الباب انتقال من عالم إلى آخر، دخول من خارج أو خروج من داخل. ويبدو أن الباب هو في الأصل امتداد للجدار، لأن القاعدة فيه أن يكون مغلقاً، يفتح فقط للضرورة، عند الدخول والخروج، كأن ما خلفه يبعث على الأمان، وكل ما كان خارجه يبعث على الترقب والخوف والحذر. الباب بهذا المعنى حافظ للسرية وللخصوصية ولحكايات الناس غير القابلة للتداول. لغز الغرفة المُغلقَة، في الأدب البوليسي، هو نوع معين من قصص الغموض، بحيث لا أحد يمكنه أن يكون قد دخل أو غادر مسرح الجريمة، ولا يمكن أن يكون موت الضحية انتحاراً. ازدهرت ألغاز الغرفة المغلقة مع كتاب أمثال جون ديكسون كار، كلايتون راوسون، وأغاثا كريستي، حيث تدور أحداث مملوءة بالغموض خلف الأبواب، وللباب حالات. الباب المفتوح يدعوك للدخول، فكونه مفتوحاً ينطوي الأمر على دعوة للولوج إلى ما ورائه، وفتح الباب دلالة على أن لا شيء خطر يجري خلفه، أو انه ليس هناك ما يستحق أن يخفى. أما الباب المغلق فيوحي بالقطيعة بين الداخل والخارج، ويخلق لديك الإحساس بأن شيئا غامضا ما وراءه. هل حدث لأحدكم أن جاور بيتاً مهجوراً، أبوابه مغلقة على الدوام، وهل لاحظ أن ثمة شعورا بالوحشة والرهبة يبعثه في نفسه منظر الأبواب المغلقة التي لا تفتح؟ على ان أكثر حالات الباب إثارة للفضول هو حال الباب الموارب، فهو ليس مفتوحا يمكن الولوج عبره بسهولة، وليس مغلقا ليحثك على فتحه أو اقتحامه إذا اقتضى الأمر. إن كونه نصف مفتوح أو ربع مفتوح بشكل لا يسمح لك بالدخول ولا برؤية ما وراءه، يبعث على الحيرة، ويجعلك في حال ترقب خروج أحد من خلفه في أية لحظة. للبشر، كما الأبواب، حالات. الإنسان الواضح يمكنك التعاطي معه بيسر وسهولة، والإنسان المغلق، إن عجزت عن اقتحام عالمه، ولّيت عنه الأدبار. لكن أصعب أنواع البشر هم الناس المواربون. إن عالمهم ينطوي على شيء من الخديعة، لا تعرف أهم يدعونك للإقبال أم للإدبار. إنه الغموض في أبغض تجلياته، لا يقبلونك ولا يرفضونك، لا يحبونك ولا يكرهونك، وتحار كيف السبيل للتعامل معهم، فهو أشبه بالمشي على خط السيرك الرفيع الذي يهددك بالوقوع عنه في كل لحظة.
صحيفة الايام
23 فبراير 2008
للأبواب حالات، وللبشر أيضاً!
الغلاء مرة أخرى
في مقالة سابقة قلنا: ان الحكومة عندما اقرت الـ “٠٤” مليون دينار لمعالجة ارتفاع الاسعار اتخذت موقفا ايجابيا من الغلاء الذي يعتبر من العوامل الاساسية التي ساعدت على تدهور الاوضاع المعيشية وقلنا ايضا ان النواب حينما ضغطوا نحو الاسراع في صرف علاوة الغلاء مارسوا دورهم الذي كان ينتظره المواطن على احر من الجمر ومع ذلك كنا نتوقع ان لا ينتهي هذا الدور ويكتفي بما خصصته الحكومة لعلاج تداعيات الغلاء هذا العام بل يمضي في وضع خطة وطنية من اولوياتها ردم الهوة المتسعة ما بين الدخول وتكاليف الحياة المعيشية، وربط الاجور بالاسعار والحد من تدني القدرة الشرائية للمواطنين، واصدار التشريعات التي تؤكد على التنافس وعدم الاحتكار وحماية المستهلك، وياليتهم فعلوا ذلك ولكن على ما يبدو ان هناك ملفات أهم من ذلك.. ملفات قد خصصوا لها جلسات لمناقشتها أي تفرغوا بالكامل لمكافحة التدخين وللتمثيل في “نصايف” الليل ليؤدوا دور بوليس الآداب بل وتحولوا الى مفتشي سياحة في أزياء تنكرية!! في حين ان الارتفاع اليومي المستمر للاسعار وغيره من الازمات الاخرى قد تم تأجيلها حتى الانتهاء من حملة مكافحة التدخين ومن الحفلة التنكرية!!
بعد اقرار علاوة الغلاء لا نجد من النواب من يتحدث عن مشروع يتبنى سياسة اقتصادية – اجتماعية ترفع المستوى المعيشي للناس وتحقق عدلا أكبر على مستوى لدخول ذوي الدخل المحدود!! ولا نجد ايضا من يطرح البدائل التي من شأنها ان تساعد على تخفيف حدة الاسعار وكأنهم وفي هذا الحال اكتفوا بالاربعين مليون كأفضل الحلول!! وتعتقد انه ومن بين هذه البدائل التي يجب التفكير فيها الجمعيات التعاونية الاستهلاكية التي تعد الكويت من أنجح التجارب الخليجية على صعيد العمل التعاوني التي يجب الاستفادة منها. قد يتفق الكثيرون من نوابنا ان تجربتنا مع هذه الجمعيات لم تكن ناجحة استثناء جمعية واحدة أرباحها السنوية لا بأس بها ولكن يا سادة هل يعني ذلك ان العمل التعاوني عملا فاشلا لا جدوى منه وخاصة اذا ما تجاوزنا اخطاء وسلبيات جمعياتنا السابقة؟!
هناك معوقات كثيرة اعترضت هذا النشاط الاقتصادي الاجتماعي التعاوني الاستهلاكي والسؤال كيف ينجح؟ ما لم يوفر له الدعم والتشجيع والحماية من الحكومة بدءا بتوفير الارض المناسبة والمبنى المناسب في المحافظات الخمس وانتهاء بالغاء الرسوم المفروضة عليه واذا كان ضعف الكادر المتخصص وتدني مستوى الوعي التعاوني الاستهلاكي يشكل عائقا فان وزارة العمل هي الاخرى تزيد من المعوقات الاساسية وخاصة ان دورها في ذلك الوقت كجهة مسؤولة عن العمل التعاوني قد اقتصر فقط على الاشراف السنوي على المؤتمرات دون ان تعطي أهمية للتدقيق المالي واعداد الكادر عبر دورات متخصصة!! وأهم هذه المعوقات والعراقيل غياب الاتحاد التعاوني ما أثر سلبا على الشراء الجماعي للسلع الذي على أساسه يتم البيع بأسعار أقل عن السوق.
على أية حال تجربة الكويت تجربة ناجحة وبصرف النظر عن الظروف التي أدت الى تراجع تجربتنا فانه اذا ما أحسنا ادارتها ورعايتها ستساهم في مواجهة الاسعار وفي استيعاب عدد من العاملية عن العمل.على العموم هذا المثال ليس الا أحد الامثلة ولكن الاهم من ذلك هو: متى تتجه الجهود البرلمانية لوضع خطة وطنية للأسعار؟؟ ومتى يكف نوابنا عن الانشغال بالامور الجانبية ويتفرغوا للمشاكل الحياتية التي يعاني منها المواطن الذي لا حول له ولا قوة.
صحيفة الايام
23 فبراير 2008
تداعيات قضية النقابيين المفصولين.. إلى أين؟
لقد باتت عملية الفصل التعسفي لثلاثة عشر نقابيا، من قبل مؤسسات وشركات القطاع الخاص، تقض مضاجع المفصولين بترسيخ آلامهم واستلاب حقوقهم، بقدر ما أثار هذا المسلسل من الفصل التعسفي الجائر استياء افراد المجتمع البحريني، وامتعاض مؤسسات المجتمع المدني، وفي مقدمتها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين الذي يحاول بتضافر جهوده وحيثية مجهوداته، ان يجد الحلول الناجعة لقضية هؤلاء المفصولين، من ضمنها مطالبته بوضع “قضية المفصولين النقابيين في التقرير الحقوقي” “تقرير حقوق الانسان” الذي ستضعه وزارة الخارجية البحرينية.. ناهيك عن المطالبات المستمرة والاعتصامات التي يقوم بها المفصولون، بدعم ومؤازرة الجمعيات السياسية والنقابية والاهلية، ومن خلال الندوات واللقاءات.. وآخرها اعلان الاتحاد النسائي والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، تشكيل لجنة عمل مشتركة، تهدف بجوهرها إلى دعم المفصولين النقابيين بطرح قضيتهم امام منظمات دولية وفي مقدمتها “منظمة العمل الدولي”. ويبقى القول صحيحا بهذا الصدد: إنه لا يمكن ان نتحدث عن وجود الحرية السياسية بينما العدالة الاجتماعية تظل غائبة.. كما لا يجوز القول ان يمارس الفرد في صميم المجتمع مفاهيم وتداعيات الاصلاحات العامة في الوقت الذي يشد فيه المواطنون الاحزمة على البطون سواء بفعل بطالتهم وعطالتهم او خلال معاناتهم الفصل التعسفي في كثير من الاحيان.. كما انه لا يعقل فصل اضداد المقولة الشهيرة او تشويه مغازيها ودلالاتها القائلة: “ليس بالخبز وحده يحيا الانسان ولا حرية لجائع أو محتاج”. وهكذا نجد العقليات الادارية لدى بعض مؤسسات وشركات القطاع الخاص، قد ظلت في جمود بمزيد من مظاهر البيروقراطية والاستبدادية، من دون أن تتفاعل مع حقائق المرحلة التاريخية للمجتمع من تداعيات وفعاليات مؤسسات المجتمع المدني وعلى رأسها البرلمان، ومن دون ان تواكب الحراك السياسي والحراك الاجتماعي والحراك الاقتصادي.. ومن ثم فصل هؤلاء من اصحاب الاعمال والاداريين الواجبات عن الحقوق.. ومبدأ العقاب عن مبدأ الثواب، بقدر ما سعى هؤلاء الى فرض علاقة انتاجية غير متكافئة ما بين الطرفين (اصحاب العمل والمستخدمين) اتسمت بالاستغلال الطبقي الفاحش ومصادرة حقوق العاملين والنقابيين.. وذلك من خلال وضع انظمة ولوائح وقوانين ادارية، قائمة على اساليب استبدادية وأوتوقراطية، وأهواء ذاتية بعيدة عن المشاركة الجماعية في ظل سوء الادارة وطغيان الفردية، واستشراء الفساد والمحسوبية. وفي ضوء ذلك تأتي نتائجها وخيمة على العاملين لدى هذه المؤسسة او تلك، وتتوج عادة بمسلسل الفصل التعسفي للعمالة البحرينية، وعلى رأسها فصل الثلاثة عشر نقابيا.. من هذا المنطلق وفي ضوء معاناة العاملين (الطرف الضعيف) عبر العلاقة الانتاجية غير المتكافئة فانه يحق لمؤسسات المجتمع المدني والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين مطالبة السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، بالذود عن ظروف العمال البحرينيين وأوضاع النقابيين، بممارسة حقوقهم المشروعة، وانشطتهم النقابية والعمالية، واعتصاماتهم ومطالبهم المنشودة في التمتع بروافد العيش الكريم الخالية من الضيم والحيف والمضايقات والفصل التعسفي، بقدر ما يحق للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين اعلانه وتصريحاته حول اللجوء إلى رفع قضية المفصولين (الثلاثة عشر نقابيا) الى المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة العمل الدولية، في حالة عجز الحكومة وعجز البرلمان عن تقديم الحلول المنشودة بعودة هؤلاء النقابيين المفصولين الى اعمالهم، الذين القي بهم على قارعة الطريق من دون مكانة لمواطنتهم ولا اعتبار لحقوقهم وكرامتهم. غني عن البيان انه حينما اسلفنا القول: إنه يحق للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين رفع شكوى لدى منظمة العمل الدولية ضد شركات القطاع الخاص المعنية بفصل العمالة البحرينية والثلاثة عشر نقابيا، فان ثمة اسبابا مشروعة قد اقتضت بموجبها رفع تلك الشكوى.. اهمها عملية تهميش النقابات العمالية في القطاع الخاص، واقصائها عن المشاركة الفعلية والحقيقية في اتخاذ القرارات العمالية النقابية والوظيفية.. اضف الى ذلك تضييق الخناق حول اعناق النقابيين بسياسة التشريد والتهميش، وأيضا عملية التراجعات في مجال العدالة الاجتماعية والقضايا النقابية.. ناهيك عن استغلال القطاع الخاص للمادة رقم (110) من قانون العمل، وتوظيفها لصالح الشركة وصاحب العمل، التي تعطي – اي المادة رقم 110 – الخيار لادارة المؤسسة بالرفض او الموافقة على عودة المفصول من عمله. ولعل من الاهمية بمكان القول: ان عمليات الفصل التعسفي للعمالة البحرينية ورؤساء نقاباتها العمالية، من قبل مؤسسات القطاع الخاص، جاءت انعكاسا لتجاهل ومعارضة “ديوان الخدمة المدنية” تشكيل النقابات الحكومية، بقدر عجز النواب تحت قبة البرلمان عن ابراز قانون العمل الجديد الى حيز الوجود. من هنا فإن واقع العمالة الوطنية والناشطين النقابيين يطرح سؤالا بالغ الاهمية هو الى متى ستظل حقوقهم العمالية والوظيفية والنقابية منقوصة ومصادرة ومهضومة؟ بقدر ما يتساءل الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين: الى متى سيظل قانون العمل الجديد رازحا بين ادراج البرلمان؟
صحيفة أخبار الخليج
22 فبراير 2008
علاقتنا بالهنود
بغض النظر عن التحفظ الذي أثاره العديد على تصريحات وتحركات السفير الهندي، يبقى العامل الهندي أقرب لمجتمعنا البحريني من غيره، فقد تولدت علاقة حميمة بين أرباب العمل والعمال الهنود، رغم أنهم مظلومين في سكنهم ورواتبهم، فلهم الفضل في مشاريع التنمية التي قامت على سواعدهم السمراء. فتحمل الهندي مالم يتحمله أي عامل من جنسية أخرى عناء العمل وتعامل “الأرباب”، وللإشارة فإن الأرباب بالعربية جمع لرب العمل، وبالهندي أيضاً تعني رب العمل، وهذا دليل على اللغة المشتركة والقريبة بيننا، بمعنى اننا نستطيع ان نوجد لغة مشتركة لتوصيل أية معلومة للعامل، كلمة بالعربية وأخرى بالاردو والهندي تنتج جملة مفيدة يفهما الطرفان، ولكن كيف سيكون الحال مع الفيتناميين أو الجنسيات الأخرى. لن يكون استبدال هذه العمالة بغيرها حلاً يرضي الأطراف التي لها علاقة “بالهنود”، بما فيها المواطنون الذين يعيشون في الأحياء السكنية التي يشاطرهم فيها العمال فأصبحوا جيراناً، فهم في المجمل وإن كانوا عزابا مسالمين، والكثيرون يعرفون ذلك ولهم تجارب، فالعمال قد حلوا في مناطقنا وقرانا بعد ان ارتحل عنها أهلها الأصليون واضطروا لتأجير بيوت آبائهم القديمة. لا نخاف كثيراً من مرور هؤلاء العمال في الأزقة رغم أننا نأمل ان لا يكون العزاب وسط الأحياء، ولكن في الغالب كبارهم يخافون من أطفالنا، والحال مع الجنسيات الأخرى مجهول.. كيف سيتعاملون معنا وكيف سيتعايشون في قرانا ويسيرون في مدننا وأزقتنا هل سيتحملون لعب أطفالنا بكرة وعشياً، أم ستكون “المطوة” هي المجيب لمن يختلف معهم بما في ذلك اختلاف مسؤوليهم في العمل؟ نحتاج قبل ان نفكر في الاستبدال الى تشديد أمننا تحسباً لطبائع وشمائل لم تكن في الحسبان.
صحيفة الأيام
موعد مع العبث..!
هناك أحداث وقضايا لا يستطيع المرء أن يمر عليها مرور الكرام لأنها مملوءة بالدلالات الكبيرة، وتثير كمًّا من التساؤلات وعلامات الاستفهام واحدة تلو الأخرى، وكلها تصب فيما يمكن أن يكون موضوعاً عنوانه “عافية المجتمع” ولعل نموذجاً لذلك، اللغط الجاري الآن حول فساد مالي واداري ومخالفات ادارية صارخة منسوبة إلى بعض العاملين في وزارة شؤون البلديات، من الأسماء الرنانة ممن يتبوأون مواقع قيادية رفيعة.
بعض ما نشر حول هذا الموضوع مهم وخطير، لا لأنه يوجه أصابع الاتهام إلى مسؤولين كبار بعينهم في الوزارة متهمين بالتربح من وظائفهم ويمارسون تجاوزات وانحرافات ادارية صارخة تدخل في اطار استغلال المنصب وتعارض المصالح بدءاً بتأسيس شركات بأسماء زوجاتهم، وفرضوا على الوزارة التعامل مع هذه الشركات منذ عام ٤٩٩١ حتى اليوم، ولا لأن شقيق زوجة مسؤول كبير بالوزارة معروف بأنه مرتشٍ وطالب عمولات، ولا عن أسباب تغييب المحاسبة والرقابة، ولا أي شيء من هذا القبيل مما نشر وقيل عن هذا الذي جرى ويجري في وزارة البلديات، فتغلغُل قيم الفساد وممارساته وسلوكياته ليس حصراً على هذه الوزارة، وواقعنا لم يخل لحظة من الفساد والمفسدين والمرتشين في مؤسسات رسمية عديدة، وكلنا يعلم ويستشعر اتساع دائرة الفساد وتشابك حلقاته وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها مثيل للأسف.
ولكن الأخطر من ذلك حينما يحتمي الفساد ويتحصن الفاسدون بمن يفترض أنهم أكثر الناس ابتعاداً عن أي شبهة، والأكثر التزاماً بالقانون، والأكثر دفاعاً عن حرمة المال العام، والأكثر ارتباطاً بالرقابة عليه وحمايته، والأكثر حرصاً على المصلحة العامة ورعاية مصالح الناس، من نواب أو كتل نيابية، أو جمعيات، أو أشخاص في مواقع رفيعة من المسؤولية والسلطة، قدموا السند واسبغوا الحماية على الفاسدين، معتبرين إياهم مواطنين صالحين..!! هذا إن لم يقيموا لهم حفلات تكريم أو ما شابه، دونما أدنى اهتمام بواجب أو بتصدٍ لفساد وانحراف.
والأخطر من ذلك أيضاً حينما يصوب بعض النواب، أو كتلهم النيابية السهام إلى مسؤولين دون آخرين أو يسلطون الضوء على انحرافات بذاتها، وغض الطرف عن انحرافات أخرى مماثلة أو أشد جسامة، – والصورة على كاريكاتوريتها – مؤلمة جداً يزيدها إيلاماً ليس فقط إعلاء منطق الزمرة والشللية وتسييد التفضيلات والمزاجات والانتقاءات المعيبة والرديئة التي غيبت، بل اغتالت معايير الكفاءة والنزاهة في كثير من مواقع العمل والمسؤولية، وأبقت بعضاً من القيادات المسؤولة رغم فشلها في مواقعها بثبات مدهش وبات معروفاً عنها أنها محصنة ضد المساءلة، ناهيك عن التغيير، وإنما هذا الذي يزيد الصورة إيلاماً – هو أن كثيراً من النواب دأبوا علـى “طأفنة” كل طرح، وكل موقف، وكل مشكلة، ومشوا في طريق “تلغيم” أي عمل لا تصب جدواه في “طبخاتهم” ما دام مطروحاً من الآخر، وحتى الاستجوابات النيابية اصطبغت بنفس طائفي مقيت، وهذه حقيقة مؤسفة من المصلحة أن نعترف بها، وأن لا نقع في فخ التهوين منها.
والمرجو الآن ألا يفسر هذا الكلام بأننا في موقف الدفاع عن أي من الأطراف ذات العلاقة بفساد “البلديات” أو أننا في وارد تأييد أو رفض الكلام الذي نشر رغم خطورته، طالما أنه قد تم تشكيل لجان تحقيق فالمرجو الا تكون هذه اللجان ككثير من لجان التحقيق التي شكلت في العديد من الوزارات والمؤسسات والهيئات لتقصي حقائق أو انحرافات معينة، ولكن دونما نتيجة، أو قرار وكأننا على موعد دائم مع العبث.
واذا كنا نستغرب ما نشر قبل أيام منسوباً الى “مصادر مطلعة” من هذه اللجان بأنها ستحقق مع الموظفين بدءاً بالدرجات الوظيفية الأدنى كالسائقين، فذلك إن صح بداية غير مقنعة، بقي أن نقول إن النموذج الذي تقدمه هذه الحالة أنها تفتح أكثر من ملف، يتصل إجمالاً بالأداء النيابي، وكل ملف هو أهم من الآخر، ولا أظن أن من الحكمة أن نستمر في مقابلة هذه الملفات بالصمت، أو التجاهل، أو التهوين، منها ومن الألغاز المحجوبة مفاتيحها عنا. من ضمن هذه الملفات جنوح بعض النواب وكتلهم النيابية نحو ترسيخ “طأفنة” العمل النيابي من خلال الخلل الواضح في تصرفات ومواقف وأقوال وتصريحات وأفعال هؤلاء النواب، ودونما الدخول في التفاصيل – الآن على الأقل – فإننا نرى أن هذا أمر لا يخفى على من يتمتعون بموهبة التقاط الإشارات، بخاصة الإشارات الحمراء ويحسنون رصد اتجاهات الريح. هذا هو الملف الأول.
أما الملف الثاني فهو إصرار بعض النواب على إقحام أنفسهم ودس أنوفهم في كل شاردة وواردة ويفتون في كل شأن في حياتنا، وهو أمر يحيرنا حقاً، خاصة عندما يصر هؤلاء النواب على أن يبرزوا وكأنهم نواب مناطق، أو طائفة لا نواب شعب، يفتعلون معارك، ويتبنون مواقف وأفكار غير رصينة تتسم بالتأويل والتأويل المضاد ومعان مستترة، وخلط واضح للأوراق والملفات وكأنهم يريدون أن يُشكل الواقع السياسي على أساس ذلك..!
أما الملف الثالث فهو مليء بحكايات كثيرة ولغط لا حصر له حول نفر من النواب، وكتل نيابية فرضت، وتستمر في محاولات فرضها بعض الوجوه المحسوبة عليها أو المنتمية إليها أو المؤيدة لها أو المسنودة منها في مواقع قيادية مسؤولة، على أسس تغيب وتغتال فيها المعايير، وتبرز فيها الاعتبارات المذهبية والطائفية والمحسوبية التي أصبحت الأكثر وضوحاً للفرز والانتقاء والاختيار، مؤكدين أنه ليس هناك نواب بعينهم، أو كتل بعينها هي وحدها فقط المعنية أو المتهمة بهذا الفرض، وإنما ما يجري وما نلمسه بأن السمة هي الأكثر تجلياً في سلوك كثير من النواب من خلفيات وبواعث من الواجب والمصلحة أن ينأى كل النواب دون استثناء عن طرحها وإثارتها بشكل يثير السخط والاستياء والإحباط،
لأن هؤلاء النواب بذلك ينتجون الفرقة، ويكرسون الانقسام عن علم أو غير علم، عن قصد أو غير قصد، ولن نتصور نجاحاً ولا إنجازاً لنوابنا على صعيد تطوير الأداء النيابي، أو على صعيد محاربة الفساد، وحتى فيما يخص التعاطي بكل جرأة مع تقارير ديوان الرقابة المالية، وغير ذلك من المواضيع والقضايا، طالما بقيت تلك الملفات التي تتكامل وتتشابك فيما بينها ومع غيرها من الملفات، عالقة، واذا استمر حال نوابنا على ما هو عليه، استمرت شؤوننا وأوضاعنا تدار بالطريقة والعقلية الراهنة.
صحيفة الأيام
22 فبراير 2008
فيدل كاسترو: القائل لا
للمسرحي الألماني الشهير بروتولد بريخت مسرحية شهيرة بعنوان: “القائل لا.. القائل نعم”، ولأشد ما ينطبق الجزء الأول من عنوان المسرحية على الزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي حوله اختلف وسيختلف المختلفون، والذي رغم كل ما عصف بالعالم من تحولات لم يشأ أن يتزحزح عن كلمة: “لا” بوجه القوة الدولية الأعظم في العالم. حتى الكوبيون أنفسهم انقسموا في الموقف منه، ففي ميامي التي بالكاد تقع على بعد أميال قليلة خلف البحر، الذي يفصل بين الولايات المتحدة وكوبا تعيش جالية كوبية، أو من أصل كوبي، اختارت من هناك أن تناوئ نظام فيدل كاسترو، بدعم لا تخطئه العين من الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة ومن الاستخبارات الأمريكية التي وضعت نصب عينيها هدف إسقاط نظامه. لكن ليس بوسع أحد أن يجادل أن الرجل هو من أهم شخصيات القرن العشرين، والذي صمم على أن يلج بكوبا القرن الحادي والعشرين، وهي لما تزل تدار من قبل نظام اشتراكي، بعدما انهارت الاشتراكية في أوروبا، ورسمت لنفسها في الصين مساراً مختلفاً، مطعماً بعناصر اقتصاد السوق. حتى أشد خصومه كراهية له لا يستطيعون إغفال أنه رجل آمن بمبدأ لم يحد عنه رغم الصعوبات، ورغم الحصار الاقتصادي الذي أرهق كوبا وشعبها، وازدادت وطأته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الحليفة له في المحيط الأوروبي الشرقي. وفي الوقت الذي سعى السعاةُ على بقاع الأرض المختلفة للتفاهم مع الولايات المتحدة التي هيمنت على العالم منفردة، فإن كاسترو ظل مناوئاً لها بذات العناد الذي كان عليه. ليست مصادفة، والحال كذلك، أن الاستخبارات الأمريكية اعترفت بتدبير أكثر من ستمائة محاولة لاغتياله، وعلينا تصور كيف أن القدر كان حليفه، طالما استطاع أن ينجو من كل تلك المحاولات. سيدخل كاسترو التاريخ أيضاً بوصفه رمزاً من رموز التحدي في أوج الحرب الباردة، حين اتفق مع الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروتشوف على نصب صواريخ برؤوس نووية على الأراضي الكوبية، كادت أن تدفع يومها إلى مواجهة ذرية. الرجل الذي شغل العالم نصف قرن من الزمن إلا قليلاً، غادر المسرح السياسي حين أعلن لشعبه تنحيه عن السلطة. وبمنطق العمر فإن المسافة الفاصلة بين تنحيه عن السلطة وبين رحيله عن الدنيا لن تكون طويلة. لكن طيفه سيظل حاضرا في الجزيرة التي تآلفت مع وجوده كل هذا الزمن، ليس فقط لأن خليفته ليس إلا شقيقه راؤول الذي لم يكن مجرد ظلٍ له، وإنما أيضا كان له دور، رغم انه أصغر منه سنا، في الأخذ بفيدل نحو الأفكار الماركسية، وإنما أيضا لأن آثار رجال بوزنه لا يمكن أن تزول بالسرعة التي يتوقعها خصومه الكُثر في الخارج، الذين أعياهم الانتظار وهم يتطلعون إلى أن يروا كوبا وقد غاب عنها الرجل الذي أرّقهم طويلا.
صحيفة الأيام
21 فبراير 2008
كلنا مختلفون.. جميعنا متساوون!!
العنوان أعلاه، ربما يصلح أن يكون شعاراً فكرياً، لكل المراحل بشكل عام، ولهذه المرحلة من تاريخنا المعاصر بشكل خاص، وذلك عندما يأتي الحديث عن الوحدة الوطنية، أو موضوع المواطنة واستحقاقاتها، أو الدساتير و’’مقاساتها’’ في كثير من البلدان العربية ذات الاتجاهات والنظم المختلقة، أو الكلام عن انتشار الوعي الديمقراطي المتسامح القائم على التعددية الفكرية ومعوقاته، أو ما يصطدم به من تراكمات: ‘’قيّم اجتماعية، ثقافية، سياسية ودينية ـ مذهبية موروثة’’، أو ربما ضغوط أو تدخلات خارجية، وما إلى ذلك من ‘’طأفنة’’ تغيّب أوطاناً، أو تكاد، بينما نرى بأم العين ابتزاز نظم حاكمة، ومنظمات ‘’الدين السياسي’’، ترقص طرباً لأشياء من هذا النوع، وثقافات وخطابات من هذا النوع الذي يضرب الأوطان في مقتل.
يقول الباحث وأستاذ التاريخ، المصري يونان لبيب: ‘’الوطن هو نقيض الطائفية، فعندما يسود النظام الطائفي يغيب الوطن، وعندما يفرض هذا الوطن نفسه تتوارى الطائفية’’ [1]. بينما يرى المفكر اليساري عبد الغفار شكر( في حواره المنشور هنا في صفحات ( ‘’بانوراما’’.. لكل الأطياف)، إن ‘’مصير المواطنة معلق بـ’’التطور الديمقراطي المجهض’’، وإن ‘’الإسهام يتجلى في منح المواطنة بعداً اجتماعياً’’، ولا يمكن ‘’حل المشكلة الطائفية في غياب تحول شامل’’.
‘’بانوراما.. لكل الأطياف’’ ملحق أسبوعي يتعرض لملفات ساخنة، لمسائل فكرية سياسية مثار جدل حول مفاهيم كثيرة تدور في حلقات مكررة نحاول كسرها حتى لا يعم الخراب والدمار والغبن في أوطاننا.. نحاول كسر ‘’التابو’’ بنشر آراء وأفكار جريئة لخيرة المثقفين التنويريين ودراسة مقارنة، تؤمن بالاختلاف، والصراع الفكري الحضاري، والتواصل المعرفي، كما تؤمن بالمساواة السياسية والحقوقية بين البشر.
كما ستشمل مواضيع ‘’بانوراما.. لكل الأطياف’’: ‘’التدخلات الإنسانية وما تخفيه من عسكرة’’، وهل التدخل ‘’الإنساني ـ الإغاثي ـ العسكري في قضايا حقوق الإنسان، النزاعات العرقية، الطائفية، الإبادة الجماعية، تغيير الأنظمة المستبدة، تنصيب حكام جدد، نشر الديمقراطية.. إلى آخره من محاسن ومساوئ’’، شكل من أشكال إحياء استعمار جديد، أم هو التزام بقواعد القوانين الدولية وهيئة الأمم المتحدة وعلى رأسها مجلس الأمن، وماذا يقول أصحاب الرأي في ذلك؟؟؟.
* [1] الطائفية إلى أين؟ تأليف مجموعة من الباحثين المصريين، ص65
الوقت 21 فبراير 2008
اختبروا القداسة أيضاً!!
لا شك أن لرجال الدين والفقهاء منهم أثرة في نفوس الكثير من المسلمين، وهم في موقع التقدير والاحترام في أوساطهم الإسلامية بتباين مشاربها ومذاهبها، متى ما سخروا الدين من أجل إصلاح المجتمع وتنويره والاجتهاد في البحث عن الجديد الذي يواكب العصر وينشد التطور والتقدم، مثل هؤلاء الرجال نحتاجهم لأنهم لم يضعوا أنفسهم في موضع التقديس ولم ينصبوا أنفسهم أوصياء على الدين والمسلمين ولم يوصدوا أبواب الاجتهاد والحوار ولم يقصوا الآخر بغرض ترجيح وتسييد ثقافة الصوت الواحد، صوتهم بالتحديد، ولم يعلنوا أمام الملأ بأن من يختلف معهم كافر وباطل وقبض ريح ولم يشحذوا سكاكين الحقد والكراهية في وجه من يختلف معهم ولم يرهبوا ويرعبوا من حاد عن دربهم لأنه استألف منهج أو عقيدة مغايرة لمسلكهم.
عندما نذكر هؤلاء الرجال تقفز إلى الذاكرة أسماء أسهمت في صنع الحضارة الإسلامية، من أمثال محمد عبده، وخيري الدين بشاره، ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وغيرهم في تلك الفترة أو ما بعدها، هؤلاء خاضوا معارك طويلة وشائكة من أجل التطور والتقدم والنهضة، من أجل الإنسان لا من أجل طائفة أو عرق أو ملة او نحلة، خاضوا هذه المعارك من فوق المنابر وفي قلب الحشود ولم يستغلوا يوما أسمائهم أو علمهم أو فقههم من أجل مصالح محدودة وضيقة، ولم يسعوا جاهدين من أجل إجبار الناس على تقديسهم وتبجيلهم، ورفضوا أشد الرفض في أن يكون هؤلاء الناس قطيعا أو ببغاوات أو رهن إشارة صوتهم الواحد الذي لا ثاني بعده أو مكرر.
مثل هؤلاء لا شك أن كثير من أهل الفكر التنويري يعتبرونهم فاتحة الطريق ومشعل التحول الحضاري في المجتمعات الإسلامية، ومفتاح الإيمان بالحرية والديمقراطية فيها، وكان تأثيرهم على من اختلف معهم إيجاباً فيما بعد تأثيراً قوياً ومشرفاً، ومؤكداً على أن تعاطي ثقافة هؤلاء الرجال التنويريين النهضويين لم ينطلق من التقديس أو الوصاية.. وكم هو جميل قول بوذا لأتباعه: ‘أخضعوا ما أقوله للاختبار، فإن صح فاعملوا به وإلا فلا’.
إذن الاختبار هو مختبر الوعي والفكر، مختبر الحوار والاختلاف الخلاق، مختبر لا يخلد من بوذا سوى أثر الفكر والبناء عليه، لا التعصب والتشدد فيه، مختبر سار على نهجه رواد النهضة من مختلف البلدان والحضارات والأديان والأعراق، لأنه وإن لم يصدر عن بوذا فإنه يصدر عن عقل حصيف ورؤية ثاقبة تذهب نحو الإعلاء من شأن الإنسان، وهذه المنطلقات الإنسانية الحضارية هي ما يفتقدها كثير من رجال الدين لدينا الذين بالغوا إلى حد الغلو في احتكار الفكر والمعرفة وفي تنصيب أنفسهم أوصياء على الدين والمسلمين وفي وضع ذواتهم في موضع القداسة وأن ما يصدر عنهم ينبغي أن يتبعه الكل من طائفتهم أو من طوائف مختلفة لأنه يصدر عن كلمة فصل وحجة وآية وأن من يشكك في هذه القداسة كافر أو عاصي أو مقرر بالناس، بل بات حتى الإختلاف المهذب مع أهل التقديس غير مقبول ومرفوض أمره جملة وتفصيلاً، والخشية كل الخشية أن يعلن مختلف في الرأي مع أهل القداسة ضرورة إزالة صفة القداسة عن هؤلاء وأمثالهم، ذلك أن مثل هذا الإعلان قد يؤدي إلى تقاذف تهم طائفية تؤول بالناس طوائف وأبرياء من كل طائفة إلى وضع لا يحمد عقباه، ولعلنا نلمس بذور ونذر (ما لايحمد) في تشدد بعض مريدي القداسة في صحافتنا المحلية وفي الندوات وفي خطابات وبيانات بعض الجماعات والجمعيات الدينية، وإنذاراتهم وتحذيراتهم لبعض من يختلف مع قداستهم باتت مكشوفة ومفضوحة، وكما لو أن هؤلاء المريدين يصرون على تطييف الشارع البحريني حتى لو صدرت الدعوة إلى هذا التطييف من رجل دين يتنفس من خلال خلايا أغلبها معطوب بحكم عوامل كثيرة، أو يصدر عن حجة فقدت مصداقيتها منذ زمن.
المشكلة الكبرى أن هؤلاء القداسيين يجدون من يتبعهم، والمشكلة الأكبر تكمن في هؤلاء التابعين لهم الذين يصرون على تقديس هؤلاء وإن لم يريدوا ويصرون على إيجاد مقدس وإن لم يجدوه، وكلما زاد الاعتقاد بمثل هؤلاء زاد عمى البصيرة وزاد (بفضله) التعصب والتشدد وازداد الشقاق واقترب موعد (الفرقة).. مثل هؤلاء يمضون عكس اتجاه الإصلاح المتجسدة أهدافه في بناء الإنسان الحديث والمعاصر، والسعي وراء تكوين مجتمع متعايش بطائفتيه الكريمتين وبمختلف المعتقدات والأديان.
مثل هؤلاء ينبغي أن يدركوا بأن لهم دوراً آخر غير الذي يضطلعون به الآن، دور الإصلاح والحوار الخلاق، دور استثمار المنابر للتقريب بين الناس بمختلف أديانهم وطوائفهم وأطيافهم، لا تحريضهم ضد هذا التقريب ومفاهيمه الإنسانية النبيلة، دور يقف ضد القداسة والوصاية و(القطعنة) من أجل توسيع مدارك وآفاق عقل المجتمع الإصلاحي الذي ننشده، دور يرفع عقيرته في وجه من يرفع شعارات الطائفية وصور ممثليها الذين استثمروا الشباب وقودا لحرائقهم الطائفية، دور يبين بأن الشهيد شهيد الوطن لا شهيد الطائفة، وأن المنجز منجز أبناء الوطن لا منجز الطائفة، وأن الدين للمسلمين جمعاء لا للطائفة، وأن القداسة لله لا لرجال الطائفة وفقهائها. انزلوا قليلاً أيها (المقدسون) في الأرض، فالسماء لا تحتفي ولا تستضيء إلا بمن كان من سلالة الحب والسلام والإنسان قبل الطائفة و(القدسي) من البشر!!.
صحيفة الوطن
20 فبراير 2008
العمالة الوافدة.. والهوية الوطنية
بات من المسلم به ان ثمة ارتباطا طرديا بين تزايد العمالة الوافدة الآسيوية وبين تصاعد المخاطر التي تهدد الهوية الوطنية والثقافية لبلدان الخليج العربية، فلم تعد زيادة استقدام هذه العمالة الوافدة، بمعدلات كبيرة غير مسبوقة منذ نحو عقد تهدد فرص العمالة الوطنية فحسب او تهدد بارتفاع نسب البطالة ببلدان مجلس التعاون فقط، بل باتت تتشابك هذه الآثار السلبية الخطيرة مع مخاطر مسخ وتغيير ثوابت الهوية الوطنية في اللغة والثقافة والعادات والدين. وبعد عقود طويلة من اهمال هذه القضية او التهوين من مخاطر وتداعياتها على الهوية الثقافية أضحت هذه المسألة منذ سنوات قليلة خلت تشغل هاجساً وقلقاً لدى اغلب دول مجلس التعاون. واخذت هذه الدول تستشعر على نحو متزايد بالخطر الداهم الذي يشكله تزايد موجات استقدام العمالة الوافدة الاجنبية على التركيبة الديموغرافية لهذه الدول وعلى هويتها الثقافية الوطنية. ولعل البحرين والسعودية والإمارات في مقدمة بلدان مجلس التعاون التي أخذت تعرب علنياً وبشجاعة عن خشيتها وقلقها المتزايد من مخاطر تزايد العمالة الاجنبية بقفزات رهيبة تنذر بتهديد ثوابت وركائز الهوية الوطنية بكل أبعادها اللغوية والثقافية والدينية والقيمية والقومية، كما تنذر أيضا بتحول شعوب هذه البلدان الى اقليات داخل بلدانها في محيط حجم العمالة الاجنبية الكاسح. وفي هذا الصدد، وبالنظر لما لهذه القضية من ترابط بإصلاح سوق العمل فإن هذه البلدان تبذل جهوداً للتخفيف من معدلات وموجات هذه الهجرة المتدفقة، وتعزيز فرص توطين الوظائف وزيادة فرص انخراط العمالة الوطنية الشابة المؤهلة الى سوق العمل. وتفنيد كل الحجج التي يتذرع بها كثير من ارباب العمل الخليجيين لتفضيل العمالة الاجنبية على العمالة الوطنية. ولعل سمو ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في طليعة من يولون هذه المسألة الوطنية الملحة اهتماماً كبيراً وذلك بحكم استلامه ملف الاصلاح الاقتصادي بوجه عام واصلاح سوق العمل بوجه خاص وكان ابرز واجرأ تصريح له لافت للنظر ما صرح به لقناة “العربية” في ديسمبر الماضي ان الرسوم الجديدة على العمالة الوافدة المستقدمة الى البحرين هي جزء مهم من اصلاحات سوق العمل ورفض الشكوى من ارتفاعها. وانتقد سموه فرض البحرنة بالقوة على بعض الشركات، وهي عادة ما تكون الشركات والمؤسسات الصغيرة في مقابل عدم فرضها على المؤسسات والشركات الكبيرة. واكد ان «فتح اقتصادنا على العمالة الرخيصة يعني اننا سنستورد مشكلات الآخرين«. والأهم من ذلك فإن ولي العهد البحريني لم يتوان عن التأكيد أن من اهداف إصلاح سوق العمل “انهاء ذريعة بعض رجال الاعمال التي تدعي ان البحريني لا يعمل” وهي ذريعة ما انفك الكثير من رجال الأعمال والمقاولين وارباب المؤسسات يرددونها بلا حياء على نحو تعميمي وبما يعني ضمنيا ان شعبنا بأكمله مطبوع على الكسل وعدم الكفاءة. بموازاة ذلك، وكما اعلن في الصحافة المحلية، فإن جلالة الملك يولي هذه القضية اهتمامه حيث وجه الجهات المعنية لتخصيص 15 مليون دينار لتوظيف العاطلين الجامعيين وذلك خلال مقابلته وزير العمل مجيد العلوي خلال الشهر الماضي. ولا شك أن تعزيز مثل هذه التدابير وسرعة تنفيذها ستصب في النهاية لصالح التقليل تدريجياً من الاعتماد على العمالة الوافدة وقطع شوط مهم من خطط اصلاحات سوق العمل بما في ذلك تصحيح اوضاع العمالة السائبة او غير القانونية. وفي هذا الصدد تشير تقديرات هيئة سوق العمل طبقاً لما هو منشور في الصحافة المحلية خلال الشهر الماضي انه تم الانتهاء من اجراءات تسفير 12600 عامل اجنبي رحل منهم 90% من اراضي المملكة في حين بلغ من صححوا اوضاعهم 5،61 ألف عامل فيما بلغ عدد الهاربين المبلغ عنهم 24 ألف عامل. وإلى جانب ذلك وفي اطار هذه الجهود المبذولة للحد من آثار العمالة الوافدة على التركيبة الديموغرافية لدول مجلس التعاون انشئت في اطار مجلس وزراء العمل الخليجيين، لجنة فنية مشتركة لدراسة آثار العمالة الوافدة على ديموغرافية دول مجلس التعاون وكان لكاتب هذه السطور شرف المشاركة في اجتماعاتها طوال السنوات الاربع الماضية. وقد لعبت مملكة البحرين دوراً مميزاً في اعمالها. وفي هذا الصدد فقد كان ابرز انجاز حققته هذه اللجنة الفنية التي كانت موضع اهتمام ومتابعة وزير العمل مجيد العلوي الموافقة على المقترح البحريني بألا تتجاوز مدة بقاء العامل الوافد عن الست السنوات مع استثناء المهن والتخصصات النادرة وبحيث لا يزيد بقاء العمالة الوافدة فيها على عشر سنوات، ويمكن القول بكل اطمئنان إنه تحت تأثير هذا المقترح البحريني والذي دعا إليه وناقشه مراراً وزير العمل البحريني في اجتماعات مجلس وزراء العمل الخليجي أصبحت دول الخليج اقرب الى القناعة للأخذ به كاقتراح عملي لا مفر منه هذا اذا ما ارادت دول الخليج حقاً ان تترجم إلى حيز الواقع هواجسها وقلقها من مخاطر تزايد العمالة الوافدة على تركيبتها السكانية وعلى هويتها الوطنية وعلى آفاق فرص فتح سوق العمل للعمالة الوطنية والتقليل من نسب البطالة. ولعل ما صرح به مؤخراً وزير العمل السعودي لصحيفة “الاقتصادية” عن تأييده لوضع سقف زمني لاقامة العمال الاجانب في دول الخليج، ووضع ضوابط لاستقدام هذه العمالة ولاسيما المعروفة بكثرة جرائمها وابدائه كذلك المخاوف من فرض واقع تجنيس العمال الاجانب الذين طالت اقاماتهم نقول إن هذا التصريح الذي ادلى به الوزير السعودي يؤكد التجاوب مع المقترح البحريني المشار إليه. وكان وزير العمل السعودي نفسه في محاضرة له بوزارة العمل السعودية قد أبدى جزعه من بلوغ العمالة الوافدة المستقدمة من الخارج خلال العام الماضي فقط الى ما يقرب من مليوني عامل، معرباً عن طموحه في ان يقللها الى 400 ألف عامل سنوياً. في حين اشارت تقديرات البحرين الإحصائية الاخيرة الى ان أكثر من نصف سكان البحرين هم من الاجانب. والحال فإنه اذا ما عملت دول الخليج حقاً على تنفيذ ما تم التوصل إليه في توصيات اللجنة الفنية لدراسة آثار العمالة الوافدة على التركيبة الديموغرافية لدول مجلس التعاون والتي شارفت مهمتها على الانتهاء، واذا ما قرر مجلس وزراء العمل الخليجي القادم تبني هذه التوصيات بتحديد السقف الزمني المقترح من قبل البحرين لبقاء العمالة الوافدة ومن ثم جرى تبني هذه المقترحات من قبل المجلس الأعلى (القمة الخليجية) فإن ذلك سيكون انجازاً مهماً وبداية فعلية مشجعة على طريق الحد من آثار هذه العمالة على التركيبة السكانية وعلى الهوية الوطنية والثقافية وعلى فرص التوظيف للمواطنين.
صحيفة اخبار الخليج
20 فبراير 2008
آسيا التي لا نعرفها
تشكل آسيا المحيط الجغرافي والسياسي، لا بل والثقافي الذي نتأثر مباشرة أو غير مباشرة بأجوائه وأنوائه، ومع ذلك فإن حدود معرفتنا به ضيقة، بل إننا إلى الجهل بما يدور فيه أقرب من أي قدر من المعرفة. وليست الجغرافيا وحدها ما يشدنا إلى آسيا، وإنما التاريخ أيضاً الذي شهد ويشهد، كونه عملية مستمرة، حالاً من التفاعل الثقافي الثري الذي لا يمكن للعين الراصدة أن تخطئ آثاره ومظاهره. ولو أن الأمور تسير كما يجب أن تسير لكان لدينا الكثير من الباحثين والمختصين والمتابعين للشؤون الآسيوية كي نعرف القارة التي نشكل جزءاً منها، ونضع ملامح رؤيتنا المستقبلية لأنفسنا ولبلداننا على ضوء قراءتنا العلمية للأحداث الجارية حولنا في آسيا القريبة منا، وفي آسيا البعيدة كذلك. ولو أن الأمور تسير كما يجب أن تسير لكان في جامعاتنا ومراكز البحث عندنا وحدات مختصة بالدراسات الآسيوية تدرس موقعنا من القارة وتأثرنا بالراهن وبالمقبل من تطوراتها، خاصة أن بلداننا مرتهنة في أوضاعها إلى وجود هذا العدد الهائل من العمالة الآسيوية التي تعيش بين ظهرانينا والتي تؤثر فينا أكثر مما نؤثر نحن فيها، وهو أمر يخلق الكثير من الوشائج القوية بيننا وبين بلدانها سواء تم ذلك برغبتنا أو بعدمها. كم نعرف مثلا عن الهند، هذا البلد العظيم في حضارته وتاريخه وفي ثقافته الغنية المتنوعة، وفي تجربة الممارسة الديمقراطية فيه التي هيأت له درجة من الاستقرار ومن العيش المشترك لمكونات شعبه العرقية والدينية والاثنية؟ وجهلنا بالهند لا يقل عن جهلنا بثقافة عريقة أخرى مجاورة لنا، هي الثقافة الفارسية التي تقع على مدى رمية حجر منا، وهي الأخرى حضارة مكتنزة بالثقافة والمعرفة من دون أن نعرف عن واقعها الحديث أية معلومة، ومن دون أن تعوزنا الأسباب لتبرير القطيعة معها، جاعلين من السياسة ونزوعات التعصب سداً بيننا وبينها. إننا إذ نتجشم مهام التعرف إلى ثقافات بعيدة عنا ونعد معرفتنا ببعض رموزها وجاهة نتباهى بها، لا نكاد نعرف اسم شاعر أو أديب من الهند أو باكستان أو إيران. ونحن إذ نتابع ما يجري في أبعد المناطق جغرافية عنا نكاد نجهل أي شيء عن بلدان آسيوية محورية تقع مباشرة خلف السور الخارجي لبيتنا.
صحيفة الايام
20 فبراير 2008