عرفته زمن الغربة وعشت معه في بيت الاحزان 13 سنة ونصف في معاناة شديدة الايلام وبطعم مرير مع اخوة لي في الاسلام من خيرة شباب هذا الوطن امثال خليفة اللحدان وعلي الستراوي، وقد سبقني بعده عن الاهل والوطن قرابة عقد من الزمن. كان ذلك مطلع عام 1977عايشت فيها الفنان الكبير مجيد مرهون عن قرب فكان ذلك من حسن الطالع ان اعيش معه فأستشرف منه روح الامل واستلهم من عزيمته كثيرا من دروس الحياة وعبرها باعتباره مثالا حيا يعيش بيننا يختزن في ذاكرته كما هائلا من تجارب الحياة، تعلمت منه الكثير من صنوف الحكمة فهو – بحق – استاذنا جميعا، شجعني في الفن ووقف بجانبي وقت الشدة، وفي عشقي للخط العربي كان السبب لي في شحذ الهمة وقوة العزيمة. كل من رافق مجيد مرهون في رحلته المضنية هو شاهد عيان واكثر الناقلين عنه مصداقية في حديثهم عن واقع عاشه ابو رضا فخرج منه منتصرا بارادة وعزيمة قويتين يندر ان تجدهما في غيره ممن كابدوا هول الرزايا كما كابد، وصارعوا كما صارع من معاناة الغربة والحرمان وبذلك لا يحتاج استاذنا الكبير الى دليل اقوى من الحاضر الذي تلمسه القريبون منه والذين عاشوا معه عن قرب، ولا يحتاج الى من يلمع صورته فيكبره ويعلي من شأنه بكلمات الاطناب والمديح كما هو الحال لكثير من الساعين الى الشهرة، فالفنان مجيد شيد لنفسه مجدا، ورصد لشخصه تاريخها، يفاخر به ونفاخر به فأصبح اليوم احد قامات هذا الوطن الشامخة وكأنه احدى نخيله الباسقات يأبى لنفسه الا ان يعيش قوي الارادة حرا عزيزا يفضل الموت واقفا كجذوعها العطشى على رمال هذه الارض الطيبة. ذهب مجيد الى الزنزانة ومن داخلها صار مجد مجيد وخرج منها فنانا شهيرا ومؤلفا موسيقيا بعد ان كان في السابق عازفا يصدر بآلة السكسفون ألحانا يهلب بها اسماع الجماهير في مواكب عاشوراء الخالدة على امتداد شوارع المنامة وازقتها. خاض غمار السياسة وعرف دهاليزها واقتادته عمليته البطولية عام 1966 ضد رجال الاستعمار البريطاني الى السجن المؤبد عام 1969 ، وهناك حط رحاله طيلة اكثر من 22 سنة قضاها الموسيقار متحديا باصراره وعناده كل المعوقات، تمرد على القيد وعاش بالحزن والامل يرسم خيوط مجده، واستطاع بذاته ان يقود لنفسه معالم التغيير، ثم استطاع التحول من عالم السياسة الى عالم الفن كمحترف وما ادل على ذلك من نبوغه في الموسيقى كمبدع في البحث والاداء والتلحين. قال عن نفسه: “انا فنان قبل ان اكون سياسيا، ودعت السياسة الى الفن ولي الفخر ان اكون للفن ممتهنا، احببت الفن وولعت بالموسيقى، والفن اسمى من السياسة فليس من الضروري ان يكون السياسي فنانا ولكن من الممكن ان يكون الفنان سياسيا، والسياسة سلوك مكتسب والفن موهبة متأصلة. من الصعب ان احصر اعمال الفنان مجيد في هذه العجالة لكثرتها، ويمكن القول ان الفترة التي بدأت من 1969 وحتى الآن زاخرة بعطائه الفني، ففي هذه الفترة الف ولكن الكثير من المقطوعات والاغاني الموسيقية منها على سبيل المثال: “جزيرة الاحلام” و”ذكريات” و”اغنية الراحلين” و”حبيبتي” و”حرقة قلب” التي ألفها بعد وفاة امه وثلاث رباعيات وترية وصوناته للبيانو، وسيمفونيتين ثم كتابيه القيمين “الموسيقى الشعبية في الخليج العربي” و”الاسس المنهيجة لدروس نظرية الموسيقى” وتوج اعماله بسفره الفني الكبير “قاموس الموسيقى الحديث” المكون من تسعة اجزاء والذي وضع لبنته الاولى في السجن عام 1975 وانهى بناء خارجه عام 2008 وبانجاز هذا العمل الكبير يكون مجيد اول بحريني يحقق هذا الانجاز ليصبح المؤلف والمؤلف الاسطورة. مجيد الموهوب عازف السكسفون في جزيرة “جدا” بلحنه الحزين تشتاق لقربه لخفة روحه ودماثة اخلاقه وسعة ثقافته المعرفية، مدرسة في فن الموسيقى وقاموس من التجارب الحية يعيش الآن بين ظهراني مجتمعه الرسمي والشعبي غريبا يجهل تاريخه النضالي والفني الكثير ولم يعط بما يليق به من تكريم في الوقت الذي تعتز المجتعات المتحضرة بابنائها الموهوبين المبدعين فتكرمهم وتعلي من شأنهم. جاءني زائرا يتوكأ على عصاه وقد امضه المرض فنحل جسمه وخارت قواه يحمل معجمه الموسيقي في جزئه الاول وقد ذيله بعبارة “من القلب الى القلب” وزينه بتوقيعه الجميل. واعجب من ذلك اني لمست في رعشات روحه التحدي والصمود، رأيته واثق الخطى قوي النفس والارادة فسعدت بمقدمه الكريم، خجلت منه لتقديره الكبير لي وشعرت بالتقصير تجاهه حين فاجأني بالزيارة، معتذراً له بذلك لكثرة المشاغل وضيق الوقت. لكنّ الذي احزنني وزادني امتعاضا ما يعانيه هذا الفنان من حيف، ومن اغرب الامور انّ من يجهل مجيد مرهون المتصدرون عندنا لفكر السياسة والفن والثقافة الذين ينظّرون ويحلّلون بما يحلو ويطيب لهم متباهين للناس بمعارفهم في وقت يجهلون تاريخ غيرهم كمجيد مرهون ولانهم لا يقرأون تاريخ وطنهم لذلك يجهلون رجاله، فهذه الفئة من المجتمع أكثر الناس ظلما واجحافا من غيرهم لهذا الرجل، إذ لم يخطر على بالهم ان مجيد مرهون كتاب لم يُقرأ بعد! وإلا كيف طفا على السطح من لا عهد له بالتضحية ولا معرفة له بأدب السياسة والفكر والأدب وبقيت تضحيات مجيد مرهون وانجازاته حبيسة الادراج؟ ثم بأي شيء كرّموا مجيد؟. إلى متى نفيق من جهلنا لتاريخ ابناء الوطن البررة، المضحين باغلى الاثمان الذين امضوا زهرة شبابهم فاضاءوا مشعل الحرية لاجيال الوطن؟ وهل ننتظر حتى يترجّل الفارس فنتذكر بعده تاريخه المشرق لنتباكى عليه؟ لك الله يا مجيد من أهل هذا الزمان الرديء الجاحدين لمنجزاتك الجاهلين لقدرك!!.
صحيفة الايام
13 ابريل 2008
قبل أن يترجل الموسيقار
سِحرُ سَمرٍ قادمٌ من قلبِ الصحراء
ملحمة المسيرة الإنسانية غنية بانجازاتها وتعاريجها لدى انتقالها من مرحلة إلى أخرى في مختلف المجتمعات، حيث لعب قطبا الإنسان، الرجل والمرأة – يداً بيد – دوراً مشتركاً في تلك الصيرورة التاريخية. ولعل دور المرأة النوعي في تطور التاريخ عادة ما يجري التقليل من شأنها وأهميتها، بسبب سيادة الثقافة التقليدية الذكورية المنحازة والاقصائية.. ولكن لا يلبث إلا أن نشهد ونشير بالبنان لدور النساء في سجل التقدم الإنساني ومن هنا قال الأولون؛ ‘وراء كل رجل عظيم امرأة’ والمقصود هنا بالطبع؛ ‘.. امرأة عظيمة’! ‘سمر المقرن’ أنموذج للمرأة السعودية المثقفة.. صحافية وكاتبة شابة مليئة بالأمل، أشبه بشهاب ساطع يشع في سماء الرياض. بدوية تعرف ظمأ الصحراء الأبديّ للحرية. واثقة من نفسها، جسورة مقدامة، مدركة باقتدار عِبء وِزْر رسالتها المزدوجة المتداخلة؛ ‘الإبداع والالتزام’ أي الالتصاق بالمقاييس الفنية والجمالية الصارمة لشروط الإبداع والالتزام بقضية رسالية/ اجتماعية وإنسانية كبرى لعل على رأسها قضية المرأة السعودية بمعنى فهمها البيّن لرسالة الفن ذي الشقين – لا انفصال بينهما- من دون السقوط في مطب مفهوم الحداثيّين المختزل في المتعة الخالصة للفن. وهي على دراية تامة للمصاعب التي تنتظرها ليس فقط على الصعيد الاجتماعي بل الفني أيضا.. حُورِبت من قِبَل مشايخ الجهل ونقاد طواحين الهواء، معتبرين باكورة روايتها سطحية ‘فنيا’ ومبتذلة ‘أخلاقيا’، مُنعت من التداول في السعودية الأمر الذي أدى إلى نتيجة عكسية (الممنوع مرغوب). فقد انتشرت روايتها الجريئة ‘نساء المنكر’ منذ تدشينها، ابتداء في معرض بيروت للكتاب في ديسمبر/ كانون الثاني 2007 ثم بيعت تباعا بكميات كبيرة في معرض المنامة/ البحرين للكتاب في الشهر الماضي، مما حدا بها للإعداد للطبعة الثانية في زمن قياسي.. وهي الآن منهمكة في كتابة رواية ثانية. سمر واحدة من آلاف النساء في السعودية اللآتي يدركن استحالة نهضة بلدهن من دون مشاركة النساء – جنبا إلى جنب الرجل – وضرورة نهوضهن من سبات القرون، كما قال أحد العظماء يوما من أن مقياس التقدم والحرية في أي مجتمع هو تقدم وحرية نسائه أولا، بدت متزنة في المقابلة التي أجرتها معها فضائية الوطن الكويتية، مساء الاثنين الماضي، على مختلف الصُّعُد بمشاركة واقعية اتسمت بالاعتدال ورجاحة العقل في أفكارها ومظهرها المحتشم والأخّاذ وطريقة عرضها في تداولها للأمور، بهدوء وتواضع، بعيدا عن الخيلاء رغم جمالها الآسر. عندما سُئلت عن مدى انعكاس السيرة الذاتية في روايتها بيّنت أن الشخصيات مركبة، مجلوبة من شخوص المسجونات في سجن النساء، ولو أن ‘روحها’ موجودة في الكتاب، حيث أفادت أن هاجسها الأول للكتابة عن تجربتها كان بسبب التأزم النفسي من جراء ما رأته من أهوال النساء في بلدها، في أول زيارة لها لتلك السجون، التي تعتبر من الأمور المجهولة حتى للمواطن السعودي، حيث تُسحل وتُضرب النساء من قِبَل هيئة الأمر بالمعروف، الأمر الذي حدا بالحكومة السعودية في الفترة الأخيرة إلى الحد من انفلات الهيئة المذكورة. كتبت القصة القصيرة في سن المراهقة الأولى ونشرتها في المجلات الكثيرة ولم تنشرها في دفتيّ كتاب كونها صارمة مع نفسها فيما يتعلق بالمستوى الفني لتلك القصص التي تعدها تجارب أولية. وفي معرض إجابتها على السؤال المتعلق بالثمن الذي قد تدفعه ضريبة لاقتحامها منطقة محظورة في مجابهة عتاة ‘الهيئة’.. قلّلت من قوة وهيمنة تلك الهيئة، التي لا تساير التطور المطرد للمجتمع السعودي وان نشاطهم عبارة عن أصوات نشاز يجري نفخها من قبل وسائل الإعلام وغيرها. أما فيما يتعلق بمستقبل الرواية السعودية، فقد أصابت ‘سمر المقرن’ كبد الحقيقة عندما أكدت أن تطور الفن الروائي السعودي في حاجة ماسة إلى حركة نقدية رديفة. لست بوارد التقييم النقدي لروايتها القصيرة ‘النوفيليتا’، التي نحن بصددها، في هذه العجالة ولكن من السهولة لقارئ الرواية أن يلاحظ احتواءها على مختلف عناصر الفن الروائي، خصوصاً عنصري الجذب والحبكة، وتمكن الروائية من أدواتها الفنية وان كانت تعوزها الخبرة الحياتية العريضة بجانب عناصر نقصٍ، موجودة – على أية حال- حتى عند أفضل الروائيين السعوديين وذلك لكون الفن الروائي جديدا على الأدب السعودي. ولكن يبدو أن هذا الفن بالذات سيتطور، وتنبثق من التراكم الكمي الحالي رواية نوعية سعودية في السنوات المقبلة، وسيكون بمقدور المرأة السعودية أن تلعب الدور المتميز لهذا الفن وبالذات ‘النوفيليتا’ الشحيحة أساساً في الأدب العربي وذلك لأسباب موضوعية وذاتية نفصّلها في وقت ومجال آخرين.
صحيفة الوقت
13 ابريل 2008
هلال الشايجي.. المثقف الأزهري الليبرالي
على الرغم مما اشتهرت به مؤسساتنا وحوزاتنا الإسلامية الكبرى المعروفة بعراقتها التاريخية في الفقه والتعليم الإسلامي، كالأزهر الشريف والنجف الأشرف على وجه الخصوص، من طغيان المدرسة المحافظة المتشددة دينيا في مناهجها الدراسية، فإنها لم تعدم نماذج عديدة منذ فجر النهضة العربية الحديثة استطاعت ان تختط لها خطا مستقلا منفتحا على علوم وفلسفة العصر، ومتفاعلا مع الثقافة العربية التنويرية المعاصرة، وهي نماذج عديدة يصعب حصرها في هذه العجالة. لكن أحسب أشهرها تاريخيا على مستوى الأزهر الشريف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وعلى مستوى النجف الأشرف الدكتور حسين مروة المعروف بمستواه الكبير كناقد أدبي وكباحث متميز في التراث العربي ــ الإسلامي، وهو صاحب السفر الخالد “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”، فضلا عن أسماء أزهرية ونجفية أخرى ذاع صيتها على الساحتين الثقافية والسياسية في عالمنا العربي. وتتفاوت هذه النماذج في مدى انفتاحها على الثقافة المعاصرة وتبنيها إياها طبقا لاستعداداتها، فهنالك من يزاوج بين ثقافته وخلفيته العلمية الدينية من جهة والثقافة الوطنية المعاصرة من جهة أخرى، وهنالك من يكاد يقطع كل ما له من علاقة وخلفية بالثقافة الفقهية السابقة ويقبل على الثقافة التنويرية أو “العلمانية” أو “الليبرالية”، وأحسب أن الفقيد المثقف البحريني الراحل الدكتور هلال الشايجي هو من النماذج العربية القليلة الذين تمكنوا من ان يوائموا بين ثقافتهم الجامعية الأزهرية وبين الثقافة المستنيرة المعاصرة، على نحو وسطي معتدل، فبقدر ما كان الشايجي أمينا لثقافته الجامعية الأزهرية، فقها ولغة، بقدر ما كان متحررا من الوقوع في أسر هذه الثقافة وجمودها وطابعها المتزمت المحافظ ومنفتحا “باعتدال” على الثقافة المعاصرة إنْ جاز القول. وهنا بالضبط تكمن خسارته كمثقف كبير للوطن وللساحتين الثقافية والأكاديمية، ليس كمثقف تنويري فحسب، بل كإعلامي فريد من نوعه خدم في الحقل الصحفي سنوات ثم اضطرته الظروف لترك العمل الصحفي والتفرغ لعمله الأصلي في الحقل الأكاديمي كأستاد جامعي في جامعة البحرين الأهلية التي كان هو من مؤسسيها وتولى عمادة كلية الآداب فيها، وكان قبل ذلك، استاذا جامعيا في الأدب بجامعة البحرين، ثم أصبح عميدا لكلية الآداب فيها، وهو الى جانب ذلك تولى مناصب ومسئوليات متعددة في سياق سيرته العملية منها عضويته في مجلس الشورى الأسبق قبل استئناف الحياة البرلمانية عام 2002م، وحاز لقب أفضل شخصية ثقافية بحرينية عام 1996م، وفقا لنتائج استفتاء أجرته مجلة “هنا البحرين” ذلك العام. كما كان عضوا في الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون. بطبيعة الحال لم أعاصر أو أزامل الفقيد الراحل الشايجي في المهام التي كان يتولاها قبل وبعد رئاسته لتحرير أول جريدة يومية بحرينية “أخبار الخليج” خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وقد كان هو ثالث رئيس تحرير لهذه الصحيفة بعد رحيل مؤسسها الأستاذ محمود المردي عام 1979م، وبعد أن غادرها الأستاذ أحمد كمال عام 1995م. وكان الفقيد الشايجي قد كتب واحدة من أفضل الكتابات البحثية عن رائد الصحافة البحرينية الراحل محمود المردي ذاته في منتدى نظمته جمعية الآثار البحرينية احتفاء بهذه الشخصية الإعلامية الكبيرة وذلك في عام 1998م، ولكن أستطيع القول بناء على تجربة زمالتي له كرئيس تحرير لأخبار الخليج في سني التسعينيات من القرن الآفل ان الساحة الإعلامية، وعلى الأخص الصحفية، افتقدته مرتين، مرة عندما أجبرته الظروف على ترك العمل الصحفي عام 2000م لينتقل مرة أخرى الى العمل الأكاديمي، والمرة الثانية، وهي الأفدح، بعد ان انتقل الى جوار ربه على حين غرة ليترك وراءه فراغا يصعب سده. كان المرحوم الشايجي على درجة من دماثة الخلق والتواضع والتفاني في عمله الصحفي، وكان معروفا بين الجميع بتشجيعه للكفاءات والكوادر البحرينية الشابة في هذا الحقل الإعلامي، كما كان معروفا داخل العمل الصحفي باحترامه للتعددية السياسية والفكرية في أعمدة ومقالات الرأي حتى لو اختلفت أو تصادمت مع قناعاته ومعتقداته السياسية والفكرية، كما كان من رؤساء التحرير النادرين المهتمين بسلامة اللغة في الكتابة الصحفية، كما كان من رؤساء التحرير القليلين على مستوى الصحافتين المحلية والخليجية الذين لا يمنعون مقالا لكاتب إلا مضطرين جدا وفي أندر الأحوال وذلك بعد ان تستنفد كل إمكانيات نشره.. وغالبا ما يحرص على محاورة كاتب المقال أو العمود في الأسباب الموضوعية التي اضطرته ــ حسب رأيه ــ لمنع نشره. كما كان يحرص على عدم التدخل في فقرات مقال الكاتب، سواء بالحذف أو التعديل، من دون الرجوع إليه والتوافق معه على ذلك مقدما مهما كانت انشغالاته الإدارية والتحريرية المتعددة وذلك احتراما منه لشخصية ورأي صاحب المقال أو العمود. وصفوة القول ان الفقيد الراحل هلال الشايجي كان نسيج وحده في حقلي العمل الأكاديمي الجامعي والصحفي معا، ويشكل رحيله المفاجئ الفاجع وهو في عز عطائه في هذه السن غير المتقدمة (57 عاما) خسارة فادحة بهذين الحقلين العلميين المهمين. فرحم الله الشايجي الذي كان نموذجا فذا في المواءمة الخلاقة بين ثقافته الإسلامية الأزهرية الجامعية والثقافة الوطنية القومية الليبرالية.
صحيفة اخبار الخليج
13 ابريل 2008
في التفريق بين النضال والتخريب
مثل أشياء كثيرة في هذا الوطن، حيث تلتبس المفاهيم وتتداخل، وتروج سوق المزايدة في الشعارات والادعاءات، التبس أيضاً مفهوم النضال والتضحية بمفهوم التخريب والاعتداء على الممتلكات العامة، حتى بلغنا المرحلة التي أصبح زهق الأرواح بالنسبة للبعض عملا نضالياً. جريمة قتل الشرطي في كرزكان هي ثمرة من ثمرات هذا الالتباس، الذي أسس لثقافة خاطئة، لا بل ومدمرة، يجري ترويجها في صفوف الشباب المحبط والمتذمر، الذي تجير طاقاته في مجارٍ غير صحيحة، من خلال ترويج المقولات التي تقدس العنف، وترى في العمل الفوضوي بديلاً للتنظيم الذي يؤسس للعمل السياسي الحزبي الجدي، بما يتطلبه من بناء للمنظمات الجماهيرية والنقابية، ولمؤسسات المجتمع المدني، وإشاعة ثقافة التعددية والروح الوطنية المشتركة، والعمل التراكمي المدروس الذي لا يستعجل المراحل أو يحرقها. وما عانت منه الحركات الثورية والنضالية في بلدان كثيرة يتكرر لدينا للأسف وبحذافيره، حيث لا يؤدي هذا النهج الطفولي في العمل السياسي إلا إلى إلحاق أشد الأضرار بمجمل العملية السياسية في البلد، ويعرض ما تحقق من مقادير من الحريات السياسية والعامة إلى خطر الاحتواء والمصادرة، والنكوص عن الايجابيات التي بلغناها بعد نضال طويل وتضحيات مؤلمة قدمتها أجيال من البحرينيين، نساءً ورجالاً. وعلى خلفية هذا النهج تأخذ المزايدة السياسية شكل تخوين كل من يرفض أساليب الغوغاء والفوضى والتخريب، ويدعو إلى العمل السياسي المعارض والمسؤول، ويمارسه بجدية ومثابرة انطلاقاً من الخبرة السياسية المتراكمة في البلد، ومن توجهات العقلانية المبدئية التي تجمع بين مرونة الشكل وصلابة الجوهر، بديلاً للخطابة اللفظية التي تتزيا بالجمل الثورية، فيما هي في جوهرها لا تكشف إلا عن الخواء. ما حدث في كرزكان، وبصرف النظر عن أبعاده وعن من يقف وراءه، يكشف بوضوح عن المآلات التي يمكن أن تؤول إليها أمورنا بسبب هذا النهج، وبسبب تساهل القوى المختلفة في المجتمع وفي الحركة السياسية في اتخاذ موقف واضح من شأنه أن يفرق بين شروط العمل النضالي ومقتضياته وبين نهج التخريب والعنف واستسهال التطاول على الممتلكات العامة، وأخيراً زهق أرواح البشر في سلوكٍ منبوذ ترفضه كل نفسٍ سوية. سنظل نلح في مطالبتنا لأجهزة الدولة المختلفة، وفي مقدمتها السلطات الأمنية، أن تتعاطى ببصيرة وبُعد نظر مع تداعيات ما جرى، وأن يظل ماثلاً أمام الأعين أن سبيل معالجة تعقيدات وقضايا البلد هو بالاستمرار في عملية الإصلاح وتوسيع الحريات العامة وتطوير البنية الدستورية والتشريعية في هذا الاتجاه، والعمل على حشد رأي عام رافض لها، لأن مخاطرها تمس المجتمع قبل أن تمس الدولة وهيبتها.
صحيفة الايام
13 ابريل 2008
الإخوان في البحرين وتاريخ بلا ذاكرة وطنية (2-1)
لا يستطيع أي مؤرخ متعاطف مع الإخوان في الفرع البحريني أن يلبسه من جوانبه التاريخية معطفا وطنيا وسياسيا عنوة في زمن الهبات الصغيرة وفي المنعطفات الساخنة الكبرى التي عصفت بالوطن كله ونهض الشعب برمته في مواجهة الانكليز من اجل التحرر والاستقلال، وكانت مرحلة الهيئة الأكثر نهوضا وبروزا لوحدة شعبنا في كل جغرافيته السياسية والوطنية، كما إن الوطنية هنا ليست مصطلحا لجواز سفر بفيزا متعددة السفرات، وإنما مفهوم الوطنية باعتبارها مصطلحا سياسيا مرهونا بمناهضة الأجنبي في الحقبة الاستعمارية، وهي مرحلة تاريخية مضت ولن تعود ولا يمكن الاستعاضة عنها بمفردات الكذب والادعاء، فقد تمت خاتمتها واقفل سجلها التاريخي نهائيا. فأين كان موقع الإخوان حينذاك في المعادلة السياسية؟ هل نضعهم في خانة التنظيم المصلحي والانتهازي يومذاك؟ أم تهمة أقسى تقع في خانة العمالة والتخاذل؟ أم اقل حدة هو المهادنة السياسية وتجنب ضربات الاستعمار البوليسية حيث لم يكن قادة التنظيم على استعداد لتقبلها إما تكتيكا أو خوفا وتراجعا؟ كل الاحتمالات ممكنة ولكن ما هو واقع تحت أيدينا من معطيات شحيحة عن دورهم لا يتعدى إيماءات هنا وهناك تشير اغلبها لدورهم المناهض لحركة الهيئة وإشارة الباكر إلى منشورهم سيئ الصيت الذي لم يهتم الباكر بنشر نسخة منه لكي يتسنى للباحثين تفحص محتواه السياسي بدقة. تبقى مسألة التجربة الملموسة للحياة السياسية اليومية لمرحلة الهيئة والتي امتدت لسنتين، والتي لم تفرز موقفا وطنيا واحدا حتى وهم بمعزل عن حركة الهيئة كتنظيم معاد للمواقف القومية، فعلى الأقل كان بإمكانهم القيام بسلوك ومواقف موازية في الشارع السياسي يدلل على مناهضتهم للانكليز باعتباره نهجا وطنيا بحتا كما ترجمتها مواقف حديثة التكوين في تنظيمات ناشئة كجبهة التحرير التي أطلت برأسها من خلال التظاهرات والتعبيرات العمالية الواضحة بل وحتى صوت نادي العروبة بنفسه الفكري بنفحة بعثية كان حاضرا في فضاء زمن الهيئة كتيار كان يبلور مواقفه ضمن تجمعاته الحلقية الحذرة بينما لم تتضح ملامح الإخوان إلا بأقنعة معادية وليس العكس. فقد وجد إخوان البحرين أنفسهم يصطفون مع إخوان مصر ضد الحركة القومية العربية في البحرين بربطهم الميكانيكي بين حركة الهيئة في تربة بحرينية لها خصوصيتها، وثورة عبدالناصر وهي في أوج صراعها مع الإخوان. هذه العدائية وجدت نفسها مترجمة في حدين الأول بعزل نفسها عن شارع سياسي منشغل بالتحرر الوطني، والحد الثاني تحديد موقف عدائي لقيادة وطنية عبرت عن نفسها مؤيدة لتيار عبدالناصر وثورته؛ فكانت بالنتيجة اصطفاف إخوان البحرين بطريقة واعية أو غير واعية مع خانة الاستعمار القابع على رقاب شعبنا. وخشية من تيار جارف يومها أن يدمرها في وقت تزايد فيها سخط الشعور القومي على إخوان مصر نتيجة مشاعر الكراهية التي اتخذها الإخوان إزاء ثورة عبدالناصر، ودخول محبوبهم عبدالناصر في حرب شعواء ضدهم. فماذا كان على الإخوان في البحرين فعله وهم تيار صغير ومحدود في الشارع السياسي؟ يبدو أن الخيارين يناسبهم الاحتماء بمظلتين وقناعين قناع التقية والاختفاء عن إبراز هوية واضحة، بل وبالإمكان أن تكون هوية ناصرية أيضا في فضاء حماس ناصري وقومي واسع عام. أما القناع والمظلة الأخرى هو الاحتماء بالانكليز الذين كانوا يؤسسون في كل مناطق نفوذهم ومستعمراتهم قوى وتنظيمات جماهيرية تستخدمها كأذرع في الأساس لمواجهة التنظيمات الشيوعية الفتية التي برزت بعد الثورة البلشفية والتنظيمات القومية المناهضة للاستعمار التي بدأت نواتها تظهر بعد الحرب العالمية الأولى وتنمو وتتبلور بعد الحرب الثانية. أما في الإضرابات والتظاهرات التي شهدتها البحرين فيما بين عامي 1938-1948 فان ملامحهم لم تكن بارزة أو ذات حضور فإذا ما كانت تظاهرات عام ٨٤٩١ الاحتجاجية ضد قيام إسرائيل وتقسيم فلسطين لم تشهد هويتهم فان حرق بيوت اليهود في تلك اللحظة ربما فعل اقرب لعمل الاستخبارات البريطانية التي تقاسمت مع الوكالات اليهودية ليس التسهيلات في التدريب والاعتراف الرسمي ووعد بلفور وحسب، بل وأكدت وثائق شبيهة ونهج مماثل في الحرق لمحلات وأماكن اليهود في مصر والعراق والبحرين على أنها مشروع لدفع اليهود بالرحيل خوفا من التصفية الجسدية في وقت كانت الوكالة اليهودية تسعى لنقل يهود العالم للدولة العبرية الجديدة. دون شك تندفع جموع من الغوغاء والبسطاء المسكونين بعاطفة التعاطف مع الفلسطينيين، إن من حملوا الثقاب الأول للحريق قدموا أيضا براميل الاشتعال؛ فدائما المخططون قادرون على انجاز مشروعهم بحنكة. في كل تلك المحطات التاريخية لم يكن للإخوان حضور يستحق الإشادة فلماذا نتعجب اليوم من سلوكيات داخلية ظلت حتى فترة الحياة النيابية الأولى عام ٣٧٩١ ميتة بامتياز ومنشغلة بأجندتها الخاصة، وبكل أنواع الأجندات الممكنة إلا أجندة النضال الوطني فقد كانت غائبة من قاموسها السياسي. نستكمل حلقتنا الثانية فيما بعد حركة الهيئة.
صحيفة الايام
13 ابريل 2008
الخروج من المطب
قبل ألف سنة أطلق المتنبي إحدى حكمه:
وليس يصحُّ في الأفهام شيءٌ
إذا احتاج النهارُ إلى دليل!
ولكنّنا في البحرين المبتلاة بأعراض وأمراض الطائفية، نحتاج إلى ألف دليل ودليل! فهناك من يمعن في التنظير للتمييز الطائفي وتبرير هذه الجريمة التي تصطدم بالشرع والدستور والقوانين المحلية والمواثيق والعهود الدولية.
بعض كتاب “الموالاة”، لم يجد غير لوك عبارة “المظلوميّة”، مع أن المظلوميّة ليس اختراعاً من فراغ، وإنما نتاج سياسات السيف والإرهاب. وما يقوم به طابور كتبة الموالاة هو تزييف الوعي العام، على طريقة “لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون”.
هذا الوطن المريض، المبتلى بطوابير المتسلّقين والمتسلّقات… ليس بحاجةٍ إلى تبريرات وتنظيرات تغطي على السوءة المكشوفة، وإنما لوقفةٍ تاريخيّةٍ تصحّح المسار الذي سيأخذنا إلى المحرقة.
التبرير قد يكحّل العميان، لكنه لن يخدم البلد ولا النّظام السياسيّ، ففي الوقت الذي تستعد وزارة الخارجية للذهاب إلى جنيف لكشف حسابها في مجال حقوق الإنسان، لن تنفع مثل هذه الكتابات الداجنة.
مؤتمر الحوار الوطني الذي ضمّ خمسمائة شخصية من مختلف المشارب والتلاوين، أطلق صيحة جزع علّها تُوقظ النيام. هناك جريمةٌ ترتكب بحقّ الوطن، مرتكبها والساكت والمدافع عنها شركاء ثلاثة، وهي جريمة “التمييز”.
لم تكن هناك حاجةٌ إلى ورقة “الوفاق” لإثبات وجود التمييز، فالتحذيرات صدرت من أطياف أخرى غير متهمة بوطنيتها وصوفها وصفويتها!
فورقة المنبر الديمقراطي التقدمي التي قدّمها المحامي حسن إسماعيل، هي شهادةٌ وطنية أخرى على طريق مكافحة التمييز.
إسماعيل تناول محور “القوانين والتشريعات المناهضة للتمييز”، مشيراً إلى أهمية مناقشة التقريرين الحكومي والموازي من كون البحرين أوّل دولة تتعرّض للمحاسبة الدوريّة أمام مجلس حقوق الإنسان الشهر المقبل. وتناول عدداً من ثغرات التقرير الرسمي بالنّقد، نظراً إلى تجاهله ملاحظات القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وإغفاله ملفّ التمييز وضرورة “إصدار قانون يجرّم التمييز”، وهو ما ستقاومه بعض القوى السياسيّة بكل قوة، حفاظاً على مصالحها الخاصة على حساب الوطن وسمعته واستقراره المستقبلي.
إسماعيل أشار إلى تجاهل التقرير الرسمي لتوصيات مكافحة التمييز العنصري ومبادئ باريس، بضرورة تشكيل هيئة وطنية لحقوق الإنسان بالتشاور مع مؤسسات المجتمع المدني. فالمسألة التزامات دوليّة من شأنها أن تضع البحرين في مصاف الدول المتحضّرة، أو توقفها في قفص الاتهام بممارسة التمييز والعنصرية ضد مواطنيها. ثمّ تأتي “الموالاة” لتخلط حابل حقوق الإنسان بنابل المظلوميّة التاريخيّة… لتشوّش على الموضوع الأصلي… “لعلكم تغلبون”!
إسماعيل محامٍ بحرينيٌّ كتاباته محترمة في الصحافة المحلية والحزبيّة، ولم يتفلسف باختراع ثنائية سخيفة مفبركة: “المجلس العلمائي” مقابل “مؤسسات الدولة” من أجل تبرير سياسات التمييز، التي لم تكتفِ بالمواقع الأمنيّة حتّى توغلت وامتدت لتلتهم الكثير من المؤسسات “المدنية” من وزارات وشركات ومصارف و”زحرمان”!
الورقة انتقدت التمييز ضد المرأة، واستمرار حالات التعذيب وعدم منعه تشريعاً، وقانون “الإرهاب” و”التجمُّعات”… وانتهت بما تواجهه البحرين من أزمةٍ إسكانيّةٍ بسبب الفساد وانعدام العدالة في توزيع الثروة، بعد أن أصبح 55 ألف مواطن (سنةً وشيعةً) ينتظرون خدمات الإسكان، بحسب تقرير “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان”، وليس ورقة “الوفاق” أوبيانات المجلس العلمائي!
البحرين، حكومة وشعباً، ليسا بحاجةٍ إلى طبطبةٍ تخدّرها وتخدعها، بل إلى هزة ضمير للخروج الجماعي من المطب.
الوسط 2 أبريل 2008
الصراع الأمريكي – الإيراني في البحرين
تتوسع رقعة الصراع الأمريكي – الإيراني في منطقة الشرق الأوسط ليجمعَ كلُ طرفٍ قوىًّ جديدة من الحلفاء يستعينُ بها في هذا الصراع المحفوف بالمخاطر والمتصاعد بلا ضابط.
وقد نشأ هذا الصراع المناطقي – العالمي في أعقابِ خروج إيران من السيطرة الأمريكية المباشرة وقيامها بأشكال من التحدي العنيف بعد الثورة الإيرانية التي هيمنَّ على مصائرها رجالُ الدين، وتجلى ذلك في حصار السفارة الأمريكية، ثم في نشر العداء لأمريكا وللغرب في المنطقة، وتشجيع الحركات الدينية المماثلة للتيار الذي سيطر على مقاليد السلطة.
وبطبيعة الحال فإن التوجيهات الإيرانية ما كان لها أن تؤثر في كلِ بلد، له ظروفه التي تختلف عن الآخرين، دون الارتكاز على الظروف الموضوعية والذاتية فيه.
وأهم المرتكزات المعتمدة بهذا الصدد هو وجود (الطائفة) المؤيدة للسياسة الإيرانية، فقد تماثلت السياسة الداخلية والخارجية هنا، حيث كانت هيمنة التيار الديني في المركز السياسي للعاصمتين الإيرانيتين السياسية والدينية في كل من طهران وقم، يعني نشر هذا التيار ودعمه خارجياً، سواء بشكل سياسي أم بشكل ديني، كما كان لا بد أن يتوطد داخلياً في نظام السيطرة على القوميات الأخرى ذوات المذهبية السنية، حيث أن الطائفة – الدولة هو الشكل الوطني أو القومي لهيمنة القوى العليا لمرحلة ما قبل الرأسمالية في العالم الإسلامي عموماً.
وقد عبر هذا كله في مجرى التطور العنيف والمركب عن توجه النظام الإيراني لخلقِ دفعةٍ قومية اقتصادية تنموية وقفزة سياسية واجتماعية تعبر عن (الأمة) الإيرانية، وتقودُ هذه القوى الفئاتُ الاجتماعية البرجوازية المتوسطة والصغيرة، والتي تجلت في صعود هيكل القطاع العام وسيطرته على الحياة الاقتصادية بشكلٍ واسع وإتاحة النمو للقطاع الخاص في ظل هذه السيطرة، وهو أمرٌ سبق أن رأيناه في دول أخرى مجاورة كالباكستان، وعبرَّ ذلك كله عن هيمنة القوى العسكرية والبيروقراطية، ولكن هنا في إيران جرى ذلك عبر سيطرة رجال الدين الحاسمة أيضاً، مما يعني دعم السيطرة الكبرى للدولة واستمرارية البناء المحافظ في الحياة الاجتماعية والفكرية، فتغدو العلاقات الإقطاعية (في مستوياتها الاجتماعية والفكرية خاصة) رديفة ومهيمنة على تطور العلاقات الرأسمالية المضادة.
إن وجود طبيعة شمولية لهذه القفزة وهو أمرٌ مماثلٌ كذلك لما حدث للأمم الشرقية؛ روسيا، والصين،ومصر الخ.. إن هذا الوجود الشمولي له قوانينه في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية في العلاقة المعقدة بين القطاعين العام والخاص وفي مجرى صراع الطبقات وكيفية عملية الانتقال من الإقطاع للرأسمالية الحديثة.
لقد وجدت فئة رجال الدين المسيطرة على مواقع القرار إنه من مصلحتها هذه الشمولية السياسية الاقتصادية، حفاظاً لسيطرتها على الجمهور واستمرار استغلاله.
وهكذا فقد ظهرت فترة من سياسة (تصدير الثورة) عكستها مرحلة الحرب مع العراق وهي التي انتهت بفشل وبمذبحة مروعة في الجانبين الإيراني والعراقي، وهي حربٌ فجرها طاغية العراق السابق، لكن القيادة الإيرانية واصلتها رغم هزيمة الجيش العراقي الغازي.
ثم تلا تصدير الثورة إقامة علاقات (طبيعية) مع الدول المجاورة، حيث نهضت باتساع القوى المذهبية المؤيدة للتجربة الإيرانية الدينية، وقامت بتقليدها عبر نقل الأفكار السياسية والتنظيمات وتحريك الحياة عبر صداماتها المستمرة.
وتجلى ذلك أيضاً على مستوى المنطقة فيما عُرف بالتحالف الإيراني – السوري، حيث واصلت القيادات الإيرانية عملية الصراع مع الغرب، رافضة استحياء النموذج الغربي الديمقراطي البرلماني، مقيمة دولة شمولية مع أشكال مظهرية من الانتخابات والبرلمان، حيث تظل مقاليد السلطة الكلية في يد مرشد الجمهورية ومجلس صيانة الدستور.
وعبرَّ التحالفُ الإيراني – السوري عن ذات السمات من هيمنة للقطاع الحكومي العسكري البيروقراطي ومن رفض للرقابة الشعبية عليه، ومن تحكم حزب سياسي عسكري عبر مليشيا كبيرة وأجهزة مخابرات متنفذة ومن وجود مشروع ديني – قومي تجاوزي لتعددية العصر.
ويحدو التجربتان أمل بتحقيق قفزة كبرى وتجاوز للديمقراطية الغربية، وكذلك التطلع للهيمنة على الدول المجاورة والطوائف الموالية.
وهكذا فإن إيديولوجية القفز فوق الرأسمالية التي تمظهرت في روسيا سابقاً أو الصين حالياً، تعني إجراء عملية الانتقال للرأسمالية الحديثة من خلال هيمنة حكومية بيروقراطية مما يفتح الطريق لاحقاً، بعد عواصف مجهولة، ل(الرأسمالية السوداء) على طريقة المافيا الروسية.
وقد تحققت التجربة الإيرانية في ظل تفكك مشروع الدولة الشمولية الشرقية الكلية السيطرة خاصة في روسيا والصين التي بلغ فيهما تطور القوى المنتجة حداً يزيحُ(الاشتراكية الحكومية) الصارمة في بناء القطاع العام القومي النهضوي، فمضت إيران بشكلٍ مضاد، آملة باختراق هذه العملية الواسعة النطاق عالمياً، لكنها لا تفعل سوى أن تنسخ التجارب الشرقية.
الصراع السياسي بين الدولتين
وبهذا وجدت حكومتا إيران والولايات المتحدة إنهما على طرفي نقيض، كذلك فإن إرث الهزيمة الأمريكية في إيران، والجراح السياسية المترتبة على تلك الهزيمة، وصعود الولايات المتحدة لموقع القطب الدولي الأول، ودعوة إيران لخطٍ معاكس، له ما يبررهُ كذلك في عملية استغلال ونهب دول العالم الثالث، قد جعلتْ من الدولتين قطبي الصراع الكبير في المنطقة.
انطلقت حكومات الولايات المتحدة المتعاقبة المتعددة لتحقيقِ أهداف رئيسية مشتركة، تتمثل في فتح الأسواق للرساميل الأمريكية، وتذويب القطاعات العامة القائدة للتنمية في الدول النامية، ومواجهة الجماعات الدينية والقومية المتشددة وخلق حريات ليبرالية وغير ذلك من الأهداف المعبرة عن توسيع دوائر النفوذ الاقتصادي والسياسي.
وهكذا كانت سياساتها في دول المنطقة تعكس هذه الأهداف بأشكال مختلفة، ففي المملكة العربية السعودية تؤيد إصلاحاً للنظام التقليدي المتخلف بحيث يضمن استمرار هيمنتها على السوق النفطية والاقتصادية السعودية ويخففُ من التطرف الديني والذي يأخذ أشكالاً عنيفة جماهيرية متنامية.
في حين يختلفُ الأمرُ في العراق ولبنان حيث تؤيد التطور الداخلي للقوى غير التابعة لإيران وسوريا الخ..
فتجد السياستان الإيرانية والأمريكية نفسيهما في صدام مستمر، فالأولى تعملُ ل(إزالة) إسرائيل في حين تعملُ الأخرى على بقائها وتحولها إلى دولة قيادية في المنطقة، وإيران تدعم حماس في حين تعتبر أمريكا حماس منظمة إرهابية، وتريد أمريكا خروج سوريا الكلي من لبنان وانتصار حلفائها بينما تعمل إيران على بقاء سوريا مؤثرة فيه ومن أجل أن يتوسع نفوذ حزب الله والقوميين السوريين، وفي العراق تحاول أمريكا أن تحتوي النشاط الإيراني وتطور الوضع الداخلي المتمايز عنها الخ..
هكذا نجد أن السياسيتين الأمريكية والإيرانية على طرف نقيض، وهما تحتكان بشدة في مواقع معينة هي العراق والخليج ولبنان، فيما تخفت حدة الصراع في المواقع الأخرى .
في البحرين
قام النفوذ الحكومي في البحرين على شكل سيطرة قبيلة على الموارد الاقتصادية وهو أمر تشكل على أرضية الصدام مع السكان الشيعة خلال القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين)، وتجلى ذلك بمصادرة الأراضي الزراعية واحتكار العديد من الجزر والمداخيل، وهو أمر لم تقم بمعالجته الحركة الوطنية خلال نهوضها الديمقراطي منذ الخمسينيات، بل عالجت الموقف الوطني ومعارضة الأحتلال، لكن المطالب الاجتماعية أخذت تتصاعد بعد انحسار الجانب الأكبر من القضية الوطنية، وجاءت فترة هيمنة أجهزة الحكم المطلقة بعد حل البرلمان في سنة 1975 لتصعد القضايا الاجتماعية، بسبب قيام تلك الأجهزة بتوسيع حضور العمالة الأجنبية لتحجيم القوى العاملة الوطنية والتحكم في عيشها وحركتها، وتحويل الخدمات الإسكانية إلى تجارة إستنزافية للمواطنين وتصاعد الغلاء والعديد من المشكلات الأخرى.
وفي هذه السنوات نفسها كان محور الحراك الاجتماعي – السياسي المناطقي ينتقل من بؤرته المصرية الوطنية القومية التنويرية السابقة ليتوجه نحو بؤرة جديدة هي بين القطبين: إيران والسعودية، لما فعلته مداخيل النفط المتزايدة من تغيير هيكل السكان في المنطقة ومن تحكم دول النفط في الحياة الاجتماعية.
وهذه البؤرة هي أقل تطوراً من البؤرة السابقة بسبب الطابع السكاني البدوي والقروي الغالب، وهو أمرٌ أدى إلى تغذية الجماعات الدينية الصغيرة المتواجدة على هيئة جمعيات وتحويلها إلى تيارات سياسية سنية وشيعية ، فجرى تنظيم قسم من السكان في المنطقة بسرعة شديدة وتم زجها في قضايا الصراع الذي اتخذ أشكالاً قطرية مختلفة حسب تاريخ كل بلد وظروفه.
وفي البحرين فإن الجمعيات الشيعية الصغيرة المنشأة بدعم الحكومة نفسها، لمناهضة التيارات اليسارية، وجدت زخماً كبيراً من الأحداث الإيرانية ومن الدعم الإيراني، خلافاً لآفاقها المنتظرة من قبل الحكومة.
وبسبب طرحها مشروعات للصدام فقد حازت على تأييد كبير من الناس الشيعة خاصة.
إن هذا الحراك السياسي هو مظهرٌ حديثٌ من التحرك الشيعي السياسي عبر العصور الماضية، فهو ليس منقطعاً عن جذور قديمة متأصلة منذ الحركات الفاطمية والقرمطية والأثناعشرية، وقد ظهر فوق التربة الفقهية المحافظة بعد هزيمة الفكر الديني الإمامي المتمرد، وليعبر عن معارضة جديدة مساوقة لقوى الفئات المسيطرة في الحياة التقليدية رجال دين، تجار، ملاك أرض، فاعتمد على الدعم الإيراني الحكومي، رغم أن بعض بؤر التنظيمات تكونت في مناطق أخرى كالعراق، أو من تنظيمات مستقلة، لكنها في مجرى التحول إلى بنية البحرين الاجتماعية نقلت ما هو خارجي من أشكال تنظيمية وشعارات خاصة في المرحلة الأولى.
إن تقليد نموذج الثورة الإيرانية كان في البداية قوياً، وقد جرى ذلك عبر فيض الوعي الديني غير الآبه للحياة الموضوعية، ولكن الضربات والأحداث العنيفة راحت تكيفُ الشكلَ العامَ للحركة لواقع بنية البحرين وظروفها الخاصة.
كان الشكل الأول الذي ساد في هذه الجماعات على مدى عقد هو شكل الصدام الذي كان منظماً بشكل نخبوي ثم غدا واسعاً جماعياً بعد أن رسخت الجماعات المذهبية السياسية نفسها بين الجمهور بشكل فوقي.
وكان من نتائج مثل هذا الوضع هو إدخال النظام والبلد الصغير في مأزق تاريخي شامل، وهو أمر لم تدرك خطورته قيادة الحكم في تلك السنوات.
لقد ظهر خطان أساسيان في هذه التشكيلات الدينية المعارضة، فهناك خط الصدام المستمر مع النظام عبر الكتلة المنظمة من الطائفة حتى يجري تغيير أساسي في النظام السياسي، وقد اتفقت هذه الكتل على وجود الخط الأساسي بوجود برلمان له كافة الصلاحيات الدستورية، فلم يتم طرح تغيير النظام برمته، أو هذا ما ظهر على السطح.
والخط الثاني هو الذي ظهر بعد ذلك وهو خط القبول بالبرلمان المنقوص الصلاحية وتغييره من الداخل، وتوظيف الحركة المذهبية السياسية في خدمة التغييرات الواسعة المنتظرة.
لكن في عظام هذه الحركة المتوارية هناك الصدام التاريخي مع القبيلة الحاكمة واعتبار هذا الصدام هو جوهر الحركة، لتغيير واقع جرى قبل قرنين، لكن هذا الخطاب المسكوت عنه المتواري، هو الذي يجعل الحركة ذات هيكل تنظيمي طائفي، وبالتالي فإن الامتداد الإيراني، وهو السند الورائي لهذا التكتل وامتداده التراثي والجغرافي، خاصة قبل إسقاط نظام صدام حسين، وبعد هذا السقوط دخل الجنوب العراقي في التأثير، وهو ما جعل الطائفة السياسية تحصل على بديل آخر وهو أن المصدر الإيراني لم يعد وحيداً، وهو ما عبر عن حراك اجتماعي تاريخي للطائفة الشيعية في منطقة الشرق الأوسط كلها، وأنها تريد المساهمة في الحراك ولكن من خلال قواعدها الريفية والعقيدية ومن خلال المراكز المعروفة لديها.
وهو حراكٌ نشأ بفعل عمليات التطور الرأسمالية المتفاوتة والضاربة للأرياف الإسلامية، وهو حراك ضد تغلغل فوضوي وإستغلالي واسع النطاق، تم في عدة دول وبأشكال مختلفة، ولكنه يعبر عن تبديل هذه الأرياف الغارقة في الاقتصاد والثقافة التقليديين لصالح المسيطرين على السلطات، ولكن السلطات الدينية الشيعية المحلية تحاول عبر الوعي السياسي الراهن المتنوع أن تحافظ على مراكز سيطرتها داخل هذه الطائفة وترفض عملية تذويبها في المجتمع لصالح السلطات السياسية – الاقتصادية المسيطرة التي ترفض وجود مركز معارض.
ومن هنا فالمركز الإيراني هو القائد لهذه المناطق بحكم حجمه السكاني والاقتصادي وبحكم أسبقيته في قيادة الطائفة الشيعية على مدى تاريخ يمتدُ إلى عشرة قرون، رغم إن المركز العراقي لعب دور المؤسس والقائد الفكري، لكن المركز القيادي انتقل إلى ما وراء جبال زاجروس التي تفصل الدولتين المتصارعتين دوماً في التاريخ، وهذا الانتقال هو بسبب التحاكك والتصادم بين (القوميتين) الرئيسيتين والمتنافستين في قيادة المجموعات الأثنية المختلفة وهما العربية والفارسية، فغدا المركز بعيداً في طهران.
ومن هنا فقدرة المركز الفارسي أكبر في توجيه مصير الطائفة، في حين يقوم المركز العراقي بلملمة نفسه في هذا الوقت دون أن يتركه المركز الإيراني قوياً في زمن هذه اللملمة الصعبة، ويلعب النفوذ الأمريكي هنا دوراً متعدد الأشكال على هذه المراكز.
الدور الأمريكي
عبرَّ الدور الأمريكي في التأثير على مصائر المنطقة السياسية في الوقت الراهن عن إعادة تشكيل الأنظمة التقليدية في المنطقة التي عجزت عن إنتاج قوى تغيير تحديثية، بسبب نفس السياسة الغربية والأمريكية في ضرب قوى التحديث وخاصة اليسار في عقود التراكم السابقة مما قوى الاتجاهات التقليدية وأبرزها للسطح.
وبعد انهيار المجموعة (الاشتراكية) الشرقية فإن عمليات التغلغل الرأسمالي الغربي، وعولمة السوق الدولية، تأخذ أبعاداً كبيرة، ومن هنا كان لحكومات الولايات المتحدة برامج متعددة في تغيير الدول الشرقية، بفتح الأسواق والتأثير على شركات النفط وهدم القطاعات العامة المسيطرة على الملكية الاقتصادية، وذلك كله يجري في صراع بين الدول الرأسمالية الكبرى على الحصص، وبينها وبين الدول الشرقية على الخطوط العريضة للتنمية والتسليح والحقوق القومية ونفوذ الدول، أي كل ما يتعلق باعتراف الدول الشمولية الشرقية بنظم العالم الحديث المرفوضة لدى هذه الدول والحركات.
ومن هنا كانت الولايات المتحدة مشجعة على قيام تغييرات سياسية في الدول العربية ومن ضمنها البحرين، وقد جاء ذلك ضمن الخطوط العريضة السابقة، وكذلك بسبب تململ الأمير من السيطرة الكلية لمجلس الوزراء ورئيسه على الوضع العام، فتقاربت الأهدافُ بين المركز الأمريكي المسيطر وبين الشريك البحريني ذي البلد الصغير لكن الذي يمثل بارجة عسكرية جاهزة للأمريكيين وفندقاً ترويحياً للجنود كذلك، عبر القيام بتغيير في الوضع السياسي بما يحقق الرؤية الأمريكية للمنطقة ويجعل الحاكم يسيطر فعلاً على الوضع السياسي الداخلي المنفلت لدى جهتي؛ مجلس الوزراء وقيادة الطائفة الشيعية.
وهكذا فإن الحديث عن مشروع(الإصلاح) لا بد أن يُوضع بين قوسين، فهل هو إصلاح أم إعادة تشكيل سيطرة على البناء الاجتماعي؟
إن الظاهرة تجمعُ بين هذين الجانبين فهناك تغييرات سياسية واقتصادية قادت إلى حراك سياسية وتغيير معيشي، ونمو اقتصادي وحريات، وفي البداية جرت عبر المؤسسة القديمة ثم قامت المؤسسة الجديدة باختراق المؤسسة القديمة وتحجيم دورها المسيطر الكلي السابق.
ويبدو إن صيغة التسوية هذه ليست أمريكية ولكن تعود للرؤية القبلية الارستقراطية المسيطرة في المنطقة بعدم خلق هزات كبيرة في قيادة الدولة، واستمرار الثنائية بين القيادتين القديمة والجديدة، ومن أجل تنفيذ بعض التغييرات التي تعبر بالبلد عنق الزجاجة الذي كادت أن تختنق فيه.
وهو أمر جعل للدولة إرادتين متضادتين، وخلق مجلسين منتخب ومعين، وهو شأن كان غامضاً في البداية حتى اتضحت صورته، المعبرة عن خلق وضع لا يتيح للمذهبية الشيعية السياسية الوصول إلى تصادم كبير وغير مسيطر عليه في السلطة التشريعية، أي بعدم إلحاق القوى(اليسارية) بهذه القوة المذهبية السكانية الكبيرة ومن ثم قيامها الموحد بالانقضاض على النظام من خلال هذا المجلس التشريعي الذي سوف يرفع سقف مطالبه السياسية للوصول إلى مطلب الوزارة وما بعدها.
أما خلق مجلسين فهو استمرار في السيطرة على اللعبة الطائفية ومحاصرة القيادة السياسية الشيعية في مربع التغيير الاقتصادي – الاجتماعي الجزئي، غير المرتفع إلى السياسي الجذري، بإعادة تشكيل الدولة حسب أحجام الطائفتين كما يتراءى ذلك لهذا الوعي المذهبي السياسي.
أي عملت الدولة على رسم خط أحمر فوق لوحة التغييرات بأن تبقى ضمن الاقتصادي – الاجتماعي لا تتعداه، بما يتيح تطور الحياة المعيشية، كذلك يتيح هذا ومن جهةٍ أخرى تفكيك (الطائفة المغبونة) المعارضة، وهي المُعبرُ الأكبر في هذا الوقت عن القوى العمالية والشعبية، المتغربة عن وعيها التقدمي، والتابعة للقوى الدينية المتخلفة حالياً.
ولكن القيادة القديمة البحرينية كانت لا تريد لهذا السيناريو أن ينجح لأن هيمنة القيادة السياسية الجديدة على الخريطة العامة، يؤي إلى ذوبانها وانتهاء دورها، ومن هنا دخلت في لعبة تأجيج الأوضاع والإكثار من استيراد العمالة الأجنبية والمساهمة في توسيع التجنيس وتحجيم حضور النقابات وخلق معارك جانبية ضدها، وتأييد التطرف الشيعي من جهة أخرى وتأجيج الصراع الطائفي، بهدف زعزعة موقف القيادة الجديدة.
ومن هنا كان الدور الأمريكي في مساندة القيادة الجديدة، والتغاضي عن هجوم القيادة القديمة على الدور الأمريكي، والذي يتجلى في صرخات بعض الصحف المحلية والتي يتمحور فيها نفوذ تلك القيادة.
لكن الصراع المناطقي الكبير بين أمريكا وإيران يتغلغل في كل الدول في المنطقة، وقد وجدنا القيادة الإيرانية تؤجج الصراعات في مختلف مناطق السيطرة الأمريكية كالعراق أو التي لها نفوذ سياسي كبير فيها كلبنان، ومن هنا نرى الصراعات بين الجماعة السياسية الشيعية البحرينية والنظام لا تهدأ، عبر هذه الخلطة المركبة المتداخلة بين القيادتين القديمة والجديدة وبين المعارضة الداخلية المذهبية، وبين النفوذ الأمريكي عامة.
– فهناك توسع للنفوذ الأمريكي على حساب الدول الرأسمالية الكبرى الأخرى.
– ومحاصرة نفوذ إيران الاقتصادي والعجز عن محاصرة نفوذها السياسي المتوسع والمتغلغل في الجماعات الشيعية.
– حدوث تقارب بين القيادة القديمة والجماعة المتضررة من التغيرات وبين النفوذ الإيراني في الصراع المشترك ضد النفوذ الأمريكي الكاسح.
– حدوث تداخلات مشتركة لتأجيج الوضع الراهن وخلق الاضطرابات بين القيادة القديمة وحركات التطرف والتوجه الإيراني بإحداث قلاقل في مناطق النفوذ الأمريكي.
– عجز القيادة الجديدة عن تغيير القيادة القديمة وما تحدثه من إرباكات على مستوى تنفيذ المشروعات الاجتماعية وعرقلة الاستقرار الاقتصادي والمعيشي، كما أنها تماشي عمليات التغلغل الأمريكية والغربية المتوسعة في الاقتصاد والتي ترغب في زيادة أرباحها دون تغيير كبير في البنية الخدماتية، وطرحها مشروعات الخصخصة الموجهة ضد قوت الشعب ومشاركتها في عمليات النهب للموارد العامة والأراضي والجزر وإحداث بذخ غير مسبوق للموارد العامة الخ..
إن العجز البحريني عن إنتاج قيادة وطنية تقطع عمليات التبعية للجهات الأمريكية والإيرانية والسعودية الخ هو السبب الرئيسي وراء الفوضى والارتباكات ومن ثم وصول مشروع(الإصلاح) إلى الحائط المسدود مع تأجج الصراع بين الطرفين الأمريكي والإيراني على الساحة المناطقية وعلى الساحة البحرينية.
إن مشروعات(الإصلاح)الأمريكية تقف فوق أرضية التوسع واستغلال موارد الدول الأخرى الثمينة خاصة النفط وإحداث احتكاري أمريكي لها أو سيطرة منظمة على منابعها وتوجهاتها.
ولهذا نرى إن هذه المشروعات(الإصلاحية) تقف فوق أرضية دينية واستبدادية، يُفترض أن تلغيها، فهي لا تستند على الإرث الديمقراطي الغربي في العلمانية والديمقراطية والعقلانية، بل تبقي على البنية الإقطاعية الدينية، وتغيرُ بعضَ الجوانب التي تبشع سيطرتها، تاركة الأدوات الدينية والسياسية وهي احتكار السلطة السياسية واحتكار السلطة الدينية لدى أجنحة الإقطاع المختلفة المتصارعة، محاولة النفاذ بينها جميعاً والتحكم بها، مغلغلة رؤوس أموالها نازفة البنية الخليجية البترولية، وهو أمرٌ يماثل خطط السيطرة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى في المنطقة، ولهذا تتعاون الدولتان في هذا المجال.
مخاطر الحرب
يمثل الخيار النووي الإيراني نقطة الخط الأحمر في الصراع الأمريكي – الإيراني، أو ذروته التي سوف يتغير الوضع بعدها، أما بتحجيم مشروع الجمهورية الإيراني القومي المتوسع، أو بهزيمة الوجود الأمريكي في منطقة الخليج.
وعلى الرغم من إعلان حكومة البحرين والحكومات الخليجية عامة حيادها في هذا الصراع، لكنه حياد غير حقيقي، لأن ارتباطها بالسياسة الأمريكية والغربية أمر يتشكل في كل مجال، وخاصة في مجال التسلح والقواعد العسكرية، مما يعني أنها أرض إسناد للعدوان المرتقب حسب المصطلح الإيراني.
وتتوجه السياسة الأمريكية لسياسة حافة الهاوية هذه بسبب ضخامة الفوائض النقدية التي تنبع من الخليج والجزيرة العربية، وتقدر أرباح الشركات الأمريكية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي وقتذاك بخمسة عشر ملياراً من الربح سنوياً، إضافة لما يمثله الخليج من أرباح للحلفاء الغربيين ومن مورد طاقة هائل ومن سوق واسعة تتحول أحياناً إلى مكب نفايات للسلع المنتهية الصلاحية.
وتنبع حماية الحكومات الأمريكية للأسر الحاكمة في الخليج من تغييب الرقابة على هذه العمليات الاقتصادية وقبول هذه الأسر بشراء الكميات الهائلة من السلاح الأمريكي والغربي وإقامة القواعد، وهذا كله يمثل استنزافاً هائلاً للموارد، كذلك يجري ملء الخليج والجزيرة العربية بالعمالة الأجنبية الآسيوية لمنع تشكل مواقف شعبية مناهضة أو قيام تحرك قومي يقطع أنبوب الذهب السائل الهائل المتوجه للخزائن الغربية.
وهذا مغاير لما يحدث في الجانب الإيراني المتوحد في كيان سياسي صلب، ومن نمو لعسكرية كبيرة ذات قوى بشريه ضخمة، ومن تصعيد لقطاع حكومي هائل، وهذا كله يناقض المصالح الأمريكية والخليجية الحكومية، وتغدو الليبرالية المقترحة على النظام الإيراني تفكيكاً لهذا المشروع العقائدي المسلح القوي(القومي)، الذي تمثل ذروته الخطرة مشروع القنبلة النووية الإيرانية.
إن مشروع القنبلة يتخذ كمدخل لإعادة النمر الإيراني إلى حجم الشاة السابق، ومن المحتمل أن توجه الضربات من قبل إسرائيل خاصة، ولكن لا نعرف الاحتمالات الأخرى المأخوذة في الحسبان.
إذن لدينا مشروعان متصادمان يفتقدان الحكمة في كل جانب، ولا يأبهان لمصير الشعوب، ولا يستطيع الطرف المحلي أن ينفك من التحالف الأمريكي، ولا أن يتخلص من أغلبية شعبه كذلك، فالصدام الخارجي لا بد أن يكون صداماً داخلياً أيضاً.
ويتضح موقف الجانب السكاني الديني البحريني في رفع صور وشعارات الدولة الإيرانية ومن ترديد شعار(الموت لأمريكا) ومن هجوم سابق على السفارة الأمريكية، أي ثمة استعداد للتضامن الكبير مع إيران يمكن أن يصل إلى أقصى أشكاله.أي هي سويس جديدة ولكن إيرانية هذه المرة وذات أبعاد أكبر وأخطر.
لم يستطع الطرف الحكومي المحلي أن ينفك من التبعية للولايات المتحدة، فانعكست كل سلبيات هذه العلاقة على تقلقل التجربة السياسية البرلمانية الجديدة، أو مشروع الإصلاح المطروح.
فقد أوجدت التجربة الجديدة العديد من أشكال التنظيم العلني المتاحة للجمهور، لكنها رفضت نتائج الانتخابات المؤدية لسيطرة حزب الأغلبية على البرلمان، فأحدثت شكلاً من التزوير المنظم الواسع النطاق، عبر خلق تنظيمات مؤيدة ذات حضور زائف في البرلمان، ثم محاصرة هذا الوجود المعارض داخل البرلمان، وخلقت ممانعة حكومية قديمة – جديدة لتحول حزب الأغلبية إلى مغير للأوضاع المعيشية السيئة عبر نفس النظام المقترح من قبلها.
وهذا كله يخلق قوى جمهور متذمر قابل للاستخدام العنيف والفوضوي، خاصة إنه وجدَ الأدوات المنظمة له، ومن هنا فإن استمرار تأييده للسياسة الإيرانية يعبر عن عجز السياسية الأمريكية – المحلية عن الوصول لجذور المشكلات وحلها، بسبب تناقض سياستها، بين دعوة للإصلاح والتغيير وإبقائها للقوى البيروقراطية القديمة الفاسدة. وبين دعوتها للتخفيف من أعباء الناس وفتحها الأبواب للشركات والعمالة الأجنبية التي لا تستفيد منها أغلبية الناس.
وهكذا فإنها تضعُ النارَ بقرب البنزين، وتغيبُ الحقائقَ المتضادة بصحافة محدودة النطق الحر، وبتوسيع دوائر الأدلجة والنقد الجزئي الانتهازي النفعي، وتجعل من هذا كله غسيلاً دماغياً يومياً، متصورة قدرتها على السيطرة على التاريخ الوطني والمناطقي والعالمي.
والحلول صعبة في مثل هذا الواقع الذي تسيطر فيه قوى عالمية – محلية كبيرة، ولن يكون سوى الصدام بينها في مستقبل الأيام، وهو صدام كارثي بكل النتائج المترتبة عليه.
الجامعة.. بين الانطلاق المعرفي والتفوق القسري
من الأبحاث الجليلة التي توصل إليها الباحثون تلك التي تشيد بقدرة الطالب على التفوق في الدراسة متى ما تسنت له ظروف الاختيار الطوعي للمادة المدروسة، وقد كان التفكير السابق ينحصر في كون الأب هو الذي يختار المادة الجامعية لولده أو ابنته، ثم يفرضها فرضاً عليهم ويقوم ببذل الجهود والطاقة والمال في سبيل ذلك، وقد كان حتى وقت قريب تفرض المادة على الأبناء من قبل الآباء، ولكن بعد انتشار ثقافة الحرية والاختيار، تغير هذا المفهوم إلى مفهوم حديث يرقى مع العصر، فالطلاب الآن يمتحنون منذ الصغر في المواد التي يتبين إبداعاتهم، ثم تفرز الأسماء ويؤخذ الطلبة حسب تفوقهم إلى المادة المحددة، ثم يوجه الطالب في هذا المجال سواء الإلكتروني أو العلمي أو الأدبي لكي يسجل نجاحاًباهراً في ذلك التخصص. منذ زمن غير بعيد كنا نسمع الآباء وهم يرددون على أبنائهم: ‘بني أنت ستصبح دكتوراً أو مهندساً أو محامياً أو قاضيا لأن عائلتنا محترمة ونحن لا نقبل إلا المهن العالية’. لقد تجلى بوضوح أن الطلبة المتفوقين في الدراسة كان بسبب انتقائهم المادة التي يرغبون بها ويحبونها بعشق ويغرقون فيها اشتياقاً وليس جبراً، فالطالب الذي نراه مبدعاً في مادته الدراسية وتحصيله العلمي لابد أنه اختار هذه المادة لذات المعرفة لأن بينه وبينها قرابة تلامس أحاسيسه وميوله وتتعانق مع وجدانه ومهاراته، وربما جيناته الوراثية، وهذا ما يحدث الآن بالنسبة للطلبة الصغار في أكثر دول الغرب الذين يتمتعون بأبوين يعرفان التمييز مابين الفرض على الأبناء وبين إتاحة الفرصة وحرية الاختيار، ولهذا أثر كبير في فرز الموهوبين وتنمية إدراكهم منذ الصغر، وبالتالي إتاحة أكبر فرصة أمامهم أن يمارسوا هواياتهم في جميع الفنون والعلوم. الطالب الذي يتسنى له إبداء رأيه في المادة يبقى مدفوعاً للمعرفة برغبة ذاتية عارمة، ولا يشغله عن هذه الرغبة أي شاغل ولا يصرفه عنها أي اهتمام، نراه منكباً ليلاً نهاراً دون أي حاجة للزجر أو للإلحاح من الوالدين، كما أنه لا يحتاج إلى جوائز وهدايا كثيرة وإغراءات حتىيؤدي واجباته المدرسية، وكأنه يقول لوالديه: يكفي أنكما تركتما لي الحرية في اختيار ما أريد، أنا الآن المدان لكما ولتفهمكما لي. أما الجانب الآخر من البحوث فهي تقول إن الطالب الذي يجبر على مادة ما ثم تكون نهايته الفشل الذريع، أو أنه يتمرد في البحث عن المادة التي تستغرق اهتمامه وهواه فنراه ينصرف انصرافاً كلياً ويبذل الغالي والرخيص لتكوين ذاته في التوجه الذي اختاره لنفسه، إن لذة المعرفة ذاتها هي التي تستحوذ على كل كيانه وتمنحه أقصى درجات الغبطة والشعور بأهميتها وتدفع به إلى الجانب الآخر من الشط ولا غرابة في ذلك لأن هناك فارقاً شاسعاً بين القراءة والاطلاع من أجل الاكتشاف والمعرفة وبين القراءة فقط للامتحان وتحصيل الشهادة واللقب والمركز والمكسب المادي. في الحالة الأولى يحس الطالب بنبضات تجاهها ونشوة تأخذ عقله وتحرك تفكيره، وفي الثانية يحس بالعبودية وأنه مجبر على الحفظ عن ظهر قلب، وفي أفضل الحالات لا يستمر الحفظ إلا فترة قليلة في الذاكرة ثم تنتهي المعلومة ريثما يغادر الامتحان، يشعر وكأنه بطارية سيارة تأخذ شحنة وبعد قليل تفقد تلك الشحنة ويخرج من السنة الدراسية فاضي اليدين وهو يقول: دخلتك وأنا جوعان وخرجت منك وأنا جوعان، يشعر أن المواد التي حفظها وكأنها مواد عسرة الهضم لاتذوب في كيانه أو ذهنه، ولا تمتزج بروحه ومزاجه ولا تخدم الأهداف التي نذر نفسه لها. نأخذ مثالاً على ذلك.. توفيق الحكيم كان من الطلبة الذين يجبرون على المادة التي يرغب بها والداه، فقد أراده أبوه قاضياً لكي يرفع رأس عائلته، لكن هذا الرجل العظيم، ومن يقرأ عن تاريخ حياته يعرف بأنه كان يدرس المواد التي يحبها من وراء ظهر والده، وفي النهاية أصبح هذا الرجل عبقرياً ومن أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث في المجالات الأدبية والعلمية والفنية وباحثاً ومسرحياً وقاصاً، فضمن لنفسه دوام الذكر والخلود والمكانة الرفيعة. وهناك أمثلة كثيرة يذكرنا التاريخ بها بين الحين والآخر مثل آنشتاين وداروين وإسحاق نيوتن وغيرهم.
صحيفة الوطن
12 ابريل 2008
كلكم آثمون وإن اختلفت الأسماء!
‘مع الأسف الشديد كنا نتحدث عن القاعدة، ولكن كان فينا من هم أسوأ من القاعدة، بل هم صنو القاعدة’.
هذا مقطع من حديث أذاعه التلفزيون العراقي لرئيس الوزراء نوري المالكي أثناء استقباله وجهاء وشيوخ العشائر في مدينة البصرة، إبان حرب الستة أيام الطاحنة بين الفريق الموالي لرئيس الحكومة المالكي، والذي ضم بعض قطاعات الجيش العراقي وقوات الشرطة العراقية وبعض الميليشيات المسلحة الموالية للمالكي وبين ميليشيا ما يسمى بجيش المهدي التابعة لما يسمى بالتيار الصدري الذي يقوده رجل الدين مقتدى الصدر.
هذا التشبيه الساطع والصارخ بين القاعدة، وجيش المهدي لا يمكن بأي حال من الأحوال لأي متابع للشأن العراقي أن يُعده كشفاً سياسياً جديداً يُنسب حق السبق فيه حصرياً لرئيس الحكومة العراقية. فهو لا يعدو أن يكون تقريراً لحالة قائمة ومثبتة برسم الأمر الواقع المعطوب بممارسات تلك الزمر التي اختطفت البصرة وافترست كافة مظاهر ومناحي الحياة اليومية فيها، وأحالت سكانها أسرى أهوائها ونمَّطت حياتهم بأساليبها الترهيبية وكأنها تحاول مجاراة ومنافسة أساليب حركة طالبان التي فرضتها على سائر مواطني البلاد الأفغانية إبان حكمها لأفغانستان أواخر تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية الثانية.
ولكن هل الأمر يقتصر على ميليشيا ‘جيش المهدي’؟ …
لو كان الأمر كذلك لربما كان وطؤه أخف على سكان البصرة وبقية مدن الجنوب العراقي وبعض أحياء العاصمة بغداد. فهنالك عشرات الميليشيات المسلحة التي لا تقل عن ميليشيا جيش المهدي انخراطاً في الأعمال التي صنفها مسئولو الحكومة العراقية المؤتلفين مع حزب الدعوة الذي يتزعمه رئيس الحكومة نوري المالكي، على أنها أعمال إجرامية تتراوح بين سرقة وتهريب النفط العراقي وأعمال القرصنة والاختطاف والابتزاز والقتل برسم فتاوى لمحاكم صورية ‘طيّارة’. وقد قيل إن في البصرة وحدها نحو من 28 ميليشياً مسلحة تتنازع السلطة والثروة والنفوذ مستخدمة كافة أشكال العنف والترهيب ضد السكان والسلطات المحلية الضعيفة وضد بعضها بعضاً بطبيعة الحال.
ولا ننسى أن رئيس الحكومة العراقية الحالية يدين بالفضل في وصوله إلى منصب رئاسة الحكومة، إلى الكتلة النيابية التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر التي وقفت إلى جانبه في المساومات السياسية بين الكتل السياسية العراقية التي امتدت زهاء ستة أشهر. فإذا به اليوم ‘يكتشف’ أن الجناح العسكري لهذا التيار ‘الصدري’ هو أسوأ من القاعدة(!).. وأنه أشرف شخصياً على العملية العسكرية التي أُعطيت ‘كوداً’ هو ‘صولة الفرسان’، والتي راح ضحيتها أكثر من 700 قتيل وحوالي ألفي جريح، فضلاً عن التدمير الذي أصاب الممتلكات والبنية الأساسية، المهترئة أصلاً، للمدينة.
فماذا كانت النتيجة؟
لنعد أولاً لقراءة كلام رئيس الحكومة نوري المالكي الذي جرَّد تلك الحملة العسكرية (صولة الفرسان) وأخذ على عاتقه وضع حد لتمرد المدينة من الناحية الفعلية وخروجها على ‘طاعة’ السلطة المركزية في بغداد.
قال المالكي: ‘إن هذه الجماعات المسلحة التي تقاتل في البصرة تعمل وفقاً لأولويات سياسية خارجية، وأن الذي نشهده يومياً هو في الحقيقة إرادات سياسية بعضها محلي حتى تفشل التجربة السياسية في العراق، وإننا مصرون على مواجهة هذه العصابة في كل شبر من أرض العراق’. داعياً قائد عمليات بغداد والقادة الميدانيين ‘ لاتخاذ إجراءات للتعامل بحزم وقوة مع الجماعات المسلحة والخارجة على القانون والعصابات الإجرامية وعدم إجراء مفاوضات أو التهاون معها باعتبارها وجهاً آخر لتنظيم القاعدة الإرهابي’.
ولذلك يمكن الإجابة على السؤال السابق بالقول أنْ لا شيء تحقق عملياً.. بل إن العملية برمتها انتهت إلى فشل محقق خرجت منه ميليشيا ‘جيش المهدي’ المدعومة من إيران غير مهيضة الجناح إن لم تكن كاسبة معنوياً وتعبوياً من هذه المعركة الرئيسية. وهو الأمر الذي أكده بالوقائع مراسل ‘لوموند’ الفرنسية في عدد الصحيفة الصادر يوم الأربعاء 2 أبريل (نيسان) ,2008 حيث جاء في تقريره إن ميليشيا جيش المهدي لم يتم إخراجها ولو من حي واحد من أحياء البصرة التي تسيطر عليها.
بل إن الوضع سوف يغدو أكثر سوءاً بالنسبة لعموم سكان المدينة، وقس عليها بقية المناطق التي تواجه فيها الفريقان المتنازعان على السلطة والنفوذ السياسي والاقتصادي، بعد أن وقف الاثنان على حدود القوة والامتدادات الخارجية لعلاقات ونفوذ كل منهما.
فالذي حدث أن مجاميع من الشرطة والجيش العراقي ‘الجديد’ التي أرسلت للقضاء على التمرد والقرصنة، قد رفضت الأوامر بمقاتلة تلك الميليشيات والتحق كثير منهم بها عوضاً عن مقاتلتها.
كل ما حدث هو أن زعيمهم دعاهم للانسحاب من الشوارع فقط، أي الانزواء والاختباء بأسلحتهم للعودة ثانية وبسط سيطرتهم ثانية على المدينة.
ولذلك فإن تصريح رئيس الحكومة العراقية بعد انسحاب المسلحين من الشوارع بأوامر من قيادتهم، بأن الحكومة والقوات العراقية قد حققت أهدافها من العملية، هو قول مرسل ليس له أساس من الواقع. فهو محض ضرب من الأمنيات العزيزة في عراق الفوضى.
فهل كانت هذه الميليشيات وممارساتها الإجرامية من سرقة نفط وتهريبه، واختطاف وقتل، غائبة عن سمع وبصر ووعي أولئك الذين قبضوا بفضل ‘الفوضى الخلاقة’ الأمريكية على السلطة في بغداد؟
وهل المشكلة تقتصر وتنتهي عند ميليشيا هذا الحزب أو ذاك الزعيم، أم أن معظم الساسة العراقيين ‘الجدد’ تقريباً متورطون بهذه الدرجة أو تلك في شلال الدم العراقي المتدفق بغزارة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في التاسع من أبريل 2003؟
نعم كلهم، كل بقدر قسطه، في هذه الجريمة التي لم يسجل التاريخ العربي الحديث، حتى بمقاييس الحروب الأهلية، ومنها الحرب الأهلية اللبنانية والحرب الأهلية اليمنية والحرب الأهلية الصومالية، مثيلاً لها.
فما يقال عنه اليوم إنه ‘عراق جديد’ ليس سوى أكوام من الجماجم والأشلاء المتناثرة على امتداد التراب العراقي. فأين هي جهورية الخوف أو الرعب الصدَّامية من هذه الكارثة الإنسانية التي انتهى إليها العراقيون منذ احتلال بغداد في التاسع من أبريل( نيسان) 2003؟
وليت الأمر اقتصر على الإسفين الذي دقه المحتلون بين العراقيين بعد أن قاموا بهدم كافة أسس الدولة العراقية الحديثة وإنشاء كيانات سياسية على أسس مفاضلات طائفية، وإنما هو يتشعب ليشمل استحالة العراق ليس فقط إلى دولة متداعية الأركان (أركان الدولة الحديثة الأساسية: الأرض والشعب والمؤسسات) وإنما مستباحة السيادة، مرة أخرى ليس فقط من قبل الاحتلال وإنما أيضاً من قبل إيران وتركيا، إلى الدرجة التي وصل فيها الأمر لحد التقاء الأمريكيين والإيرانيين على الأرض العراقية للتفاوض والتباحث في شؤون العراق الأمنية والسياسية!!
حتى إن حرب الأيام الستة في البصرة بين الميليشيات وقوات الشرطة والجيش العراقية، كشفت بالدليل القاطع حجم التدخل والنفوذ الإيراني المتغلغل في كافة مناحي الحياة السياسية والأمنية والثقافية العراقية.
وهنا يُحار المرء ويتساءل عن ‘الحكمة’ العصية على الفهم المتمثلة في استمرار البلدان العربية إتباع سياسة ‘الانعزال البديع’ عن المسرح العراقي ريثما يصبح التدخل العربي فعالاً ومجدياً!
فهذا الانعزال أو الابتعاد والنأي عن العراق لم يُقرَّب من لحظة تلك السياسة ‘الانعزالية الإبداعية’، بقدر ما أفسح المجال لكل من هبّ ودبّ لأن يسرح ويمرح في ربوع العراق كيفما يشاء، حتى لم يعد يجافي حقيقة القول بأن العراق هو اليوم قيد الاختطاف من الأجانب.
فمتى يتحرك العرب لانتشاله من قبضتهم؟
الوطن 12 أبريل 2008
ملتقى الشارقة لفن الخط
لم يبق من اللغة العربية خارج التدهور الذي يشهده حالها منذ عقود سوى تراث وفنون خطها العريق، وحتى هذا التراث بدا أن عشاقه من شعوب العالم الأخرى غير العربية أكثر اهتماماً وولعاً به من العرب أنفسهم. والأهم من ذلك فإن الخط العربي خطاً وفناً وتراثاً يشهد تراجعاً وتدهوراً غير مسبوق في تاريخه المديد منذ ولادة كتابة اللغة العربية، اللهم استثناءات ونماذج محدودة في العالم العربي. ولعل من هذه الاستثناءات المهمة الجديرة بالاعجاب، والآخذة نحو الترسخ كتقليد فني وثقافي ثابت، الفعالية التي أرستها إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية تحت اسم “ملتقى الشارقة لفن الخط العربي” والذي عقد خلال هذا العام دورته الثالثة. وتتجلى أهمية هذا الملتقى العربي الدولي بالنظر للعدد الكبير المشارك فيه من فناني الخط العربي العرب والأجانب. ففي الدورة الأخيرة شارك أكثر من 200 فنان ينتمون لبلدان عديدة من العالم، وساهموا جميعاً بألف ومائتي عمل فني. ولعل من أبرز هذه الأعمال اللافتة مشاركة سبع يابانيات في عمل فني بديع تحت عنوان: “اليابانيات شمس الحرف”، وتتجلى عظمة إبداعهن ليس في كون أعمارهن تتفاوت ما بين نهاية العقد السادس ومنتصف العقد الرابع فحسب، بل لكونهن لم يتعلمن العربية قط بينما اكتسبن مهارة الخط والزخرفة من التحاقهن بدورة تدريبية في الخط والزخرفة بمركز الشارقة للخط والزخرفة. كما يتجلى ابداعهن فيما قدمنه من أفكار رائعة بمزاوجة الحرف العربي في نسيج الفن الياباني سواء في الجرافيك والإعلان أم من خلال أعمال خطية بديعة تتنوع بين الثلث والديواني والرقعة وغيرها من الخطوط موشحة بالرقش والتذهيب. وثمة تجربة إبداعية أخرى لأربعة فنانين إيرانيين تميزوا باحتراف الخط التقليدي وصولاً إلى المنمنمات التي اشتهر الإيرانيون بالبراعة في رسمها ونقشها والقدرة على المزج بين الزخرفة والرسوم الإيرانية الكلاسيكية. هذا إلى جانب مهارة الأربعة في التجويد والإلمام بقواعد الخط وما يرتبط به من نقش وزخرفة فضلاً عن أعمال الجرافيك. كما عرضت في الملتقى الأخير تجربة خطية إبداعية اندونيسية لـ “ايني ارحماني” في الحروف الاندونيسية، هذا بالإضافة إلى تجارب الخط التقنية الحديثة للحروف الطباعية والحاسوب. وإلى جانب هذه الأعمال الإبداعية في الخط العربي في ملتقى الشارقة للخط العربي عقد العديد من المحاضرات والبحوث القيمة حول جماليات الخط العربي وفنونه. ومن بين هذه المحاضرات محاضرة عن “علاقة الخط العربي بالأدب والموسيقى”. والحال ان ملتقى الشارقة للخط العربي غدا اليوم من أهم الملتقيات والمعارض الفنية للخط العربي ليس على مستوى العالم العربي فحسب بل على المستوى العالمي، وذلك لتمكنه السريع من ترسيخ مكانته وقدرته على إبراز فعالياته الفنية المتنوعة والجميلة التي تعكس الجهود الابداعية نحو الارتقاء بفن الخط العربي إلى فضاء عالمي أرحب وعدم اقتصاره على الفضاء العربي الضيق، على الرغم من تراجع الاهتمام بهذا الفن حتى في نطاق هذا الحيز، ومن ثم الانفتاح على مختلف التجارب الانسانية العالمية ذات الاهتمام بفن الخط والتي ينبغي أن تكون محط ليس افتخارنا كعرب فحسب بل تشجيعنا وتواصلنا المستمر والفعال معها على مختلف المستويات وذلك على اعتبار ان هذا الفن اضحى فناً عالمياً قائماً بذاته بعد تزايد عشاقه ومحترفيه من مختلف الثقافات وبعد ان غدا فن الخط يمتزج ويتداخل مع فنون عديدة. ومن المؤسف حقاً انه في الوقت الذي يتعاظم فيه الاهتمام عالميا بالخط العربي وتراثه، فإن هذا الاهتمام يتراجع حثيثاً في بيئته الأصلية في العالم العربي، سواء على الصعيد الرسمي من قبل المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية، أم على الصعيد الشعبي من قبل مؤسسات المجتمع المدني وغيرها من المؤسسات الأهلية الثقافية والتعليمية والإعلامية المعنية. ولعله من المؤسف أيضاً ألا يحظى هذا الملتقى الفني الثقافي الإبداعي باهتمام كافٍ من قبل دول مجلس التعاون على الرغم من انه يعقد في دولة خليجية عربية، ويتجلى ذلك ليس فقط في غياب مشاركة فنانين كبار خليجيين وبحرينيين بوجه خاص حيث البحرين معروفة بعراقتها في هذا الفن بل في غياب الإعلام الخليجي المرئي والمسموع والمقروء عن تغطية وإبراز هذه الفعالية الإبداعية الحضارية العربية العالمية المهمة اللهم إعلام الدولة المنظمة للملتقى.
صحيفة اخبار الخليج
12 ابريل 2008