برحيل الشخصية الوطنية الكبيرة الأستاذ حسن الجشي افتقدت حركتنا الوطنية واحدا من أبرز رموز وقادة الرعيل الأول المتبقين على قيد الحياة إن لم يكن آخرهم، وهو الرعيل القائد والمؤسس للحركة الوطنية في تاريخنا الحديث وعلى الأخص منذ مطالع النصف الثاني من القرن الماضي بالرغم من أن بعضهم تمتد بدايات عطاءاته إلى ما قبل هذا التاريخ كما هو حال الفقيد حسن الجشي نفسه. وبرحيل الجشي تفتقد ذاكرتنا الوطنية كنزا مهما لا يقدر بثمن من المعلومات والوقائع والأسرار البالغة الأهمية والفائدة القصوى في تدوين تاريخنا الوطني المعاصر، وعلى الأخص على مدى نحو نصف قرن، حيث كان الفقيد الراحل شاهدا أو صانعا في أحداثها ووقائعها، ولاسيما أحداث الخمسينيات المتصلة بحركة “الهيئة”، وأحداث النصف الأول من السبعينيات المتزامنة مع الاستقلال الوطني وإقامة أول برلمان للبلاد، حيث كان الجشي أول رئيس لسلطة تشريعية منتخبة بأكملها، ثم أحداث ووقائع حل البرلمان صيف عام .1975 الكثير والكثير من ملابسات وأسرار أحداث الحركة السياسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين كان مستودعا كبيرا مجهولا ومخزونا حيا في ذاكرة حسن الجشي، وكان جل هذا الكثير جديرا بأن يدون أو يروى على الأقل، ولكن للأسف الشديد فإن القليل الأقل، من النزر اليسير هو الذي تحدث عنه على نحو عابر ومقتضب الفقيد لأصدقائه ومحبيه أو كتبه بقلمه. كنت قد تحدثت في أواخر التسعينيات إلى أحد الأقارب المقربين جدا للفقيد الجشي عن أهمية حض الأستاذ على تدوين ما يمكنه تدوينه من سطور عن تاريخنا الوطني وعلى الأخص عن فترتي الخمسينيات والسبعينيات اللتين كان شاهدا وصانعا في أحداثهما، فبين لي الظروف التي يمر بها الراحل حينذاك والتي تحول بينه وبين الكتابة. وسألته عما إذا يمكن تعويض ذلك بإجراء حوارات مطولة معمقة معه ففهمت منه بوجود تحفظ لديه على إعطاء تصريحات أو حوارات صحفية، وقد تأكد لي هذا التحفظ لاحقا حينما أبلغني الصديق الدكتور منصور سرحان بحقيقة وجوده.. لكن كان أكثر ما آلمني حينما أضاف قائلا: إن الفقيد حسن الجشي أسر إليه بعدم ممانعته أن يجري هو الحوار معه، إلا أن الصديق سرحان، للأسف الشديد، أضاع هذه الفرصة الذهبية التي لا تعوض، حيث برر اعتذاره بأنه لم يجد في نفسه الكفاءة الصحفية الكافية للقيام بهذه المهمة، فضلا عن افتقاده التفرغ حينذاك في أواسط التسعينيات. وكم عاتبت الصديق منصور سرحان على هذه الفرصة التي فوتها كلما التقيته أو اتصلت به تليفونيا. ومع أن الوثائق أو المعلومات الموثقة لها أهميتها في تدوين وإحياء الذاكرة الوطنية والتاريخ الوطني عامة، إلا أن ضياع ذاكرة رمز كبير بحجم حسن الجشي، وكضياع ذاكرة أي قائد أو رمز وطني آخر في أي بلد، دونما أن يدون شيئا إلا النزر اليسير عن هذه الذاكرة من الأحداث التي ساهم فيها أو كان شاهدا عليها لهو ضياع يعادل في تقديري فقدان الوثيقة التاريخية العظيمة الأهمية إن لم يفقه. وتعظم فداحة افتقاد تسجيل ذاكرة الرمز الوطني الغائب حينما يكون رمزا كبيرا غير عادي ويمتلك قلما مميزا وعلى مستوى معمق من الثقافة والفكر والأدب كما هو الحال عند الفقيد الجشي. وليس برحيل أي رمز كبير عن دنيانا من دون أن يدون ذاكرته هو الذي يدفن معه في قبره هذه الذاكرة إلى الأبد لتفتقدها حركته الوطنية وتاريخ وطنه، بل إضاعة حتى الوقت المناسب لتدوين هذه الذاكرة وهي حية في حياته طرية لم تعطب. فكم كان على سبيل المثال مؤلما حقا رحيل القائد الوطني الراحل أحمد الذوادي دونما أن يدون أو ينقل عنه سوى النزر اليسير من ذاكرته وذكرياته. وهأنذا ما فتئت بين حين وآخر أحض بإلحاح شديد أحد رفاقه من جيله على التسريع بتدوين ما يستطيع تدوينه أو تسجيله في حديث حواري مطول يعوضه عن التدوين قبل أن يأزف الرحيل أو تعطب الذاكرة. مهما يكن ثمة أربع مآثر سياسية مهمة على الأقل جسدها الفقيد الجشي في حياته السياسية وارتبطت في ذات الوقت بوقائع أو منعطفات في تاريخ الحركة الوطنية والسياسية: المأثرة الأولى: دوره في تأسيس نادي العروبة الذي لعب دورا مهما مبكرا في النضال الوطني وبث الوعي القومي وبخاصة في العاصمة. المأثرة الثانية: مساهمته مع مجموعة من رفاقه في تأسيس المجلة الوطنية الرائدة “صوت البحرين” في أوائل الخمسينيات وهي المجلة التي لعبت دورا تنويريا وتوعويا رائدا في تلك الفترة الوطنية الخصبة الحبلى بالأحداث المهمة. المأثرة الثالثة: دوره البارز في هيئة الاتحاد الوطني (54-1956) والتي كان من مطالبها إنشاء مجلس تشريعي منتخب، وتشاء المقادير التاريخية أن يتحقق هذا المطلب بعد نحو 20 عاما، وليكون الفقيد أول رئيس لأول برلمان في البحرين. المأثرة الرابعة: إدارته بكفاءة عالية وحازمة جلسات المجلس الوطني كرئيس للبرلمان (1973-1975) على نحو نزيه ومحايد فرض احترامه من قبل كل الكتل البرلمانية فضلا عن الحكومة، حيث لم يجرؤ أحد على أن يشكك في هذه النزاهة لا من باب شبهة التحيز السياسي ولا من باب شبهة الهوى الطائفي.. وبخاصة أنه كان معروفا طوال حياته السياسية كواحد من أكبر المحاربين ضد الطائفية بشهادة الجميع. ولئن كان من حسن الحظ أنه تم تكريم الفقيد الراحل في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، وتم توثيق هذا التكريم في كتاب أعده منصور سرحان ومحمد حسن كمال الدين “الأستاذ حسن الجشي رائد حركة التنوير في البحرين”، هذا إلى جانب كتاب آخر أسندت وزارة الإعلام للصديق خالد البسام إعداده “حسن الجشي.. البدايات الشجاعة”فإن الآمال تحدونا بأن يعكف أقرب المقربين له من ذويه وأصدقائه ورفاقه وزملائه نواب برلمان 1973 على تدوين ما يتذكرونه من ذكريات لم تكتب حول مواقفه المبدئية ومناقبه الأخرى السياسية وما يرتبط بها من وقائع وأحداث تاريخية مهمة وجمعها في كتاب جديد آخر يضاف إلى الكتابين السابقين. رحم الله الفقيد الوطني الكبير حسن الجشي وألهم ذويه الصبر والسلوان.
صحيفة اخبار الخليج
1 ابريل 2008