لقد اطلعت على مقالة الكاتب ابراهيم علي، المعنونة «هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون؟« والمنشورة في جريدة الأيام بتاريخ 10 يوليو 2008م، وما حملت هذه المقالة في مضمونها حول «عملية التنسيق ما بين تيار الإسلام السياسي من أحزاب دينية سلفية وإخوانية خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية لعام 2006م« وبقدر ما تطرق إليه الكاتب من تساؤلات «هل هذه الاحزاب الدينية قادرة على أن تجيد فنون التكتيكات والتحالفات والمناورات السياسية أم أن الجمعيات السياسية الوطنية والليبرالية ذات التاريخ الطويل والعريق في العمل السياسي والنضالي تخلت عن دورها التنويري؟« هي تساؤلات تظل في أمس الحاجة إلى كشف الخلل الذي اكتنف حقائقها، مثلما اتسمت بشيء من الالتباسات. بادئ ذي بدء نفخر بالقول إننا نتفق مع رأي الكاتب ابراهيم علي حول نقده تيار الإسلام السياسي، ليس في مملكة البحرين وحدها ولكن في أرجاء الوطن العربي قاطبة، بحسب ما نلتقي فكر الكاتب قلبا وقالبا مهما اختلفنا معه في الآليات والوسائل، لكنها تبقى اختلافات شكلية وثانوية.. ولكن ثمة هناك نقاطا مهمة وجوهرية تعبر عن قضايا أكثر أهمية، وردت في مقالة الكاتب، قد نختلف فيها معه.. بل لم نتفق مع رأيه حولها وإزاء مفاهيمها.. هو حينما تطرق بقوله: «ولا نبالغ إذا قلنا إن كل الجمعيات السياسية التي تصنف نفسها في خانة الليبرالية تتحمل مسؤولية تشتتها وضمورها وانعدام تأثيرها في المشهد السياسي المحلي«.. لعل هذا التصريح فان الكاتب قد وضع الجمعيات السياسية الوطنية والديمقراطية كافة في سلة واحدة من دون تمييز.. وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الكاتب حينما لم يفرق ما بين الجمعيات التي تنشد وحدتها وتسعى إلى ترسيخ هويتها وتاريخها، وما بين الجمعيات التي هي أساس البلاء في تشتيت وتشظي تنظيمات التيار الديمقراطي، بقدر تقربها لتنظيمات تيار الإسلام السياسي. ولعل باستطاعتنا بهذا الصدد ان نذكر الكاتب ابراهيم علي بأن (جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي) هي من بادر إلى وحدة التيار الديمقراطي التقدمي منذ بدايات الإصلاحات العامة في مملكة البحرين بحسب ما كانت قيادات المنبر التقدمي، ولاتزال تطالب الفصيل ذاته من القوى التقدمية، بإقامة التكتلات أو بالأحرى بتشكيل معارضة قوية ومؤهلة عقلانية وتقدمية علمانية خاصة ما بين (جمعيتي المنبر التقدمي والعمل الوطني) وإقامة التحالفات والقواسم الوطنية المشتركة ما بين هذا التيار الوطني الديمقراطي ومختلف الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني. من هذا المنطلق فان جبهة التحرير الوطني البحرانية حملت شعار الوحدة الوطنية خلال أروع النضالات وأقدس التضحيات منذ نصف قرن من الزمان.. مثلما سعى المنبر التقدمي الذراع للجبهة إلى مد جسور التواصل المجتمعي والجماهيري، من خلال قائمة الوحدة الوطنية وعبر اللجان المناطقية الشعبية والاجتماعية والسياسية في مختلف الدوائر الانتخابية في عهد الإصلاحات السياسية.. ولكن ما تجرعته القوى الوطنية التقدمية، من كؤوس المكابدة والاضرار البليغة، نتيجة قساوة الظروف الموضوعية للمرحلة التاريخية الابلغ قساوة لتداعيات الاحتقان السياسي، مثلت جميعها عقبة كأداء إلى ما تصبو إليه قوى التيارات الوطنية التقدمية لتحقيق الكثير من القضايا الوطنية والشعبية والمبدئية. غني عن البيان هو حينما يسترسل الكاتب إبراهيم علي خلال مقالته معلقا «ورضيت لنفسها أي (القوى الديمقراطية) ان تبقى في الصفوف الخلفية وحيدة عاجزة تراقب من مقارها المشهد من بعيد، فلا هي افلحت بتحالفها مع بعض القوى الدينية المحافظة أو حتى جنت من ذلك ولو النزر اليسير من النجاح، ولا هي افلحت في رأب الصدع مع الجمعيات القريبة منها في المبادئ والأهداف«.. كلام جميل تطرق إليه كاتب المقال.. ولكن تنقصه في الوقت ذاته المكاشفة الصريحة والمواجهة المباشرة.. بحيث إن الكاتب لم يسم الأسماء بمسمياتها، ولم يكشف عن مصدر الجهة المحددة المعنية بهذا الصدد.. ونحن بدورنا نستطيع القول إن ما قصده كاتب المقال بهذا الشأن وبالدرجة الأولى وعلى وجه التحديد هو: (جمعية العمل الوطني الديمقراطي «وعد«) التي ناشد قياداتها الكثير من الحريصين الوطنيين على وحدة التيار الوطني الديمقراطي، مرارا وتكرارا، بتنظيم اللقاءات والتشاورات مع قيادات (جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي) من أجل إقامة تكتل سياسي قوي وتشكيل معارضة تقدمية مؤهلة.. مثلما ناشدنا بدورنا قيادات جمعية العمل الوطني، بعدم التبعية والانجرار وراء تنظيمات تيار الاسلام السياسي، التي لا يهمها سوى مصالحها السياسية وتحقيق أجندة خطابها الاسلامي، والطاعة لمرجعيتها الدينية. ولعل ما أثار انتباهنا خلال مقالة الكاتب إبراهيم علي، هو تطرقه بالقول «إن ما نرقبه هذه الأيام هو أن ممثلي الكتل السياسية الدينية تتحرك منذ الان للعمل من أجل الفوز في الانتخابات القادمة عام 2010م«.. ونحن بدورنا نخاطب كاتب المقال: إنه يعرف اكثر من غيره بل هو أعرف العارفين بأن تحرك قوى تيار الإسلام السياسي للانتخابات مبكرا، لم يأت ضمن قاعدة شعبية وجماهيرية بقدر ما هو تحرك يمثل جانبا من جوانب الخدع العديدة الديماغوجية والتضليلية التي مارستها وتمارسها قوى تيار الإسلام السياسي، ليس في عهد الإصلاحات السياسية في الألفية الثالثة فحسب ولكن منذ ثلاثة عقود من الزمان، أهمها تغييب الناس البسطاء من الشعب البحريني بأتفه القضايا الدونية والشكلية، وتسطيح عقول الشباب وغسل أدمغتهم بأجندة إسلامية لخطاب ديني قائم على أساس التشهير والتجريح بالقوى الوطنية التقدمية وتكفيرها أحيانا، بقدر ما اعتمد اصحاب هذا الخطاب الاصطفافات الطائفية والنعرات العنصرية والمذهبية.. ويأتي المال السياسي الكبير الذي تمتلكه تنظيمات تيار الاسلام السياسي بحوزتها ليكسب ويستقطب اناسا عفويين بسجيتهم وبسطاء ببراءتهم، وبالتالي تستحي عيونهم لإطعام أفواههم، التي هي بالأساس اهدار لكرامتهم وإهانة لإنسانيتهم. ولعل في نهاية المطاف يبقى القول الملح انه ليس مهما ما تطرق إليه الكاتب إبراهيم علي خلال مقالته قائلا: «وتركتم الساحة لغيركم يصول ويجول فيها، فبعد ذلك كله ألا يحق لنا أن نقول لكم هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون؟« بقدر الأهم من ذلك كله هو تحليل الواقع السياسي المر والموجع الذي عانته وكابدته القوى الوطنية التقليدية طيلة ثلاثة عقود خلت.. بينما الواقع السياسي نفسه بتداعيات أوجاعه والظروف الموضوعية آنذاك قد خدمت قوى تيار الاسلام السياسي وهيأت لها الأجواء والتسهيلات سواء سياسيا أم إعلاميا أم اجتماعيا أم اقتصاديا، وفي مقدمتها توفير الرصيد الطائل والمال الوفير المتمثلين في المال السياسي الذي ابرز قوى إسلامية خلال الانتخابات البرلمانية والبلدية، هي ليست على قدر من الكفاءة أو الجدارة أو النزاهة حتى ولو في حدها الأدنى.
صحيفة اخبار الخليج
8 اغسطس 2008
دور المال السياسي في دعم تيار الإسلام السياسي
النفط رأس مال العرب (5)
تغيرت التشكيلة العربية الاقطاعية منذ تكونها في المرحلة الأموية حتى الآن تغيرات داخلية غير تحولية بالكامل، فظلتْ الأسسُ التكوينية الكبيرة هي ذاتها، وهو أمر لم يستطع الباحثون كشفه لكثرة التعقيدات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية المحيطة به. وتعتمد التشكيلات الشرقية عموما، المماثلة في جوانب معينة فقط للتشكيلات الغربية، على سيطرة جهاز الدولة على الاقتصاد، وهو أمر حاسم وتاريخي مديد بها، لضخامة الدول الآسيوية واعتمادها على النشوء المبكر للدول بسبب الأنهار والري والتحكم في الفيضانات. ولهذا كان الاقطاعُ العربي قد نشأ بسبب تبدل طبيعة الدولة المسيطرة في الجزيرة العربية التي عاشت نموذجا محدودا للاقتصاد وتبنت سياسةَ توزيع للثروة المصادرة من المشركين ومن الدول المهزومة، فتحولت الدولةُ إلى أداة لضبط الصراعات الاجتماعية وحماية الفقراء، إلى أن انقلبت فصارت دولة لكبار الملاك وللأسرة الاقطاعية الأموية، فظهرت التشكيلة في خضم هذين التحول والصراع. وإذا كانت الدولة الأموية أقرب للبداوة فإن الدولة العباسية اعتمدت على شكل واسع من التحضر، وعلى نمو كبير للعلاقات البضائعية والمالية كما سبق القول، إلا أن سيطرة الدولتين على الملكية الزراعية الكبرى والتحام الأسرة الحاكمة بجهاز الدولة، كان هذا هو ملمح الاقطاع السياسي عندهما. ولا يبدل من طبيعة النظام مدى اتساع العلاقات التجارية فالأخيرة تغدو محكومةً بطبيعة النظام، فتنمو ثم تضحمل وتكاد أن تهلك بسببه، ومهما كانت طبيعة النظام امبراطورية أو محلية، فإن الكبر أو الصغر الجغرافي، لا يبدل في طبيعة النظام الجوهرية. مثلما أن كثرة أو قلة السكان أو توسع العلاقات مع العالم الخارجي أو تضاؤلها، أو تبدل العلاقات السياسية داخل النظام نفسه من شورى أو تسلط، أو أن حكامه دينيون أم مدنيون، فذلك لا يغير التشكيلة، فالتشكيلة تتغير حين تنفصل ملكية الإنتاج الأساسية عن جهاز الدولة وعن المتحكمين به، وتصبح في التداول البضائعي الحر، فتزول الطبقات التي تعتمد على دخلها من الحكم. هذا الفارق (البسيط) هو ما يميز تشكيلتين متقاربتين في سلم التطور التاريخي، هما الاقطاع والرأسمالية. وإذا كانت التشكيلات في الغرب قد اعتمدت على ضعف الدول المركزية نظرا إلى صغر القارة الأوروبية التي لم تشهد ظاهرة الأنهار الكبيرة وعمليات الري المبكرة ونشوء الدول الاستبدادية الدائمة، كما وضح ذلك في نشوء الحضارة الإغريقية حيث المدن المتعددة، ثم تكرس ذلك ثانية في ضعف الاقطاع الأوروبي وتناثر ممالكه، مما أدى إلى اختراق الطبقات البرجوازية هذه الثغرات التاريخية وشكلت النظام الرأسمالي. ولكن التطور في الشرق يعتمد على أجهزة الدول، سواء بريادتها لعمليات التحضر أم في خلقها للتدهور على السواء، فأخذت التشكيلات تتجاور، فلم يتمكن العرب وهم يؤسسون نظاما اقطاعيا مركزيا كبيرا من القضاء على علاقات العبودية، كما أنهم وسعوا العلاقات الرأسمالية التجارية لكن لم يقضوا على الاقطاع. وهكذا فإن الدول المستعمرة الأوروبية وهي تتسلمُ جثةَ الحضارة العربية عمدت على تقوية أجهزة الدول وربطها بالملكيات العامة سواء كانت ملكية قطن أم نفط، بحيث تحافظ على البناء الاقطاعي ومخلفاته التراثية والاجتماعية، وعلى رابطة مداخيله وأنماط اقتصاداته بسيطرتها وبعلاقات إنتاجها. فالاقطاع المصري الاقتصادي ينتج لها القطن في زمنية خاصة من التطور اعتمدت على نقل المواد الخام الثمينة للصناعة الإنتاجية والاستهلاكية الغربية، لكن القطن لم يعد ذا قيمة في التطور الصناعي الغربي اللاحق، فالثورة التقنية جعلت السيطرة على المواد الأولية القديمة كالقطن والفوسفات غير ذات قيمة تاريخية، فعملتْ ثوراتُ التحرر الوطني والثورة الصناعية العلمية الغربية على تبدل نظام السيطرة على الدول في العالم الثالث. وبطبيعة الحال فإن النفط كمادة خام ثمينة خرج من لوحة المواد الخام العالمية بسبب دوره الكبير في الصناعة والنقل، مما زاوج نظام السيطرة على العرب والمسلمين من سيطرة مباشرة وسيطرة غير مباشرة معا. إن حفاظ الدول الغربية على التركيبة الاقطاعية العربية إذاً جرى منذ الاحتلال الأول للعرب، ولم تستطع الثورات الشعبية والحكومات العسكرية أن تلغي هذا الطابع، مثلما أن الدولة العباسية بتوسعها البضائعي لم تحول كليا طابع الدولة البدوية الأموية، كما أن الحكومات الجمهورية العربية جلبت أسرا حاكمة جديدة واستمرت عملية التداخل بين أسر الضباط الحاكمة والمصالح الاقتصادية الكبرى في الدول، مثلما هو حاصل في الدول الملكية، فحدث استنساخ للماضي، وليس ذاك لسوء طبع هذا الحاكم أو ذاك، ولكنه نظام تاريخي ذو جذور اقتصادية عميقة. ومع هذا فإن كم التحولات المالية والبضائعية المعاصرة كبير وعالمي ويحتاج إلى تفكيك أسراره الداخلية لمعرفة أين هي بنية المجتمع التقليدي؟ وأين هي عمليات التحول الرأسمالية؟ وإذا ما كانت قد اخترقتْ وحولتْ الهيكل العتيق؟ فعلينا التفريق بين التشكيلة والنظام السياسي، فالتشكيلةُ أكبر من الأنظمة، وقد تتعدد الأنظمة في ذات التشكيلة، لكن لابد من ظهور نظام عربي جديد يمثل تراكمات التطور ويقوم بإحداث النقلة النوعية والخروج من التشكيلة التقليدية. ولكن التطورات الاقتصادية العربية الغنية لم تأت اثر تراكم بل جاءت في مناطق لم تشهد تطورات رأسمالية كبيرة، وأغلبها بيئات بدوية، فهذا سيجعل البضاعة الجديدة المحورية (النفط) تنشد للوراء ولتأثيرات التشيكلات ما قبل الرأسمالية بصورة أكبر.
صحيفة اخبار الخليج
8 اغسطس 2008
أولمبياد بكين بعيون سياسية (4)
التحدي اللغوي على الأرجح أن دورة بكين المقرر افتتاحها ستكون أكثر الدورات الأولمبية الدولية إشكالية في مسألة التفاهم اليومي اللغوي بين الوفود الرياضية والمشجعين والسياح الرياضيين ومختلف الوفود الإعلامية الأجنبية من جهة، وبين أفراد الشعب الصيني من جهة أخرى، ولاسيما ممن سيحتكون منهم مباشرة بحكم أعمالهم ومهنهم بهذه الوفود الزائرة وعامة السياح الرياضيين والمقدر عددهم جميعا بأكثر من مليون زائر، لا بل يشير بعض التقديرات إلى أنهم قد يصلون إلى مليوني زائر، ولعل في مقدمة هذه الفئات سواق التاكسي والحافلات، ومقدمو مختلف الخدمات الأولمبية، وموظفو الفنادق والبائعون في الأسواق والمجمعات التجارية« وموظفو المؤسسات المصرفية وموظفو المطار واجهة البلد الأولى.
ونستطيع القول إن الغالبية العظمى من هذه الفئات ومن خلال تجربة عيانية لمسها كاتب هذه السطور يجهلون كل اللغات العالمية الرئيسية التي تستخدمها شعوب العالم إما بصفتها لغتها الأولى أو الثانية، وإما كلغة وسيطة ثالثة للتخاطب والتفاهم، وعلى رأس هذه اللغات اللغتان الإنجليزية والفرنسية. وبالرغم مما بذلته وتبذله السلطات الصينية والجهات المنظمة المعنية بالتحضير للأولمبياد من جهود كبرى خلال العامين الماضيين لتعليم وإكساب أفراد هذه الفئات، التي ستكون على احتكاك يومي مع ضيوف الأولمبياد، بعض الأساسيات الأولية للغة الإنجليزية باعتبارها أكثر لغات العالم شهرة وانتشارا فإننا نستطيع القول بكل اطمئنان إن المحصلة من هذه الاستعدادات اللغوية مازالت متواضعة جدا بل لا تكاد تذكر، وعلى الأخص فيما يتعلق بسواق سيارات الأجرة وموظفي الفنادق، وبضمنها الفنادق الكبرى ذات الخمس النجوم وموظفي البنوك والمؤسسات المصرفية والعاملين في المطاعم. وإنها لمفارقة تاريخية حضارية لغوية عالمية مؤلمة حقا أن تكون لغة شعب البلد الأكثر سكانا والأعرق حضارة في العالم وتصل نسبة تعداده إلى خمس سكان العالم هي من أكثر اللغات التي تجهلها شعوب العالم، وأن يكون هو نفسه من أكثر شعوب العالم جهلا باللغات العالمية الكبرى الأكثر شهرة وتداولا في العالم وعلى رأسها «الإنجليزية«. وقد لعبت العزلة التاريخية المرة خلال فترة الأسر الملكية، ولاسيما خلال مراحل الركود، فضلا عن العزلة التي أرسيت وتكرست بعدئذ خلال عهد القائد الراحل ماوتسي تونج مؤسس جمهورية الصين الشعبية الحالية.. كل ذلك لعب دورا في تكريس عزلة الشعب الصيني عن شعوب العالم وعدم احتكاكه لغويا بها، ولاسيما الشعوب الأوروبية والغربية المتقدمة. ولم يتم التخلص بعض الشيء من هذه العزلة إلا بعد تدشين سياسة الإصلاح والانفتاح بعد موت ماوتسي تونج على يد خليفته دنج هسياو بنج. ومع ذلك فإن هذا الانفتاح لم يكن كافيا لتخليص الشعب الصيني وعلى الأخص نخبته المثقفة والمتعلمة والعاملون في مجالات السياحة من جهله بلغات العالم الرئيسية وفي مقدمتها الإنجليزية. ومن المتوقع بقوة أن تحدث يوميا إشكالات وطرائف ومواقف عديدة لا حصر لها بسبب انعدام لغة عالمية وسيطة للتفاهم بين وفود وزوار الأولمبياد وبين أفراد وفئات الشعب الذين سيحتكون بهم يوميا إذ لا مجال هنا سوى الاستعانة بلغة الصم والبكم ألا هي لغة الإشارات، كما فعل ويفعل العديد من الزوار والسياح الأجانب للصين، وهذا ما سيوفر مادة دسمة لتعليقات الصحافة العالمية أثناء الأولمبياد. أما على مستوى الوفود الرياضية وكبار القادة والشخصيات المرافقة لها فقد قامت بكين بأضخم استعدادات ممكنة لمواجهة هذا التحدي وحل هذه الإشكالية اللغوية وذلك من خلال تخصيص أكبر فريق ممكن من المترجمين المرافقين لتلك الوفود على اختلاف لغاتهم بما لا يقل عن 41 لغة عالمية وبضمنها العربية. وسيقع العبء الأساسي للقيام بهذه المهام في خدمة الترجمة على أساتذة وطلبة الجامعات، وعلى الأخص أقسام اللغات في جامعة بكين وجامعة الدراسات الأجنبية وجامعة شنغهاي، حيث تبين لنا أن غالبيتهم العظمى المؤهلة لغويا تم تجنيدهم لهذه الغاية وطلب منهم تأجيل إجازاتهم السنوية، ومع ذلك فإن هذا الجيش الكبير من المترجمين لن يستطيع الحيلولة دون حدوث الإشكاليات اللغوية اليومية المتوقعة في معاملات الوفود والزوار اليومية في الأسواق والشوارع والمؤسسات السياحية.
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2008
النفط رأس مال العرب (4)
كان اعتماد المجتمع العربي على أشكال العمل ما قبل الرأسمالية بصورة واسعة، كاستخدام الرقيق، لكن استخدام الرقيق هذا كان يعبرُ عن رفض الجمهور العربي العمل بصورة مأجورة. فسادت الأملاكُ الخاصة سواء كانت تملكا للسلع التجارية أو للأراضي الزراعية وغير ذلك من ضروب النشاطات الاقتصادية، وغدا عمل الرقيق هو المجال الواسع لإدخال العمل ما قبل الرأسمالي الشديد التخلف إلى العلاقات الاقتصادية الذي يعرقل نمو قوى الإنتاج والتقنية والعلوم. ومن هنا كانت أشكال قوى العمل منبثقة من العلاقات الاقطاعية كاستئجار الأرض ودفع ريع نقدي أو عيني أو كليهما، وهو شكلٌ من العمل عرقل ظهور العمل بالأجرة. كما خيم عبر القرون على المناطق الريفية فأشاع الركود الاقتصادي والتدهور الإنتاجي.
حتى لو كان الفلاحون متضامنين ويعملون بشكلٍ مشترك فإن ذلك يحولهم إلى رقيق للأرض، عبر هذا النزف لموردهم وعبر ارتفاع بعض الفئات التابعة للسلطات التي تستفيد من السيطرة على هؤلاء، في حين يتدهور وضع الفلاحين ويبقون على شفا المجاعة ويعجزون عن تطوير أولادهم، وهذا كله جعل الريف المصدر الثاني للإقطاع العربي إضافة إلى المصدر الأول وهو النظام السياسي الحاكم. وتبقى العلاقات التجارية غير قادرة على خلق نظام رأسمالي واسع وعميق في البناء العربي التقليدي، بسبب تركزها على البضاعة المادية أي على السلع، في حين عجزت عن تحويل قوة العمل إلى سلعة واسعة، فالتاجر يستخدم الرقيق أو الخدم أو العاملين بالأجرة، ويحدث ذلك عند التجار الكبار عادة، أما التجار الصغار فإنهم يعملون بأنفسهم وباستخدام أولادهم غالبا، ولهذا فإن التاجرَ الكبير يخلطُ تجارته المادية بالتجارة في البشر، وهناك صنفٌ مخصص لهذه التجارة المدمرة على المستوى البعيد، فهي أحد العوائق الكبيرة لتطور التقنية. ولكن أهم عائق هو ارتباط التاجر بالحكم وتوريده السلع الثمينة المعبرة عن البذخ التي تؤدي إلى انهيار النظام الاقتصادي التجاري في خاتمة المطاف، وهو ما ينعكس على مصالح كبار التجار الذين يكونون عرضة للمصادرات مع أزمة النظام النقدية. إن العملةَ الذهبية «يضطردُ« خروجُها من الامبراطورية الإسلامية عبر هذا النزف الاقتصادي، وهنا تظهر المناطق التجارية المستفيدة من ذلك سواء في الهند أو الصين أو مدن إيطاليا، ولا تحل المصادرات أو استنزاف القرى بالخراج أو الأهالي بالمكوس أزمة النظام المتمثلة في بذخه الهائل وتضخيم جيشه بشكل مستمر للرد على معارضة الأهالي لتزايد غبنهم، وهنا تنحل المشكلات بتفاقمها، حيث يقوم ولاة بالتمرد وباقتطاع ما في حوزتهم من أراض وقطائع يعتبرونها حكماً لأسرهم، ويكررون دور النظام نفسه في المركز ليتمرد عليهم آخرون، أو تقوم قبائل الصحراء بإعادةِ نموذجِ الأسر الحاكمة برفد سكاني جديد وبدورة مماثلة على المدى البعيد، وهذا ما يجعل التدهور الاقتصادي في المركز ينتقل إلى الاقاليم. إن عدم نمو العمل بالأجرة بين القبائل العربية كان عاملا مساعدا على عدم تفككها، وعدم ظهور صراع طبقي قوي داخلها، مما حافظ على بنية القبيلة التقليدية، وأعطت الفتوحُ إمكانية كبيرة لهذا الجسم الاجتماعي القبلي أن ينتقل للمدن من دون أن يحدث فيه بعض التمايزات، مما حافظ فيه على المشيخة وعاداتها، وعلى كره العمل اليدوي، لكن إلى حين. لكن الغياب الواسع للعمل بالأجرة وعجز الرأسمال التجاري الكبير عن تطوير الحرف إلى صناعات، والتدهور الحاصل في الإنتاج وتفاقم البذخ والعسكرة على مستويات الامبراطورية الممزقة كافة، كل هذا يؤدي إلى تحول قوى العمل إلى الأنشطة الطفيلية كذلك كالتسول والدروشة التي تغدو واسعة ومرتبطة بتدهور العقلانية وتتوسع فرق «الشطار والعيارين« واللصوص والعاطلين الخ… لقد اتاح النظام الإقطاعي المركزي مستوى كبيراً لتطور التجارة، وهو ما تجلى في عهود النهضة العربية، لكن تم خنق التجارة عبر عجز الدولة عن السيطرة على مداخيلها، وتنامي هذه المداخيل على حساب ضبط الري وتحسين الزراعة وتطوير الحرف، فأدى هذا إلى زيادة الضرائب وتقطع سبل التجارة والتفكك الداخلي، وهذا ما جعل القوى الأوروبية التجارية الصاعدة المخلوقة من الرفد العربي الاقتصادي السابق، تمسك زمام المبادرة التجارية والاقتصادية عموما. لقد قادت التجارة البحرية خاصة إلى اكتشافات علمية واقتصادية وغذت المدن المختلفة بالبضائع فوسعت الإنتاج لكن نظام الحاكم أهدر هذه التراكمات المالية في أنشطة غير اقتصادية وغير منتجة.
صحيفة اخبار الخليج
7 اغسطس 2008
وثائق الخمسين ديناراً
حسب الصحافة فان على المتظلمين لعدم استلامهم علاوة الخمسين دينارا العتيدة الحضور إلى مركز مدينة حمد الاجتماعي مصطحبين معهم الوثائق التالية: نسخة من جواز السفر البحريني لرب الأسرة، وثائق تثبت العنوان مكونة من: فاتورة الكهرباء، نسخ من البطاقات السكانية مطابقة للعنوان المذكور، نسخة من وثيقة الزواج، في حالة الترمل نسخة من شهادة الوفاة، في حالة الطلاق نسخة من وثيقة الطلاق، نسخة من السجل التجاري في حال وجوده، نسخة من وثائق العقارات التي يمتلكها إذا كان لديه أكثر من عقار واحد، نسخة من وثيقة تثبت الدخل الشهري (راتب أو معاش تقاعدي)، وثيقة تثبت رقم حساب البنك لصاحب التظلم. وفي إحدى صحفنا المحلية أمس كاريكاتير ساخر يُظهر تدافع المواطنين على المركز المذكور وفي أياديهم الوثائق المذكورة، بصورة تدعو للشفقة. منطقي أن يثار السؤال عن الحاجة إلى كل هذه الوثائق، خاصة إذا ما لاحظنا أن البيانات المطلوبة يمكن الحصول عليها من وثيقة واحدة أو اثنتين فقط من بين تلك الوثائق التي أوردناها. وعودة إلى الوراء قليلاً علينا تذكر التخبط الذي أظهرته القوائم المتناقضة لمستحقي هذه العلاوة، والتي نشرتها الجهات الرسمية في الصحافة المحلية، فبدت كل قائمة مختلفة، في الكثير من تفاصيلها عن الأخرى، بحيث أن أسماء ظهرت في قوائم أولى عادت فاختفت في الثانية، والعكس صحيح، ثم يلي ذلك توضيحات من الجهات المعنية لا تشفي غليل التساؤلات المثارة عن السبب في كل هذا التناقض أو حتى التخبط. ما أكثر ما تباهينا بوجود قاعدة بيانات متطورة لدينا، وهذا هو المفترض في دولة مثل البحرين، لديها سجلات ثابتة لموظفي الحكومة، تصرف لهم، وعلى مدار سنوات، لكي لا نقول عقود، رواتب أومعاشات تقاعدية تذهب إلى حساباتهم في البنوك، وأرقام الحسابات تلك مدونة ومحفوظة لدى ديوان الخدمة المدنية وجهات العمل المباشرة من وزارات وهيئات وإدارات. كما أن رواتب المواطنين ومعاشاتهم التقاعدية هي الأخرى محفوظة في قاعدة البيانات هذه، ومن السهل، بعمليات بسيطة على الحاسوب، معرفة مستحقي هذه العلاوة الزهيدة لمن لا تزيد رواتبهم عن ألف وخمسمائة دينار، كما نصت على ذلك قواعد صرف هذه العلاوة. كيف حدث كل هذا التخبط عند صرف هذه العلاوة الذي أصبح موضوعا للتندر عند المواطنين، خاصة حين نرى طوابير المتضررين كما لو كنا في يوم الحشر، مع أن صرف هذه العلاوة كان يجب أن يتم منذ لحظة اعتماد المبلغ المقرر لها، وتحول بصمت، وبعيداً عن كل هذا الضجيج والمعاناة. ما نشاهده، في الاتصال بهذه المسألة، يدعونا للتساؤل: أين هي قاعدة البيانات التي نتباهى بها، ولماذا اختفت أو اختلّ أداؤها حين اتصل الأمر بدفع هذا المبلغ، الذي لا يعدو أمره في أحسن الحالات تأثير حبة صغيرة من البندول، يزول تأثيرها بسرعة.
صحيفة الايام
7 اغسطس 2008
«سكولاستيكا» و«دياليكتيك»
العنوان أعلاه، تسمية لاتينية بالأصل لكلمة ‘سكولا’،
أي المدرسة، و’سكولاستيكا’ مدرسة كنسية ظهرت في القرون الوسطى، وكانوا ‘يدرسون فيها
مزاعم غيبية معزولة عن الحياة، وخالية من المحتوى فسميت هذه المزاعم سكولاستيكية[1
]’.
أما ‘الدياليكتيك’، وهذا الدياليكتيك كما عرفه
زميل عراقي كردي يدرس الفلسفة معنا في السبعينات، بأنه مثل ‘اللاستيك’، وهو يختلف
عن ‘الاسكولاستيكا
‘.
وعلَّمنا الذين يسترشدون بنظرية الدياليكتيك لـ’معرفة
الواقع وتغييره’، أن ‘الأشياء والظواهر المختلفة تتحدد بالتناقضات المختلفة، وهي
تمتلك مصادر تطورها، وتنعكس هذه التناقضات في العلوم بأشكال مختلفة[2]’.. هل فهمتم
شيئاً؟.. ولا أنا، لكن بعد التأمل في القراءة لتلك التناقضات المختلفة في الواقع وتعقيداته،
ربما يتفهم المرء، ولكنه بطبيعة الحال، لا يجزم الفهم
.
ففي علم الرياضيات يوجد ‘زائد وناقص، ضرب وقسمة’،
وفي الميكانيكا، ‘فعل ورد فعل’، أما في الفيزياء ـ أهم العلوم الطبيعية ـ يوجد تياران:
‘الأول موجب والآخر سالب’، وفي الكيمياء ـ اتحاد وتفكك (تفسخ انفصال) الذرات، وعندما
نصل إلى بيت القصيد الذي يهم الكثيرين، أي العلم الاجتماعي، فنجد صراع الطبقات المختلفة
بخليطها المعقد والمتزاحم، والحياة فيها: ‘أحداث خطيرة وتافهة، مضحكة ومفجعة.. فقراء
وأغنياء، عمال ورأسماليين، شين وزين، شر وخير، جوعى وشبعانين، آلام ومسرات، شعب وفرد،
أبناء ذوات وأولاد قطط سوداء’ بالرغم من أن ‘جميع القطط في الليل متشابهة’ كما تقول
والدة ‘لويس كورفلان[3]’ في كتاب مذكراته: ‘شيء من حياتي
‘.
القصد من هذه المقدمة، ليس إثبات ‘طهارة البدء
والنهايات’ بصورة ‘سكولاستيكية’، غيبية، أو ‘دياليكتيكية’، مادية، باعتبار الدياليكتيك،
علم يَدْرس علاقات العالم المادي الشاملة وتطوره.. ليس هذا ولا ذاك، وكلاهما يستعصيان
على فهمي المتواضع، ولا أحد يدعي بذلك الفهم، اللهم، الأفاقين والمنافقين ومن في حكمهم،
سواء يكونون في صفوف المعارضة أو الموالاة في أي مجتمع، والمجتمع البحريني ليس استثناء
.
دعونا نبدأ بآخر الحاصل بـ’الملحة’ التي نحبها،
ونتساءل: هل الذي يجري في البحرين من حراك سياسي ومطلبي، نزل علينا هكذا بالصدفة من
السماء قاصدا ‘الدِّيرة’ دون سواها، أم أن هناك ظروفا ذاتية وموضوعية، وشيئاً كثيراً
يصعب إحصاؤه من الكلام الذي أعلاه حول التناقضات المختلفة والمتزاحمة المعقدة بتراكماتها؟
سؤال آخر عن المحتجين، هل صحيح إن ‘جيناتهم غريبة
التكوين، لا يفهمون غير لغة ‘الضجيج العالي بليا سبايب’؟، في حين أن ‘اعيال غير’،
يمثلون الحكمة وقمة التسامح الاجتماعي.. الورع والطيبة؟
معذرة لهذا التقسيم الاستفزازي القبيح، لكن لماذا
وصلنا إلى هذه المواصيل؟، ولماذا بالأصل نجهد أنفسنا في التفكير ما دامت الحلول الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية والأمنية والتنموية، تأتي من بوابة اجتماع لرجال دين من طائفتين
بيدهم ‘الخيط والمخيَّط’؟
إذاً، يا عزيزي المواطن، لا تجهد نفسك بالتفكير
حول الوحدة الوطنية، أو الحلول الاقتصادية، والمعيشية، والسكنية، والبيئية فـ’الحكومة’..
وإن شئت، ‘رجال الدين من الطائفتين الكريمتين يفكرون نيابة عنك
!.
واحسرتاه عليكم أيها العلمانيون والليبراليون والوطنيون،
وخاصة اليساريين منكم، لا أحد يستشيركم في حلول، ولا أحد يستسيغ أفكاركم التي تسحر
عقول مريديكم في الحديث عن الوحدة الوطنية، والنضال من أجل التغيير، والعدالة الاجتماعية،
والتعددية، وحرية المعتقدات، التي تعتبرونها من ‘أقدس المقدسات، حيث ينبغي النضال،
والدفاع عن هذه المبادئ، في هذه المرحلة، كما في المراحل السابقة
‘.
ووفق المفكر السوري نبيل فيّاض، الذي يؤكد دائماً،
إن ‘الحديث الكلامي عن الوحدة الوطنية غير مجدٍ ما دامت كتبنا ومحاضراتنا وكلامنا
خلف الأبواب المغلقة تعارضها بالكامل[4]’. وهنا على المشتغلين بالسياسة عندنا أن يتأملوا
كثيراً في المحاولات التي تحاول جر المواطن إلى مياه ‘الاسكولاستيكية’، وتغييب عقله،
وكأن الذي يفور في داخل مجتمعنا، ما هو إلا قدر مكتوب ضمن قاعدة حياتية مفادها: ‘ناس
يضيق بهم العيش بسبب سعة العيش .. وآخرون بسبب ضيق العيش’، وواقع هؤلاء الأخيرين،
لا خيار أمامهم سوى التذمر والاحتجاج والمعارضة، لأنهم وقعوا في خانة: ‘كمن يرمي شخصاً
في الماء، ويمنعه من أن يبتل.. ويعاقبه إذا ابتل’، فلو أن الأمور تسير بشكل طبيعي
في مجتمعنا، لما تزايد التذمر، ولا الاحتجاجات، ولا المطالبات، فيما المعارضة والتعددية
السياسية ستترسخ، لأنها سمة من سمات التطور والتغيير نحو الأحسن، خاصة وإن هذه المعارضة
تعمل في ضوء النهار أمام سمع وبصر الحكومة
.
[1][2]
ما هو الدياليكتيك؟، غ. كورسانوف ـ ص.16
[3]
لويس كورفلان، هو الأمين العام للحزب الشيوعي في تشيلي، وأحد أقطاب حكومة
‘الوحدة الوطنية’، بقيادة سلفادور إليندي الراحل الذي أطاح بها وبدعم أميركي الديكتاتور
أوغستو بينوشيه في 11 سبتمبر/ايلول .1973
[4]
نبيل فياض: ‘مدخل إلى مشروع الدين المقارن
‘.
المصدر: الوقت – 5 أغسطس 2008م.
أولمبياد بكين بعيون سياسية (2)
التحدي البيئي والصحي والغذائي
منذ انطلاقة أول دورة اولمبية في التاريخ المعاصر ربما لم تواجه مدينة في العالم من المدن التي احتضنت الاولمبياد تحدياً صحياً وبيئياً كالذي واجهته بكين العاصمة الصينية، ولاسيما ان اولمبياد بكين الوشيك يجرى متزامناً في ظل أسوأ ظروف بيئية تشهده الكرة الارضية بسبب الاحتباس الحراري وما يشهده العالم من مخاطر بيئية صناعية مختلفة ومتعددة جسيمة تهدد كوكبنا، وفي ظل ايضاً تعاظم شوكة ونفوذ منظمات حماية البيئة العالمية ومنذ البداية واجهت بكين ومازالت تواجه ضغوطا دولية حول مدى مناسبة مناخها وبيئتها لتنظيم الدورة الاولمبية الجديدة، وان كانت بعض هذه الضغوط مضخمة وموظفة لخدمة الحرب النفسية التي يشنها الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ضد بكين في اطار التسييس المفروض على الدورة.
مما لا شك فيه ان التلوث الذي تشهده سماء العاصمة هو حقيقة قائمة لا ريب فيها بسبب العدد الهائل من المركبات التي تسير في شوارعها والمصانع والورش المحيطة بها وأعمال الانشاءات الكثيفة، لكن لا احد قدم احصائيات دقيقة عما اذا كان هذا التلوث هو الأسوأ مقارنة بالعواصم والمدن الاخرى التي اقيمت فيها الدورات الاولمبية السابقة. وبطبيعة الحال فإن الصين ادركت هذا التحدي الذي يواجه سمعة عاصمتها منذ لحظة فوزها باستضافة الاولمبياد، ومن ثم فإنها جندت كل طاقاتها وامكانياتها لتنقية هواء المدينة وتقليل نسبة التلوث في اجوائها وشوارعها قدر المستطاع. وقد بلغت هذه الجهود ذروتها خلال الشهور القليلة الماضية حتى تمكنت بكين من تقليل مؤشر التلوث الى اقل من 100 نقطة وبمساعدة الرياح المتذبذبة الخفيفة التي تهب عليها بين حين وآخر وهنالك مخاوف كبيرة من هطول امطار غزيرة اثناء الدورة وعلى وجه الخصوص يوم الافتتاح لكن بكين واعتماداً على السجلات التاريخية لارصادها المناخية ترد بأن نسبة توقع هطول الامطار في يوم الافتتاح الموافق 8 اغسطس لا تتعدى 41%. وتأمل الصين في ان تسهم خطتها المرورية الكبيرة لتقليل عدد المركبات في شوارع العاصمة خلال الاولمبياد في تحقيق هدف مزدوج، تقليل الاختناقات المرورية من جهة، وتخفيض نسبة التلوث من جهة اخرى. كما قامت الحكومة باغلاق مجموعة كبيرة من المصانع المسببة للتلوث كمصانع الصلب، وتم ايقاف وتجميد اعمال الانشاءات والبناء الكبيرة حتى انتهاء الاولمبياد. ومع ذلك فإن مسألة التلوث مازالت تبرز كأكبر سلاح في الحرب النفسية التي يشنها الغرب على بكين، هذا مع العلم ان جانباً موضوعياً مناخياً بيئياً يساهم في الشعور بتلوث الهواء لا دخل للمدينة او لا ذنب لها فيه ان جاز القول ويتعلق بطبيعة مناخ المدينة الرطب الحار خلال شهري يوليو واغسطس وتكاثف الضباب والغيوم من جراء ذلك ناهيك عن سقوط الامطار المتواصل، كما تم التقليل من استخدام المكيفات. على الصعيد الصحي والغذائي، فإلى جانب تلوث الهواء تواجه الصين تحدياً لإظهار شوارع العاصمة ومناطقها التجارية والسياحية الهامة في أبهى صورة حيث ستكون أمام مرأى زوار الاولمبياد لدى تنقلاتهم اليومية. وفي هذا الصدد قامت الصين بأكبر عملية تنظيف وتزيين غير مسبوقة لم تقم بها ربما أي دولة اخرى استضافت الاولمبياد، بل لم تشهد بكين طوال تاريخها على مدى قرون طويلة حملة كهذه استهدفت تنظيفها وتأليقها. كما تم القيام بأكبر حملة توعية صحية بين سكان المدينة للمحافظة على نظافتها ومن ذلك التوقف عن عادة البصاق واتخاذ اجراءات صارمة وغرامات بحق المخالفين، وكذلك منع رمي الاوراق او المخلفات في الطرقات. وفي سياق اظهار المظهر الحضاري العصري لسكان العاصمة امتدت حملات التوعية لتشمل تفادي ارتداء الازياء ذات الالوان المتعددة او انتعال الاحذية السوداء مع جوارب بيضاء او الخروج بملابس النوم في الشارع، واحترام الطوابير والاصطفافات المنظمة، بما في ذلك طريقة ركوب القطارات والمترو والحافلات، واللباقة في المصافحة مع الاجانب من دون اطالة المصافحة أو الاقتراب اكثر من اللازم من جسم الزائر وتحاشي الحديث في الامور الشخصية مع الزوار كالاستفسارات الفضولية التلصصية عن اعمارهم او وضعهم الاجتماعي او مدخولهم او عنوانهم وكل ما يمت بصلة الى خصوصياتهم الشخصية وعقائدهم الدينية والسياسية. كما تحض كتيبات التوعية المشجعين الصينيين على الظهور بالمظهر الحضاري الراقي المتوخي الروح الرياضية بعيداً عن مظاهر التعصب المقيت او الانسياق الى الاجواء العاطفية المشحونة في الملاعب التي قد تفضي الى ارتكاب أعمال عنف متبادلة خلال الدورة مهما كانت الظروف والمسببات التي قد تلحق بفرقهم المشاركة، ولا بأس من تشجيع كل منتخبات الدول التي تثبت تفوقها الابداعي والفني عن جدارة. اما من حيث التغذية والوجبات فمازالت الصين تواجه تحدياً كبيراً في اثبات جدارتها بتوفير وجبات تتلاءم مع اذواق ومعتقدات عشرات الوفود الرياضية القادمة من بلدان ذات ثقافات وعادات مختلفة، ولاسيما ان الطعام الصيني لم تتعود على استساغته ومذاقه معظم شعوب العالم بعد. هذا الرغم من ان الصين بذلت قصارى جهودها في المؤسسات السياحية من مطاعم وفنادق، وفي المؤسسات الاولمبية (القرى الاولمبية) لتحقيق هذه الغاية. وكانت الولايات المتحدة اول من أظهر للصين تبرمها من الوجبات المقدمة في القرية الاولمبية على الرغم من ان هذه الاخيرة قد حشدت فريقا ضخما من الطهاة والمساعدين يصل الى 2700 عامل فندقي و4 آلاف طالب متطوع. وأخيراً ثمة بعد صحي آخر عادة ما يلازم كل دورة أولمبية ويتمثل في محاربة المنشطات الرياضية لضمان صحة اللاعبين وتحقيق المنافسة الندية المتكافئة بين الفرق. وقد اتخذت بكين سلسلة من الاجراءات الصارمة لمكافحة تجارة بيع المنشطات على اختلاف انواعها وفرضت رقابة مشددة على بيع وتداول مادة الانفتامين. كما فرض على جميع مصانع الادوية وضع ملصقات على انواع الادوية كافة تحذر من بيعها للرياضيين خلال الاولمبياد، لكن هل ستتغلب كل هذه الاجراءات الصارمة على فنون التحايل عليها سواء من داخل الصين ام من خارجها؟
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2008
النفط رأس مال العرب (2)
كان في جزيرة العرب طريقان للتجارة (أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند وفارس براً، ثم يجاوز غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام) (والطريق الثاني هو الأهم وهو غربي يصل اليمن بالشام مجتازاً بلاد اليمن والشام ناقلاً أيضاً بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام وبضائع الشام إلى اليمن حيث تصدر إلى الحبشة والهند عن طريق البحر)، (كتاب أسواق العرب، ص9). من المدن التجارية المهمة في العصر القديم (تيماء: المحطة الكبرى العامة شمالي الحجاز مروراً بسلع وبُصرى وتدمر ودمشق).
(كان للعرب دراية بالملاحة منذ القرن العاشر قبل الميلاد)، (عن تاريخ العرب الأدبي نيكلسون) ويضيف: (وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعلهم يفضلون الطريق البري). (كانت القوافل تقوم من شبوت في حضرموت وتذهب إلى مأرب عاصمة سبأ ثم تتجه شمالاً إلى مكربة (مكة) وتظل في طريقها من بترا حتى غزة). (كان الحميريون هم المسيطرون على التجارة جاعلين العرب الحجازيين عمالاً عندهم حتى قبيل البعثة) (السابق ص 11). (منذ القرن السادس انتقلت التجارة تدريجياً من اليمنيين إلى قريش). قال الألوسي: (وأما أهل اليمن وعمان والبحرين وهجر فكانت تجاراتهم كثيرة ومعايشهم وافرة لما في بلادهم من الخصب والذخائر المتنوعة والمعادن الجيدة)، ص 11(على أن لطيء ومنازلها أواسط نجد شهرة في الاتجار شمالي جزيرة العرب). (وقدّر بعضُهم ما يشتريه العالمُ الروماني من طيوبِ بلاد العرب والفرس والصين بقيمة مائة مليون من الدراهم) السابق ص .12 وتعبيراً عن التبادل المناطقي الواسع قالوا:(برود اليمن وريط الشام وأردية مصر).ومن أقوالهم:(الطائف مدينة جاهلية قديمة وهي بلد الدباغ يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة). أما(هجر والبحرين فهي متجر التمر الجيد). كان التجار يُسمون السماسرة فجاء الإسلامُ بكلمةِ معشر التجار. وهناك اسماء أعجمية وَرَدتْ للعرب تحملُ أسماءَ البضائع:(الصنج والصولجان والفيل والجاموس والمسك وخصوصاً أنواع النسائج كالديباج والاستبرق والابرسيم والطيلسان) السابق ص .18 وتعرفنا بعض الكلمات الأعجمية التي عُربت وصارت جزءاً من التسميات العربية على تغلغل العلاقات البضائعية في الحياة الجاهلية مثل:(ترف وجزية ودرهم وفندق وقارب ولص).سردَ هذه الكلمات بندلي جوزي في بحثه (بعض اصطلاحات يونانية في اللغة العربية) في مجلة مجمع اللغة العربية 3 / 330 نقلاً عن المصدر السابق، ص 19). قال معاوية لصوحان صف لي الناس فقال: خُلق الناسُ أطيافاً، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق. وقد عرف العربُ سندَ الملكية(طابو) والعقود. ومن كتاب المحاسن والأضداد نقرأ( إن العديد من رؤساء قريش كانوا باعة وحرفيين). وتعددت البيوع عندهم مثل: بيع الغرر، أي بيع ثمر النخل والشجر مدة عام أو عامين وهو مرفوض دينيا. بيع التصرية وهو عدم حلب الناقة فترة من أجل أن تمتلئ وهو شكل من التحايل. البيع الناجز وهو البيع الصحيح يداً بيد. (في البدء كانوا يتعاملون بالمقايضة ثم تعاملوا بنقود الروم والفرس، الدنانير والدراهم، ويقدر الدينار بعشرة دراهم، والدرهم يساوي عشرة قروش مصرية) ( حسب زمن المصدر 1960) ويدل هذا على ضعف تطور العلاقات البضائعية – النقدية، ثم نموها عبر تنامي إنتاج القبائل عبر مئات السنين، واستمرار سيطرة الفرس والروم السياسية، فكان فائض ما ينتقل من الجزيرة للإمبراطوريتين، ثم غدت نقودهما نقودَ الامبراطورية الإسلامية التي ورثت الهيكل الاقتصادي – السياسي العبودي – الإقطاعي من دون أن يستطيعَ التراكمُ المالي أن يؤدي إلى المرحلة الرأسمالية. وجاء لدى المقريزي ان أول من ضرب السكة عمر بن الخطاب على نقود فارسية مع كلمات عربية إسلامية. وكان لديهم (المكس) وهو أخذ العشر من باعة السوق والمكس في اللغة النقص وفي البيع انتقاص الثمن. قال الشاعر: ( أفي كل أسواق العراق أتاوة/وفي كل ما باع امرؤ مكس درهمِ) وحول الاستغلال وتراكم الأموال، جاء في خزانة الأدب (كان أحيحة بن الجلاح كثير المال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا في المدينة). عُرف بعض الصحابة باستخدام الربا كخالد بن الوليد وعثمان بن عفان وحين جاء الإسلام تركا الربا بطبيعة الحال، وكان الرهن يصل إلى رهن البشر مما يعبر عن كوابح تطور العلاقات البضائعية النقدية وانغمارها بعلاقات العبودية وقتذاك. وهناك ربا الأضعاف المذموم بشدة في القرآن «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة« آل عمران 3، وهو أمرٌ يعبرُ عن هدف سياسي هو زعزعة سيطرة القبائل اليهودية على المدينة وعلى العرب، وقد أخذ الفقهاءُ هذا الحكم كحكمٍ مطلق وليس نسبيا، ثم جاء فقهاء حاولوا تجاوز هذه الإشكالية عبر ما سمي فقه(الحيل). وهذا كله يبين استمرارية تنامي العلاقات البضائعية – النقدية لدى العرب رغم الكوابح الطبيعية الهائلة والشظف والتحكم السياسي الجائر في عصور الدول الاستبدادية.
صحيفة اخبار الخليج
5 اغسطس 2008
من الجيل الجديد وعنه
جرت العادة أن الجيل الأكبر ينظر إلى الجيل، أو الأجيال التي تليه على إنها أقل شأنا منه. وغالبا ما يقول الكبار موجهين الحديث لمن هم اصغر سنا: »كنا أكثر جدية منكم وأكثر مثابرة، ولو توفرت لنا الفرص المتاحة لكم اليوم لكنا… وكنا…« الخ. والحق أن هذه الروح الأبوية تبدو لازمة لدى الأجيال الأسبق عادة، لأننا في صغرنا سمعنا كلاماً مشابهاً من آبائنا. لكن الحياة تقدم برهانها إن الأجيال الجديدة، كقاعدة، هي أجيال أكثر ذكاء وأكثر معرفة، وان ما توفر لها من ظروف تنشئة أفضل يجعلها، في الإجمال، أكثر قابلية للتعاطي مع مسائل الحياة فيما لو قُورن الأمر بقدرة الجيل، أو الأجيال الأسبق. إننا لا نتذكر كل تفاصيل طفولتنا، ولكننا بالتأكيد قادرون على ملاحظة أن أبناءنا اليوم هم افضل منا يوم كنا صغارا في أمور كثيرة. وما زلت اذكر رسالة من قارئةٍ شابة، طالبة في الجامعة، تحدثت فيها عن ذات المقارنة، ولكن في اتجاهٍ معاكس تماما. فهي رأت أن الجيل الجديد من الشباب والشابات ينشأ في فترة انعدام المثال أو الفكرة التي يتبناها، وهي أكثر من ذلك تغبط جيلنا لأنه كان برأيها أكثر تألقا وانسجاما مع ذاته، وان الفترة التي عاشها مأخوذاً بهدفٍ تثير لدى الجيل الجديد نزوعاً من حنين، لأن هذا الجيل، جيلها، أفاق على الهزائم والخيبات والانكسارات، لذا فانه يعاني من التمزقات والاحباطات. وربما وجب التدقيق بالقول أن الجيل الأسبق بدوره لم يعش فترة انتصارات باهرة، ولكن الفارق الجوهري أن الجيل الجديد أبصر الدنيا وقد أصبحت الهزائم مشروعاً مُنجزاً، انه بتعبير آخر تجرع نتائجها المرة، فيما كان الجيل الأسبق شاهداً على الحدث نفسه قبل أن يتحول إلى نتائج وتداعيات. رسالة هذه الطالبة نموذج أو عينة بين نماذج وعينات أخرى كثيرة تدل على أن الجيل الجديد، على خلاف الفكرة الشائعة عنه، هو الآخر جيل مسكون بالقلق وبالبحث عن مثال ومنظومة قيم، ومعنيٌ أن يجعل لحياته هدفاً ورؤية، وفي كل الأحوال فان الرهان أو التعويل هنا إنما يدور عن شريحة أكثر حساسية تجاه الجديد وتجاه القضايا العامة، وان كل الخراب الذي عشناه ونعيشه لم يفلح في إطفاء جذوة الوعي، لأن هذا الخراب ذاته فيه من العناصر ما هو كاف لإيقاد هذه الجذوة حتى إن أوشكت على الانطفاء. هذا الجيل بحاجة لمن يأخذ بيده، لمن يرهف السمع لقلقه وهواجسه وطموحاته، أن يرى فيه المستقبل الذي، مهما غالبنا السواد، نطمح في أن يكون نيراً ومضيئاً. يحضرني هنا ما كتبه مبدع من زماننا هو الراحل الكبير سعد الله ونوس في إهداء أعماله الكاملة إلى ابنته »ديمه«، ومن خلالها إلى جيلها والأجيال التي تليها، حين تمنى أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقهم أقوى من الهزيمة، ومن يدري، فقد يجدون الجملة السحرية التي يغدو بها الزمن جميلا والوطن مزدهرا.
صحيفة الايام
5 اغسطس 2008
سقوط قناع المختفي (٢-٢)!
حالما تفككت يوغسلافيا إلى قطع صغيرة من الموزاييك السياسي، تعددت رغبة القوميات المختلفة لبناء دولها المستقلة عن هيمنة القومية الكبرى في تلك الجمهورية الفيدرالية وهي »القومية الصربية« التي كان حضورها ووجودها واضحا في تلك المساحة »اليوغسلافية« الشاسعة في البلقان. وإذا ما كانت هناك من أسس ومقومات دستورية وفكرية تربط تلك المساحة في ظل قيادة قوية متماسكة منذ التأسيس بزعامة تيتو، وفي ظل توازن قوى دولية لها حضورها العالمي والقاري تحديدا، إذ حددت القوى العظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الخطوط والحدود المقسمة بين معسكرين، فباتت يوغسلافيا واحدة من خطوط التماس بين ذلك المعسكرين. ويبدو أن تكوين وواقع يوغسلافيا السياسي لم يكن بعيدا عن ذلك الانهيار الكبير، إذ زحف التأثير وانتشر الزلزال في شرق القارة، فانتفضت شعوب وإثنيات صغيرة رغبت في أن يكون لها كيانها ودولتها وسيادتها الكاملة.
هكذا وجدت البوسنة نفسها في ذلك الطريق انطلاقا من شعورها بان ٠٧٪ من الغالبية البوسنية »المسلمة« أجدر بحق تشكيل كيانها مع وجود أعراق عدة، تكون القومية الصربية والكرواتية وغيرها من الاثنيات الصغيرة ضمن ذلك التأسيس. وقد فهم الكرواتيون هذا الحق وساندوه لكونهم أيضا انطلقوا لتأسيس دولتهم دون أن يبيدوا أو يهضموا حقوق الأقليات الأخرى في حدود جمهوريتهم الجديدة، فيما لم يستوعب الصرب والاتجاه القومي الشوفيني هذا التوجه، لشعورهم أنهم القومية الكبرى في يوغسلافيا المنهارة. وعلى ضوء تلك الحالة الجديدة حاول رادوفان كاراجيتش بقيادته تأسيس حزب جديد في البوسنة – امتداد في المضمون لشقيقه حزب سلوفان ميلوسفيتش – عام ٩٨٩١ أطلق عليه تسمية »الحزب الديمقراطي لصرب البوسنة« وبدلا من أن تحل الخلافات داخل يوغسلافيا بصورة ديمقراطية وعبر الحوار السلمي، تصاعدت الروح الاقصائية الشوفينية عند الصرب، فلم تكن إلا المدافع والقذائف خطابا سياسيا على تلك المطالب المشروعة داخل يوغسلافيا الجديدة.
في هذه المرحلة شهدت منطقة البلقان نمطا من الإبادة والتطهير العرقي لم تعرفه أوروبا الحديثة إلا خلال الفترة الهتلرية، فتم في يوغسلافيا المقسمة قتل ما يقرب من ٠٥٢ ألف إنسان، مات منهم ما يقرب من ثمانية آلاف مسلم فقط في مذبحة سربينتسا بصورة مروعة بلغت حد الإبادة الدموية، ودخل البوسنيون معسكرات الاعتقال الوحشية، بالإضافة إلى ما يقرب المليونين مشرد تركوا بيوتهم خلفهم، وحملوا أطفالهم والقدر المستطاع من متاعهم الضروري.
ومع انتهاء الحرب البوسنية ٢٩٩١-٥٩٩١ كان على رجل الظل أن يختفي فورا فقد فشل مشروعه الشوفيني في ارض البوسنة والهرسك، فعاش مختفيا بين كهوف البوسنة والأديرة الأرثوذكسية، بغطاء رسمي وشعبي، سمح له بالتحرك كيفما يشاء حتى وان استبدل جلده طوال هذه الفترة، وآخرها كان دور رجل الطب البديل. وبذلك يكون »الرجل البديل« رادوفان كاراجيتش، هو نفسه الرجل الذي عاش مع عشيقته »ميليا« بكل حرية في شقة صغيرة في ضواحي بلغراد الجديدة، كما انه ظل يتردد على حانة قريبة من منطقة سكنه عرفت باسم »البيت المجنون« حيث ظل دائما يحتسي نبيذه الأحمر، دون أن يختفي بصورة نهائية عن التردد على زوجته ليليانا التي ظلت تعيش في بيتهم السابق في شرق سراييفو وأمه التي كانت تعيش في مونتنيغرو.
بعد سقوط رجل الظل »والغورو« اليوغسلافي الذي فضل الاختفاء وراء تلك الملابس السوداء والنظارة والشعر الكثيف واللحية الكثة، منتحلا شخصية رجل غريب الأطوار، فقد صار مثار حديث الشارع، إذ بدأ الناس يرون حكاياتهم وعلاقاتهم معه، ابتداء من جيرانه في العمارة وأصحاب البقالات ومرضاه، وانتهاء بصاحب الحانة، الذي أعلن سعادته وفخره بأن يكون ذلك »الغورو« هو نفسه كاراجيتش البطل القومي للصرب، حيث كانت معلقة صورة رادوفان في الحانة كنمط واتجاه من الإعجاب الشعبي بشخصيات بطولية مثلت التطرف القومي في يوغسلافيا، والذي صار له أتباع وأنصار في فترة تلك الحرب البوسنية البشعة.
وإذا ما تركنا خلفنا القصص الشعبية والإشاعات، فان الحقيقة تبقى مختلفة عن الأوهام، إذ عاش رجل الظل في حماية الحكومة الصربية السابقة حتى لحظة الأسابيع الثلاثة الماضية، إذ انتهت الانتخابات بخسارة الاتجاه القومي الذي كان يوفر لرجل الظل كل أشكال الدعم الأمني والشخصي، مما جعل اصطياده عسيرا من قبل قوات الناتو وكل الأجهزة الأمنية الأوروبية المعنية بملاحقته كمجرم حرب لتقديمه للمحكمة الجنائية في لاهاي. وبالرغم من المكافأة الأمريكية »خمسة ملايين دولار« لمن يرشد عنه، فان ذلك لم ينجح، وإنما صعود رئيس وزراء ورئيس جديد، يمثل الاتجاه الأوروبي والديمقراطي في البلقان الجديد، والمقتنع حزبه بضرورة الخروج من الاختناق القديم، الذي وضع صربيا في حالة عزلة أوروبية ودولية. ويأتي قرار تقديم كبش الفداء إلى محكمة لاهاي خطوة مهمة، باعتبار أن ذلك احد الشروط الأساسية لقبول صربيا في عضوية الاتحاد الأوروبي.
لم يوفر رئيس الأمن الصربي الجديد جهدا طويلا لتسليم رأس رجل الظل بعد أيام قليلة، فبكل هدوء صعد ثلاثة رجال من الأمن الى الحافلة، واقتادوه للحجرة المظلمة، إذ بدأ التحقيق وتم إجراء الترتيبات القانونية، وكل ما ينبغي إعداده للتسليم خلال أيام مقبلة. انتهت فترة تمتع كاراجيتش بغطاء حكومة »كوستينشا«. ومع تغيير الطاقم الأمني الجديد ورئاسته، تصبح حياة راتكو مالاديتش وجوران هاجيتش أكثر سوادا، كونهما الشخصيتان الأهم في ملف الإبادة والتطهير العرقي في حرب البوسنة. وسوف تستمر محاكمة رجل الظل حتى عام ٠١٠٢، بعد أن يحظى رجل الإبادة بكل حقوقه القانونية ويعيش في نفس القفص والزنزانة التي عاش فيها »رفيقه« ميلوسوفيتش، وعلينا أن ننتظر المفاجآت عن حياة رجل استعذب لعبة »التخفي ودور الغورو الأوروبي« المولع بمهنة الطب البديل !!
صحيفة الايام
5 اغسطس 2008