بقلم: سمير أمين
ترجمة: غريب عوض

كان سمير أمين (1931-2018) مديراً لمُنتدى العالم الثالث في العاصِمة السنغالية دكار، ومؤلف للكثير من الكُتُب، آخرها “الإمبريالية الحديثة”، و”الرأسمالية المالية الاحتكارية”، و”قانون القيمة عند ماركس”.
هذا المقال هو آخر مقال بعث بهِ سمير أمين إلي مجلة اليسار Monthly Review قبل وفاتهِ. وطلب من المجلة أن تُؤخر نشر المقال إلى أن يصدر أولاً في مجلة النشرة السوسيولوجية، الصربية الأمر الذي حدث بالفعل.

1
لا يوجد نص آخر كُتِبَ في مُنتصف القرن التاسع عشر وبقي صامداً مثلُ البيان الشيوعي لعام 1848 لكارل ماركس وفريدريك أنجلز. وحتى اليوم، فقرات كاملة من النص تتوافق مع الواقع المُعاصر أفضل مما كانت عليهِ في عام 1848. إنطلاقاً من المُقدمات المنطقية التي كانت بالكاد مرئية في عصرهما، توصل ماركس وأنجلز إلى استنتاج مفادهُ أن تطورات 170 عاماً من التاريخ تأكدت بالكامل.
هل كان ماركس ورفيقه إنجلز نبيين مُلهمين، ساحرين قادِران على النظر في كُرة بلورية، أم كائنين إستثنائيين فيما يتعلق بحدسيهُما؟ كلا. هُما ببساطة أدركا أفضل من أي شخص آخر، في زمنهُا وزمننا، جوهر ذلك الذي يُحدِد الرأسمالية ويُميّزُها. لقد نذر ماركس كامل حياتهِ في تعميق هذا التحليل من خلال الفحص المُزدوج للإقتصاد الجديد، مُبتدءاً بإنجلترا كمِثال، والسياسة الجديدة، بدءاً بالمِثال الفرنسي.
لم يُقدم كِتاب رأسمال المال لماركس تحليلاً علمياً دقيقاً لنمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع الرأسمالي، وكيفية اختلافهما عن أشكال سابِقة. يغوص المُجلد الأول في قلب المشكلة. فهو يوضح مُباشرةً معنى تعميم تبادلات السِلعة بين مُلاك العقارات الخاصة (ظاهِرة فريدة في مركزيتها بالنسبة لعالم الرأسمالية الحديث، على الرغم من أن تبادل السِلع كان موجوداً سابقاً)، وتحديداً، ظهور وهيمنة القيمة والعمل الاجتماعي النظري. وانطلاقاً من تلك القاعِدة، يقودُنا ماركس إلى فهم كيف أن بيع البروليتاري لقوة عمله/عملها إلى “الشخص الذي يملك المال” يضمن إنتاج فائض القيمة التي يُصادرها الرأسمالي، والتي هي بدورها، شرط لتراكم رأس المال. إن هيمنة القيمة لا تُسيطر على إعادة إنتاج النظام الاقتصادي للرأسمالية فحسب، بل على كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة. ويُشير مفهوم الأغتراب السِلعي إلى الآلية الأيديولوجية التي يتم من خلالها التعبير عن الوحدة الشامِلة للتكاثر الاجتماعي.
لقد أثبتت هذهِ الأدوات الفكرية والسياسية، التي تمّ التحقق من صحتها بتطوّر الماركسية، قيمتها في التنبؤ الصحيح للتطور التاريخي العام للواقع الرأسمالي. لم تكن هناك أية محاولة للتفكير في هذا الواقع خارج الماركسية أو ضدها في كثير من الأحيان أدت إلى نتائج مُماثِلة. إن انتقاد ماركس لقيود الفكر البرجوازي، وخاصة العلوم الاقتصادية، والذي وصفهُ بِحق بِأنهُ “مُبتذل”، أمرٌ بارع. ونظراً لأنهُ غير قادر على فهم ماهية الرأسمالية في واقعها الأساسي، فإن هذا الفكر الغريب غير قادر أيضاً على تخيُّل مصير المجتمعات الرأسمالية. هل سيتم تشكيل المستقبل بثورات اشتراكية تضع حداً لهيمنة رأس المال؟ أم أن الرأسمالية ستنجح في إطالة أيامها، وبالتالي فتح الطريق أمام تدهور المجتمع؟ يتجاهل الفكر البُرجوازي هذهِ القضية التي طرحها البيان الشيوعي.
وبالفعل، لقد قرأنا في البيان الشيوعي بأن هناك “معركة تنتهي في كل مرة إما بإعادة تشكيل ثورية للمجتمع كَكُل، أو بالخراب العام للطبقات المُتنافِسة”.
أثارت هذهِ الجُملة انتباهي لفترة طويلة. وانظلاقاً منها، توصلتُ تدريجياً إلى صياغة قراءة لحركة التاريخ تُركّزة على مفهوم التطور غير المُتكافئ والعمليات المختلِفة المُحتملة لتحوِلهِ، نابعة على أكثر تقدير من أطرافهِ بدلاً من مراكزه. كما أنني قُمتُ أيضاً ببعض المُحاولات لتوضيح كل نموذج من نموذجي الاستجابة للتحدي: الطريقة الثورية وطريقة الانحطاط.
وبعد أن اخترت استخلاص قوانين المادية التاريخية من التجربة العالمية، تقدمتُ بصياغة بديلة لنمط ما قبل رأسمالي فريد من نوعه، وهو نمط الجزية [أخذ الجزية أو الإتاوة من الأمم المحيطة بالإمبراطورية مقابل السماح لها بالعيش والبقاء]، الأمر الذي تميل إليه كافة المجتمعات الطبقية. تاريخ الغرب – بناء الآثار الرومانية، وانحلالها، تأسيس أوروبا الإقطاعية، وأخيراً، إن تبلور الدول المُطلقة للعصر التجاري يُعبّر، في شكل مُعيّن، عن نفس الاتجاه الأساسي المقدم في مكان آخر نحو البناء الأقل تقطعاً لدول تابعة كاملة، والتي تُعد الصين أقوى مِثال على ذلك. إن نمط العبودية ليس عالمياً في قراءتنا للتاريخ، كما النمطين الجزية والرأسمالي، فهو خاص، ويظهر حصرياً مرتبطاً بتوسع العِلاقات السِلعية. بالإضافة إلى أن النمط الإقطاعي هو الشكل البدائي غير المكتمل لنمط الجزية.
تُبيّنُ هذهِ الفرضية إنشاء روما وتفكُكُها لاحقاً كمُحاولة سابقة لأوانها لبناء نمط الجزية. إن مستوى تتطور قوى الإنتاج لم يتطلب تمركز الجزية بنفس حجم الإمبراطورية الرومانية. وهكذا، أعقبت هذهِ المحاولة الأولى التي لم تنجح انتقالاً قسرياً من خلال تفتُت النظام الإقطاعي، والذي تم على أساسهِ استعادة المركزية مرة أُخرى في إطار أنظِمة المَلَكيات المُطلقة في الغرب. عِندها فقط، اقترب نمط الإنتاج في الغرب من نموذج الجزية الكامل. علاوة على ذلك، لم يبلغ مُستوى تطوّر قوى الإنتاج في الغرب نمط الجزية المُكتمل كما في إمبراطورية الصين إلا حينما بدأ بهذهِ المرحلة؛ وهذا بلا شك ليس صِدفة.
إن تخلُف الغرب، الذي عبر عنهُ إجهاض روما وتفتُت النظام الإقطاعي، أعطاه بالتأكيد ميزة تاريخية. وبالفعل، فإن الجمع بين عناصر مُحددة من نمط الجزية القديم والأنماط المجتمعية البربرية ميّزت النظام الإقطاعي وأعطت الغرب مرونتهِ. وهذا يشرح السِرعة التي من خلالها جربت أوروبا مرحلة الجزية كاملة، متجاوزةً بسرعة مستوى تطور قوى الإنتاج في الشرق، الذي تجاوزتهُ وانتقلت إلى الرأسمالية. وهذهِ المرونة والسرعة تناقضت مع التطور البطيء نسبياً لأنماط الجزية الكاملة في الشرق.
مما لا شك فيه إن الحالة الرومانية الغربية ليست هي المِثال الوحيد لبناء جزية فاشلة. بإمكاننا تقديم ثلاث حالات أُخرى على الأقل من هذا النوع، كلُ حالة مع ظروفها المُحددة الخاصة: حالة الإمبراطورية البيزنطية – الإمبراطورية العثمانية، وحالة الإمبراطورية الهندية، وحالة إمبراطورية المغول. في كل حالة من هذهِ الحالات، كانت محاولات تثبيت أنظمة الجزية المركزية أعلى بكثير من مُتطلبات تطوير القوى المُنتِجة لتكون راسِخة. في كل حالة، من المحتمل أن تكون أشكال المركزية عبارة عن مزيج مُحدد يتكون من الدولة ونظام شبه إقطاعي ووسيلة سِلعة. ففي الدولة الإسلامية على سبيل المِثال، لعِبت مركزية السِلعة دوراً حاسماً. ولا بُد أن الإخفاقات الهندية المُتعاقِبة مُرتبِطة بمحتويات الأيديولوجيا الهندوسية، التي تعارضت مع الكونفوشيوسية. أما بالنسبة لمركزية إمبراطورية جنكيزخان، كما نعلم، لم تدوم طويلاً.
إن النظام الإمبريالي المُعاصر هو أيضاً نظام مركزية الفائض على مُستوى العالم. وتعمل هذهِ المركزية على أساس القوانين الأساسية للنمط الرأسمالي وشروط هيمنتهِ على أنماط ما قبل الرأسمالية في دول المُحيط. لقد قُمتُ بصياغة قانون تراكم رأس المال على المستوى العالمي كتعبير عن قانون القيمة الذي يعمل على هذا المستوى. ويتميّز النظام الإمبريالي لمركزية القيمة بسرعة التراكم وبتطور قوى الإنتاج في مركز النظام، في حين إنها تتخلف وتتشوه في مناطق المحيط أو الأطراف. التنمية والتخلف وجهان لِعُمَلة واحِدة.
الشعوب فقط هي التي تصنع تاريخها بنفسها. لا تستطيع الحيوانات ولا الكائنات غير الحية أن تتحكم في تطورها؛ إنها خاضعة لهُ. مفهوم التطبيق العملي مُناسب للمجتمع، كتعبير عن تركيب الحتمية والتدخُل البشري. كما أن العلاقة الجدلية بين البُنية التحتية والبُنية الفوقية هي أيضاً مُناسبة للمجتمع وليس لها مثيل في الطبيعة. وهذهِ العلاقة ليست من جانب واحد. فالبُنية الفوقية هي ليست إنعكاساً لاحتياجات البُنية التحتية. لو كانت القضية كذلك، فسيكون المجتمع دائماً غريباً ولن يكون من المُمكن رؤية كيفية إمكانية نجاحه في تحرير ذاتهِ.
هذا هو السبب في أننا نقترح التمييز بين شكلين مُختلفين إختلافاً نوعي من التحوّل من نمط إنتاج إلى آخر. إذا تطور هذا التحول في اللاوعي، أو بوعي غريب، أي أن الأيديولوجيا التي تؤثر على الطبقات لا تسمح لها بالتحكُم في عملية التغيير، تظهر هذهِ العملية كما لو أنها تعمل بشكل مُماثل للتغيير في الطبيعة، وحيثُ تُصبِح الأيديولوجيا جزء من هذهِ الطبيعة. فبالنسبة لهذا النوع من التحوّل، فإننا نحتفظ بِعبارة “نموذج الانحطاط”. في المُقابل، إذا كانت الأيديولوجيا تستحوذ على البُعد الحقيقي للتغييرات المبتغاة في مُجملها، عندها فقط يمكننا التحدث عن الثورة.
اعتقدت البرجوازية أن عليها أن تتجاهل هذهِ القضية لكي تتمكن من أن تعتبر الرأسمالية نظام عقلاني إلى الأبد، وتتمكن من التفكير في “نهاية التاريخ”.
2
وعلى النقيض من ذلك، أشار ماركس وأنجلز بحزم منذُ فترة البيان الشيوعي، بأن الرأسمالية لا تُشكّل إلا فترة فاصِلة قصيرة في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن نمط الإنتاج الرأسمالي في عصرهما لم يتعدى إنجلترا وبلجيكا وإقليم صغير في شمال فرنسا، أو الجزء الغربي من ويستفسليا البروسية. لم يوجد شيء مُماثل في مناطق أُخرى من أوروبا. وبالرغم من هذا، لقد تصوّر ماركس بالفعل أن الثورات الاشتراكية ستحدث في أوروبا “قريباً”. وهذا التوقع واضح في كل سطر من البيان الشيوعي.
بطبيعة الحال، لم يكن ماركس يعرف في أي بلد ستبدأ الثورة. هل ستكون انجلترا، البلد الوحيد المتقدم في الرأسمالية؟ كلا، ماركس لم يُفكر أن هذا كان مُمكناً إلا إذا حررت البروليتاريا الإنجليزية نفسها من دعمها لاستعمار ايرلندا؟ هل ستكون فرنسا، وهي أقل تقدماً من حيثُ تطورها الرأسمالي، ولكنها أكثر تقدماً من حيث النضج السياسي لشعبها، الذي ورثهُ عن ثورتها العظيمة؟ رُبما، وأثبتت كومونة باريس عام 1871 حدس ماركس. ولنفس السبب، توقع أنجلز الكثير من ألمانيا “المُتخلِفة”: الثورة البروليتارية والثورة البرجوازية يمكن أن تصطدمان هنا. وبهذا الصدد كتبا في البيان الشيوعي ما يلي:
أدار الشيوعيون انتباههم بشكل رئيسي إلى ألمانيا، لأن تلك البلد كانت على مشارف ثورة برجوازية التي من المؤكد أنها ستحدث في ظل ظروف أكثر تطوراً للحضارة الأوروبية وبروليتاريا أكثر تقدماً مما كانت عليه إنجلترا في القرن السابع عشر، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر، ولأن الثورة البرجوازية في ألمانيا لن تكون إلا مُقدِمة للثورة البروليتارية التالية مُباشرةً.
وهذا لم يحدث: إن الوِحدة في ظل المحتال التاريخي العالمي (بسمارك Bismarck) لبروسيا الرجعية، والجُبن والواسطة السياسية للبرجوازية الألمانية سمحت للقومية بالانتصار وهمشت الثورة الشعبية. وقد حول ماركس نظره في أخر حياتهِ نحو روسيا، الذي توقع أن تتمكن من أن تأخذ طريقاً ثورياً، كما يشهد على ذلك مُراسلاتهِ مع فيرا زاسوليتش Vera Zasulich.(الكاتبة المنشفية والمترجمة لأعمال كارل ماركس إلى اللغة الروسية).
وهكذا، لم يكن لدى ماركس الحدس بأن التحول الثوري بالإمكان أن يحدث من أطراف النظام – الحلقات الأضعف، حسب تعبير لينين لاحقاً. إلا أن ماركس لم يستخلص في زمنهِ كل الإستنتاجات التي فرضت نفسها في هذا الصدد. كان من الضروري الإنتظار حتى يتقدم التاريخ نحو القرن العشرين لكي يرى، مع لينين Lenin و ماوتسي تونغ Mao Zedong، الشيوعيين أصبحوا قادرين على تخيُّل ستراتيجية جديدة، مؤهلة لتكون “بناء للإشتراكية في بلد واحد.” هذا تعبير غير مُناسب، الذي أفضل بدلاً عنهُ إعادة الصياغة الطويلة: التقدم غير المُتكافئ على الطريق الطويل للتحوّل الإشتراكي، المُؤتأنس في بعض البلدان، والذي تُناضل ضده استراتيجية الإمبريالية المُهيمنة بشكل مُستمر وتسعى لعزلهِ تماماً.”
يطرح النقاش المُتعلق بالتحول التاريخي الطويل إلى الإشتراكية في اتجاه الشيوعية، والنطاق العالمي لهذهِ الحركة سِلسلة من الأسئلة المتعلقة بتحول البروليتاريا من طبقة بحد ذاتها إلى طبقة لنفسها، وظروف وآثار عولمة الرأسمالية، وموقع الفلاحين في التحول الطويل، وتنوع تعبيرات الفكر المناهض للرأسمالية.
3
وفهم ماركس أكثر من أي شخص آخر أن لدى الرأسمالية مُهمة غزو العالم. وكتب عن هذا في وقت حين كان فيه هذا الغزو بعيداً عن الاكتمال. لقد اعتبر هذهِ المهمة مُنذُ نشأتها، اكتشاف الأمريكتين، الذي افتتح انتقال القرون الثلاثة من النزعة التجارية إلى الشكل النهائي الكامل للرأسمالية.
وكما كتب في البيان الشيوعي، “لقد أسست الصناعة الحديثة السوق العالمية، الذي مهد لها اكتشاف أميركا الطريق … لقد أعطت البرجوازية من خلال استغلالها للسوق العالمية الإنتاج والاستهلاك طابعاً عالمياً في كل بلد.
لقد رحب ماركس بهذهِ العولمة، الظاهِرة الجديدة في تاريخ البشرية. وتشهد لذلك العديد من الفقرات في البيان الشيوعي. على سبيل المِثال: “البرجوازية، كلما ما كانت لها اليد العُليا، وضعت حداً لجميع العلاقات الإقطاعية والأبوية والرعوية.” بالإضافة إلى: لقد أخضعت البرجوازية الريف لسيطرة المُدُن … ولهذا أنقذت جزء كبيراً من السُكان من إنعزالية الحياة الريفية. ومثلُ ما جعلت الريف يعتمد على المُدُن، كذلك جعلت الدول المتوحشة وشبه المُتوحشة تعتمد على الدول المُتمدِنة، أوطان الفلاحين تعتمد على الأوطان البرجوازية، والشرق يعتمد على الغرب.”
الكلام واضح. لم يكن ماركس قط متمسكاً بالماضي، مُتحسِراً على أيام الماضي السعيدة. كان يُعبر دائماً عن وجهة نظر حديثة، إلى الحد الذي يبدو وكأن نزعة التركيز على الذات الأوروبية تستحوذ عليه. وقد تعمق في هذا الاتجاه. ومع ذلك، لم تكن همجية العمل الحضري بمثابة تسفيه للبروليتاريين؟ لم يتجاهل ماركس الفقر في المناطق الحضرية الذي واكب التوسع الرأسمالي.
هل تمكن ماركس في البيان الشيوعي من قياس بشكل صحيح العواقب السياسية لتدمير الزراعة في أوروبا نفسها، بل وفي البُلدان المُستَعمَرة؟ أعود إلى هذهِ الأسئلة في علاقة مُباشِرة بالطابع غير المُتكافئ لنشر الرأسمالية على مستوى العالم.
ما زال ماركس وأنجلز، في البيان الشيوعي، على غير عِلم بأن نشر الرأسمالية في جميع أنحاء العالم ليس ذلك النشر المُتجانس الذي يتخيلانه، أي إعطاء الشرق المُستَعمَر فرصتهِ للخروج من الطريق المسدود الذي وضعهُ تاريخهُ فيه، وأن يُصبح، مثل الدول الغربية، أُمَم “مُتحضِرة” أو دولاً صناعية. تُقدم بعض نصوص ماركس استعمار الهند في ضوء عزاء. ولكن ماركس غير رأيهُ فيما بعد. إن هذهِ التلميحات، بدلاً من أن تُشكّل حجة مُفصلة بشكل منهجي، تشهد على الآثار المُدمِرة للغزو الاستعماري. ويًصبح ماركس تدرجياً على وعي بما أُسميه التنمية غير المُتكافئة، بتعبير آخر، البناء المنهجي للتناقض بين المراكز المُهيّمنة والأطراف المُهيمن عليها، وبهذا، إستحالة “اللِحاق” ضمن هذا الإطار لعولمة الرأسمالية (إمبريالية بطبيعتها) بأدوات الرأسمالية.
في هذا الصدد، إذا كان من المُمكن “اللِحاق بالركب” ضمن العولمة الرأسمالية، فلن تتمكن أية قوة سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية من مُعارضة ذلك بنجاح.
وفيما يتعلق بمسألة “انفتاح الصين” يقول ماركس في البيان الشيوعي بأن “أسعار سِلعها الرخيصة هي المدفعية الثقيلة التي تُحارب بِها جميع الأسوار الصينية، والتي تُجبِر بِها كراهية المُتوحشين المُتعنتة للأجانب على الإستسلام.
ونحنُ نعلم بأن هذه لم تَكُن طريقة عمل هذا الافتتاح: فقد كانت مدافع سلاح البحرية البريطانية هي التي “فتحت” الصين. كثيراً ما كانت المنتُجات الصينية أكثر تنافُسية من المنتُجات الغربية. كما أننا نعرفُ أيضاً أن الصناعة الإنجليزية الأكثر تطوراً ليست هي التي سمحت بالهيمنة الناجحة على الهند (وأيضاً، كانت نوعية النسيج الهندي أفضل من البريطاني). وعلى العكس من ذلك، كانت الهيمنة على الهند (والتدمير المُنظّم للمصانع الهندية) هي التي أعطت بريطانيا العُظمى وضعها المُهيّمن في النظام الرأسمالي العالمي في القرن التاسع عشر.
إلا أن الخبرة والتقدم في السن علما ماركس الشاب كيفية التخلي عن الأهتمام المُتمحور في أوروبا. عرف ماركس كيف يُغيّر وجهات نظره، في ضوء تطور العالم.
ولهذا، تَخيّل ماركس وأنجلز في عام 1848 الإمكانية القوية لثورة اشتراكية أو أكثر في أوروبا في عصرهُما، مُؤكدين على أن الرأسمالية لا تُمثّل إلا فترة فاصِلة قصيرة فقط في التاريخ. وسرعان ما أثبتت الحقائق صحة تنبؤهُما. فكانت كومنة باريس في عام 1871 أول ثورة اشتراكية. إلا أنها أيضاً آخر ثورة قامت في بلد رأسمالي مُتطوّر. ومع تأسيس الأُممية الثانية، لم يفقد أنجلز الأمل في أحداث ثورية جديدة، في ألمانيا بصِفة خاصة. لكن التاريخ أثبت خطأ أنجلز. إلا أن خيانة الأُممية الثانية في عام 1914 كان لا ينبغي أن تُفاجأ أي شخص. وإلى جانب الانجذاب الإصلاحي، فإن توحيد الأحزاب العُمالية في كل أوروبا في ذلك الزمن مع السياسة التوسعية والاستعمارية والإمبريالية لبرجوازيهم دل على أنهُ لم يكُن هناك الكثير مما يمكن توقعه من أحزاب الأُممية الثانية. فقد انتقل الخط الأمامي لتحوّل العالَم إلى جهة الشرق، إلى روسيا في عام 1917 من ثم إلى الصين. وبالتأكيد لم يتنبأ ماركس بهذا، ولكن كِتاباتهِ المُتأخِرة سمحت لنا بالإفتراض أنهُ ربما لم يكُن ليتفاجأ بالثورة الروسية.
وفيما يتعلق بالصين، اعتقد ماركس بأن الذي كان على جدول الأعمال ثورة برجوازية. في كانون الثاني/يناير 1850 كتب ماركس: “حينما يصل أخيراً الرجعيين الأوروبيين لدينا إلى سور الصين العظيم … من يدري إذا لم يجدوا مكتوب عليه الأسطورة: جمهورية الصين، حُرية، مُساواة، أخوة.” كما أن الكومينتانغ لثورة 1911، Sun Yat-sen تخيّلوا هذه أيضاً، مثل جمهورية ماركس (البرجوازية) الصينية. إلا أن Sun Yat-sen لم يفلح لا في هزيمة قوى النظام القديم الذي تمكن قادته العسكريين من استعادة المناطق، ولا طرد هيمنة قوى الإمبريالية، خاصة اليابانية. لقد أكد انحراف قوى كومينتانغ التابعة شيانغ كاي شيك حِجج لينين و ماو بأنه لم يعد هناك مجال لثورة برجوازية حقيقية؛ عصرنا هو عصر الثورة الإشتراكية. ومثلما لم يكُن لثورة شُباط/فبراير لعام 1917 الروسية مُستقبل نظراً لأنها لم تتمكّن من الانتصار على النظام القديم، داعية لذلك إلى ثورة أُكتوبر، كذلك دعت ثورة عام 1911 الصينية إلى ثورة الشيوعيين الماويين، وهُما الثورتان الوحيدتان القادرتان على الإجابة على توقعات التحرير، الوطني والاجتماعي في وقت واحد.
وهكذا كانت روسيا هي “الحلقة الضعيفة” في النظام، التي بدأت الثورة الاشتراكية الثانية بعد كومونة باريس. ومع ذلك، لم يتم دعم ثورة أُكتوبر الروسية، وإنما خاضتها الحركة العُمالية الأوروبية. وبهذا الصدد استخدمت روزا لوكسيمبورغ تعابير قاسية لانحراف الحركات العُمالية الأوروبية. تحدثت عن فشل وخيانة تلك الحركات، وعن عدم نُضج البروليتاريا الألمانية لتقوم بمهامها التاريخية.”
لقد تناولت هذا الإنسِحاب للطبقة العامِلة في الغرب المُتقدم، حيثُ تخلت فيهِ عن تقاليدها الثورية، من خلال التأكيد على الآثار المُدمِرة للتوسع الإمبريالي للرأسمالية والمنافع التي تجنيها المجتمعات الإمبريالية بمجموعها (ليست بُرجوازيتها فقط) من مواقعها المُهيمِنة. ولهذا فقد رأيت إنهُ من الضروري تكريس فصلاً كاملاً في قراءتي للأهمية العالمية لثورة أكتوبر لتحليل التطور الذي دفع الطبقة العامِلة الأوروبية إلى التخلي عن مهامها التاريخية، حسب تعبير روزا لوكسيمبورغ. أُحيلُ القارئ إلى الفصل الرابع في كتابي “ثورة أكتوبر 1917.