حددت انتقادات رئيس مجلس التنمية الاقتصادية وهي المنشورة في الصحافة المحلية بتاريخ 15 يناير 2008 جوانب معينة في الوضع الاقتصادي غير مقبولة ، نظراً لعدم حصول مشروع الإصلاح الاقتصادي على (صدى لدى بعض المسئولين الحكوميين الأمر الذي أدى إلى تحقيق صعوبات جمة في تنفيذ مشروع الإصلاح) ، وحول تعبيرات (لم تجد “صدى” لدى بعض المسئولين) وضحت المناقشات المنشورة بعض المقصود بهذا التعبير : كان مشروع المخطط الاستراتيجي الهيكلي الوطني لمملكة البحرين والذي تم البدء به من قبل هيئة الإسكان والأعمار لوضع الخطة الشاملة لاستخدامات الأراضي بالمملكة ، وتسلمت إحدى الشركات ((الأمريكية)) هذه المهمة وسلمت تقريرها في منتصف 2007 واختفت معالم المشروع بعد وصوله إلى الجهات الرسمية ولم يُطرح إلى النقاش بشكل وافٍ لحد الآن (من تقرير جريدة الوسط بذات التاريخ من ((محرر الشئون المحلية ؟)) . ومنذ مايو 2005 صار لمجلس التنمية الاقتصادية صفة الدور (التنسيقي) بأن (تكون قراراته ملزمة للوزارات والمؤسسات والجهات الإدارية ، وتضمن ذلك اختيار رؤساء الشركات المملوكة للحكومة ، وتلك التي تساهم فيها الدولة بأغلبية رأس المال وترشيح ممثلي الحكومة في الشركات التي تقل فيها المساهمة عن تلك النسبة وذلك بالتنسيق مع رئيس مجلس الوزراء). في منتصف 2006 نظم مجلس التنمية الاقتصادية بالتنسيق مع وزارة الصناعة والتجارة عدداً من ورش العمل التدريبية لموظفي مركز البحرين للمستثمرين وذلك بهدف (تطوير وتسهيل إجراءات تأسيس المشروعات الاستثمارية في المملكة). إذ تم تقليص عدد التراخيص والموافقات الرسمية بما يزيد عن الثلث كما تم تحديد الفترات الزمنية المتعلقة بانجاز معاملات التسجيل والترخيص وخفض كلفة بدء الأعمال التجارية بالإضافة إلى إصدار دليل شامل للاستثمار يضم كل القواعد والمتطلبات المتعلقة ببدء الأعمال الاستثمارية بشفافية تامة) ، نفس المصدر. وفي يونيو 2007 أعلن مجلس التنمية عن بدء المشروع الوطني لتطوير التعليم والتدريب خلال سنتي تأسيسه الأوليين 15 مليون دينار بإنشاء كلية تقنية ووحدتين لمراجعة جودة التعليم الجامعي ومراجعة المدارس وتطوير التعليم المهني والفني للمرحلة الثانوية وتطوير المعلمين. وفي هذا المسار حددَ المجلسُ ((إنجازاته)) ب (استضافة الفورمولا1)، و(تحرير قطاع الاتصالات بالكامل) وإصدار قانون الخصخصة وإبرام اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتولى مجلس التنمية(اجتذاب الاستثمارات إلى البحرين ، وركز على ستة قطاعات اقتصادية مستهدفة تتيح فرصاً كبيرة وتضمن لنمو اقتصادي طويل الأمد في النتاج المحلي هي الخدمات المالية ، والصناعات التحويلية ، والسياحة ، والخدمات التجارية ، والمساندة اللوجستية ، والصحة ، والتعليم والتدريب). ولا توضح البياناتُ المقدمة هنا عن الوكلاء والمستثمرين المحليين الذين يتولون العلاقات مع هذه الشركات المدعوة للاستثمار ، كما لم يوضحْ طبيعة المخطط الاستراتيجي للأراضي ولكن الواضح هو عمله لخلق قنوات لاستثمارات واسعة تقل أمامها الموانع البيروقراطية الحكومية الموجودة لدى مجلس الوزراء ، ولكن مجلس التنمية الاقتصادية مكون من مسئولين حكوميين ومن وزراء متنفذين في مجلس الوزراء نفسه ! وتلعبُ في هذه الاستثمارات الجديدة الجهات الأمريكية دوراً كبيراً بحكم إشراف شركة أمريكية على المخطط الاقتصادي وبحكم اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة دون غيرها. والواضح أن الخلاف بين كبار المسئولين الجدد والقدامى يتركز على عدم سماح المسئولين القدامى من الطاقم القديم المكوش على الشركات العامة الكبرى وغير ذلك من مصادر الهيمنة الاقتصادية ، وقيام هذا القسم من الحكومة بوضع العراقيل لطاقم مجلس التنمية الاقتصادية الذي يريد نصيباً من إدارة الشركات الحكومية ومن الأراضي خاصة المدفونة والمتعلقة بإقامة الجسور الكبرى ، جسر قطر – البحرين خاصة ، والفشوت والأراضي البحرية المدفونة عموماً. وكما هي تكتيكات كسب الشعبية من قبل الطاقم الجديد في العمل السياسي : برلمان محدود الصلاحية وطائفي ، ويمنع تقدم القوى الوطنية والتقدمية لمقدمة المسرح السياسي ، ويقدم بعض الفتات للشعب والكثير من المال للانتهازيين والمتسلقين ، كذلك يجري في مشروع مجلس التنمية الاقتصادية ، أي في الشق الاقتصادي من المشروع ، تقدم الطاقم الجديد في السلطة للسيطرة على الموارد الاقتصادية الأساسية وهي سبب هذا الصراع برفع لافتات الوطنية وتقدم العمالة الوطنية وتدريبها الخ، ولكن الأرقام في هذه الجوانب كذلك هزيلة ، لكون نفس الطاقم الجديد يخشى من تقدم العمال الوطنيين للسيادة على القاعدة العمالية وزحزحة العمالة الأجنبية وهي أمور لها تأثيراتها على أرباح المشروعات وتصعيد القوى الوطنية لصدارة المسرح السياسي والفوز في الانتخابات ، أي كل ما يمكن أن تخشاه مستقبلاً من التوحد الوطني البحريني وهي المتسفيدة من الصراع الطائفي ، ولهذا فالقيادة الجديدة تنشر بعض الشعارات البراقة مثلما تفعل القيادة القديمة، وكلٌ يتمسك بمصالحه ومواقعه في معركة السلطة والنفوذ الاقتصادي ، وتزايد القيادة القديمة على الشعارات وتتقدم الصفوف وتضرب صدرها حالفة الدفاع عن القرارات العليا السامية ثم تأكلها شيئاً فشيئاً ، وربما تقدم بعض المواقع للقيادة الجديدة لتصل العملية إلى مساومات واتفاقات على لحم البلد وعظامه الأخيرة.
خاص بالتقدمي
ملاحظات على انتقادات مجلس التنمية الاقتصادية
استمرار الإضرابات العمالية
هل ستنتهي موجة إضرابات العمالة الهندية بعد تصريح الحكومة الهندية بتأجيل توجهها لفرض حد أدنى لأجور عمالتها في الدول الخليجية, أم العكس فما حدث لم يكن إلاّ البداية لسلسة من الإضرابات المنظمة والتي ستنتشر في معظم شركات المقاولات في المستقبل القريب. لقد بدأت موجة إضرابات العمالة الهندية وخصوصاً في قطاع الإنشاءات نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي مع اقتراب تنفيذ توجه الحكومة الهندية لفرض حد أدنى لأجور عمالتها في الخارج بحد أدنى 100 دينار شهرياً مع بداية شهر مارس/ آذار 2008, فما كاد أنْ ينهي ما يقارب من 2000 عامل في شركة زخريادس إضرابهم ويعودون للعمل بعد تسعة أيام من الإضراب وبعد تحقيقهم لعدد من المكاسب حتى امتدّت الإضرابات لعدد من الشركات الأخرى فقام 400 عامل في شركتي الإنشاءات الفنية و لقمان الحداد الإنشائية بإضراب مماثل كما أضرب العمّال الهنود في شركة رابية للتجارة وهدد عمال شركة حبيب عواجي وعدد من الشركات الأخرى بإضرابات بهدف زيادة أجورهم لتتوافق مع الحد الأدنى للأجور الذي طرحته الحكومة الهندية. ولترجع موجة الإضرابات مرة أخرى الأسبوع الماضي في شركتي أولمبيك و الخالدية حيث نفذ أكثر من 700 عامل إضراباً مفتوحاً لحين زيادة رواتبهم بمبلغ 20 ديناراً. وفي حين اتهم السفير الهندي بالكرشنا شتي بتحريض مواطنيه على الإضراب وهو الأمر الذي نفاه السفير وأكّد أنّ تصريحاته فهمت بشكل خاطئ أرجع بعض المختصين قيام الإضرابات إلى تدني القيمة الحقيقية لأجور العمالة الهندية نتيجة تراجع سعر الدولار مقابل الروبية الهندية ومحاولة هذه العمالة الضغط في سبيل تحسين مستواها المعيشي وزيادة أجورها. المختصون يتوقعون انتشار ظاهرة الإضرابات بصورة أكبر خلال الأيام المقبلة لتمتد إلى أغلب الشركات الكبيرة بسبب نشوء وعي لدى العمالة الهندية إذ بدأت هذه العمالة بتنظيم نفسها في البحرين ولا يستبعدون مشاركة جنسيات أخرى في هذه الإضرابات وخصوصاً أنّ عدداً من الإضرابات قد حققت بعض المكاسب للعمّال المضربين سواء من الناحية المادية كزيادة في الأجور أو من الناحية المعيشية كتحسين مستوى السكن وإنشاء ملاعب للكركيت وتوفير رعاية صحية بشكل أفضل. شركات المقاولات تعرف تماماً أنّها لا يمكن لها الاستغناء عن هذه العمالة وخصوصاً العمالة الهندية التي يصل عددها في البحرين لما يقارب الـ 250 ألف عامل؛ أي ما يوازي ربع سكّان البحرين, وإنّ تهديدها باستبدال هذه العمالة بجنسيات أخرى لم يكن إلا للضغط على الحكومة الهندية للتراجع عن قرارها, ولذلك ستجد هذه الشركات نفسها مُجبرة على الرضوخ لمطالب العمّال التي ستتطور شيئاً فشيئاً لتتجاوز المطالبة برفع الرواتب إلى المطالبة بتنفيذ الاتفاقيات الدولية بشأن العمالة الوافدة, وإن ذلك لن يكون إلاّ مسألة وقت فقط.
صحيفة الوسط
8 مارس 2008
4 محطات تاريخية مضيئة
منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث بدأ يتعاظم انحسار نفوذ القوى الوطنية والديمقراطية في مقابل تصاعد مد ونفوذ قوى الاسلام السياسي، وعلى الأخص الشيعية منها، والمتلازم مع وصول هذه القوى الى السلطة في طهران.. منذاك لم يشهد تاريخ الحركة السياسية البحرينية محطة سياسية مشرقة تجتمع في ظلها مختلف قوى ألوان الطيف السياسي والمذهبي متوحدة تحت راية سياسية وطنية واحدة للمطالبة بتحقيق القواسم المشتركة التي تشكل غايات آنية ملحة فيما يتعلق بالحقوق الديمقراطية والمدنية والاجتماعية. وكان تشرذم وتفتت قوى الاسلام السياسي بشقيه هو عنوان المرحلة رغم ما يحظى به كلاهما من نفوذ طاغ في شارعه وعلى الرغم مما تميزت به احداث تسعينيات القرن الماضي من حركة مطلبية عامة فإن تداخل شعاراتها مع الشعارات والرموز ذات الطابع المذهبي السياسي وتركزها في القرى وخضوعها شبه الكامل أو الكامل لقيادة قوى الاسلام السياسي الشيعي وتهميش دور القوى الوطنية واليسارية في الحركة وجعلها بمثابة حصان طروادة او غطاء لإضفاء الصفة الوطنية على الحركة.. كل ذلك أدى الى تفريغ حركة التسعينيات من محتواها الوطني المشترك الذي يمثل الشعب بمختلف قواه السياسية وفئاته بغض النظر عن وجاهة وصحة العديد من الشعارات المطلبية المرفوعة حينذاك. وهكذا يمكن القول انه منذ مطلع الربع الأخير من القرن الماضي لم يبزغ على ساحتنا السياسية أي اشعاع بفجر محطة تاريخية كبرى مضيئة لحركتنا السياسية، في حين شهدت هذه الساحة اشعاع 4 محطات تاريخية تركزت خلال الربع الأول من النصف الثاني من القرن العشرين 1950 -1975: المحطة الأولى: هي حركة احداث هيئة الاتحاد الوطني في أواسط خمسينيات القرن الماضي والتي جرت تحديدا في الفترة ما بين 1954 – 1956 وشاركت فيها مختلف اطياف القوى السياسية والدينية والاجتماعية موحدة تحت راية واحدة. المحطة الثانية: الأحداث التي تفجرت في مارس 1965 والمعروفة بـ “انتفاضه مارس 1965” وايضا شاركت فيها مختلف القوى السياسية والدينية والاجتماعية لكن اليسار والطبقة العاملة والطلبة لعبوا فيها دورا رئيسيا محوريا ولاسيما ان الاحداث تفجرت على اثر تسريح شركة بابكو مئات العمال البحرينيين. المحطة الثالثة: أحداث مارس 1972 والتي وقعت احداثها بعد أقل من عام من اعلان الاستقلال الوطني (اغسطس 1971) وقد تفجرت هذه الاحداث المعروفة بانتفاضة مارس 1972 على اثر اندلاع عدد من الاضرابات العمالية في عدد من الشركات الكبرى، وتنامي قوة الحركة المطلبية العمالية وتعمق وعيها النقابي. وقد شارك الطلبة العمال في هذه الاحداث بالمظاهرات من بينهم كاتب هذه السطور، وتحديدا في المظاهرات التي انطلقت من مدرسة الحورة الثانوية للبنين (العمران حاليا) وتوجهت مباشرة الى مدرسة الحورة الثانوية للبنات (الثانوية التجارية للبنات حاليا) القريبة منها لتلتحق بها طالبات هذه المدرسة، وقد اختلطت شعارات المطاليب العمالية بالمطاليب السياسية ومنها المطالبة ببرلمان منتخب وجمعية سياسية منتخبة لصياغة دستور البلاد. المحطة الرابعة: وتتمثل في انتخابات عام 1973 البرلمانية حيث شاركت فيها الغالبية الساحقة من القوى الوطنية والسياسية المعارضة باستثناء الجبهة الشعبية، وتمخضت هذه المشاركة عن فوز مرشحي القوى الوطنية بعدد مهم من الكراسي وتمثل ذلك خصوصا في فوز 8 مرشحين من أصل 12 مرشحا نزلوا على قائمة كتلة الشعب اليسارية والتي كانت تمثل خليطا من القوى اليسارية والقومية ولعبت جبهة التحرير النفوذ الأساسي فيها. ولأن هذه المحطات التاريخية التي بزغ اشعاع كل منها خلال الربع الأول من النصف الثاني للقرن العشرين هي المحطات التي تمثل الصفحات المضيئة من تاريخ الحركة السياسية في تلك الحقبة المجيدة المضيئة فانها فرضت احترامها وقدسيتها تاريخيا على الجميع.. واستعصى حتى على القوى السياسية الدينية المجاهرة بالاساءة إليها لما تمثله هذه المحطات الوطنية من مكانة حميمة كبيرة في قلوب أبناء الشعب جميعا بمختلف فئاته وطوائفه حتى باتت بعض تلك القوى الدينية لا تجد حرجا لإبعاد الصفة أو الوجه المذهبي عن هويتها السياسية من ان تعلن اعتزازها بتلك المحطات ومشاركتها حلفاءها اليساريين والقوميين في الاحتفال بها، بينما خطابها السياسي وممارساتها السياسية اليومية على النقيض تماما من ذلك الاعتزاز المزعوم.
صحيفة اخبار الخليج
11 مارس 2008
فقر وغنى
حتى الأرقام تفقد أحياناً جاذبيتها، أو قدرتها على شد الانتباه أو لفت النظر أو إثارة الغرابة. ما أكثر ما يعتاد الناس على الأرقام – الصواعق، فلا تعود تثير لديهم دهشة أو استغراب، ودليل ذلك أننا كثيراً ما نطالع أرقاماً عن عدد الأميين في البلدان العربية والنسبة المئوية لمن لا يستطيعون حتى فك الحرف، أو نقرأ عن حجم الودائع المالية العربية في البنوك الغربية، وعن المبالغ التي نهدرها أحياناً في شراء التوافه من الأشياء. ومع ذلك فإن الأرقام لا تجعلنا نفغر أفواهنا من هول الصدمة، لأن جلودنا باتت سميكة وعصية على الاختراق السهل، ولأن الرقم حين يطلق مجرداً يبدو أشبه بالطلسم أو بالأمر فاقد الدلالة أو ضعيفها، ولكي نقدر فداحة ما يومئ إليه أو يدل عليه علينا تفكيك هذا الرقم إلى وقائع وتفاصيل وحيثيات. شهد القرن العشرون حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات الملايين، فضلاً عن عدد لا يحصى من الحروب الأهلية والإقليمية في مختلف مناطق الكوكب أودت هي الأخرى بعدد مهول من أرواح البشر،هذا غير ضحايا الأوبئة والأمراض وزلازل الأرض والكوارث الطبيعية الأخرى، لكن رغم ذلك فإن نفس القرن شهد زيادة عدد سكان الأرض مما يزيد قليلاً على مليار ونصف المليار نسمة في مطالعه إلى ستة مليارات قرب نهايته. إن المقارنة هي ما يتيح تبين الفروق بين الأرقام وبين الأشخاص وبين الظواهر. ومقارنة عدد سكان الأرض في بداية القرن العشرين ونهايته تتيح حجم الفارق، وهو كما نلاحظ فارق مهول. القضية تكمن في أن عدد سكان الأرض تضاعف عدة مرات فيما ثرواتها في تناقص بفعل الاستغلال العشوائي لهذه الثروات، حيث يرهن كل جيل على أنه أكثر أنانية من الجيل الذي سبقه في استنزاف ثروات الأرض دونما حسبان لحق الأجيال القادمة من هذه الثروات التي لا يمكن إعادة إنتاجها، بل إن بعض هذه الثروات لا يمكن تعويضه بثروة مقابلة أو بديلة في حال نفادها المحتم. يبلغ حجم الإنفاق العسكري العالمي ما يتراوح بين سبعمائة إلى ثمانمائة مليار دولار أمريكي سنويا، فيما قدرت هيئة الأمم المتحدة نفقات توفير التعليم الأساسي على المستوى الدولي، ونفقات التغذية المناسبة ومياه الشرب، والبنى الصحية الضرورية إضافة إلى الرعاية الصحية بحوالي أربعين مليار دولار فقط في كل سنة، وعلينا ملاحظة المفارقة المؤلمة، فالعالم الذي يرفض توفير هذه المليارات الأربعين لتأمين المستوى الضروري من العيش الكريم لأبنائه، ينفق بصورة عبثية ما يصل إلى ثمانمائة مليار دولار على التسلح. والعالم اليوم، وأكثر من أي وقت سابق، يمضي نحو المزيد من الاستقطاب العميق بين فقر مدقع وغنى فاحش. وحسب كتاب أمريكي أصدرت ترجمته للعربية الجمعية المصرية للنشر والثقافة العالمية وعنوانه “ما وراء الأرقام: قراءات في السكان والاستهلاك والبيئة” فإن في العالم نحو ٢.٢ مليون ملياردير وأكثر من ثلاثة ملايين مليونير، ولكن به أيضاً ٠٠١ مليون بلا مأوى يسكنون الأرصفة ومقالب القمامة وتحت الجسور. والمفارقة التي يسوقها محررو الكتاب هي أن مبيعات السلع الفاخرة على النطاق العالمي، من أرقى الأزياء وأفخر السيارات وغيرها من علامات الثراء الأخرى تساوي إجمالي النواتج الوطنية لثلثي بلاد العالم!
صحيفة الايام
11 مارس 2008
فتيل حرب في قارة ملتهبة
عندما يطل رجال الإدارة الأميركية الحالية فيما تبقى من الوقت الضائع من نافذة البيت الأبيض جنوبا على أميركا اللاتينية التي يعتبرونها بمثابة فنائهم الخلفي، فإنهم يجدون الوضع ليس بأفضل مما يواجهونه في الداخل الأميركي. وتتعامل السياسة الخارجية الأميركية مع الأزمة الناشئة في وسط القارة الأميركية بنفس نزعة التطرف التي تتعامل بها مع الأوضاع في أنحاء العالم. لكن الحروب الكبرى تبدأ عادة بنزاعات محلية ليست كبيرة. في الأول من مارس/آذار شن الجيش الكولومبي هجوما ضد قوات الثوار الكولومبيين المتواجدة في الأراضي الإكوادورية قرب الحدود في الوقت الذي كانت تجري بين البلدين مفاوضات بهذا الشأن. خلال الغارة قتل نحو 20 مقاتلا من الثوار الكولومبيين بمن فيهم زعيم المنظمة راؤول رييس. فهل يعتبر ذلك من وجهة نظر القانون الدولي عملا احترازيا مشروعا ضد هجوم محتمل من قبل الثوار الكولومبيين كما تدعي السلطات الكولومبية؟ الواقع أنه مهما سيق من حجج فالحق في الدفاع الذاتي قد حدده بوضوح ميثاق الأمم المتحدة في مادته ,51 وكذلك المادة 22 من ميثاق منظمة دول أميركا اللاتينية ذاتها. فهما تنصان على هذا الحق كرد على هجوم مسلح تقوم به دولة أخرى ويقتضي ردا فوريا من قبل الدولة الضحية بالقدر الذي يتناسب وحجم العدوان. وهو الأمر الذي لم يحدث في مثل هذه الحالة، حيث لم تقم الإكوادور بهجوم مسلح ضد كولومبيا. كما تنص الشرعة الدولية على أنه حتى في حال تعرض دولة ما للعدوان فقبل استخدام حق الرد يجب أن تشعر الدولة المعتدى عليها مجلس الأمن الدولي بحدوثه. وفي حالة لم يبد مجلس الأمن أي رد فعل فإنه بعد ذلك فقط يمكن للدولة المعتدى عليها أن ترد بمفردها. وهذا أيضا لم يحصل. كذلك اعترف الرئيس الكولومبي ألفارو أوريبي بأنه كان يتعين عليه أن يشعر نظيره الإكوادوري روفائيل كورييا بنية هجومه على الثوار، لكنه لم يفعل ذلك خشية أن تفشل العملية كما قال. غير أن الأزمة تطورت سريعا ليس في داخل كولومبيا وحدها، بل وفي وسط ومجمل القارة الأميركية اللاتينية. فعلى إثر العملية قام الثوار الكولومبيون بتفجير خطوط أنابيب النفط بين الإكوادور وكولومبيا في جنوب غربي البلاد. وبدورها قامت القوات الكولومبية بعملية عسكرية في المنطقة الجبلية من محافظة كالداس غرب البلاد قتلت فيها قائدا آخر من القياديين السبعة للثوار إيفان ريوس (اسمه الحقيقي خوسيه خوفينال فيلانديا). وكانت الولايات المتحدة قد رصدت 5 ملايين دولار مقابل القبض عليه. وهكذا حل الصراع الدموي من جديد بدل عمليات التفاوض التي كانت قد بدأت. وفور العملية العدوانية على أراضي الإكوادور سارعت أميركا إلى مطالبة كولومبيا بتقديم الوثائق التي ادعت الأخيرة الحصول عليها من الحاسوب الشخصي التابع لراؤول بريميس ثاني رجل في قيادة الثوار الكولومبيين تثبت أن الرئيس الإكوادوري روفائيل كورييا على علاقة بهم. وبالمقابل قال سفير الإكوادور لدى موسكو باتريسيو ألبرتو شافيز في مقابلة تلفزيونية مع ريا نوفوستي أن بلاده ستطلب من روسيا كإحدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي المشاركة في تمحيص هذه الوثائق، وأكد على أهمية الموقف الروسي في الحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة أميركا الوسطى، لتأخذ القضية بعدا عالميا أكبر. وزير الدفاع الكولومبي هو الآخر دفع بالأزمة إلى مدى إقليميا أبعد حين اتهم الرئيس الفنزويلي شافيز بتشجيع الرئيس الإكوادوري ليتصرف بعداء تجاه كولومبيا. فنزويلا والإكوادور اللتان استشعرتا خطر النوايا الأميركية تجاههما شددتا الرقابة على الحركة عبر الحدود مع كولومبيا. وقد تأثر بذلك الكثير من الكولومبيين الذين يعبرون إلى فنزويلا يوميا للكسب والتزود بالوقود. وإذا استمر هذا الوضع طويلا بين البلدين الذين يبلغ حجم تبادلهما التجاري ستة مليارات دولار سنويا فإن الآثار المالية ستكون وخيمة على الاقتصاد الكولومبي. وقام البلدان بحشد قوات تزيد على 12 ألف جندي على حدودهما مع كولومبيا. وانضمت نيكاراغوا إليهما سياسيا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع كولومبيا. ويكاد لا يترك هذا العدوان أحدا في المنطقة بلا مبالاة. فالعاصمة الأرجنتينية بونيس آيريس شهدت تظاهرات كبيرة تطالب بقطع العلاقات مع كولومبيا. وربما يدفع ذلك بالأرجنتين إلى أن تفعل ذلك. الرئيس البرازيلي وصف كولومبيا بالمعتدية. وعرضت إسبانيا وساطتها في تسوية الأزمة بين مستعمراتها السابقة. الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديس دي كيرشنير التقت الرئيس الفنزويلي لتبحث معه الأزمة الكولومبية – الإكوادورية والحفاظ على السلم في المنطقة. أما منظمة بلدان أميركا اللاتينية فقد أقرت في اجتماعها في واشنطن بأن كولومبيا انتهكت بفظاظة سيادة الإكوادور ووحدة أراضيه، وشكلت لجنة خاصة من الأرجنتين، البرازيل، بنما، بيرو وجزر البهاما برئاسة الأمين العام للمنظمة خوسيه ميجيل إينسولسا للعمل على تسوية الأزمة. وقد أصبحت الأزمة المتصاعدة المسألة المركزية في قمة دول مجموعة ريو المنعقدة في العاصمة الدومينكانية سانتو دومينغو والتي تضم 22 بلدا لاتينيا أميركيا. اضطرت هذه التطورات وزير الدفاع الكولومبي خوان مانويل سانتوس لتقديم الاعتذار للإكوادور. غير أن الأخيرة اعتبرت ذلك غير كافيا. وطالبت بإدانة حقيقة انتهاك حرمة وحدة تراب وسيادة الإكوادور، الاعتذار غير الكامل وغير المشروط أمام المجتمع الدولي والتعهد بعدم الهجوم على أية دولة أخرى وبالتراجع عن كل التهم التي توجهها كولومبيا. غير أن الولايات المتحدة تشجع استمرار كولومبيا في أعمالها العدائية بأشكال مختلفة. فقد عبر الرئيس بوش لنظيره الكولومبي عن دعمه الكامل ضد أي عدوان قد يهز الاستقرار في المنطقة. مايكل رادو، رئيس مركز الإرهاب ومكافحة الإرهاب في معهد فيلادلفيا لأبحاث السياسات الخارجية يقارن بين قوتي فنزويلا وكولومبيا ليخلص إلى أن كولومبيا تمتلك تفوقا على فنزويلا في كل شيئ عدا قوات الجو. لكن حاملة طائرات أميركية واحدة كفيلة بأن تحول سلاحي الطيران والدبابات الفنزويلية إلى لا شيء. فيما عدا ذلك تستطيع كولومبيا تدبر أمرها. لكن رادو نفسه يشير إلى أن الإدارة الأميركية ليست في وضع يسمح لها بفعل شيئ جدي عمليا في الفترة المتبقية لها. كل ما تستطيع فعله هو إرسال مساعدات إنسانية عاجلة لسكان كولومبيا.
هذه الإيحاءات بتناقضاتها لا تزيل التساؤل حول النوايا الأميركية بإشعال بؤرة توتر جديدة، غي خاصرتها هذه المرة.
صحيفة الوقت
10 مارس 2008
بين مطرقة الغلاء وسندان ثبات الأجور
لا يختلف اثنان على أن موجات الغلاء المتعاقبة والمطردة ليست قاصرة على السوق المحلية البحرينية بل هي ظاهرة عالمية باتت تعرفها كل الأسواق العالمية من دون استثناء بغض النظر عن مسبباتها الفعلية أو المفتعلة، وإن بات من المسلم به ان جزءا كبيرا من السلع، ولاسيما الغذائية، التي تشهد ارتفاعا متعاقبا في أسعارها لا يعود لأسباب اقتصادية فعلية موضوعية خارجة عن إرادة التجار والبائعين، بل هي في الغالب لدوافع اعتباطية جشعية لركوب الموجة المحلية والعالمية في ظل قدرتهم على الانفلات من المحاسبة والعقاب. وهؤلاء التجار ركاب الموجة الذين يصطادون في المناخ الاقتصادي العكر هم ممن قصدناهم تحديدا باستغفال المستهلكين بتبرير رفع أسعار السلع التي يبيعونها بأن ارتفاع الأسعار “ظاهرة عالمية”، وقلنا إن هذا التبرير من قبلهم ليس سوى “أسطوانة مشروخة”، ولم يغن في هذه الإشارة وزارة التجارة ولا فئة التجار المضطرين اضطرارا حقيقيا لرفع الأسعار وهي على أية حال فئة محدودة، ومن ثم فإني لا أفهم تحسس إدارة حماية المستهلك بوزارة التجارة من ذكر وجهة النظر هذه واعتبار نفسها أنها المقصودة بهذا التعبير وتكبدها مشقة الجهد والوقت للرد على وجهة نظر عادية، بما فيها قولنا بوجود فئة من التجار المتحكمين في الأسعار من دون حسيب أو رقيب، وهل ينفي عاقل اليوم يتمتع بحد أدنى من الموضوعية وجود هذه الفئة؟ ألم تعترف وزارة التجارة نفسها ضمنيا بوجودها وأرجعت السبب الى قلة المفتشين؟ وإذ نقدر المصاعب التي تواجهها وزارة التجارة في هذا الشأن والتي تحول موضوعيا دون تمكنها الكافي من ضبط المتلاعبين بالأسعار فإننا نرى من الأهمية القصوى الملحة بمكان ان تبادر الجهات العليا المعنية بمساعدة هذه الوزارة لتشغيل عدد كاف من المفتشين وتأهيلهم بأقصى سرعة ممكنة. إذ ليس من المقبول البتة ترك هذه القضية الحيوية الآخذة في التفاقم يوما بعد يوم والتي تمس قوت وحياة المواطن المعيشية بلا حل فيما يمكننا الحد منها على الأقل. وأنت لو حسبت معي السلع التي تم رفع أسعارها مرات ومرات من قبل ركاب موجة الارتفاع العالمي للأسعار دونما أسباب وجيهة موضوعية لوجدتها أكثر بكثير من السلع التي تم رفع أسعارها اضطرارا لأسباب عالمية موضوعية كأسعار الصرف، وكلفة الانتاج، وأسعار التأمين، وأجور الشحن.. إلخ. وحتى هذه الفئة المضطرة لرفع الأسعار توجد شريحة كبيرة منها تعمد لانتهاز الفرصة برفع أسعار السلع بنسب إما مضاعفة من السعر الأصلي وإما بنسب مرتفعة مبالغ فيها وغير واقعية لا تتوافق مع مستويات الارتفاع الجديد عالميا. وفي تقديري أن وزارة التجارة وحدها لن تستطيع حل المشكلة من جذورها إذ لابد من وجود أطراف وجهات أخرى تتعاون معها في هذا الشأن داخل الدولة وخارجها، هذا إذا ما أردنا على الأقل ليس حل مشكلة الغلاء حلا نهائيا بل التخفيف من غلوائها وتداعياتها قدر المستطاع، ذلك بأن جهود الدولة حتى الآن وليس وزارة التجارة فقط مازالت دون المستوى المطلوب اذا ما قورنت بما يبذل من جهود حثيثة عربية وعالمية لمواجهة فئة “المتلاعبين” والمضاربين في الأسعار تحديدا وليس كل فئات التجار الذين اضطروا اضطرارا موضوعيا ومبررا لرفع أسعار السلع تكيفا وتماشيا مع الموجة العالمية التي فرضت عليهم من الخارج للأسباب الآنفة الذكر. وإذ سبق ان ضربنا مثلا بالسعودية وما اتخذته من تدابير وإجراءات رادعة بحق المتلاعبين، نضرب مثلا آخر في هذا المقال بالإمارات التي تقوم بين الحين والآخر بإصدار قائمة بنسب ارتفاع السلع الغذائية الأساسية والتي وصلت نسبة ارتفاع بعضها الى 40% في غضون شهرين فقط، كما تقوم وزارة الاقتصاد بتحرير عشرات الغرامات اليومية بحق “المتلاعبين” ناهيك عن توجيه مئات الانذارات بتصحيح الأوضاع و”الغاء الزيادة غير المبررة” على حد تعبير وزارة الاقتصاد الإماراتية نفسها وليس تعبيرنا، أو وقف المنشأة عن مزاولة نشاطها لمدة أسبوع أو رفع الأمر الى القضاء. وبالإضافة الى هذه التدابير اليومية الحثيثة الجادة للحد من مضاعفات الغلاء تتدارس هذه الوزارة الإماراتية شكاوى المستهلكين اليومية وتقوم بمعالجتها، فمثلا في الشهر الماضي تلقت الوزارة 1500 شكوى تمت معالجة 1400 شكوى منها وديا. وإذا ما صرفنا النظر عن الإجراءات التي اتخذتها شقيقاتنا دول مجلس التعاون للتخفيف من حدة الغلاء والتصدي للمتلاعبين بالأسعار، فلنأخذ على المستوى العالمي دولة أوروبية رأسمالية كبرى ليست مسيحية علمانية فحسب بل تحكمها الآن حكومة يمينية ألا هي فرنسا، حيث لم يتوان رئيس هذه الحكومة فرانسوا فيلون عن اتهام تجار المواد الغذائية بالتلاعب بأسعار السلع الأساسية والتربح من موجة الارتفاع العالمي للسلع، ووجه تهديداته بلهجة شديدة بالتصدي لهؤلاء المتلاعبين وعلى الأخص تجار الحبوب والحليب ومشتقات الألبان. ولعل ما يزيد الطينة بلة في المحنة الحالية التي يواجه فيها المواطنون الغلاء المتصاعد طرديا ان مرتبات كلا القطاعين العام والخاص لا تكاد تتزحزح عن ثباتها، فلا الأجور تم رفعها أسوة بما تم في دول مجلس التعاون الشقيقة، ولا نحن قادرون على بذل أقصى الجهود والتدابير الكافية للتخفيف من هذه الارتفاعات المتوالية المنفلتة في أسعار السلع، ولا نوابنا على قدر المسئولية بجعل هذه القضية قضية القضايا الدائمة في أجندتهم لا أن تنتهي بانتهاء قصة الـ40 مليون دينار المخصصة لغلاء عام 2008م فقط.
صحيفة اخبار الخليج
10 مارس 2008
فأ ل السنة الكبيسة .. ” شرق المتوسط”!!
تزامن حدثان إقليميان، ذوا بعد دولي، في آخر يوم من فبراير للسنة الكبيسة الحالية، وبدا كحدثين منفصلين لا رابط بينهما، كما جاء في وسائل الإعلام المختلفة!!.. جاء الحدث الأول في صباح ذلك اليوم حينما أعلنت تركيا عن إنهاء عمليتها العسكرية المتوغلة في شمال العراق وادعائها القضاء على معاقل حزب الـ بي كي كي PKKالكردية وذلك بقتلها 240 مسلحا مقابل فقدانها ل 27 جنديا تركيا، في حين ادعت مصادر الحزب الـمذكور، أنها قتلت 103 جنديا تركيا مقابل فقدانها ل 5 من عناصرها! وقد اعترفت السلطات التركية على عدم تحقيق الكثير من أهدافها وذلك بسبب طبيعة المنطقة الوعرة في جبال القنديل الذي يشكل الملجأ الجغرافي الحصين للعناصر الكردية المسلحة والظروف المناخية السيئة بسبب الشتاء والثلوج ! أما الحدث الثاني الذي جاء في وقت ما من نفس اليوم ؛ الظهور المفاجئ للبارجة “كول” قبالة الشواطئ اللبنانية ، قادمة من مالطا متجهة إلى شرق المتوسط ، الأمر الذي فُُسّر من قِبل المراقبين أنه تعبير عن شيء ما في الأفق ، بل إشارة رمزية للسطوة الأمريكية المستجدة واستعراض للقوة، ضد القوى اللبنانية المعارضة وسنديها؛ سوريا وإيران وإنذار مبطن لحزب الله من مغبة إقدامها على شن عمل انتقامي / عدواني ضد إسرائيل وتضامنا مع الحكومة اللبنانية وضرورة الإسراع لاختيارها رئيس الجمهورية حتى ولو بأغلبية النصف زائد واحد، سوريا اعتبرت الحدث لا يساعد الوضع اللبناني المأزوم بل يعقد ويؤخر انتخاب الرئيس اللبناني بينما نبيه برّي اعتبر أن الهدف هو غزة (مجزرة قادمة من قبل إسرائيل)..الخ. يبدو لي أن هناك خيط أوحتى خطة تربط الحدثين ولم يأت هذا التزامن صدفة،التي تندر أن تحدث هذه الأيام في أحد أهم ميادين اللاعبين الكبار، ألا وهي الساحة الأكثر خطورة والأكثر أهمية لمصالح الولايات المتحدة في الوقت الحاضر؛” شرق المتوسط” ! .. بودي أن أهمس في أذن القارئ الكريم بأن يحفظ في ذاكرته جيدا هذا المصطلح الجيوبوليتيكي الجديد/القديم فعسى أن تسعفه الأيام القادمة على معرفته- وقتئذ- لجذور الأحداث المرعبة أوالترتيبات القسرية التي قد تراها منطقة شرق المتوسط، لنرتب في البدء صور الأحداث، كورونولوجيا (متسلسل زمنيا)، قبل الخوض في ربطها وارتباطها ببعضها للوصول إلى لُبّ الموضوع ومحاولة تحليله بطريقة منطقية ومقنعة :
-
استلام “الإسلام السياسي” السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية في تركيا بعد مماحكات طويلة مضنية وفي عملية غير مسبوقة من قبل.
-
دخوله في تجاذبات وصراعات مع الجيش ، حامي الجمهورية الكمالية المرتكزة على مبدأ الليبرالي العلماني ؛ فصل الدين عن الدولة ، وان كانت كلمة “العلمانية” غير دقيقة في الشأن التركي.
-
بدء استخدام ورقة “الحجاب” ودفع ” الإتاوة “-الرشوة- بالمقابل.. أي ضرورة إرضاء غرور العسكر القومي التركي بالتوغل في شمال العراق ، مع ضوء أخضر أمريكي ورضى ضمني عراقي بالرغم من انتهاك سيادة الدولة العراقية.
-
قصف القرى الكردية بلارحمة وبطريقة ليس لها علاقة بالأخوة الإسلامية التي من المفترض أن تربط الشعوب أو”الأمة” الإسلامية (حسب مصطلح الإسلام السياسي ) ومن ضمنها الشعبين التركي والكردي وهو الادعاء الذي تحسن استخدامه القيادة التركية الحالية والمدافعين عنها في “ديار” الإسلام وخارجها.
-
دفاع الأكراد عن أنفسهم ببسالة وتعقيد المشهد الحربي العسكري، حيث غاصت أقدام الجنود الجيش التركي عميقا في وحول كردستان.
-
اقتراب موعد ذكرى خروج آخر جندي أمريكي من بيروت. !!
-
تصريحات الساسة الأمريكيين وانتقاداتهم- الملطفة – لتركيا في الأسابيع والأيام الأخيرة وانتقاداتهم اللآحقة– الشديدة- لذلك التوغل ووجوب الإنتهاء من العمليات العسكرية بأسرع ما يمكن.
-
تصريحات تركية مضادة، غامضة وملتبسة، مليئة بـعبارات قادمة من قاموس “العزة القومية” واستقلال القرار التركي، التي انتهت جميعها لرضوخ تركيا لأمريكا.
-
علاقة ما يجري وجرى بالوضع اللبناني المعقد و مقتل “عماد مغنية” في نفس يوم هبة الاستقلال 14 فبراير، الذكرى الثالثة لمقتل رفيق الحريري !
-
ربط هذه الوقائع بالأحداث في غزة والعدوان الهمجي الإسرائيلي ، الجحيم الذي تسببت في صنعه “حماس” لهذا الشعب المغلوب على أمره، نتيجة تحديها وإصرارها العدميّيْن لاستمرار إطلاق الصواريخ “العبثية” على إسرائيل (حسب تعبير أبومازن.)
-
حامل مفتاح البرلمان اللبناني؛ نبيه بري، المستمر في لعبته “الماراثونية”، أرجأ مرة أخرى جلسة البرلمان إلى 11 مارس الحالي ، أي قبيل مؤتمر القمة العربية ومن المرجح أن يرجئ الجلسة أيضا في يوم 11 الشهر الحالي – أو قبيله- إلى موعد آخر بعد القمة.
-
حلول يوم 29 فبراير يوم السيناريو؛ متن موضوع هذا المقال.
-
مؤتمر القمة العربية سيعقد بمن يحضر في نهاية هذا الشهر في دمشق ، حسب الإعلان الرسمي للدولة المضيفة سوريا.
-
من الاقتراحات المهمة التي سيُُبتّ فيها في القمة القادمة ، بجانب الملف اللبناني والفلسطيني استبدال المؤتمر السنوي لينعقد كل ثلاث سنوات . بينما الملف العراقي يتراجع أهميته نتيجة الإستقرار التدريجي والتعافي النسبيّ للوضع في العراق.
-
لقاء وزراء الخارجية العرب، الممهد للقمة، يختتم أعماله بدون الوصول إلى رأي قاطع بالنسبة لعدد الدول التي ستحضر، مستوى التمثيل أو الموقف الفعلي والإشكال التي سيحدث من جراء عدم الوصول إلى رئيس لبناني توافقي قبل موعد القمة.
-
إعلان أمين عام جامعة الدول العربية من أن لبنان سيحضر القمة إما برئيس منتخب أو بحكومة السنيورة.
-
الأيام حبلى بما قد يأتي، حيث أن الاستحقاق الرئاسي اللبناني لابد أن يحل آجلا أم عاجلا، ولا أحد يعرف بالضبط ثمن ذلك.!
لعل القارئ الكريم يشاطرني الرأي من أن كل بند عبارة عن ملف خاص ، في حاجة إلى شرح مستقل.. ولكن ألا تتفقون معي أن الملفات جميعها في “شرق المتوسط ” متداخلة إلى درجة لا يمكن طرح ملف على حدة بدون الإستعانة بالآخر. و لعل أهم المعطيات هو أن نتفق أن هناك –الآن- أربعة لاعبين كبار ، أساسيين دوليين وإقليمين ليس بينهم دولة عربية واحدة، وهم أمريكا /إسرائيل/إيران/تركيا. رمزية هذان الحدثان وتوقيتهما غامضان حتى الآن وإن يبدو واضحا الدور التركي المرتقب كعنصر متوازن كونه حليفاً أساساًً للولايات المتحدة الأمريكية سواء فيما يتعلق بالوضع العراقي (في حالة الانسحاب الأمريكي)، يقابل الدور الإقليمي الإيراني المتزايد و كبح جماحه (الهيمنة على الجيب/الشريط الشيعي والبرنامج النووي) أوبالطموح الكردي من مغبة تجاوز مشروع الاستقلال الذاتي في العراق بجانب الوضع الأفغاني الهش ومجمل منطقة شرق المتوسط ، لبنان/سوريا/إسرائيل/السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع .. بمعنى أن ترتيب ما قادم، سيكون من شأنه تعزيز الدور التركي -كما أسلفنا – وقد يكون شكلا آخر مستحدث ، معدل من البرنامج الأمريكي ؛ “مشروع شرق الأوسط الكبير”والذي قد ينفذه –عمليا- الرئيس المرتقب “ماكين” (إن اختاره المتنفذون الكبار) ممثلا للاحتكارات والكارتيلات الأكبر نفوذا في أمريكا وتخومها ، بترتيب-من الداخل- من قِبل الحزبين المتصارعين في الولايات المتحدة الأمريكية! نكتفي بهذا القدر على أن تكون لنا وقفة أخرى، أكثر تفصيلية في الأسبوع القادم.
صحيفة الوقت
9 مارس 2008
ميول متناقضة
أكثر من ٠٤٪ من سكان أقطار الخليج هم دون الخامسة عشرة من العمر، ينشأون في ظروف مختلفة، بحيث لم يحدث أن رأينا هذا التضاد العميق في المؤثرات الثقافية والنفسية على المجتمع، كما في انعكاسها الحاد على هذا الجيل، خاصة إذا ما لاحظنا أن أوساطاً كثيرة منه تتلقى خبراتها وتعليمها خارج الموروث والثقافة التقليدية. والأبلغ من هذا، أن هذا الجيل لا ينشأ ويتشكل وسط مجتمعات مستقرة في بيئتها السكانية على الأقل، إذا ما تذكرنا دائما النسبة الأكبر من العمالة الأجنبية في مجتمعات الخليج، والاعتماد الذي يكاد يكون كلياً عليها في عملية التنمية. وهي حقيقة أنشأت مع الوقت سيكولوجيا مرضية في المجتمع، ترفض العمل اليدوي أو تنظر إليه باستخفاف ودونية، بحيث إنه إذا فكرت الدول في مشاريع لتدفع بأبنائها الى المشاركة الفعالة في الاقتصاد؛ فإنه يتعين عليها تغيير المفاهيم السائدة تجاه هذا العمل. بعض من درسوا سمات تكوين فئة وسطى جديدة في الخليج، لاحظوا أن هذا هو التغيير الأجدر بالعناية في بلدان المنطقة، وهو أمر يمكن الموافقة عليه خاصة إذا ما لاحظنا أن تعميم التعليم والتعليم الجامعي، وتوفير فرص التوظيف للخريجين، قد وسعا قاعدة فئات هذه الفئة، التي وإن بدت على شيء من التناقض أو التنافر في ميولها إلا أنها ستظل تمثل قاعدة التحديث وسنده. تتنازع الجيل الجديد أفكار شتى تتراوح بين التزمت والانغلاق، وبين الانفتاح، لكن مع ملاحظة أن انفتاح هذه المجتمعات على العالم بسبب طبيعة اقتصادها القائم أساسا على سلعة النفط، وامتلاكها لسوق استهلاكي واسع، والأثر الذي يلعبه انتشار وسائل الاتصال الحديثة فيها، إضافة إلى تبلور فئات من الانتلجنسيا الثقافية والكوادر الإدارية والتقنية التي تحتل مواقع مرموقة من السلم الوظيفي والإداري للدولة والقطاعين العام والخاص تخلق قاعدة موضوعية لفكرة التحديث. وبعيداً عن التوصيفات أعلاه، فإن التغيير من حيث هو حاجة لتطوير الأداء الاجتماعي وإزاحة السلبيات التي تراكمت عبر سنوات ما بعد استقلال بلدان الخليج والتطورات العاصفة التي أحاطت بها، أمر لا بد منه حتى لا نصحو مرة أو مرات على كوارث أخرى.
صحيفة الايام
10 مارس 2008
ثقافة على مقياس أصحاب الكروش الكبيرة
ربما هذا هو التعبير الأصدق من بين جملة التعبيرات التي أطلقها عشاق فيروز حين عبروا عبر مدوناتهم وملتقياتهم الإلكترونية عن استيائهم جزاء نفاذ تذاكر حفل الفنانة العربية فيروز، التذاكر التي نفذت بعد أربعين دقيقة أو لنضعها في هذا النحو (40 دقيقة) فقط من عرضها في الأسواق، حطمت أحلام كل عشاق فيروز في المنطقة، عشاق فيروز الذين رأوا في صوتها شجناً ملائكياً يمثل سماعه حالة من حالات تطهير النفس من كل الخطايا تفوق في عظمتها إحساس المتوجه للقديس للاعتراف عند مذبح الكنيسة أو المتوسل على شباك الضريح طمعاً في رضا سلطة غيبية، ومن غيرنا نحن الذين قال الله عنا طوبا للفقراء أحق بهذه النعمة، لكن النعمات غالباً لا تتجه لمن يستحقها بقدر ما تتجه لمن يستطيع الحصول عليها بنفوذه أو بماله.
ربيع الثقافة عنوان للجدل منذ ثلاث سنوات والشيخة مي بنت محمد آل خليفة الوكيل المساعد للثقافة والفنون بطلة يسبق صيتها فصل الربيع الأول، أتذكر عندما تلقفت الأوساط الثقافية خبر تولي الشيخة مي هذا المنصب، لقد بنى الجميع أحلام لا حدود لها، وشيد بعضهم الآخر قصوراً رخوة من رمال سرعان ما تلاشت مع أول موجة تداعت إلى الشاطئ، الشيخة مي التي شكلت الأمل في التغيير بنت صالة ثقافية لكنها لم تمنحها للمسرحيين سوى مرة واحدة في السنة، ونظمت مهرجاناً دولياً لكنه خلا من عروض أو حتى جمهور محلي إلا إذ استثنينا أصحاب السعادة والسمو الذي تبرز ابتساماتهم العريضة من مواقعهم في صفوف الحفل الأمامية. هناك من يحب تصنيف الناس في خنادق فإذا أنتقدت الشيخة مي في جانب معين ستكون بطبيعة الحال منتمياً لشلة وزارة الإعلام وقبل أن تذهب بكم أو بغيركم التأويلات بعيدأ أرفع عن نفسي هذه التهمة أنا الذي وقفت شامخاً بجانب قاسم حداد على خشبة مسرح الصالة الثقافية حين صاح خالد الشيخ بوزير الإعلام قائلاً لا تعتذر عما فعلت. وأسجل هنا بالمناسبة شهادة في حق الشيخة مي مهما انتقدنا نهجك المتعلق بالمعمار الثقافي على حساب الإنسان، وهوسك بالكوادر الأجنبية على حساب أبناء البلد، أو نزعتك لحب التملك وإن كان ثقافياً، وتعزيزك للثقافة الإرستقوراطية على حساب المعدومين، إلا أن أحداً قبلك أو بعدك لم يحقق للثقافة ما حققته وأن اختلفنا في جزئيات إنجازك، لكن فيروز هي القشة التي قسمت ظهور صعاليك الثقافة حين تبددت أحلامهم بمجرد ما أصبح حلم لقاءهم بفيروز ضرباً من ضروب الخيال بعد أن أصبح حفلها حكراً على أصحاب الكروش الكبيرة الذين لم ولن يتذوقوا فنها بقدر ما نتذوقه نحن الذين أفتركنا تراب الأرض فأنتجتا بيئة، أما هم فدكوا تراب الأرض ليفجروا أباراً سوداء شحنت بطونهم، وأتذكر هنا أبنك ياسيدة فيروز الذي غنى “شو هالايام إلي أوصلناها آل أنو غني عم يعطي فقير.. كنو المصاري قشطت لحاله على هيده نتفه وهايده كتير”. يقول أحد الرفاق الأردنيين أن فرقة من الشباب قررت يوماً ما أن تطلق على نفسها فرقة شو هالايام واتخذت الشارع مسرحاً لعرض أغانيها فكلما وجدت زاوية فارغة من زوايا أزقة عمان إلا وافترشتها لتغني أغاني الشيخ أمام وسيد درويش إلى جانب زياد الرحباني، إلى أن ذاع صيتها فقررت أحد القصور الثقافية استضافتها، ومما يعرف عن هذه القصور أن روادها ليسو من الذين ” من عرق جبينو طلع مصاري هالانسان” فلكم أن تتخيلوا كيف كان تفاعل الجمهور مع فرقة “شو هالايام”.
أخيراً أعود للشيخة مي لموضوع ظل محيرا،ً لماذا لا يستجيب أصحاب القرار لرغبتك في فصل الثقافة عن الإعلام؟ وهل في محاربتك للوزير سبيل لذلك أم أن الأمر يتعدى وزيراً من عامة الشعب لا ذنب له سوى أن القيادة الرشيدة التي اختارتك من قبله وكيلة، تختاره اليوم وزيرا؟.
خاص بالتقدمي
مجلس التعاون و”المواطنة”
نظم معهد التنمية السياسية ندوة سياسية في أواخر فبراير الماضي تحت عنوان “ثقافة المواطنة بدول مجلس التعاون” والتي دعا للمشاركة في أعمالها نخبة من كبار المثقفين والأكاديميين الخليجيين، ويعتبر موضوع “المواطنة” من أهم القضايا الآنية التي تشغل بال القوى السياسية الخليجية ومؤسسات المجتمع المدني وتتطلع إلى تحقيقه كحلم غير منجز بعد على الرغم من كل الشعارات المرفوعة على المستوى الرسمي الخليجي حول تطبيقه أو المناداة به. وغنى عن القول إن المواطنة كمفهوم، أو كمصطلح، إنما هو وثيق الارتباط بشعارات وقيم التحديث العصرية الديمقراطية. إذ لا مواطنة حقيقية في ظل نظام لا يقوم على الفصل الفعلي الحقيقي بين السلطات الثلاث وليس الادعاء بوجود مثل هذا الفصل أو النص عليه لفظيا في الدستور، كما لا يمكن تحقيق المواطنة في ظل غياب ضمانات كافية لإطلاق الحريات العامة من دون قيود، أو في ظل غياب حرية الصحافة وحرية التعبير، أو في ظل غياب حرية تنظيم مؤسسات المجتمع المدني على اختلاف اشكالها ومجالاتها، ولاسيما حرية التنظيم النقابي، ولا مواطنة كذلك في ظل تغييب تداول السلطة والتعددية السياسية. وباختصار شديد فانه لا يمكن نقل مفهوم “المواطنة” من الحيز النظري المجرد إلى حيز الواقع المطبق من دون توافر على الاقل حد أدنى مقبول من الاصلاح السياسي الفعلي بكل أبعاده الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وإذا ما أتينا للواقع الحالي المعاش في الحياة السياسية الداخلية لكل دول مجلس التعاون، بما فيها بعض الدول التي لها تجربة “ديمقراطية” عريقة كالكويت أو البحرين التي لها تجربتان: قديمة قصيرة الاجل (1973-1975)، وحديثة مازالت فتية، فان كل هذه الدول بلا استثناء ينتفي فيها الحد الأدنى من الشروط اللازمة لتحقيق المواطنة الآنفة الذكر. ولتأكيد هذه الفرضية ما علينا سوى ان نعرف مفهوم المواطنة بشكل مختصر ومبسط، فمع ان هناك تعريفات أو صياغات متعددة للمفهوم الا انها تكاد تتفق جميعها في الجوهر. وعلى حد تعبير المفكر المصري الراحل وليم قلادة فان المواطنة لا تتحقق الا عند توافر ثلاثة أركان: الانتماء الى الأرض أولا، والمشاركة ثانيا، والمساواة والندية ثالثا. ويضيف: “ويعتبر وعي الانسان بأنه مواطن أصيل في بلاده وليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين من دون ان يشارك في صنع القرارات داخل هذا النظام.. هذا الوعي بالمواطنة يعتبر نقطة البدء الاساسية في تشكيل نظرته إلى نفسه وإلى بلاده وإلى شركاءه في صفة المواطنة”. وبالتالي فلكل مواطن نفس الحقوق المقرة دستوريا دون زيادة أو نقصان بين مواطن وآخر، وعليه نفس الواجبات دونما زيادة أو نقصان بين مواطن وآخر. ويفرق قلادة بين “الدستور -البرنامج” و”الدستور – القانون” فالأول يتضمن ما يأمله المواطنون في المستقبل القريب أو البعيد، أي هو عبارة عن تجميع نصوص برنامجية شعاراتية عامة يستطيع الحكام التنصل منها ويطلق عليها دستورا، أما “الدستور – القانون” فهو يعبر عن حقيقة واقعية منجزة كتعبير عن عقد اجتماعي فعلي، فيكون من الطبيعي ان تطبق أحكامه بانتظام واطراد من دون ان يتمكن الحكام من تعطيله أو التنصل منه. وكل نظام دستوري فعلي جوهره المواطنة هو تعبير عن حركة المحكومين لعبور حاجز السلطة. فالمواطنة ليس سندها النص، أو ترديدها كشعارات خاوية المضمون بلا تطبيق، بل الحركة التي قامت بها الجماعة بكل مكوناتها (انظر: مبدأ المواطنة، قلادة، سلسلة المواطنة، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية). هذا التعريف للمواطنة وشروطها لا يكاد يتوافر في كل دول مجلس التعاون. وعودة لأوراق العمل المقدمة في الندوة فانه رغم ما امتاز به بعضها من اعتراف حذر بالإشارة إلى بواطن ومظاهر معوقات تحقيق المواطنة بدول مجلس التعاون فإنه غلب عليها جميعها صفة التوصيف النظري من دون التوغل المعمق في جذور المشكلة داخل هذه الدول كل على حدة، وتسمية الاشياء بأسمائها، وتحديد مواضع الخلل والاحجار العثرة التي تحول دون تحقيق مبدأ المواطنة وتطبيقه فعليا. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، على الرغم من ان ابتسام الكتبي أصابت كبد الحقيقة بقولها: “ان الدولة الاستبدادية لا تتيح الفرصة الكاملة لنمو المواطنة باعتبارها تحرم قطاعا من البشر من حقهم في المشاركة”، وان الدولة قد تسقط فريسة حكم الاقلية التي تسيطر على الموارد أو المصادر الرئيسية للمجتمع، ومن ثم تحرم بقية المواطنين من حقوقهم في المشاركة أو الحصول على انصبتهم من الموارد، الأمر الذي يدفعهم للتخلي عن القيام بواجباتهم والتزاماتهم الاساسية كاملة، وهو ما يعني انتفاء شروط تحقيق المواطنة. إلا أن الكتبي لم تحدد حالات أو نماذج عيانية ملموسة من دول مجلس التعاون تؤكد بها فرضيتها، وهي فرضية على أي حال صحيحة وتنطبق على كل دول مجلس التعاون وإن بدرجات متفاوتة. وهكذا يمكن ان نصل من كل ما تقدم إلى اننا مازلنا أصلا بحاجة مقدما إلى حرية تعبير كافية تتيح مناقشة معوقات تحقيق المواطنة في دول مجلس التعاون وتحديدها بكل شفافية من دون خوف أو وجل، وهذا ما هو غير متحقق للأسف حتى الآن. وإذا كان هامش حرية التعبير المتوافر في بعض البلدان الخليجية التي تتبنى تجارب اصلاحية لا يتسع لمناقشة هذه القضية الحيوية الفائقة الاهمية، فما بالنا بمناقشتها في البلدان التي ينعدم فيها الهامش كليا؟ وهكذا فان الطبيب لا يستطيع تقديم الدواء قبل تشخيص الداء تشخيصا كاملا دقيقا.
صحيفة اخبار الخليج
9 مارس 2008