المنشور

كلمة «غص» بها الخاطر

ما نقوله هنا لا يُلمح لسيدة بعينها، بل هي كلمة يغص بها الخاطر منذ أمد طويل، منذ أن قررت دول الخليج المتعطشة – لاعتراف وإطراء المنظمات الدولية – أن لا مناص لها من تمكين المرأة. ولتحقيق هذه الغاية زجت بزمرة منتقاة من نساء المجتمع المخملي للصفوف الأولى؛ أملاً في أن تساهم تلك الخطوة في تلميع صورهم و’تبييض’ سجلاتهم الحقوقية ‘المبقعة’.
وقبل مزيد من الخوض في ذلك دعنا نقول؛ إننا لسنا من دعاة نظام الكوتا أو المحاصصة أو أي نظام رديف يغلب الاعتبارات الشخصية على تلك المهنية. لسنا من دعاته نقول؛ ولكننا نتفهم وجهة النظر الداعية إليه والتي ترى ضرورة إقحام النساء في المشهد العام لتألفهن الجماهير وتمتحن قدراتهن وحنكتهن. حتى إذا ما تبلورت لدى المجتمع قناعة بان المرأة ندّ لا تثريب عليه؛ رُفع هذا النظام؛ ليبدأ عصر جديد من التنافس على المواقع لا بناء على الجنس والتصنيف، بل على التفوق والمقومات الشخصية والفكرية.
في وجهة النظر تلك وجاهة نعم، بيد أننا نرى أن الخطوات التي اتخذت تماشياً معها لا تقدم بقدر ما تؤخر.. فكثير * من النخبويات اللاتي أولين مواقع قيادية أولينها للسبب الخطأ.. بعضهن أولينها لاعتبارات عائلية؛ دينية أو أيديولوجية.. بعضهن أولينها تقديراً لأزواجهن أو لآبائهن أو لعائلاتهن أو.. تقديراً لخدماتهن وولائهن.. وهو ما ضرب عميقاً بفكر التمكين وما ينضوي عليه من طموح لصياغة وعي مجتمعي جديد.
قد يقول قائل: وهذا يسري على الرجال ولا نرى من ينبري لرفضه.. والحقيقة أننا نزدري تلك السياسة بالمطلق – سواء أطالت النساء أو الرجال- بيد أننا نمقتها ونرى خطورتها أكثر عندما يأتي الأمر للنساء؛ ولنا في ذلك عذر. فطريق المرأة – كما خبرناه – وعّرٌ صلد.. مجتمعنا يرى الرجل ناجحاً حتى يثبت العكس والمرأة فاشلة حتى تثبت العكس.. أضف لذلك أن فشل الرجل يعلق عليه فيما يُسحب فشل المرأة على بنات جنسها أيضاً. وحتى تتغير موازين هذه المعادلة المعوجّةّ نحن بحاجة لقياديات ‘استثنائيات’ يدخلن المعترك السياسي والإداري ليخترقن التفكير النمطي ويغيرن الصورة لتعبيد الطريق للأخريات.
أستشهد في ذلك بالآتي:
في 1941 عندما كانت الحضارة الأوروبية ترى المرأة كائناً ضعيفاً لا يصلح بالقطع لتحمل القتال؛ واقتضت الحرب تجنيد النساء في القوات المسلحة لسد النقص، جندت بريطانيا في البدء نساءً فارعات الطول قويات البنية من عاملات المصانع وسكك الحديد لتجنب التصادم مع المعارضين.. فلما قُبلت الفكرة ووافق مجلس اللوردات على تشريع ينظمها يُسرت الشروط للباقيات.
بالطبع لسنا نطالب هنا بنساء ‘أبضايات’ فالعمل السياسي لا يتطلب مواصفات جسدية كتلك التي يتطلبها العمل العسكري بقدر ما يتطلب مواصفات فكرية وقيادية. ولكننا نروج لحقيقة أن مهمة الفوج الأول هي الأصعب؛ وبالتالي فإنها تطلب اختيارات أكثر حكمة.. ودقة.

ــــــــــــــــــــــــــــ
نشدد على كلمة ‘كثير’ الواردة أعلاه لكي لا نبخس الأخريات حقهن؛ خصوصاً وأن منهن نساء مذهلات تفوقن على أندادهن الرجال.. بمراحل.
 
صحيفة الوقت
4 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

ثمن ضعف الإمبراطوريات

عندما تبدو إمبراطورية ما في عز جبروتها ونفوذها تصعب ملاحظة ما تحمله في أحشائها من أسباب زوالها. يسهل ذلك عندما تبدأ هذه العوامل تأثيراتها. وبالطبع يكون الأمر أسهل ملاحظة بعد أن ظهور النتائج.
في 22 يونيو/حزيران 1897 كان أرنولد توينبي ذو الثمانية أعوام محمولا على كتف جده يشاهد احتفالات الذكرى الستين لتتويج الملكة فيكتوريا على عرش بريطانيا. كان ذلك يوم عطلة رسمية بالنسبة لأربعمائة مليون نسمة، أو 25% من سكان المعمورة. بعد أن كبر توينبي وأصبح من أكثر المؤرخين شهرة كتب ذكرياته عن هذا اليوم ‘بدا وكأن الشمس تجمدت في كبد السماء’، ووصف شعور الناس ‘نحن أكبر قوة في العالم، وبعد أن بلغنا هذه القمة فلن ننحدر منها يوما’. ولا حاجة الآن لكثير عناء لمعرفة أن التاريخ لم يحط بريطانيا برعايته على الدوام. أما اليوم فيطرح السؤال التالي نفسه بحدة: هل سيعاقب التاريخ القوة العظمى في عالمنا اليوم، أم أنه بدأ معاقبتها بالفعل؟
يشير فريد زكريا في شهرية ‘فورن أفيرز’ الأميركية إلى أن ما بين الإمبراطوريتين البريطانية والأميركية كثير من الشبه. الأزمة التي تعانيها الولايات المتحدة الأميركية تأتي بعد حروبها العسكرية في كل من الصومال وأفغانستان والعراق. قبل عقود كثيرة وقبل انهيارها فعلت بريطانيا ذات الشيء في هذه البلدان الثلاث. هناك فارق أساسي فيما بين الإمبراطوريتين. فمن أجل الحفاظ على وضعها الإمبراطوري كان على بريطانيا أن تحل مسائل اقتصادية بالدرجة الأولى، وليس سياسية. أما بالنسبة لأميركا فالمسألة على العكس تماما، سياسية بالدرجة الأولى. لم يكن باستطاعة بريطانيا حماية رياديتها العالمية مقابل حقيقة أن تفوقها المرتبط بدينامية تطورها الاقتصادي والتقني أخذ يتراجع بتسارع. ولهذا فلم يكن من الممكـــن تفـــادي سقوط الإمبراطورية البريطانية، لكنـه كـــان، بهــذا المعــنى سقوطــا حميدا.
أما المشكلات التي تعانيها الإمبراطورية الآن فمن نوع آخر تماما. بالرغم من الأزمة يبقى الاقتصاد الأميركي ديناميا على الأقل مقارنة مع البلدان الأخرى. والمجتمع الأميركي لم يفقد طاقته. لكن الذي يتحلل هو السياسة الأميركية غير القادرة على إجراء إصلاحات بسيطة نسبيا، قادرة على ضمان مستقبل مستقر للبلاد. كما أن واشنطن تبدو وكأنها لا تعي أن هذا العالم يتغير ولا تبدي أية قدرة على تغيير توجهات سياسيتها الخارجية وفقا لمتطلبات الحقبة الجديدة.
الأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة تخسر على مستوى صراع الأفكار فهي توغلت في حرب كونية، لكن ساحتها الأساسية ليس العراق أو أفغانستان أو مناطق القبائل الباكستانية، بل، كما يشير دانيل ديفيز ‘في تلك المساحات التي يصعب تحديدها قدرها من الذهنية الأميركية، حيث تعشعش المعتقدات والقناعات والنزعات، ورغم مرارة الواقع يجب الاعتراف بأن أميركا لا تحقق انتصارات تذكر على هذه الجبهة المعنوية. وإذا لن يتم تدارك ذلك فإن الهزيمة محققة على جبهات القتال أيضا[2]’.
هذا ما يؤكده العسكريون الأميركيون العارفون بالحال. جنرال الجو الأميركي بيتر كياريللي، المستشار العسكري الرئيسي لوزير الدفاع الأميركي قال للصحافي ديفيس ‘أن 40% فقط من الانتصارات في الحرب يتحقق بفضل القوة العسكرية الأميركية التي لا نظير لها. أما الـ 60% الأخرى فتعود إلى الانتصارات على جبهة حرب الأفكار’. أما أحد رواد حربي العراق وأفغانستان الرائد لي فيترمان الحائز على عدة جوائز فيشير إلى التناحرات في الجيش الأميركي ذاته: ‘في الحروب تنتصر الإرادة، أما إذا كان هناك أحد ما أو مجموعة ما لا تطيق أحدا ما أو مجموعة ما من رفاقها فإن الحرب تصبح طويلة وصعبة’.
ظلت الولايات المتحدة تعيش مرض العظمة استنادا إلى العظمة الفعلية التي كانت تمثلها في السابق ولم تعد تبد أي احترام أو فهم لكل ما هو خارج حدودها. وقد تفاقم هذا الوضع في السنوات الأخيرة. وكما هو واضح فإن ذلك ارتد ليصبح الآن أمرا قاتلا بالنسبة للمصالح الأميركية.
بعد عملية ‘عاصفة الصحراء’ وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة لم يسمح الغرور الأميركي لأميركا بالعمل على نزع التوتر وزرع أجواء الشراكة مع موسكو. واتخذت خطوات لا ضرورة لها لمحاصرة روسيا بحلف ‘الناتو’، وخرجت من جانب واحد من معاهدة الدفاعات المضادة للصواريخ. وقبل شن حرب ‘تحرير العراق’ أفسدت علاقاتها مع حليفيها القديمين فرنسا وألمانيا متجاهلة أراءهما وقلقهما ومصالحهما. أما الآن وبعد أن اشتد عود روسيا فلم يعد باستطاعة أميركا التعاون معها على إيران أو كوريا الشمالية. وإذ تواصل فرنسا والمانيا مساعدة اميركا في العراق وأفغانستان فإنهما تفعلان ذلك من باب الوفاء للصداقة القديمة فحسب. واستطاعت الولايات المتحدة أن تفقد صداقة حليفتها التركية القريبة منها جدا في السابق. وليس الحديث عن الحرب الكونية التي تخوضها الولايات المتحدة تعبيرا مجازا فقط في صحيفة “Cumhuriyet” التركية أشارت في نهاية العام الماضي[3] بأن أميركا تحضر لحرب عالمية في الفترة بين عامي 2014 – 6202 ردا على التهديدات التي تقف أمام جدول أعمالها. لكن أميركا لا تملك أية حظوظ لكسب هذه الحرب بقواها الذاتية. وأشارت إلى أنه في 11 سبتمبر/ايلول ,2007 أي في الذكرى السادسة لأحداث عام 2001 نشر في أميركا مفهوم الحرب الشبكية الذي يعني شن عمليات عسكرية مشتركة. يكشف هذا المفهوم أسس شن حروب طويلة الأمد تحت قيادة موحدة للقوات الأميركية ضد بلدان او مجموعات معادية على مستوى إقليمي أو عالمي. هدف هذه الحرب – تحقيق أهداف إستراتيجية وطنية. وحسب هذا المفهوم فالحرب الشبكية عبارة عن صراع حاد بين الدول أو اللاعبين المختلفين من أجل ضمان ولاء المجتمع المعني والتأثير عليه. وفي الحرب الشبكية يفضل استخدام الطرق غير المياشرة والمتناظرة. لكنه من أجل إنهاك قوى العدو وتأثيره وإرادته يمكن استخدام الوسائل العسكرية وغير العسكرية. والفكرة الأساسية لهذه العقيدة ليست في السعي لتحقيق نصر على الدولة المناهضة أو أي عدو آخر في معارك اعتيادية، بل في القيام بعمليات إقليمية وعالمية طويلة الأمد من أجل الإطاحة بالعدو أو إخضاعه أو استنزافه.
إستراتيجية أخرى قد تسعى أميركا لتحقيقها تجاه العالم في وقت أصبحت تفقد فيه اللغة السياسية البناءة للتخاطب مع هذا العالم وتعكس هذه الإستراتيجية عوامل ضعف هذه الإمبراطورية وليس قوتها.
 
صحيفة الوقت
4 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

أولمبياد بكين بعيون سياسية (1)

حذر الرئيس الصيني هوجين تاو قبيل أيام قليلة من انطلاقة الدورة التاسعة والعشرين للألعاب الأولمبية التي تستضيفها بلاده من تسييس هذه المسابقة الرياضية الدولية التي تُعد أقدم وأعرق المسابقات الرياضية الدولية، حيث يعود تاريخ نشأتها إلى عام 776 قبل الميلاد في اليونان الإغريقية. وكانت تقام كل أربع سنوات على شرف كبير آلهة اليونان وزوجته هيرا مدة 7 أيام. وبمر العصور تطورت الألعاب الأولمبية بازدياد عدد اللعبات فيها، وأخذت تحظى بمكانة دولية رفيعة مقدسة بحيث إنه حتى خلال الحروب لم تكن تتوقف كما في الحرب الفارسية الإغريقية وإبان احتلال الرومان لليونان وتسلطهم على الدورات الأولمبية وتحكمهم فيها. أما في العصر الحديث ومنذ انطلاقتها في أواخر القرن التاسع عشر عام 1896، فبالرغم من نُبل الشعارات التي انطلقت تحت رايتها الدورات الأولمبية، كتوطيد الصداقة والمحبة بين الشعوب وإرساء دعائم السلام في العالم وتأكيد استقلالية هذه المسابقة الدولية وابتعادها عن السياسة وصراعات الأنظمة السياسية، فإن هذه المسابقة الدولية لم يتركها السياسيون وحالها، فاخترقتها وانتهكت حرماتها وشعاراتها السياسة من أوسع أبوابها. إذ كانت التدخلات أو الإشكالات السياسية الدولية والمحلية حاضرة بهذا القدر أو ذاك القدر في كل دوراتها بدءا من دورة اليونان الأولى عام 1896 ومرورا بدورة موسكو عام 1980 وذلك في ذروة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وليس انتهاء بالطبع بدورة بكين الوشيكة، علما بأن المسابقة الأولمبية توقفت قبل ذلك إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين. وبالرغم من مناشدة الرئيس الصيني هوجين تاو الدول المشاركة والجهات الدولية المعنية المنظمة بعدم تسييس أولمبياد بكين فإن السياسة حاضرة بقوة في هذه الدورة، ليس من قبل الدول والقوى الدولية التي تطارد الدولة المستضيفة بغية إثبات فشلها في تنظيمها بعد أن فشلت هذه القوى ذاتها وعلى رأسها الولايات المتحدة في الحيلولة دون فوز الصين بحق استضافتها، بل ومن قبل قوى المعارضة الداخلية وعلى الأخص الانفصالية في بعض أقاليم الحكم الذاتي كإقليم التيبت والمناطق الإسلامية كإقليم شينجيانج ذي الأغلبية الإسلامية الذي تقطنه قومية اليوغور المسلمة. ومع أن الأسباب الداخلية هي المحرك الأول لأعمال التمرد والعنف التي تندلع بين الحين والآخر في هذه الأقاليم إلا أنه يمكن القول إن تكاثف مثل هذه الأعمال خلال هذا العام تحديدا، ولاسيما قبيل شهور قليلة من موعد الأولمبياد، غير مقطوع الصلة بوجود أيد أجنبية خفية لعبت دورا في تحريض وتأجيج الأوضاع الكامنة تحت السطح ولاسيما في إقليم التيبت الذي شهد اضطرابات خطيرة في مارس الفائت وفرت للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة فرصة ذهبية لشن حرب نفسية معادية للصين. ولم ينف حزب تركستان الصيني الإسلامي المتطرف مسئولية حزبه عن سلسلة التفجيرات التي استهدفت باصات مدنية في شنغهاي وتوعده صراحة بشن المزيد من الهجمات الأخرى التي تستهدف الألعاب الأولمبية مباشرة والمدن الصينية الرئيسية. وقد قامت السلطات الصينية إثر ذلك باعتقال عشرات المشبوهين في الانخراط في المجموعات الأصولية الإرهابية، ولكن جماعات حقوق الإنسان تتهم بكين بالمبالغة في إجراءاتها الأمنية الوقائية لحماية الأولمبياد. ومن المعروف أن مظاهر هذه الإجراءات يلمسها الزائر في هذه الأيام بالذات في منافذ الحدود ولاسيما المطار الجديد، فضلا عن النقاط والمناطق الحساسة والاستراتيجية المهمة في العاصمة. وقد أبلغني شخصيا مصدر أكاديمي صيني موثوق مطلع على بعض خفايا استعدادات بكين الأمنية الداخلية للأولمبياد بأنه تم نصب شبكة من الصواريخ المصوبة نحو استاد «عش العصفور« الملعب الرئيسي للألعاب الأولمبية وذلك لمواجهة أية أعمال إرهابية مباغتة طارئة. ويمكن القول إن الصين واجهت وتواجه ستة تحديات رئيسية في خوض معركة إثبات جدارتها ونجاحها باستضافة الأولمبياد: التحدي الأول: ويتمثل في الوضع البيئي والصحي والغذائي. التحدي الثاني: ويتمثل في ضبط الوضع المروري ونظام السير خلال الأولمبياد في عاصمة يربو عدد سكانها على 17 مليون نسمة. التحدي الثالث: ويتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه بالتحدي الديمقراطي والسياسي ويتصل على وجه الخصوص بمدى استعداد بكين لتقديم وضمان أفضل خدمة ممكنة من الشفافية وحرية تدفق المعلومات لمتابعة وتداول هذا الحدث العالمي الكبير بكل أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية وليس الرياضية الصرفة فقط. التحدي الرابع: وهو يتصل بما يمكن أن نطلق عليه بالتحدي اللغوي والمتمثل في مدى جاهزية واستعدادات بكين للتعامل مع أكثر من مليون زائر خلال الأولمبياد يتكلمون بلغات عديدة مختلفة في حين ان السواد الأعظم من الشعب لا يجيد التحدث سوى بلغته القومية التي تجهلها الغالبية العظمى من شعوب العالم. التحدي الخامس: ويتمثل في مدى نجاح الصين في تقديم حفل راق متألق في الافتتاح وفي المستويات الفنية الإبداعية لفرقها الرياضية في مسابقات الأولمبياد بما يعكس ثقافة البلد وعراقته الحضارية ونهوضه الحضاري المعاصر الجديد. التحدي السادس: وهو التحدي الاقتصادي والذي يمكن قياسه عبر جردة حساب بموازنة كفة ما أنفقته الصين على الدورة من أموال طائلة بكفة المردود الاقتصادي والسياسي الذي جنته وستجنيه الصين من الأولمبياد كما طمحت لذلك.
 
صحيفة اخبار الخليج
4 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

النفط رأس مال العرب (1)

لكي نصل إلى تحليل بضاعتنا الكبرى والخطيرة ألا وهي (النفط) نحن بحاجة إلى فهم تاريخينا الاقتصادي والسياسي. لا تسعفنا المصادرُ في الحديث عن وجود أو عدم وجود العمل المأجور ومدى حضوره في العصر الجاهلي والإسلامي الأول، رغم أنها مسهبة في تعداد الثروات الخاصة وظهور القطائع، وهي الشكلُ المبكرُ للإقطاع العربي، وتحدد العلاقات التجارية وطرقها والعلاقات الاجتماعية – السياسية المصاحبة لهذه التجارة، وكذلك تذكرُ الموادَ الأولية العربية والحرفَ المُقامة عليها، ومن هنا من الصعوبة بمكان معرفة طبيعة رأس المال الجاهلي – الإسلامي. في البدء لا بد من معرفة المواد الأولية وهي السلع التي سوف تدخل السوق، وقيم هذه السلع، ومن أي عمل بشري أُنتجت، وماذا يحدث لهذه القيم في السوق، والأثمان التي يأخذها الوسطاء، ونوعية هذه السلع وأسباب نموها بهذا الشكل أو ذاك. ومن الواضح أن جغرافيا الجزيرة العربية هائلة، وأن ثمة مناطقَ زراعية متنوعة متباعدة، كاليمن وعمان والبحرين ويثرب – المدينة، والطائف الخ، وهذه المناطق تفصلها عن بعضها بعضا الصحارى الواسعة، وهي لا بد لها من إقامة علاقة تبادل بينها وبين بعضها بعضا ومع العالم القريب كذلك. إن الوقائعَ تشيرُ إلى عمليات تبادل تجارية بين هذه المواقع المختلفة، ويعبرُ التبادلُ عن وجود فائض اقتصادي، تمكنت قوى العمل الشعبية القبلية من إيجاده، فقام وسطاء هم تجارٌ بإرسالهِ للمناطق الأخرى فاغتنوا واغنوا التجارَ في المدن، ثم كانت مكة هي الوسيطة الكبرى التي نهضتْ فوق قوى العمل هذه حتى صارت قوة تجارية عالمية. كانت هناك مناطق ذات تاريخ قديم في الإنتاج كاليمن، ومن اليمن خرج اليهودُ إلى يثرب وأسسوا فيها الزراعةَ والحرف، كما خرجت قبائل يمنية عديدة إلى يثرب وغيرها من المناطق وخاصة شمال الجزيرة العربية، وتعبر قدرات اليهود في يثرب عن تعمق كبير في الجوانب الحرفية. كانت سلع اليمن هي مثل: النسيج الفاخر، والذهب، والفضة، والأحجار الكريمة، ومواد التجميل، والتوابل بأنواعه، والأسلحة، وغيرها. إن هذه السلع تدل على تجذر قوى العمل ومهاراتها المتنوعة، وإذ تشيرُ إلى صلاتٍ تجارية بالخارج كالهند وافريقيا، إلا أنها بضائع ومواد خام مستوردة تقوم قوة العمل اليمنية بإعادة تشكيلها ومن ثم تصديرها. وتعبر مدينة يثرب عن هذا الطابع اليمني الحرفي المتأصل: «أسس اليهودُ يثربَ وعملوا الزراعة والحرف وصناعة السلاح والحدادة والدباغة والنجارة والصرافة وكان العرب يملكون 13 أطماً واليهود خمسين، وكان في المدينة أكثر من 300 صائغ حلي وكلهم من اليهود العرب وثمة حي اسمه حي الصاغة«، (المال والهلال، شكري النابلسي). وكانت المناطقُ الجزيريةُ الكبرى الأخرى كعمان والبحرين أقل من اليمن في التطور الحرفي بسبب التكون الحضري البعيد لليمن ومركزية حكمها وتاريخيته، وعمان والبحرين تنتجان الموادَ الزراعية غالباً، مع ما يتبع هذه المواد من حرف.
إن هذا التكون التبادلي بين مناطق الجزيرة العربية كان يتبع الطرق التجارية الدولية أساساً، فهو يضخُ ما يزيد على حاجتهِ إلى الأسواق الخارجية، فأغلب السلع الاستهلاكية الضرورية كالمواد الغذائية تـُستهلك محلياً، وما يزيد عليها وما يُخصص للبيع والتجارة يتوجه للأسواق المحلية ومن ثم المناطقية، وهي أسواق ثلاث كبيرة هي «عكاظ ومجنة وذوالمجاز«. وتوضحُ طبيعة السلع اليمنية المُصدرة غلبة السلع الاستهلاكية البذخية، التي تـُباع لمركز التصدير ومن ثم تباع خارجياً، في حين تعيش أغلبية المنتجين على السلع الضرورية. وبحكم تحول مكة إلى المركزين التجاري والديني معاً، فقد اختلطت السلعُ بالقيم الدينية. كانت المناطقُ الجزيرية العربية التي تقيمُ التبادلَ بينها بحاجةٍ إلى سوق موحدة تجرى فيها أكبر عمليات التبادل، فكانت مكة التي تحولت من قرية إلى مدينة بفعل الخط التجاري الدولي المار بها، ومن ثم غدت المركز التصديري الرئيسي، فكان المنتجون لكي يستمروا في عيشهم بحاجةٍ إلى تصدير الفائض نحو قبلة مكة التجارية، التي راحت تصيرُ قبلة دينية كذلك، بحكم ان الشعائرَ الدينية تحمي السلع والنقود الناتجة منها والعمليتان متداخلتان. لكن المنتجين لم يفعلوا ذلك مباشرة، بل من خلال الوسطاء التجاريين، الذين كانوا يأخذون تلك السلعَ ويبيعونها، وفي البدء نيابة عنهم بحكم النشوء القبلي، ثم مع استمرار التمايز بين المنتجين والمالكين، انفصلوا وصاروا تجاراً مستقلين. وتبينُ نشأةُ مدينة مكة هذا النموَ المتمايزَ للفئات التجارية من قلب العلاقات القبلية، ففي البداية نجد أن جدَ القبيلة (قصي بن كلاب) عنده أغلب وظائفها الدينية والتجارية مما عبر عن وحدة قبلية كلية في القمة، ثم تنشأ البيوتاتُ التجارية العائلية؛ كأمية وبني مخزوم وبني هاشم الخ… مثلما تظهر العائلاتُ الغنيةُ والعائلات الفقيرة. لكن الفارقَ بين مكة وبقية المناطق إنها غير منتجة لسلعٍ، بل هي تستقبلُ السلعَ وتصدرها، وتحتفظ بجزءٍ ضئيلٍ منها للاستهلاك، فهي بلا جذور حرفية وبلا زراعة، ومن هنا قامتْ بتحويل جزء من رؤوس أموالها لتملك الأراضي في المناطق المجاورة فكان (الطائفُ) بستانَها، و(جدة) ميناءها فغدت دويلة اقتصادية. تعبرُ مكة عن المدينة التجارية الخالصة، التي لم تتطور من داخلها لتكون مدينة تجارة، بل هي قد أسستها الضرورةُ التبادلية العالمية والمناطقية، ولهذا فإن المناطقَ الأخرى لم تستطع أن تتطور مثل مكة في نموها الاقتصادي وفي عقليتها التحديثية. لقد ساعدها غيابُ الجذور الزراعية والحرفية لكي تكونَ مدينةَ مالٍ وسلعٍ بالدرجة الأولى. لكنها مع ذلك بحكم خلفيتها الدينية التي رُكبت وتصاعدت بفضل دورها التجاري التوحيدي، فكان هذا الدور يعضد المكانة التجارية ويُضفي عليها قداسة، ولكن هي قداسةٌ تجميعيةٌ للرموز الدينية مثلما هي تجميعٌ للسلع التجارية. ومع ضخامة دور الوسيط بين المنتجين المتوارين، سواء كانوا عرباً أم أجانب، فإن الوسيطَ هو الذي أثرى أكثر من أولئك المنتجين، وتدلنا الأرقامُ التجارية للسلع ولأرباحها على ضخامة الرأسمال البضائعي الذي يتدفق والذي يتحول من جديد للتجارة، أو يشتري الأرضَ العقارية، التي كانت محدودةً بحكم ضخامة الصحراء. ومنذ البداية نلمحُ هذا التناقضَ المهم بين كميةِ النقد الكثيرة المتوافرة وغياب التوظيفات الفاعلة، فيذهب قسم كبير من النقد نحو الاستهلاك البذخي، فيضيع من دورة رأس المال، ولكنه في هذه المرحلة لا يضيع بل يُوظف لكن حين ستنشأ أسرٌ حاكمة ويتراكم الفائضُ لديها فسوف يتجه إلى البذخ الخالص.
 
صحيفة اخبار الخليج
4 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

أطراف الحوار

إذا اتفقنا على أننا بحاجة إلى حوار وطني‮ ‬جدي‮ ‬حول القضايا التي‮ ‬تعني‮ ‬الجميع في‮ ‬هذا الوطن،‮ ‬من أجل التغلب على معوقات وكوابح البناء الديمقراطي‮ ‬والعيش المشترك والشراكة السياسية بين الدولة والمجتمع،‮ ‬وتأمين الاستقرار والأمن،‮ ‬فعلينا أن نتوقف ملياً‮ ‬أمام أطراف هذا الحوار‮.‬ في‮ ‬الأيام القليلة الماضية التقى جلالة الملك مع رجال الدين من الطائفتين السنية والشيعية،‮ ‬وجرى حديث حول ترشيد الخطاب الديني‮ ‬وعقلنته،‮ ‬والابتعاد به عن الشحن الطائفي‮ ‬والمذهبي،‮ ‬وعلى ضوء ذلك اللقاء كان العفو الملكي‮ ‬عن السجناء والموقوفين،‮ ‬الذي‮ ‬أثار بهجة في‮ ‬البلد،‮ ‬لأنه عبر عن رغبة في‮ ‬تجاوز الوضع المحتقن،‮ ‬والانطلاق نحو آفاق التفاهم،‮ ‬بما‮ ‬يؤسس لأرضية تنبذ العنف في‮ ‬كافة صوره،‮ ‬والاحتكام لأساليب العمل السلمي‮ ‬الديمقراطي‮.‬ وبين رجال الدين الذين التقاهم جلالة الملك قادة وممثلي‮ ‬الجمعيات السياسية الإسلامية،‮ ‬السنية والشيعية منها على حدٍ‮ ‬سواء،‮ ‬الذين‮ ‬يَجمعون،‮ ‬على نحو ما بات دارجاً،‮ ‬بين صفتهم كرجال دين وخطباء جوامع وبين صفتهم التمثيلية الحزبية‮.‬ ولسنا في‮ ‬وارد التقليل من أهمية ومكانة رجال الدين الأفاضل،‮ ‬ولا الجمعيات السياسية الإسلامية،‮ ‬فهي‮ ‬أحد المكونات الرئيسية لمجتمعنا،‮ ‬خاصة في‮ ‬الظروف الراهنة التي‮ ‬تتسم بصعود نفوذ هذه الجمعيات تحت تأثير عوامل عديدة ليس هذا مكان بسطها‮.‬ وبالنظر لما للمنبر الديني‮ ‬من دور في‮ ‬التأثير على جمهرة واسعة من الناس،‮ ‬فان مخاطبة رجال الدين لأن‮ ‬يُرشدوا خطابهم ويوجهوه نحو تعزيز القواسم المشتركة بين أبناء الوطن خطوة ضرورية وفي‮ ‬مكانها‮.‬ لكن المجتمع البحريني‮ ‬يتوفر على بانوراما‮ ‬غنية من المكونات الاجتماعية والسياسية والفعاليات الاقتصادية التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن تجاهلها عند الحديث عن أي‮ ‬حوار وطني‮ ‬جدي‮.‬ فلا‮ ‬يمكن إغفال مؤسسة بوزن وتأثير‮ ‬غرفة التجارة والصناعة،‮ ‬فهي‮ ‬تمثل شريحة مهمة في‮ ‬المجتمع،‮ ‬معنية بآفاق التنمية ومستقبل التطور الاقتصادي‮ ‬في‮ ‬البلد وفلسفته،‮ ‬وهي‮ ‬إلى ذلك تحمل وجهة نظر حيال مسألة التعددية الاجتماعية وأنماط المعيشة في‮ ‬البلد،‮ ‬بحيث لا‮ ‬يُفرض على المجتمع نمط معين لا‮ ‬يحظى بالإجماع،‮ ‬ولدينا شواهد كثيرة على هذا المسعى خلال السنوات القليلة الماضية‮.‬ ولا‮ ‬يمكن تجاهل دور القوى والتنظيمات السياسية والشخصيات الوطنية البعيدة عن المنحى الطائفي،‮ ‬والتي‮ ‬تعبر،‮ ‬بصدقٍ‮ ‬وأصالة،‮ ‬عن الوحدة الوطنية الحقيقية بتجاوزها للانحيازات المذهبية،‮ ‬كما انها تغطي‮ ‬مساحة واسعة من التمثيل المجتمعي‮ ‬من خلال دورها في‮ ‬بناء المجتمع المدني‮ ‬على أسسٍ‮ ‬عصرية،‮ ‬وتوفرها على طاقات وكفاءات في‮ ‬المجالات المختلفة‮.‬ المسألة الطائفية لا‮ ‬يمكن أن تعالج بأدوات طائفية وإنما بأدوات نافية ومتجاوزة لها،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يتطلب أن تكون مكونات أي‮ ‬حوار منشود والمشاركين فيه ما‮ ‬يعكس بانوراما المجتمع البحريني،‮ ‬اجتماعياً‮ ‬وسياسياً،‮ ‬وضمن هذه المكونات من‮ ‬يُشكل رافعة جدية للوحدة الوطنية‮.‬
 
صحيفة الايام
4 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

دور العمال والموظفين المأمول في الحراك السياسي في البحرين

يبدو الآن أن النهج التعسفيّ الاستفزازيّ الاستعلائيّ التسفيهيّ من قبل الشركات الكبيرة والصغيرة، ضد العمال والموظفين قد ولّى زمانه وان الكل يجب أن يخضع للقوانين الضابطة (على نواقصها) للعملية الإنتاجية والخدماتية ومجمل النشاط الاقتصادي.
فالعمال والموظفون الذين يشكلون الطرف المهم ضمن الأطراف الثلاثة للمعادلة الإنتاجية والخدماتية يدركون جيدا ضرورة إدارة الصراع الاجتماعي/ الاقتصادي في هذه المرحلة الانتقالية والمفتوحة على كل الاحتمالات، بشكل سلميّ وتفاوضيّ، ضمن موازين القوى المجتمعية، في إطار بنود القانون والدستور الملزمة للجميع بدون استثناء.. ولو أن المهيمن والقويّ يكون في وضعٍ أسهل وأنسب لخرقه القوانين، في وقتٍ لا يجد فيه القطب الأضعف سبيلاً آخر غير الاستمرارية في النضال المطلبيّ لتحديث التشريعات العمالية المنقوصة والتشبث بالحقوق المشروعة، المسنودة بالقوانين الدستورية ومواصلة الضّغط من اجل تفعيل وتطوير بنود القوانين، التي أجمع الكل على احترامها وتطبيقها.
إن المشاركة الثلاثية لعملية الإنتاج والخدمات الشاملة من قِبٍل الدولة (وزارة العمل) والقطاع الخاص (غرفة التجارة والصناعة) والجسم العمالي (اتحاد عمال البحرين) لهو لُبّ تحمل المسؤولية الجماعية والسبيل الوحيد للارتقاء المجتمعي، بما فيها الاعتراف الجليّ بالحق العمالي القانوني في الاعتصام والمطالب، كما يحدث الآن في قطاعات و شركات عديدة مثل شركة النقل العام اليتيمة ‘كارس’ حيث هدد 44 سائقا بالتوقف عن العمل معتبرين ذلك تفعيلاً لتقديم استقالاتهم الجماعية عن العمل، وذلك بسبب رفض إدارة الشركة رفع أجورهم بمقدار نسبة مئوية تتراوح ما بين 30 إلى 40% ليصل الحد الأدنى للراتب الأساس 280 ديناراً. ولعل ما يجري الآن في وزارة الصحة (من منغصات) أو الشركات الأخرى، لهو دليل على ضرورة النضج المجتمعي للتعامل العصري والقانوني مع الحركة المطلبية وعدم اعتبار ذلك شيئاً غريبا ومضراً بل أداءً عصرياً يُسهم في التطور الايجابي لطريقة إدارة الصراع السلمي في المجتمع.
من الممكن أن نطلق على هذه المرحلة الحالية من تطور مجتمعنا على مختلف الصُّعُد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها بمسمى مرحلة النضال المطلبي السلمي والقانوني، وتأطير الصراع الاجتماعي ضمن آليات، وفرتها الأنظمة والقوانين المدونة في الدستور البحريني أولا بالإضافة إلى القوانين الدولية، التي التزمت بها حكومة البحرين على الصعيد الدولي، فيما يتعلق بالحريات العامة للمواطنين ومساواتهم جميعا أمام القانون بالإضافة إلى أولوية الحقوق النقابية الشاملة، بلا فرق بين قطاع عام وقطاع خاص!
لعل أهم هدف يجب أن يسعى العمال والموظفون من اجل نيله في هذه المرحلة والتركيز حوله يتجسد في بندين أساسيين:
أولا: المحافظة على وحدة الجسم النقابي وعدم تسييس المطالب النقابية والمعيشية الضرورية انطلاقا من الاعتصام السلمي والقانوني والتركيز على المطلب المتعلق بالمستوى المعيشي المرتفع باضطراد، أي ضرورة رفع شعار: يجب شرعنة ‘الحد الأدنى التصاعدي السنوي للراتب’. بمعنى أنه لا يكفي ترقيع الأمر ووضع حد أدنى ثابت للأجور في ظرف محلي وعالمي تتآكل فيه العملة باطراد نتيجة ظروف نعرفها جميعا، أسوة بالبلدان الأخرى التي تطبق نمط الحد الأدنى التصاعدي السنوي، تزيد حسب نسبة التضخم السنوي، كأفضل السّبل للمحافظة على شعار ‘السلم الأهلي’.
ثانيا: العمل الجاد لتوسيع وتنظيم الجسم النقابي في كل المؤسسات بما فيه المؤسسات الحكومية والنضال الدؤوب من أجل الإسقاط القانوني للقرار الغريب والمُضِرّ للمشروع الإصلاحي، قرار الخدمة المدنية التعسفي، المعنيّ بعدم جواز تأسيس نقابات في القطاع العام/الحكومي بل تجريم من يحاول ذلك! إنه حقا قرار ليس مجحفا وغير قانوني فحسب بل جالب للتمييز بين المواطنين الذين يعملون في القطاع الخاص والقطاع العام/الحكومي بالإضافة إلى أنه يناقض تصريحات جلالة الملك المساندة للشرعية القانونية وللحق النقابي العام في أكثر من لقاء أو خطاب وسعْي جلالته الدؤوب لتفعيل دولة المؤسسات والقانون والحق النقابي، غير المجزأ خاصة.
لكن السؤال.. لماذا أصبح مهماً الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن يستخدم عمال وموظفو البحرين كل ما في جعبتهم، مستخدمين قوتهم الكامنة في سبيل لعب الدور الأساس في عملية الحراك المجتمعي من أجل الدفاع عن المنجزات التي تحققت وتطوير المشروع الإصلاحي خطوات نوعية إلى الأمام؟ ولماذا مطلوب منهم بالذات أداء هذه الرسالة؟ وأين دور بقية قوى المجتمع المدني وأهمها الجمعيات/الأحزاب السياسية، التي عادة ما تلعب الدور الرئيس في المجتمعات الحديثة والمعاصرة؟
من الواضح أن الجسم العمالي بقوته العددية الجامعة لمختلف مكونات مجتمعنا الإثنية والطائفية والجنوسية(الذكور والإناث) وأهميته في العملية الإنتاجية والخدماتية، إضافة انه الوحيد العابر للطوائف والمذاهب والأصول القومية والقبلية وغيرها، تشكل وحدته وقوته خير بلسم لعلاج وباء الطائفية المستشري في مجتمعنا. أما لماذا لا تستطيع القوى السياسية أداء الدور المنوط بها في الوقت الحاضر؟ فالجواب إشكالي، لعله في حاجة إلى وقفة أخرى لتفتيت وتحليل القوى السياسية ولكننا نكتفي في هذه العجالة من تبيان أن القوى الرئيسة الفاعلة في الوقت الحاضر في مجتمعنا هي قوى ‘الإسلام السياسي’ الجالبة أصلاً للتمييز والتفرقة والطائفية وذلك بسبب تركيبتها الموضوعية وليس بسبب رغبة المنضوين تحت لوائها!
 
صحيفة الوقت
3 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

مصير البشير ومصير السودان

ككل الأنظمة العسكرية الشمولية تكون الخاتمةُ مأساويةً، ويظهرُ تراكمُ المشكلات دفعة واحدة على هيئة انفجار، فالسودان البلد ذو الإمكانيات الاقتصادية والبشرية الخرافية حوله حكمُ الجيش على مدى العقود الماضية والتي قبلها إلى اقاليم مستعدةٍ للانقضاضِ على السلطة المركزية العربية الإسلامية. وعبر احتكارها للسلطة وخدمة طبقة صغيرة وتنامي أعداد الناس وبقاء المشكلات الكبيرة بلا حلول، وسيطرة العاصمة على البلد وسيطرة طبقة ضئيلة على الشعب والموارد، فإن النتائجَ تكون انفضاض تلك الإقاليم عن المركز المهيمن العاجز عن توفير مستلزمات العيش الضرورية، لأنه لا يمتلك سياسة إصلاحية ديمقراطية، وتنخرهُ كلُ أشكالِ البيروقراطية والتسلط والتخلف.
لقد جاء حكمُ (الانقاذ) بلا أجندة تجاوزية لحكم حزب الأمة وغيره من الإقطاع السياسي المذهبي، فلم ينقذ لا الفلاحين المنهارين ولا أهل القبائل والأديان والمذاهب الأخرى، بل قدم القمعَ ضد هذه القوى، وكانت سياسته الرشيدة المميزة الوحيدة هي اتفاقهُ مع أهل جنوب السودان وتوقيف الحرب وإقامة شراكة مع أهل هذا الإقليم من الاخوة المسيحيين والإحيائيين ربما بسبب الثروة النفطية الكبيرة التي ظهرت بين الجنوب والشمال وليس بسبب الأخلاق الرفيعة لدى ضباط الانقاذ، وكان ينبغي مد هذه السياسة الحوارية الوطنية مع بقية اقاليم السودان وخاصة مع منطقة دارفور، بحيث تتحول جمهورية السودان إلى جمهورية ديمقراطية، ولكن القمع على مدى السنين الماضية رداً على ثورة أهل الإقليم وعلى جماعات العنف الأهلية جعله يرتكب خطأه الجسيم. وإذ سد السودان الحكومي باباً واسعاً لتدخل الغرب المتلهف الجائع لثروات البلد، فإنه فتحَ باباً آخر أشد وأخطر، والمسألة هي مسألة مبدأ، فمادمتَ تقيمُ تعاوناً وتحالفاً مع إقليم فلماذا ترفض التعاون مع آخر وهو من كيانات بلدك نفسها؟ لا شك أن ثمة تدخلات معقدة في الإقليم، وليس أن الحكومة المركزية تتحمل كل تبعات الموقف، لكنها لم تمسك خيوطَ الموقف بحكمةٍ في هذا الإقليم، وقادتها ردودُ الأفعال تجاه التمردات إلى جرائم رهيبة. وليس المدعي العام في المحكمة الدولية هو شخص أرعن وأحمق كما تقول المظاهراتُ الحكومية السودانية، بل هو شخص نزيه سبق أن تولى الادعاء في قضايا بلده ضد العسكريين وجرائمهم وأحدثت هذه المحاكمات وظيفة تحولية ديمقراطية كبيرة. ولكن ما ينطبق على الأرجنتين وتشيلي وغيرهما من الدول الأمريكية اللاتينية ذات الكيان الوطني المتماسك، لا ينطبق على السودان الكيان المهدد بالتقسيم والتفكيك، والابتلاع من قبل القوى الدولية. كذلك فإن حكومة البشير بدأت خطوات في اتجاه الديمقراطية وسمحت بظهور الأحزاب والحريات المختلفة وبدأت بتطبيق دستور حديث، وابدت مرونة في الكثير من القضايا الوطنية والدولية مثل حضور قوات افريقية الخ… ولكن ثمة مؤامرات من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية لانتزاع مناطق من كيانه الفضفاض، الذي يعادل بعضها كيانات دول أوروبية، فإقليم دارفور يساوي مساحة فرنسا، وعلى هذا فقد استخدمت كلمة الحق من قبل مدعي المحكمة الدولية لقضية باطل هي ابتلاع وتفكيك دولة والسيطرة على مساحاتها وثرواتها التي تركها الحكمُ العسكري لقبضِ الرياح الغربية. ولهذا فإن مواقفَ الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية هي مواقفٌ مسئولةٌ في مثل هذا الظرف الدقيق، فليس هناك دفاع عن الظلم في النظام وليس هناك كذلك دعوة للدول الغربية لكي تبتلع ثروات بلد شقيق. إن الموقف من رئيس البلد لم يعد موقفاً شخصياً، فقد أدت الإثارة من قبل المحكمة الدولية ومواقف أمريكا وفرنسا، النظامين اليمينيين، إلى أن يكون هناك التفاف على مرشح واحد لرئاسة السودان، ولو كان هناك توحد سوداني تجاه مرشح واحد للرئاسة لكان ذلك أفضل بكثير، ولكن ذلك غير ممكن بسبب سياسة النظام العسكري نفسه تجاه الفرقاء الوطنيين، الذين تحملوا منه الكثير من التعسف. غير أن فوز مرشح آخر غير الرئيس البشير الحالي أمر صعب، كذلك فإن رئيس حزب الأمة الصادق المهدي وهو المرشح المنافس البارز، صار من الوجوه القديمة التي لم تستطع طرح سياسة تحديثية للبلد وراوح في مكانه خلال نصف قرن. ويبقى مرشح القوى الشعبية واليسارية في جنوب السودان الذي لا يمكن أن يفوز بحكم دور الجنوب المهمش وسيطرة الشمال الطويلة، وإن كنا نقول: إن السياسة الوطنية لقوى اليسار السوداني: جنوبه وشماله هي أضمن سياسة لتوحيد السودان بشكلٍ حقيقي ووطني ويعبر عن أغلبية الجمهور العامل، ولمعالجة المشكلات المزمنة التي لم تحلها حكوماتُ «الحرامية« على مدى نصف قرن. يبقى أن أهل مكة أدرى بشعابها، ولكن التضامن واجب مع أهل السودان الذين طالما تضامنوا وكافحوا من أجل العروبة والإسلام والإنسانية.
 
صحيفة اخبار الخليج
3 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

الأغلبية الصامتة

من العدل القول إن القوى والتيارات السياسية والاجتماعية المختلفة في‮ ‬البحرين قد دفعت إلى معترك النشاط السياسي‮ ‬اليومي‮ ‬بقطاعات مهمة من الناس في‮ ‬مختلف المناطق،‮ ‬ومن انحدارات اجتماعية مختلفة،‮ ‬كما أن هذه القوى قدمت رموزاً‮ ‬ووجوهاً‮ ‬نشطة تشكل دينامو النشاط الذي‮ ‬دب في‮ ‬البلاد في‮ ‬مرحلة ما بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني،‮ ‬وما أشاعته من مناخٍ‮ ‬جديد عكس دينامية المجتمع البحريني‮ ‬وحيويته‮.‬ لكن من العدل أيضا القول انه مهما كان حجم هذه القطاعات التي‮ ‬اندفعت إلى النشاط السياسي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬والتطوعي‮ ‬كبيراً،‮ ‬فانه لن‮ ‬يحجب حقيقة ما بات متعارفاً‮ ‬على تسميته بالأغلبية الصامتة‮.‬ وتعبير الصامتة لا‮ ‬يعني‮ ‬بالضرورة،‮ ‬أن هذه الأغلبية أميل إلى الكسل والخمول والسلبية،‮ ‬أو أنها محايدة إزاء ما‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬البحرين من تحولات،‮ ‬أو أنها مترددة في‮ ‬تحديد موقفٍ‮ ‬حول ما‮ ‬يدور،‮ ‬وحتى إن وجدت بعض الشرائح التي‮ ‬تحمل هذه السمات،‮ ‬فان ذلك لا‮ ‬ينفي،‮ ‬من جهة أخرى،‮ ‬وجود شرائح معروفة بوعيها السياسي‮ ‬وبمستواها التعليمي‮ ‬العالي،‮ ‬وشرائح أخرى تحتكم إلى حسها العفوي‮ ‬الذي‮ ‬يدلها على أن نجاح عملية التحول الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬البلاد‮ ‬يستجيب لمصالحها الحقيقية‮.‬ ورغم هذا التشخيص الذي‮ ‬يبدو،‮ ‬بالنسبة لنا على الأقل،‮ ‬صائباً،‮ ‬ألا أن الحديث عن أغلبية صامتة‮ ‬يظل قائماً،‮ ‬وهو أمر‮ ‬يستحث القوى المختلفة المعنية بالأمر للتحري‮ ‬في‮ ‬العوامل التي‮ ‬تجعلها عاجزة عن استقطاب هذه الأغلبية أو حتى بعض شرائحها للانخراط في‮ ‬ديناميكية الحياة السياسية‮.‬ ومن بين الأسئلة التي‮ ‬قد ترد مباشرة إلى الذهن‮: ‬هل خطاب القوى الناشطة مازال عاجزاً‮ ‬عن استقطاب بعض هذه الشرائح،‮ ‬وهل لا تجد هذه الشرائح ما‮ ‬يستهويها في‮ ‬هذا الخطاب،‮ ‬سواء كان خطاب قوى الإسلام السياسي‮ ‬على تلاوينه أو الخطاب العلماني‮ ‬على تلاوينه أيضاً‮.‬ هل تجد هذه الشرائح الصامتة أن الخطابين،‮ ‬على تلاوينهما،‮ ‬قاصرين أو عاجزين عن تلبية تطلعاتها وتصوراتها لمستقبل البلاد،‮ ‬أم أن هذه الشرائح وَجِلة تجاه المستقبل،‮ ‬مأخوذة بذكريات الماضي‮ ‬غير البعيد المريرة،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فان إحدى روافع الدفع بهذه الشرائح نحو المزيد من الايجابية هو في‮ ‬خطوات تسريع الإصلاحات وتعميقها،‮ ‬بحيث انه كلما لمست نتائج ذلك على الأرض كلما تعمقت ثقتها في‮ ‬جدية ما نحن بصدده من تحولات؟ هذا أمر نظنه صحيحاً‮ ‬إلى حدٍ‮ ‬بعيد،‮ ‬لكن‮ ‬يظل الجزء المتعلق بخطاب القوى الناشطة أو بأساليب عملها أساسيا وجوهرياً،‮ ‬وإذا كان من درسٍ‮ ‬يمكن استخلاصه من حقيقة وجود هذه الأغلبية الصامتة،‮ ‬فهو دعوة القوى السياسية مجتمعة إلى إبداء المزيد من التواضع في‮ ‬حديثها عن تمثيل الناس،‮ ‬بصورةٍ‮ ‬مطلقة،‮ ‬خاصة حين نلحظ أن هذه القوى،‮ ‬على تلاوينها المختلفة،‮ ‬مازالت تخضع لمخاضٍ‮ ‬تتجلى مظاهره هنا وهناك في‮ ‬اتجاه بلورة صورة وخطاب هذه القوى في‮ ‬المستقبل،‮ ‬الذي‮ ‬قد لا‮ ‬يكون بعيداً‮.‬ وما نطرحه هنا هو أقرب إلى التفكير بصوتٍ‮ ‬عالٍ‮ ‬منه إلى الاستنتاج أو الخلاصة،‮ ‬بهدف إثارة نقاشٍ‮ ‬حول الأسئلة المتصلة بالموضوع،‮ ‬ربما اقتضت وقفات أخرى‮.‬
 
صحيفة الايام
3 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

حوار القوى‮ ‬السياسية مكانك سر‮!‬

راوح الحوار السياسي‮ ‬بين القوى السياسية‮  ‬مكانه،‮ ‬فبعد ان تم اقناع جمعية الوفاق الى العودة الى طاولة الحوار بعد‮ (‬زعلها‮) ‬لمحاولات بعض القوى فك الارتباط السياسي‮ ‬بين السياسة والمرجعية الدينية،‮ ‬عاد مجدداً‮ ‬مشهد الاختلاف في‮ ‬الحوار بين القوى السياسية‮.‬
المشهد الان مختلف تماماً‮ ‬عن زعل الوفاق،‮ ‬فالزعلان حالياً‮ ‬حركة حق‮ ‬غير المرخصة قانونياً،‮ ‬بسبب اللائحة الداخلية للحوار‮.‬
ومع كل التقدير والاحترام الى دعوة الحوار ووحدة صف القوى السياسية،‮ ‬إلا اننا لا نتوقع ان‮ ‬يثمر هذا الحوار لا رطبا ولا عنبا،‮ ‬نتيجة للتباين الواسع بين التحليل والعمل السياسي‮ ‬بين القوى السياسية‮.‬
لا الوفاق‮ ‬يمكن ان تساير بقية القوى السياسية وعلى وجه الخصوص حركة حق التي‮ ‬لم ترتضِ‮ ‬البند المتعلق بالمرجعية الدينية،‮ ‬التي‮ ‬تريدها الوفاق ان تكون حكماً‮ ‬على أي‮ ‬مشروع سياسي‮ ‬تقدمه القوى المتحدة،‮ ‬ولا حركة حق تريد ان تكون المرجعية الدينية والسياسية للوفاق تحبط أعمالها ومشاريعها التي‮ ‬لا تقبلها مرجعية الوفاق باعتبار ان سلوك جماهير الحركة‮ ‬يحتاج الى‮ ‬غطاء شرعي‮.  ‬
في‮ ‬ظل هذا الخضم،‮ ‬يسعى بعض قادة الديمقراطيين ان‮ ‬يوفقوا بين الخصمين‮ (‬الوفاق‮ – ‬حق‮)‬،‮ ‬فهل المطلوب ان‮ ‬ينشغل الديمقراطيون عن انفسهم ويوفقوا للآخرين وهم مصابون بنفس الداء؟‮!‬
لا نعول على هذا الحوار،‮ ‬بل منذ الاجتماع الأول لهذا الحوار الذي‮ ‬انعقد في‮ ‬مأتم وهذا أمر نختلف فيه أيضاً‮ ‬لأنه‮ ‬يعطي‮ ‬الحوار طابعا دينيا،‮  ‬شعرنا انه سيراوح مكانه ولن‮ ‬يتغلب وستكون المحصلة مجرد تعب رؤساء الجمعيات،‮ ‬ولهذا قررت العديد من الجمعيات السياسية ان تقلل من مستوى التمثيل في‮ ‬هذا الحوار من بينها جمعية الوفاق الإسلامية،‮ ‬واعتمدت على ان‮ ‬يتابع الملف نائب برلماني‮ ‬واحد فقط‮.‬

صحيفة الايام
3 اغسطس 2008

اقرأ المزيد

سقوط قناع المختفي‮! (١-٢)‬

بدت ثلاثة عشر عاما من الاختفاء لجزار حقبة البلقان السوداء رادوفان كاراجيتش طويلة لدى عائلات ضحايا الكروات والبوسنة،‮ ‬على وجه الخصوص أهالي‮ ‬سبرينتشا الذين ذاقوا ويلات حمامات الدم،‮ ‬إذ لم تعرف أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة مثلما فعله‮ »‬صاحب الطب البديل‮« ‬محاولا إخفاء شخصيته كرجل بديل،‮ ‬يمارس حياة هادئة كما‮ ‬يتوهم البعض،‮ ‬إذ لا توجد حياة هادئة للإنسان الفار من وجه العدالة،‮ ‬والتي‮ ‬اكتسبت سمة دولية ومحلية قررت مطاردة رجل متهم بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي‮ ‬ومجرم حرب،‮ ‬إذ مارس القتل بدم بارد وصنع مقابر جماعية ذكّرت أوروبا بمرحلة المحارق الجماعية للحقبة الهتلرية‮. ‬
لقد ظل رادوفان متخفيا خلف نظارته وشنبه ولحيته الصربية،‮ ‬محاطا بمجموعة أو تنظيم قومي‮ ‬متعصب،‮ ‬قدم له كل العون لكي‮ ‬يبقى هاربا من وجه العدالة،‮ ‬التي‮ ‬سيجد‮ ‬يوما نفسه في‮ ‬قبضتها،‮ ‬فلا احد بإمكانه أن‮ ‬يهرب من قرار الموت عندما‮ ‬ينوي‮ ‬ملاحقته حتى اللحظة الأخيرة‮. ‬ظل رادوفان بقناعه الاجتماعي‮ ‬منزويا في‮ ‬جحره السري‮ ‬محاطا بثلة حاولت تقديم كل التسهيلات الأمنية والعسكرية واللوجستية له لأكثر من عقد،‮ ‬غير أنها لم تستطع أن تمنع ضربات قلبه كمتخفٍ‮ ‬كلما سمع طرقات الباب أو رنة هاتف ليلي،‮ ‬بل وظل‮ ‬يرقب عيون الناس في‮ ‬مقاهي‮ ‬المدينة‮. ‬وكلما راحت بالصدفة عين إنسان تحدق فيه نهض تاركا مكانه،‮ ‬متوهما أن تلك النظرة ليست إلا نظرة رجل من رجالات الأمن المعنيين بملاحقته كحاملي‮ ‬عصا العقاب الأبدي‮ ‬لشخصيات مارست دور الشر فوق مسرح البلقان المنهار في‮ ‬العقد الأخير من القرن المنصرم‮. ‬
وبالرغم من ممارسة سفاح البلقان للطب البديل،‮ ‬وبالرغم من تمثيله لشخص بديل عبر تزييف هويته وشكله واسمه،‮ ‬إلا انه ظل في‮ ‬نفسه ومع صوته الداخلي،‮ ‬المسكون بهاجس الخوف كونه ملاحقاً‮ ‬وجباناً،‮ ‬لم‮ ‬يستطع أن‮ ‬يتجاوز شعور إنسان مرتعش بانتظار سقوطه النهائي‮ ‬في‮ ‬أي‮ ‬لحظة‮. ‬من‮ ‬يهربون من وجه العدالة كمجرمي‮ ‬حرب وإبادة‮ ‬يدركون في‮ ‬داخلهم أنهم باتوا سجناء حقيقيين منذ لحظة تخفيهم،‮ ‬فليس كون المرء محاطاً‮ ‬بمجموعة من التسهيلات والبيت الوثير معناه انه بات حرا وبإمكانه أن‮ ‬يخرج إلى أي‮ ‬مكان بحرية الإنسان الطبيعي،‮ ‬فمثل هؤلاء لا‮ ‬يسجنون أنفسهم وحسب،‮ ‬بل ويسجنون من‮ ‬يعيشون حولهم لكونهم خيوطاً‮ ‬للمراقبة واثراً‮ ‬قد‮ ‬يؤدي‮ ‬لوكرهم الخفي،‮ ‬فتصبح التعليمات الصارمة قيودا لتلك الحلقة الضيقة،‮ ‬فمجرد خطأ واحد قد‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى الكارثة‮. ‬
هكذا نسج رادوفان كرجل عنكوبتي‮ ‬حول نفسه عالماً‮ ‬من الظلام الداخلي‮ ‬بتغيير شكله واسمه ومهنته،‮ ‬في‮ ‬زمن لا‮ ‬يمكنك الاختفاء طويلا إن لم‮ ‬يكن هناك عالم أوسع حولك‮ ‬يقدم لك ضمانات التحرك بحرية مناسبة،‮ ‬بل ويدرك أولئك المعنيون بحمايتك الطرق والسبل الملائمة لإخفائك‮. ‬هكذا عاشت صربيا ومدينة بلغراد مسرحا لحدث‮ ‬يناسب فيلما هوليووديا،‮ ‬إذ تراخت السلطات الصربية في‮ ‬ملاحقة رادوفان،‮ ‬لكونها لم تنته من وضعها الداخلي‮ ‬وصراعاتها المريرة بين تيارين،‮ ‬تيار الانفصال المعادي‮ ‬للديمقراطية والانضمام للاتحاد الأوروبي‮ ‬والمحتمي‮ ‬بحلقة قديمة اسمها روسيا‮ – ‬كوهم سياسي‮ ‬قديم‮ – ‬وتيار آخر‮ ‬يتوق للحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي‮.‬
وبما أن التيار القومي‮ ‬ظل ولا‮ ‬يزال قويا في‮ ‬التربة الصربية،‮ ‬فان انتشار رجاله كورثة الحكم اليوغسلافي‮ ‬القديم،‮ ‬ظلت أصابعهم وعناصرهم تتحكم في‮ ‬مفاتيح الأمن والمواقع الحساسة،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬ساعدت على بقاء رادوفان كاراجيتش مختفيا هذه المدة،‮ ‬مما عقد ظروف صربيا في‮ ‬الدخول للنادي‮ ‬الأوروبي،‮ ‬بل ووضع الاتحاد الأوروبي‮ ‬شرطا أساسيا لقبول صربيا هو تسليم‮ »‬رأس الأفعى المختفي‮« ‬لهذا شهدت السنوات الأخيرة تكثيفا لعملية الاستخبارات والتعاون الأوروبي‮ ‬مع السلطات الجديدة في‮ ‬صربيا،‮ ‬والتي‮ ‬تمثل التيار المنادي‮ ‬بضرورة انضمام صربيا للاتحاد‮. ‬ما جعل حياة الهارب المختفي‮ ‬صعبة وتعسة،‮ ‬حيث إن نطاق حياته والمعايشة اليومية‮ »‬لرجل الطب البديل‮« ‬بات تراجيديا،‮ ‬كما إن انهيار مشروعه القومي‮ ‬والسياسي‮ ‬في‮ ‬التسيد والعرقية الشوفينية وحلم بناء دولته أصبح مستحيلا في‮ ‬القارة الأوروبية الجديدة‮. ‬هذا اليأس الخانق بسبب ما‮ ‬يدور حوله وتخلي‮ ‬الحلقات القومية العرقية وانهيارها أمام مشروع الديمقراطية الأوروبية الجديدة،‮ ‬فكك جبهة رادوفان بهدوء،‮ ‬فما عاد الشارع الصربي‮ ‬في‮ ‬القرن الواحد والعشرين ملكا وارثا للرجال المتهرئين،‮ ‬الملوثين بالعصبية والتطهير العرقي‮. ‬كان لا بد وان‮ ‬يسقط الهارب بطريقة ما،‮ ‬وسوف تكشف لنا الأيام القادمة الآلية الأمنية التي‮ ‬ساعدت على اصطياده وهو متخفيا في‮ ‬عشه المضطرب،‮ ‬قابعا ومكسورا في‮ ‬قفص الاتهام في‮ ‬لاهاي‮.‬
‮ ‬المصابون في‮ ‬صربيا من أنصاره بصدمة الحقيقة والفزع،‮ ‬لم‮ ‬يتمكنوا لحظتها من إيقاف تدفق دم الفرح لدى البوسنيين وهم‮ ‬يرقصون في‮ ‬شوارع المدينة‮. ‬ومع ذلك تبقى مسألة مهمة وهي‮ ‬أن سقوط رادوفان وغيره من العنصريين في‮ ‬أوروبا وأي‮ ‬مكان لا‮ ‬يعني‮ ‬سقوط‮ »‬المشروع‮« ‬فهناك مجموعات صربية لا‮ ‬يمكنها التخلي‮ ‬عن عدوانيتها وكراهيتها للآخر،‮ ‬سواء كان دينيا أو عرقيا أو خلافه‮. ‬سيرحل رادوفان نحو الجحيم والنسيان،‮ ‬كما رحل صدام وهتلر وبينوشيه وسلوفودان وآخرون،‮ ‬كدرس هام،‮ ‬بأن الطغاة لا‮ ‬يمكنهم الإفلات من وجه العدالة والعقاب،‮ ‬فهناك لحظة من التاريخ‮ ‬يسقط فيها قناع التخفي‮ ‬الكاذب مهما كان صاحبها‮ ‬يعيش بهوية‮ »‬شخصية بديلة‮!«.  ‬

صحيفة الايام
3 اغسطس 2008

اقرأ المزيد