برحيل المناضل يوسف حسن العجاجي يغيبُ واحد من الوجوه المضيئة في تاريخ البحرين وتاريخ الحركة الوطنية والتقدميّة واليسارية فيها، فالعجاجي لم يكن مناضلاً وقائداً وطنياً فحسب، وإنما هو واحد من الذين وضعوا اللبنات الأولى، الصلدة والقويّة، للتيار التقدمي في البلاد، الذي غدا تياراً مهمأً وفاعلاً في تاريخ وطننا، لا على صعيد خلق الوعي الوطني، وحشد الجماهير حول الأهداف الوطنية والديمقراطية العادلة للشعب، وفي مقدمتها النضال ضد الهيمنة البريطانيّة ومن أجل نيل الاستقلال الوطني، وإنما أيضأً على صعيد نشر قيم الحداثة والتنوير والتقدّم في مختلف أرجاء وطننا، بمدنه وقراه، وفي صفوف كافة مكوّنات هذا الشعب على أسس وطنيّة حقيقيّة وحديثة، متجاوزة للعصبيات الطّائفيّة والمذهبيّة والقبليّة والعرقيّة والمناطقيّة.
يوسف العجاجي مثله مثل أحمد الذوادي وحسن نظام وعلي مدان وعلي دويغر وحسن جناحي وجعفر الصيّاد وإبراهيم ديتو وعبدالله البنعلي ويعقوب الجناحي وعشرات سواهم من مؤسسي الجبهة ومن كوادرها الأولى بنوا تنظيماً تقدّميّاً، طليعيّاً، مناضلاً، بات له شأنه ومكانته داخل الوطن، وصيته في المحيط الخارجي والعربي وفي الحركة العماليّة واليساريّة العالميّة، وعلى خطى هؤلاء ورفاقهم سارت أجيال من البحرينيين، نساء ورجالاً، وما زالت، مستلهمة منهم ومن تضحياتهم وإخلاصهم القدّوة، فلم تثنهم لا السجون ولا المنافي ولا كافة أنواع العذابات والضغوط عن مواصلة كفاحهم.
علينا تخيّل كيف كانت البحرين في أوائل ومنتصف خمسينيات القرن الماضي، لندرك إلى أي مدى كانت بصيرة هؤلاء القادة، ويوسف العجاجي واحد من أبرزهم وعياً وثقافة ومعرفة وكفاءة، ترنو إلى المستقبل، وتجترح أساليب عمل جديدة، وتبشر بفكر مغاير، جديد وعميق، جدير بشقّ الطرق نحو هذا المستقبل.
بعد سنوات فقط من تأسيس تنظيمهم: جبهة التحرير الوطني، وضعوا وأقرّوا برنامجاً سياسياً، هو الأول من نوعه في تاريخ العمل الوطني، بمنهاجه ورؤيته، ليس فقط لدّقة وصحّة ما تضمّنه من مطالب، وإنما أيضاً بما حوته مقدمته من تشخيص دقيق للأوضاع في البحرين، بالارتباط مع التحوّلات المهمة، لا بل والجذريّة، التي شهدها العالم يومذاك، وما كان بوسع واضعي هذا البرنامج أن يفعلوا ذلك، لولا ما تمتعوا به من وعي متقدّم واطلاع فكري ومتابعة للجديد.
لروح الرفيق يوسف العجاجي وأرواح من سبقوه في مغادرتنا من أولئك الرفاق: أحمد الذوادي، علي دويغر، جعفر الصيّاد وغيرهم السلام والطمأنينة، ودعائنا بدوام الصحة وطول العمر لمن لا زالوا معنا محافظين على جذوة الفكر الذي تذروا حياتهم من أجله.
يوسف العجاجي: صفحات مضيئة من تاريخ “التحرير” والوطن
الشباب والشأن العام
يعدّ مجتمعنا البحريني، شأنه في ذلك شأن المجتمعات الخليجية عامة، مجتمعاً فتياً، حيث نسبة الشباب ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين هي نسبة طاغية، ويدخل هذا الجيل الحياة وهو يواجه مشاكل في التعليم وفي العمل ويعاني من نقص وضعف الخدمات الاجتماعية والثقافية وسواها، وعلى كاهل هذا الجيل تقع أعباء معيشية وعائلية مرهقة، وهي أمور لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار، في إطار السعي لتوسيع مشاركة الجيل الجديد في الشأن العام.
المؤكد أن للتضييق مساحة الحريات، بما في ذلك حرية التعبير، وفرض قيود على أنشطة مؤسسات المجتمع المدني، دوراً كبيراً في عزوف الشباب عن الانخراط في الشأن العام، وهو ما يترك أثره السلبي على حيوية المجتمع، خاصة وأن الجيل الجديد يواجه قضايا غير مسبوقة في زمن العولمة الثقافية، وليس بالوسع عزل هذا الجيل عن مؤثراتها، بل لعل ذلك ليس مطلوباً، فلكي نواجه قضايا العصر يجب أن نزج بأنفسنا في أتون هذا العصر لا أن نهرب منه، بيد أن ذلك يتطلب مقاربة شجاعة للتحديّات التي يثيرها، ويطرحها على تفكير وسلوك الجيل الجديد.
المؤثرات الوافدة بفعل آليات الاتصال الراهنة تتوجه مباشرة نحو أذهان هؤلاء الشباب بالذات، فهم الأنشط تفاعلاً مع وسائط الاتصال الحديثة، والأكثر مهارة في سبر أغوارها والولوج في دهاليزها، ولا يمكن الاستخفاف بما يتلقونه من معارف وأنماط تفكير وسلوك من هذه الوسائط تضاهي، لا بل وتتفوق في أحيان كثيرة على المؤثرات التي يتلقونها من خلال الوسائط التقليدية كالعائلة والمدرسة والمحيط الاجتماعي المباشر.
في المجمل فإن الأجيال الجديدة تتعاطى مع مصادر للتكوين الثقافي والنفسي لم تعرفها الأجيال الأسبق، وليس هذا وحده ما يتعين ملاحظته، عند التفكير في مسألة عزوف قطاعات ليست قليلة من الشباب عن الانخراط في الشأن العام، فالظاهرة كلها تتطلب معالجة تفصيلية.
يظلّ أن الجوهري في الأمر هو إيلاء عناية أكبر لإشراك الشباب في الشأن العام ودمجهم فيه، عبر مختلف الآليات الثقافية والاجتماعية، من خلال تشجيع الهيئات الشابة التي يمكن أن تجترح أفكاراً جديدة تلائم وعي الشباب وطموحاتهم وتطلعاتهم، والقضايا التي هم بحكم أعمارهم وحساسياتهم العصرية أكثر قرباً منها، مما يجعلهم مهيئين، إن أحسن إعدادهم، ليكونوا في رؤاهم أقرب إلى المستقبل.
في ذكرى رحيله: أحمد الذوادي باقٍ
في الثامن شهر يوليو/ تموز الجاري تمرّ الذكرى السنوية لرحيل القائد الوطني، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، وأول أمين عام للمنبر التقدمي الذي قاوم الاستعمار والظلم والاستغلال والتخلف، من أجل أن يرى البحرين التي كرّس حياته في سبيلها، وقد غدت حرّة، متقدّمة وديمقراطية.
كان أحمد الذوادي من المعدن النادر من الرجال الذين قدّمهم شعبنا، الذين صنعوا وجه البحرين المشرق، وجه التقدم والحداثة والفكر النيّر، وواصلوا التراث المجيد للحركة الوطنية ذات التقاليد العريقة في البلاد، فاكسبوها محتوى جديداً قائماً على المعرفة والعلم وإدراك قوانين التطور، وحوّلوها من حركة عفوية إلى حركة منظمة غير موسمية، إلى حركة ذات برنامج واضح، وأفق سياسي وفكري تقدمي منحاز إلى قيم العصر وموجه إلى المستقبل.
علينا أن نتصور وضع البحرين في خمسينيات القرن العشرين، بعد أن انقضّت السلطات البريطانية على حركة هيئة الاتحاد الوطني، فنفت ابرز قادتها إلى جزيرة سانت هيلانة وسجنت الآخرين في جزيرة جدا، وأشاعت في البلاد جواً من الإحباط واليأس. في مثل هذه الظروف الصعبة انطلق أحمد الذوادي الشاب ورفاقه في مسيرتهم التي لا تقطع مع التاريخ السابق المنجز، إنما تنطلق منه ومن دروسه وخبراته وتبني عليها، وتؤسس لتاريخ جديد متصل مع ما سبقه وواصل لما يمليه، ليغدو بعدها هذا الشاب المتحدر من أسرة فقيرة قائداً لتنظيم من طراز جديد لن يمكن كتابة تاريخ البحرين على مدار نصف القرن المنصرم وأكثر دون التوّقف أمام دوره المحوري في النضال الوطني وفي الذود عن مصالح الطبقة العاملة وعموم شغيلة اليد والفكر.
وكما في ظروف العمل السري الصعبة التي كان خلالها يدخل السجن ويخرج منه إلى المنفى، أو يعود من المنفى ليدخل السجن واصل أحمد الذوادي عمله الوطني بكل مسؤولية ونضج في مرحلة ما بعد ميثاق العمل الوطني، وتحوّل العمل الحزبي إلى العلنية، وأصبح رئيساً للمنبر التقدمي، رغم وضعه الصحي الحرج، الذي حال دونه ومواصلة دوره على رأس المنبر، لكنه ظلّ ناشطاً في هيئاته ولجانه وفعالياته، حتى تدهورت صحته كثيراً، وغادرنا في العام 2006، تاركاً فراغاً كبيراً، ولتفقد البحرين واحداً من أخلص رجالاتها وأصلبهم.
لتتضافر الجهود لاحتواء الجائحة
شهدت الأسابيع القليلة الماضية انخفاضاً ملموساً في عدد الإصابات اليومية بوباء “كورونا” في البحرين، ونقصت أيضاً أعداد من هُم في غرف العناية القصوى، وإن كانت نسبة الوفيات لا تزال تتراوح بين انخفاض وارتفاع، لكن الأمور تسير نحو انخفاض كبير في هذه الوفيات، كما تفوقت وبشكل كبير أعداد المتعافين بالمقارنة مع عدد المصابين.
وضعنا بات أفضل بكثير مقارنة بما كانت عليه الحال قبل شهر أو شهرين، حيث بلغت الإصابات رقماً قياسياً غير مسبوق، وكذلك عدد الوفيات اليومية، وأعداد من يدخلون إلى العناية القصوى، والذين ينتهي الأمر بالكثير منهم، ومن مختلف الأعمار بالوفاة، ويمكن الحديث عن نجاح الإجراءات التي اتخذت بالاغلاق الجزئي، الذي شمل الكثير من الخدمات، ووضع ضوابط أكثر صرامة في استقبال المسافرين القادمين من البلدان الموبوءة، خاصة تلك التي تفشت فيها السلالات المتحوّرة من الفيروس، والتي تعدّ أكثر فتكاً وأوسع انتشاراً، ووصلتنا البحرين بسبب التساهل السابق في استقبال المسافرين القادمين منها.
استقبلت الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الجهات المسؤولة بقبول شعبي واسع، كون الناس كانت تنتظرها وتطالب بها منذ أن ازداد عدد الإصابات والوفيات، وبلغ الأمر حدّ تصنيف البحرين من قبل بعض دول العالم في “القائمة الحمراء”، أي بين الدول التي يتفشى فيها الوباء على نطاق واسع، بعد أن كانت البحرين، وخلال أكثر من عام، تعدّ من الدول الناجحة في التعامل مع الوباء، وهي أيضاً بين أوائل الدول وأسرعها في تطبيق خطة التلقيح.
واقترنت الإجراءات الناجحة التي اتخذتها الجهات المسؤولة بتزايد الوعي الشعبي بخطورة الوباء وعدم الاستهانة بفتكه، وتمثّل ذلك من جهة في التقيّد بتوجيهات الفريق الطبي، بالحدّ من التجمعات العائلية، والالتزام بتدابير التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات وغيرها من اجراءات، ومن جهة أخرى في إزدياد الإقبال على أخذ اللقاحات، بما فيها الجرعة التنشيطية التي قررتها الجهات الطبية.
اليوم بوسعنا القول، وبدرجة معقولة من الاطمئنان، إننا عدنا ثانية إلى الطريق الصحيح، وأننا سائرون فيه، في اتجاه محاصرة الوباء في أضيق نطاق، لكن طالما الوباء ما زال موجوداً في العالم، وعليه تدخل تحويرات تجعله أكثر خطورة، فإنه من الضروري التأكيد على أن الخطر ما زال ماثلاً، وأنه من الضروري تضافر جهود الدولة والناس معاً لمواصلة الحذر والحزم، والموازنة المسؤولة والواعية بين الضروررات الاقتصادية واجراءات محاربة تفشي الوباء.
نحن وفلسطين
القضية العادلة للشعب الفلسطيني منغرسة في وجدان الشعب البحريني عبر عقود، منذ أن قام الصهاينة باحتلال الأرض الفلسطينية وشرّدوا شعبها من أراضيه، بدعم من الإمبريالية العالمية، والبريطانية منها بشكل خاص، فمنذ أربعينيات القرن العشرين، على الأقل، وشوارع المدن في البحرين شاهدة على المسيرات التضامنية مع شعب فلسطين وقضيته الوطنية.
وما أكثر الشبان البحرينيين الذين تطوعوا للقتال مع المقاومة الفلسطينية، ومنهم من استشهد في صفوفها، ومع كل هبة أو انتفاضة في الأراضي المحتلة، يخرج البحرينيون إلى الشوارع لإعلان تضامنهم مع فلسطين، ويقيموا الندوات والمهرجانات، ويجمعوا التبرعات، ويرسلوا الوفود التضامنية، بمن فيهم الأطباء الذين يذهبون للتطوع في علاج الجرحى جراء العدوان الصهيوني.
وكانت فلسطين الأرض والشعب، حاضرة في الأدب والفن البحرينيين، فعنها كتبت القصائد والقصص، وغُنيّت الأغنيات، والمثل الساطع هو ما قدّمته فرقة “أجراس” ومؤسسها الفنان التقدمي والوطني الراحل سلمان زيمان، حيث يشكل عدد الأغاني التي قدّمتها الفرقة عن فلسطين النسبة الأكبر بين الأغاني المشابهة في البلدان العربية، والكثير منها جرى انتقاء كلماتها من قصائد شعراء المقاومة الفلسطينية مثل توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم.
لذلك شكّل إعلان تطبيع العلاقات بين البحرين ودولة الكيان صدمة كبيرة لكل البحرينيين، الذين هالهم أن يروا بلدهم يقيم علاقات مع العدو ويتبادل معه السفراء، ويستقبل مسؤولين صهاينة على ارضه، حيث بدا ذلك استفزازاً وإهانة لمشاعرنا كبحرينيين، تربطنا بفلسطين وشعبها أقوى الأواصر، ولقت الخطوة استنكار وإدانة كافة الجمعيات والقوى السياسية والمجتمعية، ومؤسسات المجتمع المدني وكل أبناء وبنات شعبنا.
وعلى عهدهم، جدّد البحرينيون موقفهم الذي لا يحيدون عنه حين اندلعت، مؤخراً، هبة أهل مدينة القدس احتجاجاً على توجه قطعان المستوطنيين، مدعومين من المؤسسة الصهيونية وأجهزة أمنها ومحاكمها، لمصادرة بيوت العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح في المدينة، والتي أشعلت غضباً شعبياً في كامل فلسطين، في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي الضفة الغربية، و قطاع غزة الذي واجه ببسالة، وعلى مدار 11 يوماً متواصلة القصف الصهيوني الهمجي بالصواريخ والطائرات والقذائف من البحر والجو والأرض، ما أوقع مئات القتلى والجرحى، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، خاصة النساء والأطفال، وأحدث دماراً مريعاً.
أمس واليوم وغداً؛ سيظل البحرينيون رافضين للتطبيع مع العدو، مطالبين بوقفه، والعودة إلى الالتزام بمبادىء المبادرة العربية للسلام وبالحق الفلسطيني الشرعي.
“الممتنعون” و”المتغيبون”
على كثرة الكلام الذي قيل عن القيود الكثيرة المفروضة على مجلس النواب المنتخب، خاصة من خلال أحكام اللائحة الداخلية للمجلس، فإن الحكومة أظهرت، خاصة خلال السنوات الأخيرة، ضيقها حتى من الحيز المحدود المتاح للمجلس كي يقوم بدوره الرقابي على أداءها، ومارست ما تستطيع من ضغوط لتمرير “تعديلات” على هذه اللائحة لفرض المزيد من القيود على أداء المجلس، والحدّ من فعالية الأدوات الرقابية المتاحة له.
وبعد أن بات استجواب الوزراء في حكم المتعذرداخل المجلس، كما أوضح عضو كتلة “تقدّم” النائب الأول لرئيس المجلس عبدالنبي سلمان في مداخلة أخيرة له، لجأ النواب المخلصون إلى أداة المناقشة العامة، لمناقشة السياسات الحكومية وأداء الوزرات المختلفة، وهي مناقشات لا تصل، بطبيعتها، حدّ إدانة الوزير المعني، ورغم ذلك ضاقت الحكومة ذرعاً بالنقد الذي وجه لبعض أعضاءها وكبار المسؤولين فيها، على ما وجده النواب، وإلى جانبهم ناخبيهم، من أوجه قصور في أداء هؤلاء.
ولم يطل الوقت حتى اقترحت تعديلات على اللائحة الداخلية تفرغ أداة المناقشة العامة من محتواها الفعلي، و”نجحت” في تمريرها عبر المجلس نفسه المعني بمحاسبة الحكومة والرقابة على أداءها حسب الدستور وميثاق العمل الوطني، فكان لها ما أرادت، وتمّ ذلك في مشهد هزلي بالفعل.
إذا استثنينا الموقف المشرف لاثني عشر نائباً، في مقدمتهم رفاقنا في “تقدّم” الذين رفضوا تلك “التعديلات” بوضوح وحزم، فإن المتبقين من أعضاء المجلس، أي ثمانية وعشرين نائباً من مجموع الأربعين عضوا الذين يتكون منهم المجلس، “تفننوا” في أساليب تمكين تعديلات الحكومة من المرور.
بعضهم لم يجد حرجاً في حضور الجلسة التي ناقشت الموضوع والتصويت بنعم كبيرة (!) مع مرور المرسوم بقانون بشأن التعديل المقترح، فيما وجد آخرون من الحاضرين ضالتهم في بدعة “الامتناع عن التصويت”، أما البقية فإما أنهم تغيبوا متعمدين عن حضور الجلسة، فيما اختار بعضهم اغلاق الميكرفون لحظة التصويت، والنتيجة جاءت كما هو مخطط لها: “لم يرفض المرسوم العدد اللازم من الأصوات لعدم تمريره، اي 21 صوتاً”.
يتوهم “الممتنعون” و”المتغيبون” إن حسبوا أنفسهم يختلفون في شيء عمن صوتوا بنعم لتمرير المرسوم، وأن هروبهم بهذه الطريقة عن الإفصاح عن موقف واضح تجعلهم مختلفين عنهم، وجلّ ما فعلوه أنهم وضعوا شخوصهم في محل السخرية من الناس، لأنهم، في النهاية، شركاء في التطاول على حق نيابي كفله الدستور، أثبتوا أنهم ليسوا أهلاً لممارسته.
مَن يُحاسب مَن؟
أشار تقرير لجنة التحقيق البرلمانية في أوضاع صناديق التقاعد، إلى أن الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي لم تتعاون معها، معتبراً هذا الموقف خرقاً للدستور والقانون، من خلال عدم الالتزام بتمكين اللجنة من ممارسة دورها الرقابي في التحقيق، كما أشار التقرير إلى أن الهيئة “امتنعت عن تزويدها بالعديد من الأمور الهامة من بيانات”، بالإضافة إلى أنها: “قامت بتمويه وتضليل اللجنة من خلال التعمد في تقديم أرقام غير حقيقية فيها فروقات تصل إلى أكثر من 900 مليون ديناراً”. ولما بدا الأمر مكشوفاً، ولن ينطلي على أعضاء اللجنة ولا على الرأي العام، تداركت الهيئة ذلك لاحقاً وطلبت استبدال تلك البيانات التي قالت إنها أُرسلت بالخطأ.
وفي مداخلته في جلسة مجلس النواب لمناقشة تقرير اللجنة، اكدّ عضو كتلة “تقدّم”، النائب الأول لرئيس مجلس النواب عبدالنبي سلمان “وجود تلاعب من قبل الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي بالأرقام التي قدمتها إلى لجنة التحقيق البرلمانية، قائلاً إن “تقرير اللجنة بيّن تلاعب رئيس مجلس إدارة الهيئة عبر تسليم اللجنة بيانات مغلوطة قبل أن يتم ارسال بيانات أخرى مصححة حسب الهيئة”.
وعلى فداحة كل هذا التضليل والمعلومات المغلوطة، لم يقف الأمر عند هذا، بل بلغ حدّ تهديد رئيس الهيئة بمقاضاة أعضاء اللجنة، لدورهم في كشف أوجه القصورات والتلاعب في أموال الهيئة، وكشف الكثير من أوجه الفساد في عمل الهيئة والقائمين عليها، فضلاً عن فضح الامتيازات التي يمنحها هؤلاء لأنفسهم، ومن أموال المتقاعدين والمشتركين، في ظل غياب الشفافية والمساءلة والرقابة على عمل الهيئة.
نحن بصدد وضع مقلوب لا يليق ببلد يوجد فيه برلمان منتخب، حين يهدد مسؤول من داخل السلطة التنفيذية بمعاقبة نواب منتخبين من الشعب، فقط لأنهم قاموا بالدور الذي يمليه عليهم الواجب، والتزاماً بالتكليف المعهود إليهم من مجلس النواب نفسه، بالتحقيق في أداء جهة مؤتمنة على أموال تتصل بحياة ومصائر أبناء الشعب، وهو أيضاً دور معهود إليهم من ناخبيهم، ومن كل أبناء الشعب الذين يريدون أن يكون أعضاء مجلس النواب في مستوى المسؤولية التي أوكلوها إليهم، ويظهروا الشجاعة والنزاهة في مواجهة الفساد، وحماية المال العام.
مسؤولية السلطة التشريعية هي الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، ومحاسبتها على أي تقصير تقع فيه أجهزتها والمسؤولون في هذه الأجهزة والوزارات، ومعيب للغاية أن يتجرأ أي مسؤول على نواب انتخبهم الشعب ووفوا بوعدهم لناخبيهم بإيصال أصواتهم إلى قبة البرلمان.
نحن والسياسة الأمريكية
مع تغيّر الإدارة الأمريكية، وعودة الحزب الديمقراطي إلى السلطة، وإعلان الرئيس الجديد جو بايدن عن مراجعات واسعة في سياسة سلفه الجمهوري دونالد ترامب، تسود في العالم العربي، بما فيه منطقتنا الخليجية، مجموعة من الأوهام من جهة، والمخاوف من جهة أخرى. الأوهام بأن الإدارة الجديدة ستظهر اهتماماً أكبر بالصراع العربي – الصهيوني، وتمارس ضغوطاً على إسرائيل لبلوغ حلٍ للقضية الفلسطينية، أما المخاوف، ذات الطابع الرسمي غالباً، فتنحصر في خشية أن تمارس إدارة بايدن ضغوطاً على الأنظمة لتغيير بعض سياساتها.
الواهمون والخائفون على حدٍ سواء، يغفلون عن أمرٍ مهم، هو نفسه الذي ندعوه ب”ثوابت” السياسة الأمريكية على المستوى الخارجي، وهي ثوابت تضعها وتحميها المؤسسات الراسخة في البنية السياسية في الولايات المتحدة، التي تشكل ما يوصف ب”الدولة العميقة”، مثل البنتاجون و”سي. آي. إيه” وحتى وزارة الخارجية، فضلاً عن أن هذه السياسة محكومة بالتوازن الدقيق في تشكيلة مجلسي النواب والشيوخ، اللذين يشكلان معاً الكونجرس الأمريكي.
لقد حاول الرئيس السابق، ترامب، الخروج عن بعض، فقط بعض، تلك “الثوابت”، لكن ما نشهده اليوم يؤكد أن هذا أمر صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، ففي خلال أقل من شهر على ولاية بايدن أعلن إلغاء سلسلة من قرارات ترامب، وأخضع بعضها للمراجعة والدرس، ما قد يؤدي إلى إلغائها أيضاً أو إدخال تعديلات عليها. وما يفعله بايدن هو، بالضبط، العودة إلى تلك “الثوابت” المحمية من أجهزة الدولة العميقة.
وعلينا أيضأً ألا ننسى أن “خروج” ترامب على بعض مألوف السياسة الخارجية لبلاده، لم يكن في جوهره، سوى المضي ببعض ثوابت تلك السياسة إلى حدودها القصوى، خاصة على صعيد الإنحياز لإسرائيل والعداء للحقوق المشروعة للعرب وابتزازهم مالياً، فنقل سفارة بلاده إلى القدس واعترف بالإحتلال الصهيوني للجولان السورية، وهذا بعض ما لم يعلن بايدن التراجع عنه، كأن ترامب أراح الديمقراطيين بتنفيذ رغبات الدولة العميقة.
غاية القول إن علينا، كخلجيين وكعرب، أن نصوغ السياسات النابعة من مصالح أوطاننا وشعوبنا، وتقوية الجبهات الداخلية لبلداننا، وإشراك الشعوب في صوغ تلك السياسات، والاستجابة لتطلعاتها المشروعة، وتجنيب بلداننا المخاطر المحدقة بها، عبر سياسة إقليمية ودولية متوازنة، لا تلقي البيض كله في السلة الأمريكية، لأن الرهان على أي إدارة أمريكية، جمهورية كانت أو ديمقراطية، هو من قبيل الوهم الذي تكشف عنه التجارب.
ملف التقاعد
خلال السنوات الماضية ظلّ ملف التقاعد وأوضاع هيئة التأمين موضوعاً محورياً بين الملفات المعيشية الحيوية التي أولاها المنبر التقدمي جلّ اهتمامه، ومعه في ذلك كل المؤسسات والهيئات والتنظيمات السياسية والنقابية المعنية بالأمر، وحول هذا الموضوع نظمّنا عدداً من ورش العمل وحلقات المناقشة والندوات العامة، التي شارك فيها مختصون واقتصاديون ونقابيون ونواب، بمن فيهم عدد من كوادر التقدمي في المجالات ذات الصلة.
وفي هذا المجال قدّم “التقدمي” مرئياته بخصوص تجاوز أزمة صناديق التقاعد، وتمّ نشر هذه المرئيات على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لها أصداء ايجابية على المستوى الشعبي، لأنها شكّلت خلاصة للمناقشات الدائرة في المجتمع، ورؤيتنا المنطلقة من برنامجنا السياسي، ومن نظرتنا الاجتماعية الاقتصادية لما يجب أن تكون عليه الأحوال في وطننا.
وخصصت نشرة “التقدمي” في أعدادها الشهرية ملفات، وأفردت صفحاتها لمقالات ودراسات تتصل بالموضوع، فلا يكاد يخلو عدد من أعدادها من مقال أو مجموعة مقالات أو حتى ملفات حوله، ناهيك عن الأخبار والأنشطة المتصلة به.
ويعود اهتمام المنبرالتقدمي بالموضوع إلى بدايات عودة الحياة البرلمانية في العام 2002، حيث تصدّت، يومها، كتلة “الوطنيين الديمقراطيين” المدعومة من “التقدمي” لهذا الملف، وشاركت بفاعلية في لجنة التحقيق في أوضاع هيئة التأمينات، التي كشفت حجم التجاوزات الخطيرة في الهيئة، وحذّرت من العواقب الخطيرة إن لم يتم معالجة الخلل، وفي ذلك الحين بادر “التقدمي” إلى إطلاق عريضة شعبية وقعّ عليها الآلاف من المواطنين تدعم العمل البرلماني بخصوص هذا الملف.
وفي الفصل التشريعي الحالي واصلت “كتلة تقدّم” البناء على ما تراكم من خبرات، وما تبلور من رؤى وأفكار حول ملف التقاعد، الذي نال منها كل الاهتمام، وقدّمت في آخر مؤتمر صحفي لها رؤية متكاملة حوله، تتسق مع مواقفها المعروفة في تبني قضايا الجماهير، خاصة الفئات محدودة الدخل التي تزداد معاناتها، مع تفاقم الكثير من المشاكل المعيشية.
إن كل التحذيرات التي أطلقناها، ومعنا في ذلك أوسع طيف سياسي ومجتمعي يشاطرنا في الرؤية حول أوضاع ملف التقاعد، تَمثل أمامنا اليوم بكل وضوح، وأكثر من اي وقت مضى، لأنه لم يجر الاكتراث بمقترحات الحلول الواقعية والمسؤولة التي جرى تقديمها على مدى سنوات، ولم تتم محاسبة المسؤولين عن الفساد في الهيئة، والعابثين بأموالها، والمتضرر الأكبر مما وصلنا إليه هم المتقاعدون، خاصة منهم ذوي الرواتب التقاعدية المحدودة، وهو أمر ستكون له أوخم العواقب الاجتماعية إن لم يتم تدارك الوضع.
فريقنا الطبي والجهود المقدّرة
بدأت البحرين منذ منتصف الشهر الماضي حملة اللقاح ضد وباء “كوفيد 19” للمواطنين والمقيمين على حدٍ سواء، لتصبح واحدة من أوائل الدول على المستوى العالمي التي باشرت عملية التلقيح، في سياق التصدي الوطني المشهود له بالكفاءة للوباء منذ بدايات ظهوره في البلاد، بجهود الطواقم الطبية والإدارية في وزارة الصحة والمستشفيات الحكومية المختلفة، وبمثابرة وتفاني الكفاءات البحرينية من الأطباء والممرضين والعاملين والمتطوعين كل في مجاله، وكذلك بفضل ما وُفر من مرافق وبنى تحتية وخدمات طبية لإنجاز هذه المهمة.
وقد أثمرت هذه الجهود المقدّرة نجاحات واضحة في السيطرة على الوباء في أضيق نطاق ممكن، والتغلب على زيادة عدد الإصابات في بعض المراحل، وإنقاصها بشكل ملموس، كما كانت البحرين طرفاً في التجارب السريرية التي أجريت على اللقاح الصيني وعلى مدار شهور في مراحله الثلاث، والتي شارك فيها أكثر من 7000 متطوع.
ما زال الطريق طويلاً أمام العالم لاجتياز المحنة الكونية الناجمة عن تفشي هذا الوباء، ولكن النجاح في صناعة اللقاحات والبدء في توزيعها يفتح نوافذ للأمل، وأمر يدعو للفخر أن يكون لبلدنا مكان بين الدول الرائدة في هذا المجال.
إن نجاحات البحرين في التصدي للوباء والتي نأمل أن تتعزز وتتوطد وتستمر، تعود بشكل أساسي إلى نهوض الدولة بواجبها في توفير الخدمات الطبية لأبنائها والمقيمين فيها، كجزء من الدور المناط بها في الرعاية الاجتماعية وتقديم الخدمات الحيوية للمجتمع، وعلينا أن نخال ماذا كان سيحدث لو لم تكن الخدمات الصحية والرعاية الطبية في البلاد على هذه الدرجة من الكفاءة والتطور والمجانية، ولو أن الأمر أوكل لمنطق السوق كما هو الحال في بلدان كثيرة.
وحين نعبر عن تقديرنا لجهود الفريق الطبي البحريني الذي يشرف عليه سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، ولكافة أفراد الطواقم الطبية، فإننا نؤكد هنا على الدرس البليغ الذي نستخلصه، كما استخلصه العالم كله، خلال هذه الجائحة حول مخاطر تفريط الدولة، أي دولة، بواجبها في مجال الرعاية الاجتماعية، والرعاية الطبية في مقدمتها.
إننا نتطلع لأن نجعل مما حققناه من نجاحات على هذا الصعيد حافزاً للحفاظ على هذا الدور في بلادنا، وأن يصرف النظر عن أي تفكير من شأنه أن يؤدي إلى المساس بالمكتسبات التي حققتها البحرين في مجال الرعاية الصحية التي هي حق للمواطن وواجب على الدولة.