أين الحكمة والعقل مما نرى ونسمع ونتابع ونقرأ من هذا الذي يثيره ويطرحه نواب كثر ونتلقى اصداءه وإيقاعاته كل يوم تقريباً، وهو أمر يدفعنا إلى أحضان المفاجآت غير السارة، وربما يجعلنا دمى تحركها الرياح العاتية ولا أحد يعرف إلى أين؟ نعم.. أقوال وأفعال ومواقف النواب المعنيين تصب وللأسف في ذلك الاتجاه وقانا الله شره، وشر المجاهل والمتاهات والأزمات والخلافات والتجاذبات والاحتقانات والمطبات والحساسيات والتقاطعات التي باتت تؤجج المشاعر وتفرز إرهاصات طائفية ومذهبية من نوع ما نعيش فيه الآن. الصورة مثيرة لقدر كبير من القلق ومليئة بالدلالات والتساؤلات وعلامات التعجب، لأنه لم يبقَ شيء لم يطأفن ولم يتحول إلى شراك منصوبة، الظاهر فيها غير الباطن والبراءة فيها إن بدت فهي تخفي ما تخفي من نيات ومقاصد غير بريئة، واعتقد أننا أصبحنا جميعاً مطلعين على ذلك، ويكفي أن تنظروا إلى مجريات الأحداث خلال الأيام الماضية فقط، ناهيكم عن هذا الذي جرى قبلها، وتعالوا نتأمل هذه العينة: الاستجوابات التي هي أداة برلمانية ودستورية مهمة يفترض أن تفعّل الدور الرقابي للبرلمان، هذه الاستجوابات صدمنا حينما بدأت تظهر في أتعس صورة ممكنة، بعد الانزلاق بها إلى الطأفنة من خلال مشاريع استجوابات ومشاريع أخرى مضادة على خلفية المقولة الطائفية الكريهة التي ذكرها أخونا سعيد الحمد “تستجوبون واحدا منا، نستجوب واحدا منكم”…!! وهي فعلاً فرز طائفي بامتياز، حرفت أداة برلمانية ودستورية يمكن أن تخدم الصالح الوطني العام. أيضاً التوزيعات والقروض الإسكانية لم تسلم من تفسيرات وتأويلات الطأفنة، تماماً كما هو الحال بالنسبة لمشروع ترميم البيوت الآيلة، والبعثات التعليمية، والتعددية النقابية، وتوظيف العاطلين الجامعيين، حتى تشغيل الحراس في وزارة التربية حولت إلى قضية طائفية، بل وحتى قضايا حقوق الإنسان أصبحت ورقة مثيرة في يد النواب الذين تعودوا أن يثيروا الزوابع وأن يغدوا ويؤججوا النعرات الطائفية، بل ويشعلون “حرائق” بين الحين والآخر، وحتى الاحتفالات والمهرجانات واللقاءات مع الوزراء لم تخرج ولم تسلم من أزمة التقاطع الطائفي والمذهبي. لا ينبغي أن يفهم أننا نقصد نائباً بعينه من طائفة معينة أو تيار معين، أو تكتل معين، بل نواب كثر من المحسوبين على هذه الطائفة وتلك، وهذا التيار وذاك، وهذه الكتلة وتلك، نواب جنحوا بأدائهم جنوحاً جعلهم يعتقدون أنهم قادرون على جعل الوطن على مقاسهم، فقزموه، واختزلوه في أنفسهم، وفي رؤاهم، وفي توجهاتهم، وحساباتهم، التي تستحضر دوماً الحس الطائفي، وتكرس الانتماءات والولاءات الفرعية والمناطقية والقبلية والعشائرية بدلاً من تذويبها بمختلف أنواعها في ولاء أعمق للوطن، وتلك الولاءات هي نفسها التي حذر منها المشاركون في الندوة الخليجية “ثقافة المواطنة” التي اختتمت يوم الاثنين الماضي، حينما اعتبروها ولاءات تعوق المواطنة وتفسد مسيرة المجتمع وتقدمه. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام نوعية من النواب يبدوا أنهم مصرون على أن يطرحوا أنفسهم كممثلين عن فئة أو طائفة أو مذهب أو قبيلة أو منطقة، لذلك نجدهم يحتجون ويعترضون ويفتنون في كل صغيرة وكبيرة، كل شاردة وواردة، وأصبح الواحد منهم يريد إلصاق كل نقيصة بالآخر، ونزع كل فضيلة عنه، كل طرح من الطرف الآخر موضع جدل ومنازعة وسوء فهم والتباس، فقط لأنه من الطرف الآخر. وبات التضخم الذي نعانيه في أقوالهم المعلنة والتي تتردد يوماً بعد يوم على مسامعنا – كأن الكلام عندهم هو الفعل – تشيع في نفوسنا حالة من الترقب المقلق وسط مزاج عام ساخن، بل ومنفلت أحياناً من هذا الشحن الطائفي، والحالات المذهبية تتمترس في مواقع حصنتها وكأن ثمة من يحاول الانقضاض عليها، وكل منا يظن أنه مستهدف!! إن أصحاب السعادة النواب الذين نعنيهم، كل واحد منهم رغم اختلاف الرايات والمسميات والأساليب، يدّعي بأنه الحارس الأمين المدافع عن الحرية والديمقراطية والعدالة، والرافض لكل ما يكرس فرقتنا ويبدد طاقة أبناء وطننا، مما يزيد ضعفنا ضعفاً، وهمومنا هموماً!، رغم أنهم يرفعون شعارات براقة، ولكننا ألفناهم يبادرون إلى مواقف متعارضة معها دون إدراك لخطورة الوضع والظرف الذي نعيشه وهي خلاصة لا تخلو من أسى، برغم أن للأمر تفسيراً آخر عند أصحاب النيات الحسنة..! هل هذا معقول الذي يجري على يد نواب يفترض أنهم يمثلون الشعب.. كل الشعب بجميع أطيافه وأركانه دون استثناء؟! إن الواجب يفرض على النواب، كل النواب موقفاً وطنياً صادقاً أصبح واجب الوجوب، وهذا الواجب الوجوب يفرض علينا نحن الذين ننتسب إلى الوطن قبل النواب ألا نستسلم لواقعنا.. القرار أولاً وأخيراً هو قرارنا، والمسؤولية تقع علينا، وهي أن نبحث عن القواسم المشتركة بيننا، وما أكثرها، فنكرسها ونوظفها من أجل مواجهة لا غالب فيها ولا مغلوب، ولا أوصياء على العمل الوطني، أوصياء يمنحوننا صكوك غفران أو شهادات حسن السيرة والسلوك، المسؤولية والأمانة يقتضيان فتح الأبواب على مصارعها لجميع أطياف المجتمع لكي تنهض بواجبها دون عرقلة أو تشويه أو استثارة غوغائية أو تأجيج للمشاعر أو زوابع ترابية يثيرها أصحاب المصلحة من أهل الهوى والغرض ممن جعلوا الطائفية سوقاً سوداء للتداول والتنافس في سبيل مصالح آنية ضيقة، وسيكون علينا دوماً أن نكون على يقين تام بأن المخزون من المشترك بين أبناء الوطن لا حصر له، واستدعاء هذا المشترك واستثماره بالشكل الصحيح هو المطلب الملح الذي ينبغي ألا يتقدمه مطلب آخر، فضلاً عن انه أمر في نطاق الإرادة.
صحيفة الايام
29 فبراير 2008