نوجه هذه المرة الانتباه إلى مواضيع عدة دفعة واحدة، لا نتمالك إلا أن نتوقف عندها ولو على شكل إطلالة موجزة لكونها ذات مغزى يستحق أن يوضع موضع التأمل، ومما لا شك فيه؛ فإن ثمة تفاصيل وراء كل موضوع تخفي تحتها ما تخفي من خبايا أو علامات استفهام وتعجب لا حصر لها، وعلى من يحسنون التقاط الإشارات أن يجتهدوا في بحث ما قد يكون قاسماً مشتركاً يجمع فيما بين هذه المواضيع.
بوسعنا أن نبدأ الموضوع الأول تحت عنوان “الضمير العام” في هذا الشأن نبدأ بسؤال:
هل مات الضمير العام؟
نطرح هذا السؤال بعد أن بدأنا نتعود على هذا الكم اليومي من الحوادث والقضايا والجرائم في مجتمعنا التي تكاد تحتل صفحات يومية ثابتة في صحفنا المحلية، وهي في الحقيقة حوادث وقضايا وجرائم مثيرة للفزع الحقيقي لدى المواطنين على الأقل، فلست متأكداً إن كانت تفزع المسؤولين أيضاً وإلا لكانوا تحركوا بأي شكل من أشكال التحرك.
لقد أصبحت حوادث المرور والوفيات، وقضايا السرقات والمخدرات والاعتداءات والاغتصاب والتزوير والآداب العامة مادة يومية متكررة، وروتينا يوميا، وهذا في حد ذاته كارثة حقيقة لأن معنى ذلك أن الضمير العام في أحسن الأحوال قد دخل غرفة الإنعاش.
كان الضمير العام في الستينات والسبعينات، وحتى الثمانينات والتسعينات يستغرب ويدين ويرفض بشدة، ويتبنى مواقف شتى تعبر عن ثورة عارمة ضد أي من الحوادث والقضايا التي يشهدها مجتمعنا وكانت تعتبر جرائم مستحدثة ودخيلة عليه، أما الآن فقد أصبحت الحوادث والجرائم تصفعنا كل يوم تقريباً، وبصورة شديدة البشاعة في الوقت الذي تراجع رد فعلنا كمواطنين إلى لامبالاة، وأصبحنا في الغالب ننظر إلى ما يجري أمامنا كأنه لا يعنينا أو أمر روتيني، أو أننا في أحسن الأحوال نرى ما يجري مجرد أمر باعث على الاستياء، فيما انحصر رد فعل المسؤولين في حدود تكاد تكون محصورة في تعديل القوانين وتشديد العقوبات من دون التركيز على تجفيف منابع الجريمة، والبحث مع ذوي العلاقة والاختصاص من علماء الاجتماع وغيرهم عن أسبابها ودوافعها وتحديد أساليب الوقاية والمعالجة في سبيل التعامل معها بشكل مدروس.
اذا استمر الحال على ما هو عليه فإنه لن يكون غريباً أن نفاجأ كمجتمع بما هو أسوأ، وقد يتحول هذا الأسوأ إلى روتين يومي لا يثير انتباه أحد، ولا يستدعي تحرك أحد وهذه كارثة أكبر بمختلف المقاييس.
أما الموضوع الثاني فهو تذكير لعل مناسبته ذلك التقرير الصادر مؤخراً عن منظمة الشفافية الدولية حول مؤشر مدركات الفساد لعام 2008.. تذكير من يميل إلى النسيان أو له مصلحة فيه، نذكر بذلك التصريح الذي أطلقه وزير النفط والغاز رئيس مجلس المناقصات الذي نكن له تقديرا خاصا، وهو التصريح الذي جاء على خلفية الإعلان عن تراجع البحرين في التقرير الذي أطلقته المنظمة المذكورة في 26 سبتمبر 2007 والذي أشار إلى تراجع البحرين من المرتبة 36 الى المرتبة 46 من بين 180 دولة وإقليمياً تناولها تقرير عام 2007 وهي نفس المرتبة التي تبوأتها البحرين في تقرير 2008.. !!
أهم ما في تصريح الوزير الذي جاء تزامناً مع انعقاد مؤتمر “برلمانيون عرب ضد الفساد” الذي عقد بالبحرين في ٤ نوفمبر2007 إعلانه عن “تشكيل لجنة حكومية لبحث ملابسات تراجع مستوى مملكة البحرين في مؤشر مدركات الفساد”.
صحيح أننا كنا ننتظر أن يخرج لنا مسؤول حكومي واحد ليوضح لنا أن هذا التقرير وجد صداه لدى من بيدهم الحل والربط، وأن السلطة التنفيذية مصممة على مراجعة أسباب تراجع البحرين في تقرير المنظمة الدولية، ولأن سعادة الوزير قد أخذ على عاتقه هذه المسؤولية، وبشرنا بتشكيل تلك اللجنة وبأن هناك كثيراً من سوء الفهم في طريقة طرح المعلومات وأن مجلس التنمية الاقتصادية سوف يتدارس أسباب هذا التراجع وسوف يتعاطى بكل شفافية مع هذه المسألة ويعلن نتائج ذلك، فإن الصحيح أيضاً أن ما قاله الوزير عبر عن التزام رسمي من شقين، التزام بالتحقيق في أسباب التراجع والتزام بشفافية الإعلان عن نتائج التحقيق.
وانتظرنا وما زلنا لغاية تاريخه في انتظار إعلان النتائج أو حتى عن ملامح النتائج التي خلصت إليها اللجنة الحكومية بافتراض أنها تشكلت لمعرفة أسباب تراجع البحرين في مؤشر مدركات الفساد لعام 2007. وها هو تقرير جديد عام 2008 قد صدر وأبقى البحرين في نفس المرتبة، ونفترض بأنه سيتعين على أي جهة رسمية مسؤولية أن تفسر لنا لماذا لم تتقدم البحرين خطوة إلى الأمام في تقرير مدركات الفساد.
وما دمنا في دائرة موضوع الفساد، ومدركات الفساد، فقد أردنا أن يكون الموضوع الثالث حول الفساد الذي توسع ولم يعد مستتراً كما كان في يوم من الأيام، بل أصبح لا يستحي وبات بيننا يلبس الغترة والعقال..
في هذا الصدد نقول إن الفساد ألوان..
والفاسدون أنواع..
فالرشوة لون، وإساءة استخدام السلطة لون، والاصطفافات الطائفية والقبلية والمحسوبية لون، والتمييز لون، وتغييب عنصر الكفاءة لون، والبيروقراطية وتعطيل مصالح الناس لون، وتغييب المنظومات الفعالة للرقابة الداخلية لون، وتشكيل لجان دائمة ولجان مؤقتة في كل وزارة وجهة حكومية لتكون باباً خلفياً لتنفيع بعض الناس أو لتضييع بعض الحقوق، أو تمييع بعض الملفات أو التهرب من مسؤولية ما لون من ألوان الفساد، وعدم الشفافية في اتخاذ القرارات لون، وإيجاد بعض البرامج والمشاريع التي لا تخدم هدف التنمية والانحراف عن معايير التوظيف والتعيينات، وإفساد النظام الانتخابي، والتدثر بعباءة الدين لممارسات تتنافى مع الدين، والتضييق على المعارضة، وتغييب الشفافية وتسطيح مبدأ سيادة القانون، ومخالفة الأعراف والقواعد المصرفية لصالح البعض، كل ذلك ألوان من ألوان الفساد.
والقصور في أداء بعض الجهات الحكومية تجاه استثمار مرافقها العامة وعدم الاستفادة من مواردها، بالإضافة إلى سوء استخدام الآلات في المستودعات الرسمية، ومنح مكافآت وحوافز مخالفة للقرارات والأنظمة المتبعة، والتوسع في إجراء الحفلات وشراء الزهور والبخور من دون مبرر، و”تفصيل” بعض السفرات تحت ذريعة مهام رسمية خارجية على أناس بعينهم وفي أوقات معينة، بالأخص في الصيف وزيادة أيام ومن ثم مخصصات السفر لهم، كل ذلك ألوان أخرى من ألوان الفساد.
أما الفاسدون فهم أنواع.. وأسوأ هذه الأنواع، بل وأشدها خطراً هم الذين يشعرون بأن على رأسهم “بطحة”.
هذه العينة من الفاسدين هم الذين تورطوا في قضايا شتى من قضايا الفساد واستغلال السلطة والنفوذ، ومشكلة هذه العينة من الفاسدين أن فضائحهم تلاحقهم مهما حاولوا طمسها ودفنها.. أو حاولوا أن يظهروا لنا بأنهم من أصحاب الأيادي البيضاء، أو أنهم من فئة المحسنين والداعمين لهذا العمل أو المشروع الوطني أو الاجتماعي أو الخيري أو ذلك.
المشكلة الأخطر في هذه العينة من المفسدين، هي عندما يتحولون إلى شخصيات احتوائية، حيث يدفعون ويشجعون ويزجون الآخرين ليقتحموا عالمهم وينخرطوا في منظومة فسادهم، خاصة أولئك الذين يشكلون شوكة في حلوقهم، أو يمثلون تهديداً لهم بصورة أو بأخرى، ويكون جّل هدف هذه الشخصيات الاحتوائية إضعاف مناعة المحيطين بهم تجاه ميكروب الفساد، من اجل خلق بيئة تتعايش مع الفساد وتتقبله وتبرره، أو على الأقل تعتبره شيئاً عادياً تحت مظلة الادعاء بأن الفساد موجود في كل دول العالم أو غير ذلك من الذرائع.
وبذلك، ومن خلال هذه الشخصيات الاحتوائية من الفاسدين تتسع قاعدة الفساد ويستشري ويورِّث عادات وأعرافاً، ويؤسس مفاهيم وأساليب عمل مغالطة ومتناقضة، ويخلق ثقافة مجتمعية يتبلد فيها التعايش والقبول بالفساد الذي يتعاظم باستمرار في ظل مجتمع مدني قاصر بأن يلعب دوراً محورياً في محاربة الفساد. وفي ظل ديوان للرقابة المالية لا يستطيع أن يقدم الفاسدين إلى القضاء، وفي ظل مجلس نيابي عاجز عن تفعيل دوره الرقابي الحقيقي لاعتبارات وحسابات باتت معلومة، وفي ظل سلطة تنفيذية لا تضع محاربة الفساد ضمن أولوياتها.
نأتي للموضوع الرابع والأخير وهو يتعلق ببيوت الشباب.
نعم، والله أعلم أن فكرة بيوت الشباب التي بدأت مع بداية القرن العشرين على يد معلم ألماني هدفها تنمية المعارف لدى الشباب وتشجيعهم على الترحال والسفر لزيادة معلوماتهم، وباتت حركة بيوت الشباب إحدى الحركات الشبابية التي تساهم في إعداد الشباب من خلال إنشاء وتوفير بيوت وأماكن إقامة بأسعار مناسبة، وتشجيعهم على اختيار ما يلائمهم من أساليب شغل وقت الفراغ وتهيئة الشباب لبعض نماذج الأنشطة والهوايات خلال الإجازات، ونعلم أن الحياة في بيوت الشباب تتسم بطابع البساطة التامة، وغالباً ما تقام هذه البيوت بعيداً عن المناطق السكنية.
ولكن ما لا نعلمه ولا نفهمه أن يؤسس مبنى ضخم كبيت للشباب في قلب العاصمة وفي واحدة من أهم المناطق في البحرين وأعلاها في أسعار الأراضي والعقارات.
وما لا نعلمه ولا نفهمه أنه في الوقت الذي أقيم هذا المشروع في المنطقة المواجهة لمركز البحرين الدولي للمعارض، نجد أن المقر الرئيسي للمؤسسة العامة للشباب والرياضة التي تقع مسؤولية بيوت الشباب تحت مظلتها، لا يزال في مبنى متواضع تستأجره المؤسسة في منطقة أم الحصم منذ سنوات طويلة..!!
أليس هذا أمراً محيراً حقاً؟
بقي تنبيه على الهامش:
أي محاولة للربط بين الموضوعات المذكورة والبحث عن قاسم مشترك مسؤولية أصحابها حتى لو كان هذا الرابط مقبولاً ومنطقياً وموضوعياً..!
الأيام 4 يوليو 2008