينا بات مضاعفا، فقد صار وطنه قطعة من الشطرنج يعبث بها الاقوياء ويحدد لها خطوطها الجغرافية ويرسم لها لونها فوق الخارطة كيفما يشاء.
في صيف اغسطس كان الامتحان العربي اصعب وتخبط الشارع السياسي اصيب بلوثة في الدماغ، خاصة وان شريحة واسعة من النخب لعبت دورا كبيرا في تضليل الرأي العام تحت شعار »الاغنياء والفقراء« فتم شطب مفردة الوطن وحق الشعوب في تقرير المصير من القاموس السياسي، وبأن الدبابات ليست معنية بقرار الوطن والشعب في تحديد خياراته وحريته. ما فعلته الاقلام العربية ونخبها من تشويه وتعمية يوم ذاك، ساهمت في لعبة التمزيق والتشتت، فانقسمت ليست الدول في رؤيتها لمشهد واضح لا يمكن التسويف فيه وحسب، بل وانعكست تلك الضلالات والبهتان في ضمير الانسان والمواطن العربي العادي، فلم ير في جغرافية الوطن والشعب الا مفردة مضخمة قد ترضي بؤس وحماس الكثيرين ولكنها لا تعالج الحقيقة، ولا تجد حلولا لأسئلة الاطفال الذين وجدوا انفسهم خارج الوطن ولم يفهموا يوم ذاك – مثل كبارهم – معنى حقيقيا لمفردة الاغنياء والفقراء لشعب ووطن واحد.
من هم الذين لعبوا بالجمل الثورية الرنانة وتعاطوا مع جمل الحقد والكراهية تعلموا بعد شهور من اخراج المحتل خطاب جديد في قاموس السياسة، تعلموا ان للشعوب حقها الثابت والدائم في تقرير مصيرها مهما اختلفت الانظمة وتعددت الحكومات والاحزاب والمجتمعات المدنية، فالشعوب مفردة مطلقة ونسبية وحقيقية لا يمكن تجزئتها لحظة الازمات والتراجيديا، فهناك مشهد واحد ومسرح وستارة واحدة ونص واحد اسمه مأساة شعب بلا وطن في لحظة تاريخية وكارثية! الذين حاولوا الاصطياد يومذاك في الماء العكر اكتشفوا بعد شهور من هزيمة المحتل وعودة الشعب إلى وطنه، ان معمار الوطن ليست تلك الثروة والعمارات الشاهقة ولا المؤسسات اللامعة، وانما ارث تاريخي ومشاعر متجذرة في وجدان الانسان، ربما لا يشعر به وهو في داخل الوطن ولا في لحظة الاسترخاء والانتشاء والاختطاف المادي، وانما يشعر به عندما تهبط فوق رأسه اصوات الجحيم القادمة من الغزو، يومها لا يصبح للوطن قياسات الهدوء السلمي ومعاييره ولا تفسيرات عمياء ميكانيكية بليدة، وانما قراءة حسية للألم والمعاناة، فالجميع بات كسفينة نوح ورهط موسى الهارب من طغاة الفراعنة. كان علينا نحن الابعد عن مشاعر الشوفينية والكراهية ان نناقش عند شواطئ قبرص الصيفية بروح هادئة.
ان ما يحدث في الكويت ليس صراعا بين الاغنياء والفقراء، او لذة الشهوة في الانتقام من بلد نفطي صغير يعيش الهدوء والنعمة، وانما حالة وظاهرة لواقع عربي مرير وممزق لا يرفع الا شعارات براقة نحو الوحدة والدفاع عن شرف الأمة العربية وكرامتها من الاعداء!! الغزو يعلمنا مثلما علّم طابور من الشباب ماذا يعني هيمنة الدكتاتور على قرار الحرب والسلم وعلى شعوره بتملك القوة والسطوة العسكرية في بلد شاسع ضد بلد صغير مسالم وشقيق. فلماذا ضاعت المشاعر العربية وانقسمت يومذاك تحت مظلة الاوهام والتزييف؟ ودفعت بالشارع العربي نحو الانقسام والهروب من بؤسه وشقائه الداخلي نحو واقع آخر اكثر رخاء وبحبوحة.
بتلك التفسيرات العاجلة مارست اقلام النخبة تحليلاتها النظرية متناسية سؤالا مهما لحظة الغزو »ماذا يعني مصير شعب ووطن«؟ كلها بدت لهم ثورية عابثة وشعارات مفرطة بلغت حد الجنوب والتطرف. لقد دفع المواطن العربي يومذاك مرارة التخبط بسبب ما رفعه الزعماء والنخب من افكار عدوانية ضللت الناس وفقراء الدول العربية، لعلها – تلك التحليلات – تحيل معاناتهم وكراهيتهم المحلية إلى كراهية قومية بكل جدارة! وبدلا من تعميق حالة التضامن العربي من الخليج إلى المحيط، انظمة وشعوب ازاء حالة واضحة هو الاحتلال والغزو وجدنا انفسنا ضحايا التطرف القومي والانهيار وبرفض كل مشروع عربي حالم.
فهل نحن كنا مخطئين عندما قمنا بتفسير ظواهر ذات طبيعة اشكالية ومفارقات نحو مفاهيم متحركة في علم السياسة كمقولة التحرير والغزو. ربما الدرس التاريخي في الكويت يستعيده العراقيون في زمن آخر، فقد رحل الطاغية مهزوما ليس من الكويت وحسب وانما من الوجود دفعة واحدة.
صحيفة الايام
18 اغسطس 2008
ورقة المنبر التقدمي حول الحقوق والحريات السياسية في مملكة البحرين في الندوة الجماهيرية للجمعيات السياسية بمناسبة ذكرى الاستقلال 14 أغسطس 2008
ورقة المنبر التقدمي
حول الحقوق والحريات السياسية في مملكة البحرين
في الندوة الجماهيرية للجمعيات السياسية
بمناسبة ذكرى الاستقلال
14 أغسطس 2008
قدمها المحامي حميد الملا
عضو اللجنة المركزية للمنبر
يسجل التاريخ السياسي للبحرين أن القوى السياسية قد لعبت دورا بارزا ومؤثرا في نسبة التصويت الكبيرة التي حصل عليها ميثاق العمل الوطني ، وإنه على الرغم من تفاوت الاجتهادات السياسية لهذه القوى في البرامج وآليات العمل ، وفي طريقة المحافظة على المكاسب التي تحققت ، وفي أسلوب إدارة الحراك السياسي مع الدولة ، إلا إنها ومعها الغالبية العظمى من شعب البحرين تتفق على رؤية محددة لطبيعة النظام السياسي وهي كما جاءت في الميثاق نظام ملكي وراثي دستوري وديمقراطي ، لكنه في ذات الوقت يرسي هيكلا متوازنا يؤكد ابات دورية ونزيهة ، ويكفل حرية التعبير وحرية تشكيل الأحزاب السياسية ، والتداول السلمي للسلطة ، ويقوم على مبادىء العدالة الاجتماعية والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة في ظل دستور يؤمن سيادة القانون واستقلال السلطة القضائية ، والالتزام بمبادىء وأهداف الأمم المتحدة والمواثيق والاتفاقات الدولية.
وبهذا المعنى يكون ميثاق العمل الوطني بما نص عليه من مبادىء قد وضع حجر الأساس لتكريس واقع جديد نحو إقامة النظام الدستوري الديمقراطي ، وإقامة دولة القانون ، غير أن ما قامت به السلطة التنفيذية من إجراءات تلت أقرار الميثاق قد قوضت هذا الأساس الذي وضعه الميثاق ، أبرزها قيام هذه السلطة بإصدار حزمة المراسيم بقوانين خلال الفترة من صدور دستور 2002 في 14/2/2002 حتى تاريخ انعقاد أول جلسات المجلس الوطني في 14 /12 / 2002 ، و التي وصل عددها إلى اثنين وخمسين مرسوما بقانون. فبالإضافة إلى المراسيم بقوانين المتعلقة بالحقوق السياسية كان من أهم هذه المراسيم بقوانين تلك التي تنظم ، ديوان الرقابة المالية.، والمناقصات والمشتريات الحكومية، و الميزانية العامة ، وإنشاء المحكمة الدستورية ،و السلطة القضائية ،. الإجراءات الجنائية. وقد انتقصت هذه المراسيم بقوانين في معظمها من الحقوق والحريات العامة التي نص عليها ميثاق العمل الوطني بل نالت مما نص عليه الدستور الذي قوض هو ألآخر من الأسس والمبادىء التي نص عليها الميثاق بما أشتمل عليه من أحكام جديدة لا أصل لها لا في ميثاق العمل الوطني ولا في دستور 1973 ، قللت من الدور التشريعي والرقابي للمجلس المنتخب، ومنحت السلطة التنفيذية هيمنة واسعة على عمل السلطة التشريعي وقد سجل المنبر ملاحظاته في وثيقة الإصلاح الدستوري التي أصدرها خلال عقد المؤتمر الدستوري الأخير.، ولعل واقع الفصلين التشريعيين الحالي والمنصرم يكشفان كيف لعبت هذه الهيمنة في صدور قوانين من السلطة التشريعية تتعلق بأهم الحقوق السياسية أبرزها قانون الجمعيات السياسية ، وقانون التجمعات وقد سجل المنبر التقدمي والقوي السياسية ملاحظاته على هذين القانونين قبل إصدارهما وطرحت البديل الذي ينسجم مع الحد الادني لما نص عليه الميثاق والدستور والمواثيق الدولية بشأن حق تنظيم العمل السياسي وحق التجمع.
ويمكن لنا أن نجمل القيود التي نالت من أهم الحقوق والحريات السياسية منذ صدور الميثاق وحتى اللحظة فيما بلي :
1- حق الانتخاب والترشح وعيوب في النظام الانتخابي :
تعتبر الانتخابات الدورية والنزيهة الركيزة الأساسية لعملية التحول الديمقراطي وهي أحد أهم أشكال التمثيل السياسي ، وأهم آليات الديمقراطية التي تضمن اشتراك المواطنين في صنع وتحديد ملامح القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، ونظرا للأهمية التي تحتلها الانتخابات في حياة الدول ، ولما تنطوي عليها من حقوق يتعين أن تكون مكفولة ، فقد أكدت مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية على هذه الأهمية واعتبرت مشاركة المواطنين في إدارة الشؤون العامة لبلدانهم إحدى الركائز الأساسية لحقوق الإنسان، كما فى المادة ( 25 فقرة ب ) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وكما يؤكد القرار رقم 45 لسنة 1991 الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة علي على هذة الحقوق .و توجب المادة ( 7 ) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة على الدول الأطراف أن تتخذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في الحياة السياسية والعامة للبلد ، وبوجه خاص تكفل للمرأة ، على قدم المساواة مع الرجل ، الحق في التصويت في جميع الانتخابات والاستفتاءات العامة والأهلية لجميع الهيئات التي ينتخب أعضاؤها بالاقتراع العام .
وفي البحرين رغم مما يعترض المسيرة الإصلاحية من معوقات وتراجع ، إلا أنه من المجحف تجاهل المساحة النسبية من حرية التعبير وإبداء الرأي التي ترافقت مع بدء المسيرة الإصلاحية وما رافق ذلك من إجراء انتخابات بلدية ونيابية بعد غياب استمر لأكثر من ربع قرن ، وهي خطوة رغم ما يعتريها من نواقص في التشريع وفي التطبيق ، إلا إنها تأتي في اتجاه إرساء مبدأ سيادة القانون ، وتفعيل ما نص عليه الدستور من حق المواطنين في المشاركة في الشئون العامة والتمتع بالحقوق السياسية بدء بحق الانتخاب .
إلا انه يمكن القول في هذا الإطار انه بدون انتخابات حرة ونزيهة ، تضمن تمثيلا سياسيا يكون بمقدور الأفراد من اختيار ممثليهم بإرادة حرة ، وتضمن مشاركة شعبية تستقطب المواطنين إلى دائرة الفعل الاجتماعي والسياسي ، وتحافظ على وحدة المجتمع وأمنه وسلامه الداخلي ، وبدون تفعيل أحكام الدستور وعلى وجه خاص الأحكام المتعلقة بالحريات والحقوق العامة تفعيلا لا ينال من جوهرها ، وبدون احترام ما نصت عليه الاتفاقات والمواثيق الدولية ، فان الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي في البحرين يصبح لغوا لا معنى له ، يفقد الانتخابات مصداقيتها ودورها كركيزة أساسية لهذا التحول .
وقد نال من العملية الانتخابية في البحرين صدور المرسوم بقانون مباشرة الحقوق السياسية الذي اشتمل على أحكام قوضت حق المواطنين في الانتخاب والترشح فضلا عن قيام الدولة بتحديد وتوزيع الدوائر الانتخابية على خلاف ما كان معمولا به في ظل دستور 1973 إذ لا تضع المذكرة التفسيرية لدستور 2002 تفسيرا يفسر خلو الدستور الجديد من النص على حق المجلس المنتخب في تحديد الدوائر الانتخابية وأن تجاهل المشرع الدستوري لهذا النص شكل انتقاصا واعتداء على حق دستوري مكتسب يتعين أن يكون من اختصاص ممثلي الأمة .
وأن سكوت الدستور الجديد عن تعيين السلطة المختصة في تحديد الدوائر الانتخابية لا يعني إنه قد أباح للسلطة التنفيذية هذا الاختصاص بأداة لا تلزم من استعملها بضرورة عرضها على مجلس النواب ، فدوائر الانتخابات النيابية تحدد بمرسوم من جلالة الملك ، والبلدية بموجب قرار من رئيس الوزراء ، وقد كشف الواقع كيف استخدمت السلطة التنفيذية هذه الأدوات في توزيع غير عادل للدوائر الانتخابية طغى عليها الاصطفاف الطائفي .
أن المنبر التقدمي يؤكد في هذا الشأن على أهمية النص على حق السلطة التشريعية في تحديد الدوائر الانتخابية بموجب قانون يضع نظام انتخابي عادل وديمقراطي يضمن توزيعا عادلا ومتساويا للدوائر الانتخابية ويمثل كل قوى المجتمع وطوائفه المختلفة .
وقد أوصت الحلقة الحوارية التي أقامها المنبر التقدمي حول ( إصلاح النظام الانتخابي في البحرين ) بضرورة وجود نظام انتخابي عادل وديمقراطي في مملكة البحرين ، وان يعاد النظر في مجمل القوانين التي تنظم العملية الانتخابية ، واقترح بهذا الصدد تقليص عدد الدوائر الانتخابية إلى عشر دوائر انتخابية بحيث يتم توزيعها توزيعا عادلا من حيث الكثافة السكانية بعيدا عن التوزيع الطائفي ، وقد حدد الاقتراح هذه الدوائر بالتفصيل نشرته صحيفة الوسط في حينها ، وندعو كافة القوي السياسية إلى تفعيله وطرحه على البرلمان لمناقشه .
2- الحق في التنظيم وحرية العمل السياسي :
على الرغم أن ميثاق العمل الوطني والدستور قد نصا بوضوح على أن ( حرية تكوين الجمعيات والنقابات ، على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية مكفولة وفقا للشروط والأوضاع التي يبنها القانون .. ) ، وعلى الرغم المواثيق الدولية وعلى وجه خاص العهد الدولي بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه مملكة البحرين قد نصت صراحة على ضرورة ضمان هذا الحق دون قيود إلا أن القانون الذي نظم حق وحرية العمل السياسي ، وهو قانون الجمعيات السياسية الذي شرع لتنظيم عمل الجمعيات السياسية في مملكة البحرين والصادر عن السلطة التشريعية في 22 يوليو 2005 من الفصل التشريعي المنصرم ، والمفترض فيه بأنه ينظم واحدة من أهم الخطوات الإجرائية في عملية التحول الديمقراطي ، هي التعددية الحزبية ، قد وضع قيودا على العمل السياسي وعلى حرية ممارسته ، أهمها أنه اشتمل على أسم يتعارض مع المضمون وتعريف ناقص للتنظيم السياسي وتجاهل حق التنظيم السياسي في عقد اجتماعاته دون تدخل من السلطة :ويتجاهل حقه في إصدار الصحف بدون ترخيص وينال من حرية التأسيس ويتوسع ويتعسف في حالات إيقاف نشاط التنظيم وحله: ، ويقيد حرية اتصال التنظيم بالخارج ، وحرم فئة الشباب من الانضمام للتنظيم السياسي ، وبالغ في الرقابة المالية ، واشتملت القرارات الوزارية الصادرة تنفيذا لهذا القانون على رقابة وزارية صارمة خاصة عن توفيق أوضاع بعد صدوره . وقد أوضح المنبر التقدمي هذه القيود بالتفصيل في ورقته بعنوان ( ما مدى حُرية التنظيم السياسي في قانون الجمعيات السياسية رقم (26 ) لسنة 2005 !!) والمقدمة في مؤتمر الحوار الوطني الأول الذي انعقد في 26 يناير 2006 ، ويمكن الرجوع إليها من خلال نشرتنا التقدمي ، أو عبر الموقع الالكتروني .
3 – الحق في التجمع السلمي
على الرغم أن الحق في التجمع السلمي معناه قدرة المواطنين على الالتقاء بشكل جماعي بهدف عقد الاجتماعات العامة أو المؤتمرات أو المسيرات والمظاهرات والاعتصامات السلمية في أي مكان وزمان ، مهما كانت الجهة المنظمة لها، وذلك لتبادل الرأي أو لبلورة المواقف ، أو للتعبير عن آرائهم بالخطابة أو المناقشة تجاه قضية أو قضايا مختلفة تهمهم ، وهو امتداد للحق فى حرية التعبير ، وجزءً لا يتجزأ منه ، وهو إحدى الطرق المشروعة للتعبير عن الرأي لممارسة ضغطا على السلطة التنفيذية بهدف التعبير عن مواقفهم وتحقيق مطالبهم ، إلا ان هذا الحق شأنه شأن بقية الحقوق لا يعد حقا مطلقا بل هو نسبي ، يجب ان يمارس دون انتهاك لحقوق وحريات باقي المواطنين ، وان يكون طابعه سلميا ، بدون الاعتداء على الممتلكات العامة أو الخاصة ، أو الدعوة إلى الكراهية أو رفع شعارات ترسخ وتعزز الطائفية أو أي شكل من أشكال التفرقة .
وعلى الرغم من أن المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان قد نصت على حق التجمع السلمي ، وفي المقدمة منها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية كما فى المادة ( 21 )
.وعلى الرغم أن دستور مملكة البحرين جاء متماشيا مع ما نصت عليه المعايير الدولية إذ نصت المادة (28 ) منه على انه : ( أ- للأفراد حق الاجتماع الخاص دون حاجة إلى إذن أو إخطار سابق ، ولا يجوز لأحد من قوات الأمن العام حضور اجتماعاتهم الخاصة . ب- الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون على أن تكون أغراض الاجتماع ووسائله سلمية ولا تنافى الآداب العامة ) . ويتبين من هذا النص الدستوري أن الأساس الذي يقوم عليه الحق في التجمع السلمي هو إباحة عقد الاجتماعات ، وعدم وضع القيود عليها سوى تلك التي ينص عليها القانون ، دون أن ينال هذا القانون من جوهر هذا الحق حسبا تقضي به المادة (31) من الدستور ، وان تكون أغراض ووسائل هذه الاجتماعات سلمية و لا تنافي الآداب العامة .
على الرغم من كل ذلك فأن التعديلات التي صدرت عن السلطة التشريعية في الفصل التشريعي الأول على المرسوم بقانون رقم (18) لسنة 1973 ، المعمول به منذ 5 سبتمبر 1973 ، بشأن الاجتماعات العامة والمواكب ( المسيرات ) والتجمعات قد جاءت غير منسجمة مع فهموم الحق في التجمع السلمي ، بل وتتعارض مع أحكام الدستور وعلى وجه التحديد حكم المادتين ( 28 ، 31 ) . ومع المعايير الدولية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
وقدم المنبر التقدمي حينها ملاحظاته على هذه التعديلات وسلمها لمجلس النواب ونشرتها مشكورة صحيفة الوسط ، أبرزها أن هذه التعديلات تعطى رئيس الأمن العام أن يمنع التجمع السلمي قبل عقده وأن يحدد مفهوم الاجتماع العام وفي ذلك أوضحنا أن النص على إقامة التجمع السلمي بالإخطار دون موافقة مسبقة يفقد أهميته حين نرى بان التعديلات قد أبقت على الفقرة الأولى من المادة (4) والتي تقضي بحق رئيس الأمن العام أن يمنع اجتماعا عاما تم الإخطار عنه – وهو ما ينطبق على التجمع والمسيرة والمظاهرة – إذا كان من شأنه الإخلال بالأمن أو النظام العام ، أو حسن الآداب ، أو بسبب الغاية منه ، أو بسبب ظروف الزمان والمكان الملابسة له أو لأي سبب خطير غير ذلك . ويتضح من النص المدى الواسع التي يجوز فيه لرئيس الأمن العام منع أي تجمع سلمي قبل إقامته وان تم الإخطار عنه ، وهو ما يعنى أن الحق في إقامة التجمع السلمي دون موافقة مسبقة لا قيمة له، فاقد المحتوى ، إذ يستطيع رئيس الأمن العام وفقا لهذا النص ان يقرر مثلا بان التجمع مخلا بالأمن قبل إقامته ، ويفتح الباب له واسعا لاستخدام حالات المنع المنصوص عليها حسب تفسيره و رأيه ومزاجه ، خاصة وان النص لا يشتمل على تحديد واضح للمقصود بالأمن أو النظام العام ، ويحتوي على مفردات تتصف بالضبابية والغموض و تحتمل أكثر من تفسير وتأويل . كظرف الزمان والمكان ، والسبب الخطير.
شكرا لأصغائكم والسلام عليكم
… وأين الحوار الوطني؟
لقد أخطأ النظام عندما مد بشتى السبل إلى تقوية وتعظيم مواقع قوة ونفوذ مجاميع التيار الإسلامي السني لموازنة قوة التيار الإسلامي الشيعي. فلقد أنتجت هذه السياسة الخرقاء احتقانا طائفيا خطيرا وصل إلى ذروته في الآونة الأخيرة ما اضطر النظام للتدخل العاجل لمحاولة نزع فتيل الأزمة التي أضرم نيرانها بيديه.
ومرة أخرى يخطئ النظام إذ يحاول استمالة الطرفين الطائفيين المتواجهين وتجسير العلاقة المتنافرة بينهما بهدف الاستقواء بهما ضد الأصوات والدعوات المتوالية من الداخل ومن المنظمات الحقوقية الدولية بالالتزام بدولة القانون وصيانة الحريات ومكافحة الفساد المستشري في مراتب السلطة المختلفة وصيانة مكتسبات الدولة المدنية الحديثة التي حققها الشعب البحريني على مدى العقود الخمسة الأخيرة.
فهذه القوى الطائفية التي يحاول النظام إدماجها في برامج سياساته ومناوراته لا تتمتع، خارج بيئتها المذهبية الطائفية، بعمق وطني جامع، ولا تتوفر على مصداقية سياسية يعتد بها لأنها مخلصة فقط لأجنداتها الخاصة المتمثلة في التسلل إلى مواقع السلطة والعمل بشتى الوسائل والسبل على إنتاج ونشر رموز دولتها الدينية في فاصل ناشز كل واحد منها يغني على ليلاه المذهبية الطائفية.
وفي ظل حالة الاستقواء هذه السائدة بين النظام والقوى الدينية الطائفية، فمن الطبيعي أن تلقى الدعوات لإطلاق حوار وطني عميق لا يستثني أحدا، صدودا من الطرفين!
ملابسات محبِطة في كارثة العبّارة “السلام 89”
على نحو غير متوقع جاء الحكم الذي أصدرته محكمة ‘سفاجا’ بمصر في قضية العبّارة ‘السلام ’98 التي غرقت في العام 1998 وهي في طريقها من ميناء جدة السعودي إلى ميناء خفاجا المصري وراح ضحيتها ألف و34 قتيلاً و386 مصاباً معظمهم من العمال المصريين العائدين لزيارة أهاليهم في مصر.
فلقد برأت المحكمة ساحة خمسة متهمين بمن فيهم مالك العبّارة رئيس مجلس إدارة شركة السلام للنقل البحري ممدوح إسماعيل ونجله عمرو نائب رئيس الشركة، من تهمتي القتل والإصابة الخطأ.
فيما قررت المحكمة حبس قبطان العبّارة سانت كاترين ستة أشهر وتغريمه 10 آلاف جنيه مصري بإسناد تهمة التقاعس عن التوجه لمكان غرق العبّارة لإنقاذ الضحايا.
الصدمة طبعاً كانت كبيرة، سواء بالنسبة للمتهم الأول والثاني أو بالنسبة لذوي الضحايا ومن خلفهم زمرة الحقوقيين والقانونيين والمنتمين لسلك القضاء النزيه.
إذ جاء الحكم على خلاف التوقعات المبنية على القرائن الكثيرة التي حفل بها ملف الدعوى، وجاءت حيثياته التي صدرت في 26 صفحة فقط، أن المحكمة لم تطمئن لقرائن النيابة بأن المتهمين تقاعسوا عن إنقاذ الضحايا بإرسال عبّارتين أخريين إلى عرض البحر الأحمر.
أما عن قرائن عدم سلامة وصلاحية العبّارة المنكوبة عند إبحارها من ميناء ضبا السعودي لميناء سفاجا المصري، فإن المحكمة قابلتها باطمئنانها لسلامة العبّارة.
وعلى ذلك، كان لابد للمتهم الأول في القضية من أن يطير فرحاً ويهلل لمنطوق الحكم الصادر في الدعوى وهو الذي فر هارباً عقب الكارثة إلى بريطانيا في مارس (آذار) ,2006 وتحديداً مع انعقاد أول اجتماع للجنة تقصي الحقائق التي شكلها البرلمان المصري للتحقيق في الكارثة الذي توّج بإصدار أمر قضائي بإلقاء القبض عليه بواسطة الشرطة الدولية ‘الانتربول’، ورفع حصانته البرلمانية التي يتمتع بها كعضو مجلس شورى معين وتجميد أصوله المالية. ولم يعد إلى مصر منذ ذلك الحين.
في المقابل، كان لابد لأهالي الضحايا والمعنيين من تطبيق حكم القانون وإحقاق العدالة أن تعقد لسانهم الدهشة مما انتهى إليه حكم المحكمة الابتدائية من التفات عن وقائع وبيِّنات الدعوى كافة وعدم الاعتداد بها وهي:
- تقرير لجنة التحقيق التي شكلها مجلس الشعب للتحقيق في الحادث، الذي قال بشأنه عضو المجلس حمدي الطحان إن السفينة لم تكن مطابقة للمعايير.
- امتناع المحكمة عن سماع شهود الإثبات في الدعوى.
- الإتيان بشهود نفي مطعون في ذمتهم بناءً على سجل تعرضهم لإجراءات تأديبية بحسب رأي مصطفى بكري عضو مجلس الشعب.
- مسارعة صاحب العبّارة (المتهم الأول في الدعوى) لتقديم عرض بتعويض أهالي الضحايا بأكثر من 300 مليون جنيه قبل توجيه التهمة إليه بالمسؤولية عن الكارثة وهربه فيما بعد.
- إفادة الشركة الوطنية للملاحة البحرية بأنها أرسلت إخطاراً إلى مركز البحث والإنقاذ طلباً للنجدة إلا أنه لم يتحرك في الوقت المحدد، بما يشي بتحقق المسؤولية التقصيرية (وهذا الاتهام ساقه النائب العام السابق المسؤول عن ملف القضية قبل أن يتم تحويلها إلى نائب عام آخر. وبالمناسبة فقد تناوب على نظر هذه الدعوى ثلاثة قضاة).
هذه الوقائع والبيِّنات وحدها لا تكفي بالتأكيد لنقض حكم محكمة الدرجة الأولى الذي طعن عليه بالاستئناف النائب العام في يوم صدوره نفسه، ولكنها تنطوي على ما يشي بوجود عيب في الحكم ناتج إما عن قصور في أداء الادعاء العام في تقديم كل ما يعزز ادعائه على المدعى عليهم (المتهمين) أو عن تسرع وارتجال المحكمة في تأسيس حكمها مستوفياً لجميع الوقائع والأسانيد التي وضعها الادعاء بحوزتها.
وهذه من الأمور الاعتيادية المتكررة الحدوث في أحكام الدرجة الأولى، ولهذا السبب أنشئت محاكم الاستئناف والنقض أو التمييز لتصحيح وتصويب الأحكام الخاطئة، فهي إما أن تؤيد الحكم المستأنف أو ترفضه بتسبيب جديد.
ذلك بشكل عام وفي الظروف الاعتيادية، بيد أن القضية المنظورة أمام القضاء المصري والتي نحن بصدد مناقشتها، ليست من الدعاوى الاعتيادية الجاري نظرها وفق قواعد وإجراءات التقاضي والترافع الاعتيادية، ولا هي من جنس القضايا المرتبطة الحدوث بالظروف الاعتيادية السارية. إنها دعوى غير اعتيادية، كما إنها تتعلق بظرف استثنائي بالغ الفداحة والحساسية، لأنها تتصل بإزهاق أرواح أكثر من ألف نفس بريئة بسبب عدم التقيد بأنظمة وقواعد سلامة النقل البحري وبسبب تقصير أكيد في توفير أدوات ووسائل النجاة وتدابير الإنقاذ.
وهذه أسباب كافية لأن تتعامل المحكمة التي نظرت الدعوى المتعلقة بهذه الكارثة بناءً على وقائعها الظرفية الاستثنائية، وهو ما لم يتوفر في محصلة حيثيات الحكم الصادر فيها للأسف الشديد.
وهذا بطبيعة الحال، ليس مؤشراً جيداً بالنسبة للتقدم المفترض إحرازه على صعيد مؤشرات الشفافية، ومنها خصوصاً مؤشر مدى الالتزام بتطبيق مبدأ ‘حكم القانون’ الذي صارت المؤسسات الدولية تحرص على تفصيل بيانه دورياً بالنسبة لدول العالم كافة لتقديم خدمة معلوماتية للمستثمرين الدوليين عن حال الأمان الاقتصادي السائد فيها.
ليس هذا وحسب، بل الأهم من ذلك نيل درجة رضا معقولة من عموم الجمهور الذي لا تنقصه المحبطات والمثبطات وعوامل تكثف وتراكم السخط والغضب، الكامن والسافر منهما.
ثم إن التعامل بجدية في مثل هذه القضايا الحقوقية والإنسانية الكبرى وإحقاق العدالة فيها، من معايير إثبات الصدقية والانتماء لعالم القرن الحادي والعشرين ومدنيته.
صحيفة الوطن
16 اغسطس 2008
البترول رأس مال العرب (11)
إن التناقضَ في (البضاعة) البترولية بين المضمون الإقطاعي والشكل الرأسمالي هو تناقضٌ محوري، فقد رأينا كيفية تكوين الأساس السياسي لإنتاج هذه البضاعة، ولكن هذا التناقض يمتدُ في كل الظاهرات التي تتالى مع عمليات الإنتاج. فهناك الحكمُ التقليدي الذي يسيطرُ على مكان إنتاج البضاعة، لكنه لا يسيطرُ على أمكنةِ نقلِها وتداولها، فالبقعةُ التي توجدُ فيها هذه البضاعة تكون عادةً صحراوية، مقفرةً من البشر، وبالتالي فإن مصفاةَ التكرير أو معملَ التكرير بحاجةٍ إلى قوى عاملة، تـُستقدمُ من أمكنةٍ أخرى قد تكون مدناً أو قرى. وبهذا فإن جلبَ العمالة من تلك الأمكنة المحددة يخضعُ كما يُفترضُ من الحكومةِ التي أعطتْ الامتيازَ، ولكن الحالَ لا يكونُ كذلك، فقد غدت الشركةُ أشبه بحكومة، فهي التي تقررُ أحوالَ المكان النفطي، سواء بتحويلِ الصحراء إلى مدينة ، أو بتغيير البلدة إلى مدينة، وتحديد أنواع السكان وطوائفهم وحرفهم وأعمارهم التي سوف تكونُ مشمولةً بالرعاية السامية للشركة.
إن الحكومةَ العربيةَ التقليدية التي أعطتْ الامتيازَ تتنحى من المسرح الاقتصادي تاركةً الشركة البريطانية أو الأمريكية أو الفرنسية أو الهولندية تسيطرُ عليه، فتتحول الشركةُ إلى حكومة إقطاعية مصغرة. فهي التي تقومُ بتلك القرارات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة النفطية وما جاورها، من تحديد المدن والقرى المسموح لها بالبقاء أو بالزوال، وأي فئات ستكونُ مشمولةً بالرعاية من لدن سموها، وأي الفئات ستكون محرومةً من ذلك العطف. وهذه القراراتُ السياسيةُ والاجتماعية ستكون قادمةً من مركز الشركة، بعد التدوال بشأنِها مع الفرع، فيغدو مركزُ القرار قادماً من تلك المدن البعيدة القابعة في الغرب، التي لن تتأثر بجو الديمقراطية الواسع في مكانها، أو بمستوى الحضارة الرفيع، بل ستعملُ على أن تكون جزءًا دائماً قوياً في تلك البقعة البدوية، وصحيح أنها سوف تستخدمُ مختلفَ ابتكارات العلوم والتقدم التقنية فيه، إلا أنها فيما يتعلق بالقراراتِ الاقتصادية الاجتماعية الخاصة بمادةِ إنتاجها، بالبضاعة النفطية، فإنها ستكون مماثلةً للحكومة الإقطاعية الشرقية، زميلتها في الشراكة وفي عملية الإنتاج. فما دامت الحكومة سنية فسوف تعملُ على إرضاء هذه الطائفة السائدة في تلك الدولة، وإذا كانت شيعية فسوف ترضي الحكومةَ الشيعيةَ وغير هذا من المذاهب التي ستكون في بلد الإنتاج، أما علمانيتُها وحداثتُها فقد تركتها فيما وراء البحار، وستغدو سياستها الاقتصادية جزءًا من المكونات الاجتماعية السائدة يسوسها ويقودها الملكُ السيدُ وهو الربح. وإذا كانت ثمة صراعاتٌ وخلافات مذهبية وعرقية فسوف تـُوظفُ هذه الخلافات لبقائها، ولعدم انجرار العمال إلى الاضرابات، ولكن الأهم أن الشركة سوف تكون لها سياسة إقطاعية – رأسمالية، تعكسُ المضمونَ الإقطاعي المسيطر والشكلَ الرأسمالي التحديثي غير العميق. إنها ستعملُ على ترسيخ السلطة الوراثية القبلية والدينية، لأن مضمون الصحراء الفارغ من مدنٍ متطورة ومن أحزابٍ وبرلمانات عريقة كله غير موجود، ولو كان موجوداً لما كانت الشركة وامتيازاتها بهذا الجبروت، ولكنها من جهة أخرى ستعمل على عدم ظهور هذا المضمون الشرقي الديمقراطي المتطور الذي يزيلُها! ولهذا ستعملُ كلُ شركةٍ نفطية على أن تكون سيدة منطقتها وبلدها، فتقومُ بارتداءِ عباءةِ المكان الإقطاعية، مع إضفاءِ صبغةٍ تحديثية شكلية، تخفي بها ذلك المضمون المتواري. بل ان الشكلَ التحديثي هو ذاتهُ جزءٌ من العملية الاقتصادية الاستغلالية العميقة، فسوف تدعمُ الأجورَ والرواتبَ في مرحلةٍ لاحقة من مرحلة التأسيس المجدبة للسكان المحليين، خاصة بعد انهمار الأرباح الوفيرة وارتفاع أصواتهم احتجاجاً وإضراباً، لكن ستجعل تلك الدخول تعودُ إليها ثانيةً، أو إلى شركاتها الأخرى أو إلى المجموعات الرأسمالية الغربية الوطنية التي تنبثقُ منها، عبر جعل العمال والموظفين يشترون سلعها الانجليزية أو الأمريكية أو الفرنسية حسب جنسية تلك الشركة، اطراداً مع كثرة أرباح الدول النفطية، فتتالى الموديلاتُ المختلفة والسلعُ المتنوعة الغالية التي تزداد حضوراً وسيطرة، كعمليات استنزافية للأرباح النفطية التي لا تتجذر في بلدانها إنتاجاً. ولهذا فإن مواكبةَ البضائعِ والمصارفِ التابعة لدولتها سوف تكون مطردةً مع تنامي رفعها للأجور، سواءً بتدخيل الشغيلة أموالهم المحدودة في مصارف دولتها، أو شرائهم البضائع التابعة لجنسيتها أو للعالم الغربي والرأسمالي عموماً، وهذا يتدفقُ مع درجةٍ محددة من تطورِ الإعلان والحسابات المصرفية والعمارة المحلية والمناهج المدرسية والخدمات المتعددة. والقصدُ من ذلك كله هو تكونُ سوقٍ استهلاكية مربحة ولكنها في ذات الوقت غيرِ منتجة، تقعُ في قبضات هذه الشركات المختلفة التكون، العاملةِ على شفط ما بقي من الأجور، فيغدو المسكنُ المرفه والأثاث الغربي والبضائع المعمرة هي المكمل لعمل شركة النفط أي هي أشكالُ استعادةِ مبالغِ الأجور المدفوعة. إن هذا كله يكونُ متدرجاً تاريخياً ولا يحدثُ دفعةً واحدةً بسببِ تاريخيةِ وتدرجِ بيع البضاعة، فليست ظروفُ إنتاج البضاعة هي وحدها التي تقررُ المصائرَ الاقتصادية، بل كذلك بيع البضاعة في الأسواق، وهذا البيعُ مرتبطٌ بسلسلةٍ من العلاقات المعقدة، بين البائعين المشتركين المتناقضين، وهما البلدُ المنتجُ والشركةُ صاحبة الامتياز، وبينهما وبين الأسواق. ومن هنا فإن هذا النزاع الخفي، ووقوع البضاعة في أيد أخرى، ومجيء عمليات اقتصادية جديدة مغايرة لما سبق، كل هذا يكونُ تاريخياً مرتبطاً بشروط متعددة أغلبها مجهول ومعتمد على قدرية السوق، ومن هنا يزدهرُ الوعي الديني القدري غير العقلاني على ضفتي البائعين الشارين. لكن الجانب المسيطر الغربي سيقى المتحكم في العلاقة وثمارها وأسعارها لكونه المنتج الرأسمالي الحقيقي، حيث ان المثقاب النفطي الأول من اختراعه وإعادة إنتاج المشتقات تابعاً لجامعاته العلمية، وتوزيع المصانع البتروكيماوية الملوثة جزء من خطته لتحسين بيئته، فيغدو الرأسمالُ الأساسُ العالمي الغربي هو صانعُ الأرباح والشمس التي تدور حولها رساميل وطنية صغيرة متخلفة ملوثة بالاستهلاك والانحصار في المراحل كافة لتطور صناعة النفط.
صحيفة اخبار الخليج
16 اغسطس 2008
درويش.. شاعراً ومثقفاً وسياسياً (1)
على امتداد خمسة عقود ونيف من تاريخنا العربي المعاصر، وتحديداً منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي لم يسبق لأديب ومثقف موسوعي وسياسي عربي كبير راحل أن استحوذ على اهتمام منقطع النظير من قبل المثقفين والكتاب والسياسيين العرب على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية والدينية بعد رحيله كما استحوذه الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش، وذلك كما تجلى في سيل المداد الجارف الذي لما ينقطع على صفحات الصحف العربية بالتفجع على رحيله المباغت في سن مبكرة نسبياً وهو أوج عطائه (67 عاماً)، وفي رثائه والتذكير بكل مآثره الشعرية والثقافية والسياسية والانسانية. وعلى الرغم من مرور أسبوع على هذا الرحيل فمازالت الصحف العربية من الخليج إلى المحيط تفرد لهذه المناسبة الحزينة صفحات كاملة أو مساحات واسعة من الصفحات، حتى ان عدة صحف عربية رصينة منذ الأيام الأولى لرحيله الفاجع خصصت افتتاحياتها الرئيسية في الصفحة الأولى للحديث عن دلالات رحيله الفاجع، وانشغل ومازال ينشغل كتّاب الأعمدة السياسية والثقافية على السواء بهذا الحدث الجلل، وكذلك رسامو الكاريكاتير، ناهيك عن البرامج المتواصلة المخصصة لهذا الغرض في الفضائيات والمحطات الإذاعية. وحتى طائفة من كبار المبدعين العرب من شعراء وروائيين وفنانين ونقاد لم يسبق لهم أن تباروا على رثاء أديب عربي كما فعلوا ومازالوا مع الفقيد الراحل درويش، ولربما الاستثناء الوحيد الذي حظي بهذا الاحتفاء الرثائي الواسع النطاق الروائي الراحل المصري الكبير نجيب محفوظ، ومع ذلك فإن تأثر واهتمام النخبتين السياسية والثقافية المتواصل بدا أكبر مع وفاة محمود درويش هذه المرة وأشمل، إذ ثمة اجماع مدهش فلسطينيا وعربيا لافت للنظر في التعبير عن الألم والخسارة برحيل هذا الشاعر الفلسطيني الكبير. وحتى خصومه السياسيون أو الفكريون في التيار الإسلامي الفلسطيني، كحركتي حماس والجهاد، لم يشذوا عن هذا الاجماع الفلسطيني والعربي على الرغم من تحامل هذا التيار وعلى وجه الخصوص في لبنان على قصيدته «يوسف« التي غنّاها رفيقه الفنان مارسيل خليفة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا نال الشاعر العربي الفلسطيني الراحل محمود درويش كل هذا الاهتمام والاحتفاء الرثائي ما لم يحظ به أي مبدع عربي راحل آخر وذلك منذ لحظة إعلان وفاته والذي ومازال متواصلا إلى يومنا هذا حتى بعد تشييع جنازته؟ للوهلة الأولى فلعل أول ما يتبادر إلى الذهن أن ما وصل إليه الفقيد الراحل درويش من قمة إبداعية هي وراء كل هذه الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها درويش في وطنه فلسطين، وعلى امتداد الوطن العربي الكبير، ولاسيما أن هذه الشعبية الجارفة قد تعززت بفضل ما غنّاه صديقه الفنان اللبناني مارسيل خليفة، الذي حضر تشييع جنازته المهيبة، من قصائد وطنية عديدة له ذاع صيتها وشهرتها في كل الأقطار العربية. ولربما صح القول أيضاً إن شهرة وانتشار هذه الأغاني المارسيلية في البلاد العربية أكسبت الشاعر الفلسطيني بدورها شهرة وشعبية استثنائية، حيث يكاد درويش واحد من قلة من الشعراء العرب الذين يتهافت الجمهور العربي من كل حدب وصوب بالآلاف للوصول إلى حفلات أمسياته الشعرية أينما حل في أي مدينة عربية من المحيط إلى الخليج. كل ذلك صحيح إلا أنه يفسر جزءاً من الظاهرة. أما التفسير الآخر في اعتقادي فلأن الفلسطينيين والعرب عامة في هذه الأوقات التاريخية العصيبة الدقيقة تحديداً باتوا يتعلقون وينجرفون شعورياً أو لا شعورياً نحو أي رمز كبير يمثل نقاوة الضمير والشرف الفلسطيني والعربي للقضية الفلسطينية في عصر الارتداد الفلسطيني والعربي الكبيرين، عصر الاحباط والانحطاط والهزيمة الروحية السياسية والحضارية المتعاظمة التي لا مثيل لها في التاريخ العربي على امتداد كل عصوره، ولم يكن الشاعر الفلسطيني الفقيد محمود درويش سوى واحد من هذه الرموز القليلة القلة تجسد نقاوة الضمير والطهارة الثورية في عصر الارتداد الكبير، فما بالنا أن هذه النقاوة والطهارة قد اجتمعت في قلب شاعر مبدع كبير؟ وهل هناك أفضل من الشعراء الملتزمين في التعبير عن آلام شعوبهم؟ وما بالنا وقد عبّر درويش بشعره وبمواقفه وبقلمه السياسي في وحدة واحدة متآلفة لا تنفصم ولا تتجزأ عن هذا الالتزام؟ فلم يكن الفقيد درويش إذن مجرد شاعر أو مبدع كبير فقط، بل كان إلى ذلك مثقفا ومفكرا سياسيا كبيرا وإن لم يتخصص في الكتابة السياسية أو التنظير السياسي. ولولا لم يكن يمتلك قلماً سياسياً رشيقاً وبصيراً بالإضافة إلى قلمه الشعري لما أبدع في صياغة وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني الصادرة عن منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، ولما أبدع كذلك في كتابة البيان التاريخي المهم الذي ألقاه القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974، إن لم أكن مخطئاً في نسب كتابة هذا البيان إليه، وهو البيان الذي هز العالم، كما هو معروف ووضع القضية الفلسطينية على أطلس قضايا شعوب العالم المقهورة والمستعمرة وأثار حينها حنق الصهيونية وغضبها الشديد. ولولا لم يكن درويش مثقفاً موسوعياً كبيراً وليس مجرد شاعر فقط لما تمكن من أن يقود واحدة من أفضل المجلات الثقافية العربية الرائدة «الكرمل«. وللحديث بقية.
صحيفة اخبار الخليج
16 اغسطس 2008
عار الشامتين
في ندوةٍ بمجلس الدوي في المحرق، منذ شهور، تساءل الأستاذ جاسم مراد: هل قدمت التيارات الإسلامية فنانا أو شاعرا أو أديبا، قبل أن يعلق بما معناه، طالما كانت قائمة المحظورات والمحرمات لدى هذه التيارات بالاتساع الذي هي عليه ، فمن غير المنطقي أن تقدم أناساً موهوبين في الحقول التي أشار إليها. يمكن تعميم هذه الملاحظة النبيهة لأبي زياد بالقول إن الموهوبين أدباً أو شعراً أو فناً، حتى لو نشأوا في معاطف التيارات الإسلامية سرعان ما ينتهي بهم الأمر إلى التمرد عليها، حين تدفع بهم موهبتهم إلى آفاق جديدة من المعرفة، تكشف لهم محدودية هذه التيارات وضيق أفقها، ووقوفها، في أوجه كثيرة، على النقيض من السوية الإنسانية حين تجعل من الفن وما هو في حكمه عيباً أو حراماً. تذكرت قول الأستاذ جاسم مراد وأنا أطالع التعليقات التي نشرت على بعض المواقع الاليكترونية من منتسبي حركة حماس وغيرها من التنظيمات الإسلامية في البلدان العربية، بعد رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وهي تعليقات، فضلاً عن استهانتها بحرمة الموت والميت، تفضح خواء أصحابها وضحالة تفكيرهم، وافتقادهم ليس فقط للحساسية الثقافية والفنية وحدها، وإنما الحساسية الإنسانية. أكثر من ذلك تفضح هذه التعليقات طبيعة الورش التحريضية ضد كل ما هو تقدمي وأصيل وحضاري داخل تنظيماتهم، لأن هذا النوع من التفكير لا يأتي من الفراغ، إنما ينطلق من تربية حزبية تقيم تصوراً قائماً على نفي الآخر، فكرةً كان أو موقفاً أو رأياً. علينا تخيل فداحة الأمر حين نلحظ أن التعليقات المسيئة تأتي في حق شاعر ومناضل بوزن محمود درويش، هو بإجماع العالم قيمة شعرية وإنسانية كبرى، لا للفلسطينيين والعرب وحدهم، وإنما لكل عشاق الحرية والنور والحضارة والحياة في كل مكان. يحق لفلسطين وللفلسطينيين أن يفخروا ويتباهوا بأن بلادهم أنجبت محمود درويش الذي قدم فلسطين للعالم، بمقدار لا يقل أبدا، لا بل يفوق، ما قدمه المناضلون بالسلاح. وأظهر الفلسطينيون من مختلف الأعمار والمناطق الذين احتشدوا بمئات الآلاف وهو يودعون شاعرهم الكبير إلى مثواه الأخير في رام الله، شعورهم الفطري السوي تجاه شاعرهم الكبير، وقدموا أنفسهم في أروع صورة يمكن لشعب أن يقدم نفسه للعالم، كشعبٍ متحضر يقدر قيمة الإبداع، ويدرك ما الذي يمثله محمود درويش في وجدانه، هو الذي ارتقى بشعره وبقضية شعبه إلى مستوى النشيد الكوني المتسامي على التعصب والكراهية، والمنحاز بعمق وبرهافة إنسانية عالية لقيم التسامح والعدالة والتقدم والأخوة بين البشر في وجه صناع الحروب والاستبداد والعسف. وهذا يظهر إلى أي مدى تبدو تعليقات الانترنت المشار إليها خارجة على الروح السوية للبشر، وعلى هشاشة المشروع الذي يحمله كتبتها، الذين يتوهمون، كما هم في كل مكان، إن النضال لم يبدأ إلا معهم، مُسقطين بذلك التضحيات الجليلة لأجيال سبقتهم وتيارات أعرق منهم، يوم كان الإسلام السياسي لصيق السلطات وحليفها. النضال ضد الاحتلال هو معركة حضارية في المقام الأول، ولا يمكن لأمرئ يملك الجرأة للشماتة بموت محمود درويش أن يكون مناضلاً جاداً، فمعاداة الحضارة والثقافة هي سمة المستبدين لا المناضلين.
صحيفة الايام
16 اغسطس 2008
جمال البنا والموروثات السائدة
مجلة »الهلال« المصرية استضافت في عددها الصادر هذا الشهر المفكر جمال البنا، والحوار مع »البنا« كما يقول القائمون على هذه الندوة او هذا الحوار يحمل معنى خاصاً لان ضيف »الهلال« مفكر اثار بافكاره جدلاً واسعاً اصطدم بالسائد والموروث، ولكننا نعرف كيف وقع البعض في اسر الماضي واوهامه واحاطوه بقداسة غير حقيقية.. ويقولون ايضاً في هذا الحوار يلقي »البنا« بأحجاره في بحيرة راكدة منذ سنوات أملاً في ان تتسع دوائرها فتغري بالمشاركة حول كل ما يدور في العقل المصري والعربي.
وعندما يقول هذا المفكر »عصر العقل والحرية لابد ان يحكم« فهذه حقيقة انطلق منها في حواره مع الرؤى الماضوية وبالتالي كان اعتقاده الراسخ يتمثل في قوله »أي دعوة إلى الماضي مرفوضة مرفوضة بكل المعاني، عودة الانسان إلى الماضي، ضروري ان ينظر الانسان إلى المستقبل، اما ان يعود الانسان إلى الماضي فهذا كلام فارغ وخطأ ولا عليه ان يعود إلى بطن امه«.
ومن هنا تحدث »البنا« في هذه الندوة باسهاب عن السلف والسلفية خاصة عندما اجاب عن سؤال كيف نتجاوز ما يدعو إليه السلفيون قائلاً: إن السلف لم يلزمنا طالما لدينا القرآن وهم بشر ما كانت لهم عصمة وحصانة فيهم القصور الانساني، ووسيلة الثقافة محصورة في الكتاب المنسوخ باليد.
ويقول أيضاً: »عصر العقل هو عصر الحرية.. طول ما المسلمين رابطين اسلامهم بالاسلاف عمرهم ما حيتقدموا«.
وكان هذا المفكر صادقاً ويعي تماماً ان الافتاء في الفضائيات اصبح »بيزنس« وعلى هذا الاساس يعتقد ان صورة مفتي الفضائيات هي صورة من الضياع، صورة من التشتت، صورة من سيطرة المال.
وطالما »البنا« يتبنى منهجاً جديداً ورؤية جديدة واجتهاداً جديداً من الطبيعي ان يهاجمه البعض ولا سيما بعد صدور كتابه عن الحجاب الذي يقول عنه لا يشكل اولوية او مشكلة تستحق كل هذا الاهتمام.
ويدلل على هذا الاستنتاج او الاجتهاد بان كلمة حجاب لغويا وفي القرآن ليست زياً وان المرة الوحيدة التي ذكر فيها القرآن كلمة حجاب بالنسبة للمرأة كانت لزوجات الرسول »وان سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب«.
اما موقفه بالنسبة لحرية المرأة وهل لها حق النصف في المجتمع يقول: ان المرأة كالرجل.. انا مبدئي في هذا ان النساء شقائق الرجال«.
»البنا« الذي لم يكن قط اخوانياً ولا سلفياً لا يتردد في قراءة النص بما يحقق العدل، ولا يتردد ايضاً في اعلان موقفه، وملخص هذا الموقف يكمن في قوله: هذا شيء غريب، نحن نحارب طواحين الهواء مثل دون كيشوت.. حرية الفكر مقدسة ولا يمكن ان تتحكم في ضمائر الناس، لا تستطيع وحتى لو استطعت فهذا خطأ والحال لا يختلف بالنسبة لحرية الاعتقاد.
ومن بين الاسئلة الاساسية التي اجاب عليها بشفافية تامة سؤال لا يزال يمثل اشكالية وهو: تقرأ في الدستور ان دين الدولة الاسلام فهل للدولة دين؟
وعلى هذا الصعيد يرى ان دين الدولة هو خدمة شعبها اذا اريد ان يكون للدولة دين وهذا بالطبع ليس شرطاً لان الدولة شخصية اعتبارية.
واخيراً ان »البنا« الذي يثير الجدل والتأمل والنقد والاختلاف له من الاراء والافكار الواضحة والجريئة تجاه شؤون الدنيا والدين.
صحيفة الايام
16 اغسطس 2008
منابر لا تحتفي بالعقل!!
متى سيحتفي خطباء منابرنا في المساجد والمآتم بالعقل والوعي؟ متى ستتصل خطاباتهم بالواقع من منطلق تحليل عقلاني يدرك تفاصيل هذا الواقع وإشكالاته وأولويات العمل على تطوير آلياته الاجتماعية؟ متى ستظل هذه المنابر أسرى خطابات غالبًا ما تلامس العقل إلا من زاويته السطحية، بل أنها أحيانًا تخشى حتى الاقتراب منه؟ أليس الإسلام من كرم العقل وجعله مناط التكليف عند الإنسان والذي به فضله الله على كثير ممن خلق؟ أليس الإسلام هو من كرم العقل حين وجهه إلى النظر والتفكير في النفس والكون والآفاق وتأملها؟ أليس العقل هو بوابة الحوار مع الآخر وإن اختلفنا أو اختلف معنا أشد الاختلاف؟ هل العقل لا تكون له قيمة وأهمية إلا حين ينحرف عن جادة العقل؟ هل العقل يكمن في التغرير بالشباب وبالناس كافة من أجل الفوضى وإشعال الفتن وتكريس الطأفنة؟ لماذا يتجنب أهل المنابر الخوض في العقل والحديث عن الفلسفة وعدم الإصغاء للرؤى المتعددة من مختلف المذاهب والمشارب والأديان والاتجاهات الفكرية؟
ألم يوجهنا الإسلام إلى احترام العقل واستقلالية الذات وذلك بقوله عز وجل ‘وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون…’.
لماذا تجرد الخطب المنبرية في المساجد والمآتم من هذه المعاني العميقة للعقل والوعي؟ لماذا لايتم فيها مناقشة القضايا التي تجري في العالم، أو في واقعنا وبرؤية معاصرة وثاقبة تستوعب تغيرات العصر ومستجداته؟ ماذا تعني لدى هؤلاء الخطباء (أولوا الألباب) التي قصرها الله سبحانه وتعالى على أصحاب العقول؟ وكم مرة وردت في القرآن الكريم؟ أليس ذلك تذكير بأهميتها ودورها في الحياة؟
ألم يجعل الإسلام الدية كاملة في الاعتداء على العقل وتضييع منفعته؟ فكم عقلاً ضربناه بتقرير وإرهاب وتحريض دونما فطنة أو روية من أهل الخطبة في المنابر؟ مثل هؤلاء ألا يستحقون محاكمة على الإتيان بمثل هكذا أفعال؟
أعتقد أنه بات من الضرورة الوقوف مليًا عند من يستحق أن يعتلي هذا المنبر الذي اعتلاه أهل العقل والفطنة والفكر منذ عهد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن لا يستحق، وهذه مسؤولية تتحملها وزارة الشؤون الإسلامية، إذ الكثير ممن -معذرة- قصر وعيهم يعتلون هذا المنبر ويهذون بكلام مردوده وعواقبه على وخيمة ربما على المجتمع بأكمله، ذلك أن العقل راهن ومستقبل لأنه خلايا التفكير في الدماغ، فإن تلفت هذه الخلايا لدى بعض من يعتلون المنابر فتوقع ما لم يكن بالحسبان وقل على الدنيا السلام، خاصة إذا تركت الساحة في أيديهم، والله من وراء القصد.
صحيفة الوطن
14 اغسطس 2008