المنشور

تراث “وثبة آذار 65”.. قبل وبعد

المسألة هي: ماذا تبقّى خالداً في “انتفاضة مارس 1965” بعد أكثر من أربعة عقود من الزمن في تاريخ البحرين المعاصر؟ هل يمكن أن تكون لدروس “الانتفاضة” أية فائدة للسياسيين ورجال الحكم المحدثين؟ ثم، هل الانتفاضة بنت لحظتها “يوم وثبة آذار” العظيم لهذا الشعب قليل العدد كبير العطاء؟ هذه الأسئلة وسواها نضعها للمنشغلين والمشتغلين بالسياسة، ليشبعوها تحليلاً وتفصيصاً.. يختلفون في الرؤى أو يتفقون.. يصبّون لعناتهم أو ثناءهم على تلك الأيام النابضة بحيوية الرجال وشجاعتهم، بعنفوان الشباب وتطلعاته، بالخليط المتزاحم من المشاعر والحوادث: الخطير منها والتافه، المُضحك والمُفجع، النبيل والوضيع، المتفائل والمتشائم.. إلى آخره. ما تبقى خالداً من “وثبة آذار 65″، ظل مخزوناً في الذاكرة عند الأطفال كما عند الشباب الذين تعايشوا في تلك الفترات العصيبة، وتعاملوا معها كل بطريقته، بعضهم غير مكترث لما يجري، فيما بعضهم الآخر ساهم بطريقة ما في الفعل كلاعب أساسي، أو احتياط، أو متفرج؛ بعضهم كان منظماً شارك بوعي، والآخر بعفوية الناس، ساهم هو الآخر بقدر ما يستطيع هضمه، بما في ذلك براءة الطفولة آنذاك، كيف كانت؟ وبماذا يفكر جلهم، أثناء تعطيل الدراسة رسمياً، أو بفعل حرارة الأوضاع وعنفها؟

(شيء من الذاكرة)

كان، كأن ذلك اليوم من شهر مارس/ آذار، بالنسبة إلينا في حي رأس الرمان الفقير، عطلة رسمية في المدارس الابتدائية، الإعدادية والثانوية، فكل المدارس شبه مقفلة.. صخب وضجيج وضوضاء في الشوارع.. جذوع النخيل والأشجار تقطع الطريق الرئيس الرابط بين المنامة والمحرق الذي يَمرُّ إلى منتصف الحيّ، ومنه إلى المنامة والعكس. ثلة من الصبية تلعب بـ “الشل والطين والوحل”. كان يوماً ممطراً، بينما صبية آخرون يعومون في البحر الذي يبللهم سوية مع المطر، في حين كانت مجاميع من الصبية موزعة على الساحل الممتد من المسجد الكبير في مواجهة جسر المحرق، إلى نهاية بستان “الباليوز” (السفارة البريطانية حالياً) بالقرب من منطقة “الفاضل”. كان هذا البستان سكن المعتمد البريطاني آنذاك، حيث كانت أسواره مغطاة بطولها وعرضها بأسلاك شائكة من الأعلى وتتدلل منه أغصان زهرة “الدباي” المتسلقة، وهي دائمة الخضرة وكثيفة، بينما تمتد أغصانها إلى الساحل الرملي وكانت تلاطمها الأمواج فترة مدّ البحر (قبل دفنه)، وأثناء الجزر يستمتع الصبية بألعابهم الشعبية البسيطة على الرمال ونعومتها. في ذلك اليوم، كانوا خمسة صبية يمارسون لعبة بعلبة كبريت محشوة بالرمل، لكنها “أكبر من أحلامهم”، تسمى “ملك ووزير”، حيث يضعون علبة الكبريت بين السبابة والإبهام، ويرمونها بخفة كي تسقط واقفة بشكل عمودي، حتى يصبح الرامي “ملكاً”، أو بشكل أفقي ليكون “وزيراً”، أما إذا سقطت علبة الكبريت على بطنها من الواجهتين، فيحتسب راميها “حرامي”؛ وهنا يتطلب الأمر أن يأمر “الملك” بعقاب “الحرامي”، ويقوم الوزير بتنفيذ الأوامر في حق “المجرم” الذي خانته “سبابته وإبهامه” من رمية صائبة تنقله إلى “الملوكية” أو “التوزير” (!!). مرَّ شاب بصبغة سوداء فاحمة، اسمه أحمد سالم، وهو من جماعة “بابا عود – أبو لحية” على ما يبدو؛ ووفق المتعارف عليه عند أهالي رأس الرمان آنذاك، أن من يطلق عليه هذا اللقب (بابا عود) فهو يساري، وبابا عود يقصدون به “لينين”. مرَّ هذا الشاب على الصبية وكان يحمل بيده كتاباً، ربما رواية، أو من الكتب الممنوعة آنذاك، فسأل الصبية الذين كانوا منشغلين باندماج في عالمهم الذي لا يخلو من قهقهات وضحك ونكات وتعليقات ومزايدات وتفاخر: “ها شباب، ما فيه مدرسة اليوم؟”، أجابوا بصوت واحد: “شردنا من المدرسة اليوم.. يقال إن هناك مظاهرات وإطلاق رصاص على المتظاهرين، والدنيا معفوسة”. سألهم سؤال آخر: ماذا تلعبون؟ أجابوا مرة أخرى بصوت واحد: “ملك ووزير!”. ضحك أحمد سالم ومشى متمتماً مع نفسه: “ههههههههههه.. ملك ووزير، لا أحد فيكم بصير ملك، ولا وزير.. مردكم تشتغلون على بانوش بيت عمران أو حجي مكي!..”. وقال أيضاً كلاماً غير مفهوم بالنسبة إلينا آنذاك، مثل: يسقط الظلم، يسقط الاستعمار.. هبّوا ضحايا الاضطهاد، ضحايا الجوع والحرمان!!. سأل أحدنا: ماذا يقول أحمد سالم.. وش اخربط؟!. رد ابن عمه حميد قمبر: “اتركوه، هذا، الكتب لاحسه مُخه.. من كثر ما يقرأ كتب “بابا عود” صرنا ما نعرف ماذا يقول، وبأية لغة يتحدث.. إخوانه ما يفهمون ليه، مو تبونّه إحنه نفهم له.. صبروا عليه، كلها يوم يومين بتسمعون ماسكينه الشرطة.. متعود على السجن!”. (وللحديث بقية)
 
صحيقة الوقت
6 مارس 2008

اقرأ المزيد

حكايات من تاريخنا (54)

مجتمعنا المدني بين الأمس واليوم سبق أن تناولنا في هذه الزاوية تحت عنوان “وثائق الاستقلال” موضوعات العدد الخاص الذي أصدرته مجلة الدراسات الاستراتيجية بعنوان “وثائق الأمم المتحدة حول استقلال دولة البحرين” (1969-1971)، ولعل من محاسن الصدف أن يصدر بعد أيام قليلة من صدور هذا العدد كتاب جديد للصديق الدكتور عبدالله المدني تحت عنوان “فيتوريو وينسبير جيوشياردي ودوره في تأكيد سيادة وهوية البحرين” وهذا الكتاب يلقي الضوء على أهم شخصية دولية كان له دور تأثيري حاسم في حق تقرير المصير للشعب البحريني في نيل البحرين استقلالها الوطني كدولة مستقلة ذات سيادة ألا هو وينسبير. ولئن كان العدد الخاص الذي أصدرته مجلة الدراسات الاستراتيجية قد تناول بعض الوثائق المتصلة بهذه الشخصية الدولية في سياق مهمة تقصي الحقائق التي كلف للتعرف على رأي الشعب البحريني في مدى رغبته في الاستقلال أو الانضمام إلى إيران أو أي خيار ثالث آخر، فإن الصديق المدني اهتم في كتابه المهم هذا، بإلقاء المزيد من الضوء على هذه الشخصية، وعلى الأخص في الفصل المتعلق بسيرته الذاتية على المستويين الشخصي والوظيفي. هو الذي رحل عن عالمنا في سبتمبر 1995 في هدوء عن 73 عاما في وقت بلغ الاحتقان السياسي الذي كانت تمر به جبهتنا الداخلية أوجه ولذلك لم يلتفت أحد حينئذ إلى خبر وفاته ولا إلى دلالات الخبر باعتباره يتصل بشخصية دولية دبلوماسية محنكة نزيهة لعبت دورا حاسما فائق الأهمية في مساعدتنا على حل قضية مصيرية بالغة الخطورة ألا وهي قضية تثبيت استقلالنا الوطني بعد انسحاب بريطانيا من البلاد وإلغاء معاهدات “الحماية” و”الصداقة” معها بتوافق الطرفين، وحيث كانت الأطماع الإيرانية تتربص بالوطن لتنفيذ مآربها التاريخية بإلحاقه بالقوة بإيران، تماما كما جرى لفلسطين غداة انسحاب القوات البريطانية عام 1948، وكما جرى للجزر الإماراتية الثلاث التي احتلتها إيران بالقوة العسكرية عام 1971، بعد الانسحاب البريطاني من الشارقة ورأس الخيمة. ولعل من الأمور المهمة اللافتة للنظر في نص تقرير جيوشياردي الذي نشر كاملا في الكتاب مترجما طبقا لما ورد في النص الإنجليزي ضمن مذكرة الأمين العام للأمم المتحدة المؤرخة في 30 ابريل 1970 انه في نهاية هذا التقرير يدرج هذا المبعوث الدولي ملحقا بقائمة المجالس والدوائر والجمعيات والمنظمات والجماعات الأخرى المعترف بها في البحرين، وهي المنظمات والجمعيات والجماعات التي استفتى رأيها شخصيا. وإذا ما صرفنا النظر عن المؤسسات الرسمية التي أدرجت في القائمة، كالمجالس البلدية والمجالس والدوائر المركزية، ومنظمات الرعاية، وهي كما هو مسلم به رأيها سيصب في صالح الاستقلال، فإن الدور الحاسم في التعرف على الرأي الشعبي إنما تمثل في مؤسسات المجتمع المدني الموجودة حينذاك والمتمثلة بغالبيتها الساحقة في الأندية الرياضية والتي كانت غالبيتها ذات وظيفة مزدوجة آنذاك ثقافية رياضية، ويبلغ مجموع هذه الأندية والمؤسسات 85 مؤسسة وناديا. إن هذه الأندية التي كانت موزعة بين المنامة والمحرق والقرى، بالإضافة إلى الرفاع، جميعها أو معظمها صوتت أو أبدت رأيها بالوقوف بكل حزم إلى جانب استقلال الوطن وعروبته، وهذا ما يعكس النضج الوطني العالي الذي كانت تتمتع به مؤسسات مجتمعنا المدني حينذئذ في التمسك بالاستقلال التام للبحرين وعروبتها، وما كان لهذا الوعي الوطني أن يسود في مرحلتنا الراهنة لو جرت مهمة وينسبير خلالها. وهو ما يوضح لنا بجلاء اختلاف مؤسسات مجتمعنا المدني هذا اليوم التي يطغى على معظمها التكتلات والاصطفافات الطائفية عن مؤسسات مجتمعنا المدني عشية الاستقلال الوطني حيث كانت غالبيتها الساحقة يطغى عليها الطابع الوطني والتركيبة العضوية المختلطة غير الطائفية وذلك إبان المد الوطني القومي. ولعل أهمية هذه الوثيقة (نص تقرير وينسبير جيوشياردي المؤرخ في 30 ابريل) تتمثل فيما يقرر فيها هذا المبعوث الدولي بشكل واضح لا لبس فيه، طبقا لما ورد في النقاط: 45، 46، 47 أنه “لم تكن هناك تباينات طائفية حول النقطة موضع البحث. فحتى رجال الدين من الطائفتين السنية والشيعية اتفقوا على رأي موحد”، ويضيف قائلا: “ولم يكن هناك تمايز مهم بين وجهات نظر السكان المنحدرين من المناطق الحضرية وأولئك المنحدرين من المناطق الريفية”.. ويضيف: “ركز ممثلو الجماعات الريفية بصورة تكاد تكون حصرية على هويتهم العربية وعروبة البحرين. ورغم أن هذه الأمور لم تكن موضوعا لأسئلتي، فإنها بدت لقرويين كثر تعبيرا كافيا عن رغبتهم في استقلال البحرين كجزء من الأمة العربية”. وفي الوقت الذي شكك كثيرون انتهازيون عشية التجربة البرلمانية الأولى 1973-1975 وطوال فترة حل البرلمان وسريان قانون أمن الدولة، وبخاصة خلال أحداث التسعينيات، في أهلية شعب البحرين لتمتعه بالحقوق الديمقراطية أقر ممثل بريطانيا في مجلس الأمن عام 1970 بأن أفراد هذا الشعب “قد أظهروا طول الوقت خلال مهمة وينسبير من الوقار وحسن المجاملة والثبات والثقة بالنفس بما لا يفيه حقه أي ثناء”. وهكذا فإن دراسة وتحليل وثائق الاستقلال في كلا المرجعين، عدد مجلة الدراسات الاستراتيجية وكتاب الصديق عبدالله المدني، لا تنطوي أهميتها على توثيق هذا الحدث الوطني المهم من الوجهة التاريخية فحسب بل تتيح للباحث تحليل هذه الوثائق وتمحيصها في مقارنة ما كانت عليه مؤسسات مجتمعنا المدني من نضج ووعي وطني متقدم في تلك المرحلة بما غدت عليه من وضع نقيض مؤسف في مرحلتنا الراهنة.
 
صحيفة اخبار الخليج
6 مارس 2008

اقرأ المزيد

انتفاضة مارس‮٥٦٩١‬


بدعوة كريمة من الإخوة في‮ ‬جمعية الوسط العربي‮ ‬الإسلامي،‮ ‬شاركت والأستاذ إبراهيم كمال الدين نائب الأمين العام لجمعية العمل الوطني‮‬الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬ندوة حول انتفاضة مارس ‮٥٦٩١.‬ أتاحت تلك الندوة فرصة لبسط بعض الأفكار حول الأهمية الكبرى التي‮ ‬ترتديها هذه الانتفاضة في‮ ‬التاريخ النضالي‮ ‬لشعبنا،‮ ‬من حيث كونها حملت في‮ ‬مضمونها وتوجهاتها البُعدين الوطني‮ ‬والاجتماعي‮. ‬ فهي‮ ‬من جهة انتفاضة وجهت ضد الحماية البريطانية على وطننا،‮ ‬ومصادرة الإرادة الوطنية المستقلة لشعبنا،‮ ‬وإحكام قبضة المستعمر البريطاني‮ ‬على مقدرات البلاد،‮ ‬وهي‮ ‬من الجهة الأخرى حملت بُعدا اجتماعيا‮ – ‬طبقيا كونها عبرت عن احتجاج الطبقة العاملة البحرينية،‮ ‬خاصة في‮ ‬شركة النفط،‮ ‬ومجمل الجماهير الكادحة على أوجه الاستغلال الذي‮ ‬كانت الشركات الاحتكارية تمارسه ضدها‮.‬ في‮ ‬أحد جوانبها الرئيسية بدت انتفاضة مارس تجسيداً‮ ‬للمنجز الرئيسي‮ ‬الذي‮ ‬استطاعت حركة هيئة الاتحاد الوطني‮ ‬إحرازه،‮ ‬وهو وأد الفتنة الطائفية التي‮ ‬أطلت برأسها في‮ ‬الخمسينات،‮ ‬وتوحيد جهود الشعب تحت قيادة رموزه الوطنية من قادة الهيئة،‮ ‬سنة وشيعة،‮ ‬في‮ ‬النضال من أجل الديمقراطية والإصلاحات السياسية وإطلاق حرية العمل النقابي‮.‬ كانت انتفاضة مارس ‮٥٦٩١ ‬انتفاضة للشعب كله من مختلف المناطق،‮ ‬بدءا من المحرق مرورا بالعاصمة المنامة وجزيرة ستره وانتهاء ببقية قرى البحرين‮. ‬والشهداء الذين قدمهم الشعب في‮ ‬تلك الانتفاضة قربانا لقضية الحرية والديمقراطية‮ ‬يتحدرون من مختلف تكوينات الشعب،‮ ‬ولم‮‬يقتصروا على طائفة بعينها‮.‬ وإذا كانت هيئة الاتحاد الوطني‮ ‬قد قِيدت من قبل الشخصيات الوطنية التي‮ ‬تميزت بدرجة عالية من المهابة والكاريزما السياسية والمقدرة على التأثير في‮ ‬الجماهير وتحشيدها في‮ ‬النضال الوطني،‮ ‬فان‮ »‬نجاح‮« ‬سلطات الحماية البريطانية في‮ ‬تصفية الحركة باعتقال،‮ومن ثم نفي‮ ‬وسجن قادتها،‮ ‬أدى إلى نشوء فراغ‮ ‬سياسي‮ ‬في‮ ‬البلد،‮ ‬كان‮ ‬يمكن له أن‮ ‬يطول لولا أن التنظيمات الوطنية السرية التي‮ ‬تشكلت في‮ ‬منتصف الخمسينات مثل جبهة التحرير الوطني‮ ‬والتنظيمات القومية،‮ ‬وبعضها تشكل في‮ ‬قلب حركة الهيئة،‮ ‬قد نهضت بعبء قيادة الانتفاضة،‮ ‬وتحويلها من حركة عفوية في‮ ‬بداية اندلاعها إلى حركة منظمة،‮ ‬تجلت فيها كل مظاهر الانتفاضة في‮ ‬شروطها المعروفة من العصيان المدني‮ ‬الشامل إلى الإضراب عن العمل والتوقف عن الدراسة والمسيرات الحاشدة ومظاهر الحداد الاحتجاجي،‮ ‬لا بل واستخدام السلاح ضد الرموز المجسدة للحماية الأجنبية،‮ ‬ولو في‮ ‬نطاق محدود‮.‬ وكانت لافتةً‮ ‬المشاركة الواسعة والمشرفة للمرأة البحرينية في‮ ‬تلك الانتفاضة،‮ ‬حيث كان للنساء دور مشهود في‮ ‬فعالياتها المختلفة،‮ ‬وهو الأمر الذي‮ ‬اظهر ومنذ وقت مبكر استعداد نساء بلادنا وحماسهن لأن‮ ‬يكن دوما في‮ ‬قلب الكفاح لا من اجل حقوقهن كنساء فحسب،‮ ‬وإنما في‮ ‬مجمل النضال الوطني‮ ‬والديمقراطي‮ ‬للشعب‮. ‬للحديث تتمة‮.‬
 
صحيفة الايام
6 مارس 2008

اقرأ المزيد

أمي كانت هناك

تمر اليوم الذكرى 43 على اندلاع انتفاضة مارس 65، تلك الانتفاضة الوطنية التي جمعت شعب البحرين بمختلف تكويناته القروية والمدنية تحت لواء وطني جامع مفاده دحر الاستعمار ومحاربة الاستبداد الذي مثلته رمزيا آنذاك شركة بابكو المسيطر عليها من قبل الاستعمار الإنجليزي بعد أن لجئت لفصل 1500 عامل بحريني من الشركة تحسباً من تصاعد قوة عمالية ضاربة تتماهى مع حركات التحرر الوطني العالمية وتحرج إدارة الشركة التي تمثل مصدر الازدهار الاقتصادي للاستعمار وحلفائه في الرفاع. لم أبدأ حديثي بتحديد يوم الذكرى المختلف عليه بين ضفتي اليسار اللتان نسفتا كل النضال الوطني المشترك وقضاياه الكبرى وصرفا جهودهما على سجالات تتعلق بتاريخ اندلاع الانتفاضة بين أبناء وأحفاد الجبهة الشعبية الذين يدعون أنها اندلعت في الخامس من مارس ونظرائهم في جبهة التحرير الذين يؤكدون أنها كانت في السابع منه، لكني سأبدأ بتحية للشعب البحريني الأبي شعب ستينيات وسبعينيات القرن ا لماضي، شعب العقدين الوطنيين الاستثنائيين في تاريخ السيسيولوجيا البحرينية الذي كون قاعدة وطنية جامعة لا تكترث للانتماء الطائفي بقدر ما تحركها القضايا الوطنية الكبرى كالمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية. ما دفعني لأن أخرج عن كسلي الطويل وأعود إلى الكتابة سببان رئيسان الأول أتى بعد الثاني وهو كتاب يوميات انتفاضة مارس الذي جمعها عضو جبهة التحرير الوطني محمد السيد في كتاب يصدر قريباً عن دار الكنوز، والآخر الذي لا يقل أهمية بل يسبق في وجداني أهمية السبب سالف الذكر (أمي). في أحاديثي المطولة مع أمي حول تاريخ المنامة وتفاصيل علاقاتها الاجتماعية جرنا الحديث نحو (فريق سوار) حيث كانت أمي تقيم بعد أن خرجت من بيتها في (فريق الحطب) أثر وفاة والدتها ما أقتضى عيشها مع شقيقتها الكبرى، تقول أمي ” شاهدت الناس يتظاهرون في الشوارع ويواجهون قوات الأمن كنت أحمل (زهير*) على كتفي وأرمي قوات الأمن بالحجارة وكان الدرك يقول لي بلغة عربية غير مفهومة “أذهبي ياحرمة من هني”، أما أنا فكنت أرد عليه “ما بروح.. ما بروح”.. ولو علمت (رباب**) بذلك لحاسبتني حساباً شديداً، “بعدها سحبوني بيت البلوش أبناء جيراننا وخبئوني داخل منزلهم”. هكذا كانت أمي وهكذا كان شعب البحرين ثوريا مخلصاً لقضيته متضامناً مع أبناء شعبه في مواجهة قوى الاستبداد الكبرى، بيت البلوش يخبئون البحرانية لحمايتها من بطش الدرك، وأهل المحرق يصطفون في مظاهرات حاشدة مع أهل المنامة والسنابس وسترة والرفاع. أما اليوم أجد نفسي عاجزاً أمام حماس أمي الثوري، وأمام مكونات جيلها الاستثنائية، حين أرى كيف تغزو الإمبريالية مجتمعاتنا دقيقة بعد أخرى، وتغزو الطائفية سلوكنا ثانية بعد أخرى لدرجة بت فيها أخشى أن أبوح بموقفي الوطني لكي لا يفسر طائفيا.  يختلف الحال تماماً فمجلس النواب في 2008 لا يشبه مجلس نواب 73 الذي كان محركه الرئيس كتلة الشعب المشكلة من رحم جبهة التحرير الوطني، مجلس النواب اليوم أشبه بحلبة للمصارعة بين قوى الطائفية، وسط ابتسامات صفراء تطل من مقاعد السلطة التنفيذية، تعبر عن ارتياحها لنجاح مسار حملة فرق تسد، التي شغلت النواب عن تداعيات تقرير البندر، وألهتهم في صراع طائفي غافلين عن مشاريع الاستثمار الأجنبي التي ابتلعت الأخضر واليابس “وشعللت الأسعار”، وقضت على البيئة ابتداء بسواحل البحرين ووصلاً إلى ناسها الذين هجنت هوياتهم. أعتذر لأمي تزامناً مع ذكرى انتفاضة مارس لأني عجزت أن أكون ثورياً بمقدارها، وأعتذر لجبهة التحرير وإتحاد الشباب الديمقراطي البحراني، لأني عجزت في زمن المصالح أن أكـون قاعدة شبابية مؤمنة بنهجهما في زمن بات فيه الإنسان يصارع من أجل البقاء وإن كان الطريق صعوداً على أكتاف الآخرين. 
 
خاص بالتقدمي

الهوامش:
 
· زهير أبن خالتي من مواليد 64 كان رضيعاً حين حملته أمي على كتفها في الانتفاضة.
· رباب خالتي الكبرى أم زهير. 

اقرأ المزيد

من يصنع العقل الشعبي؟

من بين الكتابات الصحفية التي قرأتها مؤخرا والتي تعالج بعمق اشكاليات الارتداد الحضاري العربي الراهن، بما في ذلك أزمة الحركة السياسية، مقال للباحث المصري المعروف السيد ياسين تحت عنوان “التنمية وتحديات الصراع الثقافي”، وفيه يناقش الكاتب التعقيدات العويصة التي تواجه المجتمع المصري في محاولات الانعتاق من الشمولية الفكرية والعبور إلى التعددية السياسية، وارتباط ذلك بالصراعات الثقافية التي تموج في المجتمع. ويميز السيد ياسين في هذا الصراع الثقافي بين 3 محاور من الثقافات المتصارعة: 1- ثقافة النخبة والثقافة الشعبية. 2- صراع بين الرؤى إلى العالم. 3- ثقافة الغنى وثقافة الفقر. ويؤكد ياسين ضمنيا أن تحديد هذه المستويات من الصراع الثقافي – الاجتماعي هي التي تدلنا على من يصنع العقل المصري. وبالطبع فان الغلبة في الظروف الراهنة هي لصالح الثقافة الشعبية على حساب ثقافة النخبة المعروفة في الغالب بتطورها الفكري والحضاري، فنتيجة للانتشار الواسع للأمية في المجتمع المصري تغدو الثقافة الشفهية هي الأكثر رواجا وانتشارا، وهي ثقافة حاسمة في صياغة العقل والوجدان الشعبي، وليس الكلمة المكتوبة. وأبناء هذه الثقافة يشكلون غالبية الشعب ولا يمتلكون الوسائل الضرورية للاطلاع على مصادر ثقافة النخبة. والواقع ان ما عالجه ياسين من اشكاليات أزمة التطور الحضاري الراهن – إذا جاز القول – لينطبق تماما على كل المجتمعات العربية، لا المجتمع المصري فقط، ومنها مجتمعنا البحريني، ذلك بأن النخبة السياسية البحرينية على اختلاف تجمعاتها من احزاب ومؤسسات مجتمع مدني ومثقفين وكتاب مستقلين يكاد يكون صدى أصواتها محصورا بين مجتمع هذه النخبة ذاتها، وبخاصة في فترات انحسار دور مؤسسات النخبة عن المجتمع كما هو الحال في المرحلة التاريخية التي يمر بها مجتمعنا البحريني حيث مازالت هذه المؤسسات الحزبية -الجمعيات السياسية- والمدنية تترنح وتتخبط في أزماتها المزمنة. وفي مثل هذا المناخ يغدو من المنطقي والطبيعي ان يكون أبناء العقل الشعبي البحريني بمختلف شرائحهم وفئاتهم الدينية مهيئين للتأثر بالخطاب الشفهي السهل الملائم لمستويات ثقافتهم الشعبية التي جبلوا عليها، وهي في الغالب الأعم سطحية أو متوسطة العمق في أحسن الأحوال. وإذا كان ياسين قد حدد اصحاب هذا الخطاب الشفوي المؤثر في عقول العوام بإمام المسجد أو الواعظ في الكنيسة فاننا نستطيع أن نضيف إليه هنا أيضا خطيب المنبر الحسيني، ماخلا استثناءات منهم، هذا بالإضافة إلى دور الكاسيتات الدينية التي تغرق الاسواق وهي زاخرة بكل ضروب الفكر الخرافي، والذي يصبح المرجعية الاساسية في القيم وفي السلوك الفعلي، على حد تعبير السيد ياسين. وهذه الفجوة الضخمة بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية إذ تمثل أكبر عائق أمام التقدم في المجتمع المصري كما يرى الكاتب، فانها تمثل أيضا، كما نرى، أكبر عائق للتقدم في مجتمعنا البحريني أيضا. هذا لا يعني – كما قال ياسين عن حق – انه في مطلق الاحوال ان ثقافة النخبة صحيحة، ولا ان كل الثقافة الشعبية تتسم بالبدائية والتخلف. وإذا كان ذلك هو محور الصراع بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية، فان المحور الثاني الذي وصفه ياسين بأخطر هذه الصراعات، يتمثل في الصراع بين رؤيتين إلى العالم متضادتين الرؤية الأولى “علمانية ليبرالية” وينبه الكاتب هنا إلى انها لا تعني اطلاقا فصل الدين عن المجتمع، بل ان تتبنى الدولة احترام كل الاديان ومعاملتها على قدر المساواة. أما الرؤية الثانية فهي رؤية دينية مغلقة متشددة على حد وصف الكاتب، حيث تصر على اقامة الدولة الدينية وتتبنى القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للآيات القرآنية والسنة ولتفرض معتقداتها على كل المجتمع بكل تركيبته وتعدديته السياسية والدينية والثقافية. أما المحور الثالث فهو الصراع الطبقي والذي أسماه ياسين “الصراع بين ثقافة الغنى وثقافة الفقر”، فثقافة الغنى تدفع إلى ابتداع وسائل لا نهائية لها للاستهلاك التفاخري والتركيز على المتع والملذات في حين ان ثقافة الفقر تدفع الى العنف والعدوان والجريمة. والحال فعلى البرغم مما تمتاز به معالجة ياسين من شمولية وعمق لقضية تخلف المجتمع المصري التي تنسحب على المجتمعات العربية، ومنها مجتمعنا البحريني، فإنه في سياق تناوله الصراع بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية يغفل الكاتب ما لهذه الثقافة الاخيرة من نخبة خاصة بها تتماهى معها وليست قاصرة على العوام. إذ هنالك مثقفون وتكنوقراط وحملة شهادات علمية عليا لا تروق لهم بالفطرة سوى هذه الثقافة الشعبية بل يعملون على التنظير لها والتشبه بالحداثة، ومن ثم فليس كل مريدي ومستقبلي الخطاب الشعبي المبسط هم فقط من العوام الاميين أو أنصاف الاميين. كما ان ياسين إذ يحدد ائمة المساجد وواعظي الكنائس باعتبارهم من مريدي هذا الخطاب الشعبي يغفل أيضا دور الفضائيات في نشره على نطاق أوسع، وكذلك الانترنت. وأخيرا فان ياسين لا يلتفت إلى ان خطاب النخبة من الممكن ان يؤثر في ثقافة العوام أو ابناء الثقافة الشعبية اذا ما اتسم خطاب النخبة بالبساطة والقدرة على الايصال، وهذا ما حدث مثلا في عصر صعود الحركات والتيارات القومية واليسارية، ولاسيما إذا ما استطاعت هذه الحركات أن تكون لصيقة من نبض أبناء الثقافة الشعبية ومعبرة عن همومها وراسمة لها بنجاح طريق خلاصها وتقدمها، وهذا لا يتأتى بالطبع إلا من خلال نجاحها في فرض الاصلاح السياسي الديمقراطي الجذري الحقيقي الشامل الذي مازال “حلما” يراود شعوب المنطقة.
 
صحيفة اخبار الخليج
5 مارس 2008

اقرأ المزيد

الحياة في‮ ‬مكانٍ‮ ‬آخر

قرأت مرة أن وزير الثقافة في‮ ‬فرنسا لاحظ أن مكانة المطعم الفرنسي‮ ‬الأنيق والشاعري‮ ‬تتدهور لصالح محلات الهمبرغر والأكلات السريعة الأمريكية الأخرى،‮ ‬فطالب بتقديم الدعم المالي‮ ‬للمطاعم الفرنسية الشهيرة التي‮ ‬تواجه مصاعب مالية‮. وتعهد الوزير بتوفير المساعدة للطهاة الفرنسيين الشباب بشكل خاص لإقامة مطاعم جديدة عبر تقديم منح مالية مجزية لهم،‮ ‬وإتاحة الفرصة لتدريبهم على أيدي‮ ‬كبار وأمهر الطباخين المتخصصين في‮ ‬الأكلات الوطنية الفرنسية‮.‬ ويندرج هذا التوجه في‮ ‬سياق الصراع الثقافي‮ ‬الذي‮ ‬يزداد حدة حول‮”‬الاكتساح” ‬الثقافي‮ ‬الأمريكي‮ ‬لمظاهر الحياة الوطنية في‮ ‬البلدان المختلفة،‮ ‬والتي‮ ‬تشمل السينما والموسيقا التقليدية والملابس،‮ ‬وأخيراً‮ ‬الطعام‮. ولعلكم لاحظتم أن الوزير الذي‮ ‬فعل ذلك هو وزير الثقافة وليس وزير السياحة مثلاً،‮ ‬وأن وزارة الثقافة بالذات التي‮ ‬تمول المسرح والسينما والمكتبات العامة هي‮ ‬نفسها التي‮ ‬تعهدت بأن تقوم بدور الضامن أمام البنوك لنحو ‮٠٧‬٪‮ ‬من تكاليف المطاعم الجديدة،‮ ‬فالأمر‮ ‬يتصل بما دعاه الوزير‮: “‬التراث الثقافي‮ ‬والضمير الوطني‮ ‬لفرنسا”.‬ ومنذ سنوات صدر لاثنين من المؤلفين الأمريكيين كتاب عنوانه‮: “‬الاتجاهات الكبرى‮”،‮ ‬توخيا فيه رسم صورة مستقبلية للعالم مع بدء الألفية الثالثة،‮ ‬ورصد اتجاهات التحول الكبرى في‮ ‬العالم مع دخول البشرية قرناً‮ ‬جديداً‮.‬ لاحظ المؤلفان واسمهما ج‮. ‬نيبسات وب‮. ‬إيردين‮ “‬أن النزعة الاستهلاكية الحديثة هي‮ ‬المحرك الرئيس الذي‮ ‬يجعل الجميع‮” والمقصود هنا الجميع في‮ ‬العالم كله يحتسون القهوة ‮”‬الكابوتشينو”‬،‮ ‬ويرشفون المياه المعدنية‮ “‬بيريه”‬،‮ ‬بينما‮ ‬يؤثثون منازلهم من إنتاج مصانع‮ “‬إيكيا‮” ‬السويدية ويتذوقون طعم السوشي‮ ‬الياباني،‮ ‬ويرتدون جميع ملابس شركة الألوان المتحدة‮ “‬بنيتون”‬،‮ ‬ويتذوقون الاستماع إلى موسيقا‮ “‬الروك أند رول‮” ‬الأمريكية والإنجليزية،‮ ‬وهم‮ ‬يقودون سيارات‮ “هيونداي‮” ‬الكورية في‮ ‬طريقهم إلى مطاعم‮ “‬ماكدونالد‮”.‬ كان المؤلفان‮ ‬يوردان هذه الأمثلة في‮ ‬سياق حديث مطول آخر عن بزوغ‮ ‬ما وصفاه‮ “‬أسلوب حياة عالمي‮” ‬حين ترسخ التجارة العالمية والسفر والترحال وانتشار التلفزيون القاعدة لهذا الأسلوب الموحد،‮ ‬حيث تعدى تأثير التجارة العالمية مجرد عمليات بيع وشراء البضائع بين الدول،‮ ‬وأصبحت تمثل صورة جديدة لاقتصاد عالمي‮ ‬واحد‮. ويظل السؤال‮: ‬هل‮ ‬يحتمل هذا الاقتصاد العالمي‮ “الواحد” ‬ثقافات متعددة،‮ ‬تعكس عوالم وحضارات مختلفة تأبى أن تجد نفسها قد استوعبت في‮ ‬محيط العولمة الذي‮ ‬يأخذها نحو مصير واحد هو‮: ‬الغرق؟
 
صحيفة الايام
5 مارس 2008

اقرأ المزيد

لبنان والعرب.. والقنابل العنقودية

في غمرة انشغالات الدول العربية بموضوع القمة العربية المقبلة والأزمة السياسية اللبنانية الداخلية المستعرة، وفي خضم انهماك اللبنانيين كذلك بهذه الأزمة ذاتها وتصاعد الصراع السياسي بين القوى السياسية حول سبل الخروج من الأزمة مر قبل أيام قليلة حدث سياسي دولي على درجة من الأهمية مرور الكرام دونما أن يستحق عناية كافية من قبل الدول العربية بوجه عام والدولة اللبنانية المغيبة دستوريا بوجه خاص. وهذا الحدث يتمثل في إقرار مسودة معاهدة عالمية لحظر القنابل العنقودية. وحينما نقول: إن هذه المعاهدة تهم العرب بوجه عام والشعب اللبناني بشكل خاص فلأن هذا الشعب هو أكثر الشعوب تضررا في المرحلة الراهنة من هذه الفخاخ الوحشية التي تطاول الأبرياء المدنيين وعلى الأخص في الجنوب، حيث تشير احصاءات الأمم المتحدة إلى أن إسرائيل ألقت ملايين القنابل العنقودية في هذه المنطقة خلال كل حروبها العدوانية على لبنان وصولا إلى حربها الأخيرة في صيف 2006م. ومعظم هذه القنابل لم تنفجر، ومازالت عرضة للانفجار بمجرد ملامستها. ووفق احصائيات الأمم المتحدة ذاتها فقد أدت هذه القنابل إلى مقتل ما يقرب من 40 مواطنا لبنانيا و220 جريحا. وطبقا للناطقة باسم مركز تنسيق مكافحة الألغام داليا فران فإن 946 موقعا تقدر مساحتها بنحو 38 مليون متر مربع مزروعة بالألغام. وثمة فريق يضم 1300 خبير بنزع الألغام يديره 69 خبيرا أجنبيا لم يتمكنوا حتى الآن سوى من تفكيك 331 قنبلة عنقودية وذلك في سياق خطة تمولها دول مانحة يفترض أن تنتهي بنهاية العام الجاري 2008م. ولعل في مقدمة العقبات التي تواجه الفريق في مهمته الإنسانية لإنقاذ أرواح عشرات الآلاف من اللبنانيين المدنيين من مخاطر هذه الألغام هي أن إسرائيل مازالت ترفض حتى الآن تسليم هذا الفريق خرائط المواقع التي ألقت فيها القنابل العنقودية، علما بأن هنالك ما لا يقل عن 375 ألف لغم مضاد للأفراد صنع في إسرائيل بالقرب من الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة ليقوم مقام الحدود بين لبنان وإسرائيل بعد انسحابها من الجنوب. وإذا كان الشعب اللبناني هو في مقدمة الشعوب العربية المبتلاة بجرائم مثل هذه الحروب بحق الإنسانية، وهي الحروب التي فرضت على العرب فرضا، فضلا عن ابتلاء الشعب العراقي بمثل هذه القنابل التي ألقاها الاحتلال الأمريكي أثناء غزوه الأخير للعراق، فإن بلدانا عربية أخرى مازالت مبتلاة بمخلفات ألغام حروب قديمة جرت على أراضيها، وعلى وجه الخصوص مصر وليبيا اللتان دارت على أراضيهما بعض معارك الأطراف المتحاربة في الحرب العالمية الثانية، ولاسيما عند منطقة الحدود المصرية – الليبية، وحيث مازال عدد من المدنيين يقع ضحية هذه الألغام القديمة بين الفينة والأخرى، هذا على الرغم من مرور أكثر من 60 عاما على انتهاء الحرب. وهنا فلعل من المفارقات الساخرة المؤلمة فيما يتعلق بمؤتمر نيوزيلندا الأخير الخاص بإقرار مسودة معاهدة حظر القنابل العنقودية أن الدول العربية التي هي من أكثر دول العالم تضررا من هذه القنابل، ولاسيما لبنان، هي من أكثرها غيابا عن المؤتمر أو على الأدق غياب دورها الفاعل الضاغط لإخراج مشروع المعاهدة بأعلى سقف ممكن من التشديد على الحظر ومن معاقبة الدول غير الملتزمة واستقطاب أكبر عدد من الدول، ولاسيما الكبرى أو ذات النفوذ الدولي، لخلق أكبر تحالف ممكن لمكافحة وحظر القنابل العنقودية سواء في إطار المعاهدة المذكورة أم خارج هذا الإطار. وبسبب هذا الغياب العربي واللبناني المؤسف والفاضح فإن مشروع المعاهدة مازال منذ 3 سنوات يواجه تسويفا من جراء ضغوط ومراوغات الدول التي ترفض حظرا على القنابل العنقودية، كالولايات المتحدة والصين وإسرائيل، فيما تطرح دول أخرى مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان فكرة المرور بفترة انتقالية قبل فرض الحظر الكامل الشامل. وحتى الآن ثمة 82 دولة تمثل نحو 80% من الدول التي شاركت في مؤتمر نيوزيلندا الأخير الخاص بإقرار مشروع معاهدة حظر القنابل العنقودية وافقت على الفور على إعلان ولنجتون، اسم المدينة التي انعقد فيها المؤتمر، لكن عدد هذه الدول الموافقة على مشروع المعاهدة (82 دولة) هو أقل من عدد الدول التي شاركت في مؤتمر أوسلو (140 دولة) قبل 3 سنوات وهو المؤتمر الذي مهد لإعداد مسودة المعاهدة التي أقرت في مؤتمر ولنجتون الأخير. وإذ شهد هذا المؤتمر غيابا عربيا ولبنانيا فاعلا في فعالياته والتحضير له، فهل يشهد مؤتمر ايرلندا الذي سيعقد في مايو القادم لإٍقرار المعاهدة حضورا عربيا ولبنانيا أفضل، أم تتكرر مأساة الغياب العربي واللبناني الذي حدث في ولنجتون؟

صحيفة اخبار الخليج
4 مارس 2008

اقرأ المزيد

نجـية البريد

حين كانت تمخر السفن البريطانية البحار نحو مستعمراتها البعيدة،‮ ‬لم تنس أن تحمل على ظهرها البريد مع أرتال الأكياس والصناديق المخزنة بالذهب والبهارات والعبيد مثلما كان عليها أن تعود في‮ ‬رحلة الإياب أو الذهاب ببريد مختوم بالشمع لممثل التاج البريطاني‮ ‬وحاكمها الموقر‮. ‬ومع حركة التطور في‮ ‬محطات متكاثرة من المستعمرات على أرض الله من اليابسة فإن ولادة تنظيم البريد والمراسلات لعالم التجارة كانت ضرورة جديدة،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن ان تتسق عملية التجارة بين المصدر والمستورد دون معاملات كتابية بريدية،‮ ‬ناهيك عن احتياجات جديدة فرضتها المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية‮. ‬فكان على المستعمر تنظيم جميع تلك المؤسسات والعلاقات بتأسيس دائرة البريد،‮ ‬لهذا سنجد دوما أن الانكليز احتفظوا بالرقم واحد‮ “١” ‬في‮ ‬غالبية مستعمراتهم إذ لم تكن الحكومات الأمية والقبائل على علم بالكتابة والمعاملات التجارية‮. ‬لذلك احتفظت برقمها الجدير بالسيادة في‮ ‬أزمنة الهيمنة‮. ‬وبما أن البريد هو احد البوابات الأمنية التي‮ ‬ينبغي‮ ‬رصدها ومراقبتها كبقية المنافذ والمرافئ فقد كان على الانكليز التركيز واليقظة على تلك المؤسسة الحيوية‮. ‬تقدم العالم بوتيرة سريعة خلال العقدين الاخيرين ودخلنا حقبة جديدة من دنيا الاتصالات وبات الانترنت والبريد الالكتروني‮ ‬منفذاً‮ ‬للشفرات والخطابات الأخطر لعالم الجاسوسية،‮ ‬غير أن تسريب أمور ومواد خطيرة كالمخدرات والمتفجرات تبقى صعبة بالبريد الالكتروني‮ ‬إن لم تكن هناك منافذ رسمية أو‮ ‬غير رسمية كالتهريب مما اقتضى دوما اعتبار مؤسسة البريد خطا دفاعيا أماميا لصيانة الدولة والمجتمع والمؤسسات‮. ‬هذا ما نفهمه جيدا في‮ ‬مراحل الاستعمار والدولة المستقلة،‮ ‬وفي‮ ‬مرحلة الإصلاح فالولاء للوطن مسألة عليا لدى كل شخص‮ ‬ينتمي‮ ‬لبلاده وعليه بالمثل أن‮ ‬يحافظ على ولاء مؤسسته ويحافظ على أسرار الوظيفة كلما كانت حساسة تلك الأبجديات المهنية‮ ‬يفهمها الجميع ولكن ما لا‮ ‬يفهمه احد اليوم وفي‮ ‬ظل المنجزات النقابية والتشريعات الملكية والاحتفالات بالعيد الأول من مايو ومتغيرات كثيرة مست الحركة النقابية والعمالية ذلك النهج والسلوك الغريب جدا لإدارة البريد مع النقابية نجية عبدالغفار التي‮ ‬لم تمارس انقلابا عسكريا في‮ ‬مؤسسة البريد لكي‮ ‬تحارب بتلك القسوة والعسف الوظيفي،‮ ‬إن لم‮ ‬يكن هناك في‮ ‬تلك الإدارة إرث طائفي‮ ‬أو‮ ‬غيره من الموروثات الخطيرة؛ فذهنية البعض لم تستوعب فكرة أن البحرين دخلت حقبة جديدة ومقبلة باستمرار على متغيرات وان حركة التاريخ لن تعود إلى الوراء وان كانت هناك عصي‮ ‬توضع لعرقلة تلك العجلات،‮ ‬ومن شاكلتها ما‮ ‬يمارس ضد نجية على أساس أنها رسالة موجهة لكل عمال البريد والنقابيين،‮ ‬ومن خلال هذه السياسة تحول نهج إدارة البريد إلى نمط من الجندرمة التي‮ ‬لا تعرف إلا التهديد متناسية أن نجية نموذج لطابور عريض صامت قد لا‮ ‬يقبل أن‮ ‬يواصل الصمت خوفا أكثر من اللازم‮. ‬ينبغي‮ ‬فهم تلك الحقيقة في‮ ‬زمن مشروع الملك الإصلاحي‮ ‬فهناك عدة حلقات ستجد إدارة البريد نفسها لا خلاص منها،‮ ‬أولا حركة الاحتجاج الاجتماعي‮ ‬ثم النقابي،‮ ‬وأخيرا مثل هؤلاء لا‮ ‬يدركون ان هناك سقفاً‮ ‬جديداً‮ ‬للحقوق موجود في‮ ‬العالم لا‮ ‬يجوز زج بلادنا بها كجزء من ملف حقوق الإنسان بسبب الخوف من النقابات في‮ ‬البريد وبحق الموظفين وعمال البريد تأسيس نقابتهم أسوة بالآخرين فليس دائما القهر والمضايقات تكسر الإرادات وإنما العكس هو الصحيح،‮ ‬فليس هناك مسألة أهم من الحريات للجميع،‮ ‬ومعركة نجية عبدالغفار نموذج لصراع إرادتين احداهما تمثل مستقبل كل إنسان حر في‮ ‬مملكة البحرين‮.‬
 
صحيفة الايام
4 مارس 2008

اقرأ المزيد

من أين نأتي‮ ‬بالوقت؟

يضيق الوقت على الالتزامات والمهام التي‮ ‬يرغب المرء في‮ ‬أدائها‮: ‬أن‮ ‬ينخرط في‮ ‬الحياة فيكون حاضراً‮ ‬في‮ ‬قلب أحداثها،‮ ‬وأن‮ ‬يقرأ كتباً‮ ‬كثيرة،‮ ‬وأن‮ ‬يسامر أصدقاء‮ ‬يحبهم،‮ ‬أو‮ ‬يهاتفهم،‮ ‬وأن‮ ‬يذهب للعمل صباح كل‮ ‬يوم في‮ ‬الموعد إياه،‮ ‬وأن‮ ‬يجد عدداً‮ ‬كافياً‮ ‬من الساعات كي‮ ‬يخلد إلى نوم عميق‮ ‬يستمد منه طاقة ونشاطاً‮.‬ شدتني‮ ‬عبارة قرأتها مرة على لسان رجل سأله أحدهم،‮ ‬وهو‮ ‬يشكره على خدمة أجزاها له قائلاً‮: ‬أنت تقدم الكثير من وقتك‮. ‬فرد الرجل‮: “‬المرء لا‮ ‬يقدم وقتاً‮ ‬أبداً‮. ‬إنه‮ ‬يقدم اهتماماً،‮ ‬نصائح،‮ ‬معلومات،‮ ‬صداقة،‮ ‬ما أدراني‮ ‬ماذا أيضاً؟ الوقت ليس ملكاً‮ ‬لأحد‮. ‬إنه أداة قياس‮”.‬ أدهشني‮ ‬هذا التوصيف الدقيق للوقت،‮ ‬من أنه ليس أكثر من أداة قياس،‮ ‬وهو توصيف‮ ‬يرغب صاحبه في‮ ‬أن‮ ‬يبدد الفكرة المستقرة في‮ ‬الأذهان عن إضاعة الوقت أو‮ “‬تضييع‮” ‬الوقت‮.‬ وقد‮ ‬يدفعنا التفكير في‮ ‬هذه المسائل إلى متاهات فلسفية عن الزمن،‮ ‬وعن موقعنا في‮ ‬هذا الزمن‮. ‬من الأجدى والأكثر متعة بالنسبة لنا أن نفكر في‮ ‬الأمر بصورة أبسط،‮ ‬بعيداً‮ ‬عن الفلسفة،‮ ‬لنرى أن الوقت الذي‮ ‬نشكو من قلته ليس أكثر من وحدة قياس،‮ ‬ولكنها وحدة قياس مخيفة لأنها تذكرنا بأن مشاريعنا في‮ ‬الحياة هي‮ ‬على الدوام أكثر وأوسع وأكبر من المساحة التي‮ ‬يتيحها لنا الوقت،‮ ‬إنه لا‮ ‬يمتد لكي‮ ‬يمكننا من أن ننجز كل ما نريد‮.‬ ولو أنه امتد لربما اكتشفنا أن مشاريع أخرى جديدة قد نشأت تبعاً‮ ‬لذلك،‮ ‬والمدهش أننا في‮ ‬عصر السرعة،‮ ‬حيث التسهيلات الضرورية متاحة،‮ ‬وهي‮ ‬توفر لنا أوقاتاً‮ ‬إضافية لم تكن متيسرة لأسلافنا،‮ ‬ومع ذلك فإننا نشكو من قلة الوقت‮.‬ أذكر مرة أني‮ ‬تحدثت مع صديق شاكياً‮ ‬له قلة الوقت،‮ ‬وأذكر جوابه المخيف‮: ‬كل الذين ماتوا،‮ ‬رحلوا قبل أن‮ ‬ينجزوا مشاريعهم‮.‬ كان هذا الصديق‮ ‬يستحث فكرة أخرى لديّ‮ ‬ولديه‮: ‬لا تتعب نفسك بالمشاريع الكثيرة‮. ‬ستمضي‮ ‬الحياة قبل أن تنجزها‮.‬ لكني‮ ‬لا آخذ هذه النصيحة على محمل الجد،‮ ‬لأني‮ ‬أظن أن الحياة من دون مشروع تكفُّ‮ ‬عن أن تكون حياة‮.‬
 
صحيفة الايام
4 مارس 2008

اقرأ المزيد

لا تبوق لا تخاف

أطلق الوزير الشيخ أحمد بن عطية الله الذي يتهمه التقرير الشهير بأنه يدير خلية في الخفاء لزعزعة البلاد بالتمييز والطائفية، عبارة أثناء الحديث عن هذا التقرير وهي (لا تبوق لا تخاف)، ليؤكد انه لا علاقة له بما ذكره التقرير. ولكن ظلت القوى السياسية والناس خائفة من أن يكون هذا التقرير حقيقي خصوصاً بعد أن اعترف هذا الوزير بإصداره (الشيكات) لبعض من ورد اسمهم في التقرير وقال عنهم التقرير الشهير إن هذه الأموال تصرف بعد خدمة يقدمها صحفي أو نائب أو رئيس جمعية تخدم توجهات منحرفة لعزل طائفة بأكملها عن كل خيرات هذا البلد، ولم يستثن التقرير أي توجه سواء كان علماني أو ديمقراطي أصوله من طائفة ما. كانت حينها الناس خائفة ومرتابة، والجميع كان يبحث عن التقرير وسط همس فقط دون أن ينشر أو يتداول، حتى اتضح الأمر وانتشر، وانكشف المستور، والكل يسير وبيده التقرير، وكانت المدة الزمنية  بين نشر التقرير والانتخابات، ليست بالبعيدة، فأتت الانتخابات ومعها الحملات الانتخابية وسط مشاركة واسعة من جميع القوى السياسية ذات التاريخ النضالي ومنها جمعية الوفاق التي قاطعت الانتخابات في 2002 وشاركت في 2006، وكانت استجواب وزير التأزيم من بين 10 أولويات حددتها الوفاق، فاتاها حينها عبارة (لا تبوق لا تخاف). واليوم وبعد أن دخلت اللعبة حيز التنفيذ ورفعت الوفاق طلب الاستجواب  تكالب عليها مجلس النواب بشقه الآخر (الموالاة)، وأجزم انه بإيعاز، لأنه على ما يبدو انقلبت تلك العبارة من لا تبوق لا تخاف إلى عكسها، وإلا ما الداعي إلى رفض الاستجواب إذا كان هو بريئا مما نسب إليه، وما الداعي إلى  كل هذا التوتر والاصطفاف الذي اخذ بعداً طائفياً. حذرنا مسبقاً بأن المجلس سيأخذ منحى طائفياً لأنه منقسم إلى طائفيتين، لا ديمقراطيين بينهم، لا عابرين للطوائف، لا بنائين جسور بين الطوائف، تم استثنائهم وإقصائهم في الانتخابات النيابية السابقة، عبر كتلة إيمانية أو تحالف اسلاموي كما حصل في المحرق، فهل تعقل الوفاق الآن أهمية مطالبتنا بإشراك التيار الديمقراطي في البرلمان. هذا المجلس الذي لا يشم منه إلا رائحة الطائفية مليء بالأخطاء من الطرفين معارضة وموالاة، لذلك حان الوقت للتيار الديمقراطي أن يلعب دوره الحقيقي في انتشال البلد من مأزق الطائفية التي يحاول البعض العبث به بتنفيذ أجندة سخيفة نضحت من إناء قذر.
 
خاص بالتقدمي

اقرأ المزيد