(1)
قلنا ذات مرة، في مقال سابق في شأن «ما يجب أن تكون عليه هوية القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها»، أنه يتوجب أن تتوافر في هؤلاء ثلاث مميزات على الأقل، وهي: (أولاًً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
وحيث صدر قانون العمل الجديد رقم (36) لسنة 2012 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 أغسطس/ آب 2012 في العدد 3063 والذي تصدرت بداية وزارة العمل بمفردها لإعداد مسودته واقتراح نصوصه منذ عام 2001 ثم انتهى الأمر إلى إصداره بنصوصه الحالية، فأُلغي بموجبه قانون العمل القديم رقم (23) لسنة 1976 قانون رقم (14) لسنة 1993.
وبمراجعة القانون الجديد أوقفتنا العديد من نصوصه التي تحيط بها الكثير من المآخذ، سواءً من حيث الشكل أو الصياغة أو المضمون، التي لم نكن نتوقعها مطلقاً، وخاصةً أن ولادة هذا القانون جاءت بعد حملٍ دام إحدى عشرة سنة يفترض أن يكون حسن الخلقة مكتملاً غير مشوه.
وعلى رغم أن هذا القانون تضمن بعضاً من النصوص لصالح المرأة العاملة، إلاّ أن هذه النصوص لا تعدو سوى نقاط صغيرة بيضاء في وسط دائرة كبيرة سوداء كاتمة، ما يجعلنا نخرج بمحصلة نهائية أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.
ولكي لا نطيل في المقدمة نبدأ في الولوج في نصوص هذا القانون ونختار بعضاً من نصوصه ضمن دائرته السوداء، لنعقب عليها مادةً تلو الأخرى بالتعليق عليها في حلقات متسلسلة ومتتابعة نبدأها في هذه الحلقة، بما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة الرابعة على أن «يستمر العمل بأية مزايا أو شروط أفضل تكون مقررة أو تقرر في عقود العمل الفردية أو الجماعية أو أنظمة العمل بالمنشأة أو غيرها أو بموجب العرف».
هذا النص، رغم ركاكته وسوء صياغته بشكل لا يليق أن يكون نصاً في القانون، بحيث يظهر أن من قام بصياغته غير محيط بأبعاد القاعدة القانونية ولا يحسن صياغتها، فقد جاء – علاوة على ذلك – مغايراً لنص قانوني يقابله في المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 التي ورد فيها النص التالي: «ولا يجوز المساس بما اكتسبه العامل من حقوق بمقتضى أية اتفاقية أو لوائح النظم الأساسية أو قرارات التحكيم أو ما جرى العرف أو اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».
وبمقارنة النصين السابقين نلحظ أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 وقف موقفاً سلبياً في غير صالح العمال، وهذا الموقف السلبي سندرك لاحقاً كم هو ضار للغاية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: كان يفترض أن يؤكد النص سابق الذكر بعبارة واضحة لا تحتمل التأويل وبقاعدة آمرة على «عدم المساس بما اكتسبه العمال من حقوق» على النحو الذي جاء في نص المادة رقم (153) من قانون العمل السابق لسنة 1976. وهو ما خلا منه نص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد.
ثانياً: من المقرر – طبقاً لما نصت عليه معظم القوانين والاتفاقيات العمالية الدولية – أن الحقوق العمالية تكتسب بمقتضى إحدى المصادر التالية: القانون، أو عقد العمل، أو لوائح الأنظمة الأساسية للمنشأة، أو قرارات التحكيم، أو العرف، أو ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال.
وهذه المصادر الستة نص عليها قانون العمل القديم على نحو ما تقدّم، تضفي على الحقوق العمالية صفة الحق المكتسب، بحيث يستطيع العامل بمقتضى أي واحد من هذه المصادر أن يطالب بالحق بصفته حقاً مكتسباً، ومن بين هذه المصادر كما ذكرنا «ما قد اعتاد صاحب العمل على منحه له بصورة منتظمة».
بيد أننا لو قمنا بمقارنة نص المادة رقم (153) من قانون العمل الملغى لسنة 1976 ونص المادة الرابعة من قانون العمل الجديد سابق الذكر لوجدنا أن هذا الأخير قد حذف مصدراً مهماً من مصادر الحق وهو «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال».
فلو افترضنا مثلاً أن بنكاً من البنوك قد اعتاد على أن يصرف لموظفيه أو لبعض منهم أجر شهرٍ إضافي بنهاية كل عام ميلادي (وهو ما يطلق عليه أجر الثالث عشر) وكان هذا الاعتياد غير مبني على اتفاق صريح في عقد العمل، فإن هذا الاعتياد بمقتضى قانون العمل القديم يصبح حقاً مكتسباً للموظفين لا يستطيع البنك المساس به، من حيث أنه جاء بمقتضى قاعدة قانونية آمرة. في حين أن قانون العمل الجديد حذف عبارة «ما اعتاد صاحب العمل على منحه للعمال» ما يعني أنه حذف مصدراً من مصادر الحق آنفة الذكر، وبالتالي يستطيع البنك في مثل الحالة المشار إليها أن يلغي صرف الراتب الثالث عشر مهما طالت مدة اعتياده على صرفه لموظفيه، ولن يكون ملزماً به كحق مكتسب بحكم القانون الجديد.
لذلك وبناءً على ما تقدّم نكون قد وقفنا على سوأة من مساوئ قانون العمل الجديد، وسنقف بالتتابع على باقي هذه المساوئ في الحلقات المقبلة.
(2)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم
(36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقة الأولى إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها.
(وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
ووقفنا في الحلقة السابقة على نص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون المذكور، والتي من خلالها أثبتنا سوء صياغة هذا النص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون المذكور يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، فضلاً عن كون النص المشار إليه جاء في غير صالح العمال، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال استناداً للأسباب التي وقفنا عليها.
وفي هذه الحلقة سنقف على جانب من نصوص القانون المذكور لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته.
وذلك فيما يلي:
أولاً: في المادة العاشرة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993 الذي ألغاه قانون العمل الجديد، جاء النص التالي: «على وزارة العمل ترشيح المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم الفنية…». هذا النص يحمل مضموناً سن بموجبه إجراءً قانونياً ملزماً التزمت به وزارة العمل طيلة السنوات الماضية، وهو ترشيح العاطلين المقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم. غير أن قانون العمل الجديد لسنة 2012 خلا من هذا النص تماماً، ما يعني أن المشرِّع رفع هذا الالتزام عن كاهل وزارة العمل.
وبإلغاء هذا الإجراء أصبحت وزارة العمل بمنأى عن أي التزام قانوني يلزمها بترشيح العاطلين المقيدين لديها ومتابعة تشغيلهم على نحو ما كانت عليه في الماضي، ليبقى التزامها محصوراً في قيد العاطلين، أو بالتنسيق مع جهات – لم يحددها القانون – لغرض توظيفهم طبقاً لما جاء في نص المادة التاسعة من قانون العمل الجديد.
و»الترشيح» المشار إليه لا يجوز تبسيط مفهومه ومضمونه ليوصف – بحسب ما يراه بعض المسئولين الجدد بوزارة العمل – بأنه مجرد اقتراح أو تنسيق لتوظيف العاطلين، إذ أنه بهذا التوصيف ننتهي إلى اجتزاء طبيعة الترشيح.
إنما هو في الحقيقة نظام يحمل في طياته توصية، أو ما يشبه بالأمر الإداري، في إطار خطة «بحرنة الوظائف» التي تخلت عنها وزارة العمل تدريجياً حتى أصبحت في «خبر كان».
وقد لمسنا في الماضي أن ترشيح وزارة العمل للمقيدين لديها للوظائف والأعمال التي تناسبهم وتتفق مع سنهم وكفاءتهم ومتابعة تشغيلهم وفق خطة بحرنة الوظائف كان له الأثر الملموس في توظيف نسبة لا بأس بها من العاطلين. وبإلغاء نظام الترشيح باتت وزارة العمل غير مسئولة عن أهم واجب وطني يفترض أن تقوم به على نحو ما كانت عليه في الماضي، وإن قامت به إنما تقوم به تفضلاً لا بموجب التزام قانوني.
وقد سبق أن صرح لنا أحد المسئولين بوزارة العمل خلال زيارتنا له لغرض ترشيح أحد الخريجين الجامعيين كان عاطلاً لأكثر من ثلاث سنوات ولا يزال عاطلاً، بقوله: «إن الوزارة غير مؤهلة لأن تُلزم أحداً بتشغيله وفقاً لمؤهلاته». ونحن في الواقع لا نلوم هذا المسئول لما صرح به، لأنه فطن بأن لا وجود لإلزام قانوني على هذه الوزارة بعد إلغاء النص الذي يلزمها بترشيح ذلك المواطن العاطل وإخلاء مسئوليتها من متابعة تشغيله، وبعد تعطيل خطة «بحرنة الوظائف» كما أشرنا.
ثانياًَ: بعد أن رأينا في الفقرة السابقة كيف أخلى المشرِّع (بمقتضى قانون العمل الجديد) مسئولية وزارة العمل من ترشيح العاطلين الوطنين المقيدين لديها ومن الالتزام بمتابعة تشغيلهم على نحو ما سلف بيانه، نجده اتخذ موقفاً أشد قسوة تجاه العامل الوطني استناداً لما يلي:
فبعد مراجعة قانون العمل الجديد نلحظ أنه ألغى المادة رقم (13) من قانون العمل لسنة 1976 التي ألزمت صاحب العمل بوجوب منح الأفضلية للوطني في الاستخدام، والتي جاء فيها «في حالة زيادة عدد العمال عن حاجة العمل يجب الاستغناء عن الأجنبي قبل العربي أو الوطني، وعن العربي قبل الوطني»…
بمعنى أنه كان يجب على صاحب العمل في حالة زيادة عدد عماله عن الحاجة أن يستبقي على العامل الوطني ويمنحه الأفضلية في الاستخدام دون العربي والأجنبي متى كان صالحاً لأداء العمل.
أو بمعنى آخر كان لا يجوز لصاحب العمل في حالة زيادة عماله عن الحاجة أن يفصل العامل الوطني ولديه عامل عربي أو أجنبي يماثله. وبإلغاء المادة
(13) المشار إليها جاز القول بأن قانون العمل الجديد ألغى أفضلية العامل الوطني في الاستخدام على غيره من الأجانب، فجعل العامل الوطني والأجنبي متساويين في حق الاستخدام.
وبناء على ما تقدم في الحلقة الأولى وفيما أشرنا إليه أعلاه يثبت أن المشرِّع بموجب قانون العمل الجديد قد أخذ موقفاً سلبياً فيه أكثر قتراً وبخلاً وحيفاً بحق العامل الوطني.
ثالثاً: جاء في المادة رقم (12) من قانون العمل الجديد «يجب على صاحب العمل أن يسلم العامل إيصالاً بما يودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات. ويلتزم صاحب العمل بأن يرد للعامل عند انتهاء عقد العمل ما يكون قد أودعه لدى صاحب العمل».
هذا النص يوضح لنا بجلاء الاعوجاج المتين في الصياغة، وبما يثبت مجدداً أن الأيادي التي صاغت نصوص قانون العمل الجديد ليست مؤهلة لذلك.
ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من هذا الاعوجاج في الصياغة والتعبير والشكل، والمزيد من الحيف الذي وقع على العمال من خلال قانون العمل الجديد. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.
(3)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقتين السابقتين بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: (أولاً) معرفة القاعدة القانونية؛ من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها. (وثانياً) الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره. (وثالثاً) معاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
وقد وقفنا في الحلقتين الماضيتين على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا سوء صياغتها بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودة القانون يفتقرون لإحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأجراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما كنا قد انتهينا إليه.
وفي هذه الحلقة (الثالثة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:
أولاً: تنص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد على أنه «يجب على صاحب العمل إعطاء العامل – أثناء سريان عقد العمل أو عند انتهائه ودون مقابل – شهادة بما يطلبه من بيانات بشأن تاريخ التحاقه بالعمل ونوع العمل الذي قام به والأجر والمزايا الأخرى التي حصل عليها وخبرته وكفاءته المهنية وتاريخ وسبب انتهاء عقد العمل». هذه المادة تقابلها المادة رقم (119) من قانون العمل القديم ونصها هو «يمنح العامل شهادة خدمة تتضمن بياناً لمهنته ومدة خدمته وآخر أجر تقاضاه، ويرد إليه ما قد أودعه لدى صاحب العمل من أوراق أو شهادات أو أدوات».
وبمقارنة نص المادتين المذكورتين نلحظ سوء صياغة نص المادة رقم (13) من قانون العمل الجديد وعدم انتظام تركيبتها اللغوية على خلاف نص المادة (119) من قانون العمل القديم، إلاّ أن مساوئ نص المادة الأولى في الصياغة والتركيب اللغوي ليس لها من تأثير كبير مقارنةً بالضرر الذي يحمله مضمون هذا النص. فبالعودة إلى هذا النص نجد خلاصة مضمونه أنه يُلزم صاحب العمل بأن يصدر للعامل شهادة خدمة يبين فيها تاريخ التحاقه بالعمل ونوع عمله وأجره وتاريخ انتهاء خدمته وأسباب انتهائها.
ومن المقرر أنه عندما يُلزم القانون صاحب العمل بأن يذكر أسباب انهاء خدمة العامل أو سبب فصله من العمل في شهادة الخدمة المقدّمة إليه، فإن ذلك يعد أمراً خطيراً يحيق بالعامل لم نجده في جميع التشريعات العمالية الدولية، بما فيها قانون العمل البحريني القديم، لكونه يحمل في ثناياه ضرراً محضاً بالغ الشدة يصيب العامل على وجه التأكيد في بعض الحالات، كأن يكون إنهاء خدمة العامل أو فصله بسبب فقد الثقة فيه بعد أن اتهمه صاحب العمل بجرم السرقة مثلاً.
فعندما يذكر صاحب العمل هذا السبب في شهادة الخدمة سيكون ضرر هذه الشهادة على العامل أكثر من نفعها لأنها تصبح بمثابة دليل إدانة ضده، ما يضطره للاستغناء عنها بالتأكيد، وباستغنائه عنها يكون قد فقد أهم مرجع يثبت خبرته وسنوات خدمته.
علماً أن قانون العمل القديم – حاله كحال التشريعات العمالية المقارنة – كان قد حرَّم على صاحب العمل ذكر أسباب انهاء خدمة العامل في شهادة خدمته خشية أن يضار العامل من ذكرها، في حين يأتي لنا قانون العمل الجديد ليفرض على صاحب العمل بقوة القانون وجوب ذكر أسباب فصل العامل وأسباب إنهاء خدمته في شهادة الخدمة على نحو ما جاء في النص. ولذلك نخلص إلى القول ان قانون العمل الجديد في هذا الجانب قد أصاب العمال في مقتل. ولا ندري ما الحكمة من وراء ذلك يا ترى! وأي حكمة هذه التي يوظف لها قانون العمل للإضرار بالعمال بدلاً من أن يكون موظفاً لحمايتهم؟
ثانياً: تنص المادة رقم (22) من قانون العمل الجديد على انه «يحظر على صاحب العمل أن يخرج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل الفردي، أو عقد العمل الجماعي، أو أن يُكلِّف العامل بعمل غير متفق عليه إلاّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك منعاً لوقوع حادث أو إصلاح ما نشأ عنه، أو في حالة القوة القاهرة، على أن يكون ذلك بصفة مؤقتة. وله أن يُكلِّف العامل بعمل غير المتفق عليه إذا كان لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، ويشترط عدم المساس بحقوق العامل».
«ويجوز لصاحب العمل تدريب العامل وتأهيله للقيام بعمل مختلف عن العمل المتفق عليه تمشياً مع التطور التكنولوجي في المنشأة…».
فلو تأملنا قليلاً في الفقرتين السابقتين سنجد فيهما ما يثير العجب:
(1) فبعد أن نص القانون في الفقرة الأولى بعدم الخروج على الشروط المتفق عليها في عقد العمل، وعدم تكليف العامل بعمل يختلف اختلافاً جوهرياً عن عمله الأصلي، عاد في الفقرة الثانية ليعطي لصاحب العمل حق تدريب العامل وتأهيله لمهنة تختلف عن المهنة المتفق عليها «تمشياً مع التطور التكنولوجي» بحسب ما جاء في النص، وهذا يعد تناقضاً ظاهراً في النص.
وكما هو متفق عليه أن التناقضَ في النصوص يزدريها، كما يزدري التناقضُ الأحكام القضائية. مع ملاحظة أن ظاهر النص يشير إلى تدريب العامل وتأهيله لوظيفة غير الوظيفة التي يشغلها، وهو أمر يثير العجب بحق.
فلو افترضنا مثلاً أن مستخدماً يعمل بمهنة مهندس متفق عليها بمقتضى شروط عقد العمل، وحيث رأينا أن القانون – بناء على الفقرة الأولى أعلاه – يُحرِّم على صاحب العمل الخروج على شروط العقد وتكليف هذا المستخدم بعمل يختلف عن عمله الأصلي، فكيف يحق لصاحب العمل في الوقت ذاته – بناء على الفقرة الثانية – إجبار المستخدم المذكور للتأهل لمهنة أخرى غير المهنة الأصلية! وليت أن القانون اشترط قبول العامل بذلك إنما جعله حقاً مطلقاً لصاحب العمل. وليت أنه أيضاً أسند حكمه هذا وعلّله بمقتضى مصلحة العمل لالتمسنا له عذراً، إنما أسنده وعلّله «للتماشي مع التطور التكنولوجي» فقط كما ورد في النص.
إذاً… هذا الحكم بتناقضه أليس هو من قبيل الهُراء؟
(2) بقراءتنا لنص الفقرة الثانية من المادة (22) السابقة، وبناءً على ما تقدم، نجد أن قانون العمل الجديد قد منح صاحب العمل – بناء على رغبته – حق إلزام العامل بتعلم مهنة غير المهنة المتفق عليها التي يعمل فيها عنده، وإن اختلفت عنها اختلافاً جوهرياً، ودون النظر إلى مصلحة العمل. فكأنه بذلك أعطى لصاحب العمل وحده وبدون مسوّغٍ قانوني، حق تقرير مسار حياة العامل المستقبلية وإجباره على تعلم مادة قد لا تروق له أو لا تتفق مع قدراته.
وطبقاً لمقررات واتفاقيات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان؛ ان حرية العمل مكفولةٌ فلا يجوز لأحد إجبار أحدٍ على عملٍ غير راغب فيه، وهذا ما قرّره دستور مملكة البحرين في المادة (13) من أنه «لا يجوز فرض عمل إجباري على أحد إلاّ لضرورة قومية وبمقابل عادل أو تنفيذاً لحكم قضائي». فإذا كان إجبار شخص على عمل غير راغب فيه لا يجوز بموجب الدستور، فكيف يجوز لشخص أن يقرر مسار حياة شخص آخر دون إرادته وبدون مسوِّغ .
إنها بحق لصورةٌ مقلوبة، وهذه الصورة المقلوبة لم نرها إلاّ في قانون العمل الجديد، وهذه الصورة وما سبق لنا ذكرها ما هي إلاّ غيض من فيض.
ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الحيف الذي وقع على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.
(4)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 أشرنا في الحلقات الثلاث السابقة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات هي: معرفة القاعدة القانونية؛ الخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
وقد وقفنا على بعض نصوص قانون العمل المذكور وأثبتنا من خلالها سوء صياغة تلك النصوص بما يوحي أن القائمين على إعداد مسودته يفتقرون إلى إحدى المميزات السالف ذكرها، كما رأينا كيف أن تلك النصوص هي في غير صالح الأُجَراء، وكأن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.
وحيث كنا ولانزال ننعت قانون العمل الجديد بأنه «أسوأ قانون تشهده البحرين»، استوجب التنويه إلى أن هذا النعت لم يكن بسبب ما علق بنصوصه من سوء صياغة وركاكة في التعبير، أو لسوء تنظيم وغير ذلك وحسب، أو لأنه تضمن نصوصاً ليست في صالح الأجراء؛ إنما سوأته العظمى تكمن في تراجعه إلى الأسوأ بحيث وجدناه قد سلب من العمال الكثير من الحقوق والمنافع والمميزات المقررة لهم في القوانين التي سبقته، أو زاد عليهم ثقلاً لم يكونوا يحملونه من قبل، في حين كان يفترض أن يأتي هذا القانون بالأفضل للأجراء، من حيث أنه يفترض كلما رقت الحضارة وتقدمت ثقافة المجتمع كلما سمت قوانين العمل بما تكفل للعمال حماية أكثر ورعاية أسمى ومصالح أوفى، لا أن تسلب منهم ما كان مقرراً لهم سلفاً، أو أن تُضيف ثقلاً عليهم لم يكونوا يحملونه من قبل، على نحو ما أثبتناه في الحلقات السابقة وما سنثبته تباعاً في الحلقات التالية. ولهذا جاز لنا أن ننعته بأنه «أسوأ قانون تشهد البحرين».
وفي هذه الحلقة (الرابعة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون لنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:
أولاً: تنص المادة رقم (40) من قانون العمل القديم لسنة 1976 «تُحرر جميع العقود باللغة العربية، وكذلك المراسلات والتعليمات والنشرات واللوائح التي يصدرها صاحب العمل لعماله».
وكان المشرِّع يهدف من وراء هذا النص حماية العمال العرب، وعلى وجه الخصوص العمال الوطنيين، خشية أن يوجه إليهم أرباب العمل إخطارات أو إنذارات أو تنبيهات بلغة أجنبية يصعب عليهم فهم مضمونها فتكون رغم ذلك حجة عليهم. ومن ثم كان يعتبر أي إخطار أو تنبيه محرر بلغة أجنبية لا يحظى بالحجية كورقة قانونية في مواجهة من أُرسل إليه من العمال ما لم يكن مشفوعاً بترجمة له باللغة العربية، وذلك استناداً للحكم الوارد في النص السابق. بيد أن قانون العمل الجديد حذف هذا النص من نصوصه، مما ترتب عليه أن أصبح صاحب العمل غير ملزم بتحرير مراسلاته وتعليماته ونشراته ولوائحه وإنذاراته التي يصدرها أو يوجهها للعمال باللغة العربية كما كان ملزماً بمقتضى قانون العمل السابق، دون أن نعرف الغاية من ذلك، اللهم إلاّ إذا رأى المشرِّعون الجدد أن البحرين أصبحت خارج المنظومة العربية، أو أنهم رأوا أن المستندات المحرّرة بلغة أجنبية وغير المترجمة مقبولة كدليل إثبات في مواجهة العمال خلافاً لقواعد الإثبات المقررة قانوناً. وفي غير ذلك يصبح حذف النص المشار إليه من قانون العمل الجديد مخالفاً لقواعد الإثبات بما يفضي إلى رفع الحماية عن العمال في هذا الجانب دون مسوغ، وفي ذلك إجحاف بحقهم.
ثانياً: تنص الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد بالآتي: «يصدر الوزير، بعد أخذ رأي الوزارات المعنية وغرفة تجارة وصناعة البحرين والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين قراراً بتحديد اشتراطات ومواصفات المساكن وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعامل في كل وجبة…». «والوزير» المشار إليه في النص هو الوزير المختص بشئون العمل في القطاع الأهلي، أي وزير العمل، بحسب التعريفات الواردة في الفصل الأول من قانون العمل الجديد.
وبالعودة إلى النص أعلاه نجد أن قانون العمل الجديد قد أناط لوزير العمل تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدم للعمال بعد التشاور مع الجهات المذكورة في النص. بيد أنه من المقرر أن تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال وتحديد أصناف وكميات الطعام هي من المسائل الصحية التي تختص بها وزارة الصحة العامة وحدها، وإن أي قرار بشأنها يجب أن يصدر من وزير الصحة وليس من وزير العمل، لذلك سبق وأن أصدر وزير الصحة القرار الوزاري رقم (8) لسنة 1978 بشأن تحديد الاشتراطات والمواصفات الصحية لمساكن العمال والذي لايزال معمولاً به حتى الآن.
وإذا كان هناك ثمة من يعتقد أن كل ما يتعلق بأمور العمال يقع تحت رقابة وإشراف وزارة العمل فهو خاطئ، ونؤكد له خطأ هذا الاعتقاد بدليل أنه في مجال الصحة لا يجوز للمفتش العمالي التابع لوزارة العمل التفتيش على كل ما يتصل بالأمور الصحية (ومنها مساكن العمال) إلاّ بصحبة مفتش من وزارة الصحة العامة، وذلك طبقاً لنص المادة رقم (22) من القرار الوزاري رقم (28) لسنة 1976 في شأن تنظيم أعمال التفتيش، التي تنص على أن «يتم ضبط المخالفات وتحرير المحاضر في مجالي الصحة والسلامة المهنية عن طريق مفتش العمل… وعلى مفتش العمل مصاحبة مسئول السلامة المهنية ومسئول الصحة المهنية بوزارة الصحة في هذا النوع من التفتيش كل بحسب اختصاصه».
فإذا كان الأمر ذلك، وجب قانوناً تحديد اشتراطات ومواصفات مساكن العمال، وتحديد أصناف وكميات الطعام التي تقدّم للعمال بموجب قرار يصدره وزير الصحة – وإنْ لزم الأمر أن يكون ذلك بالاتفاق مع وزير العمل – لا بقرار يصدره وزير العمل، وعلى ألاّ تُحشر غرفة تجارة وصناعة البحرين ومعها الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في هذا الشأن باعتبارهما ليسا جهة اختصاص وغير مؤهلين لذلك.
وعليه فإن الفقرة الثانية من المادة رقم (11) من قانون العمل الجديد محل البحث هي إحدى الصور المقلوبة في هذا القانون، ولا نماري من يعتقد أن انقلاب هذه الصورة يعود إلى أن المشرعين الجدد يفتقرون إلى الميزة الثانية التي أشرنا إليها في بداية الكلام (الخبرة في مجال العمل)، ولذلك غاب عليهم معرفة الوزارة أو الوزير المختص في هذا الشأن.
ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين، على أننا سنخصص الحلقة القادمة في شأن الأحكام الخاصة بالنساء العاملات وما طرأ على حقوقهن من تغيير في هذا القانون في غير صالحهن.
(5)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوافر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية من حيث الإحاطة بأبعادها وشروطها وكيفية صياغتها؛ والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون المراد تعديله أو إصداره؛ ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور ورأينا كيف أن تلك النصوص مجحفة بحق الأجَراء، وكأن المشرِّع مال إلى جانب أصحاب الأعمال وأخذ موقفاً سلبياً نحو العمال على ضوء ما انتهينا إليه.
وفي هذه الحلقة (الخامسة) سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المذكور، وذلك في جانب من الجزء المتعلق بالنساء العاملات لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:
أولاً: تنص المادة رقم (30) من قانون العمل الجديد «يصدر الوزير قراراً بتحديد الأعمال والمناسبات التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً». هذه المادة تقابلها المادة رقم (59) من قانون العمل القديم لسنة 1976 التي تنص على أنه «لا يجوز تشغيل النساء ليلاً…. ويستثنى من ذلك دور العلاج والمنشآت الأخرى التي يصدر بشأن العمل بها قرار من وزير العمل».
وبمقارنة النصين نلحظ أن قانون العمل القديم اعتبر حظر تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وأن ما يقرره وزير العمل بجواز تشغيلهن ليلاً في حالات معينة هو الاستثناء، ذلك لأن المشرِّع كان قد نظر إلى النساء العاملات نظرة خاصة فمنع تشغيلهن ليلاً من حيث الأصل نظراً لتكوين المرأة الجسماني والصحي من جانب، ونظراً للتقاليد الموروثة في المجتمعات الإسلامية التي تتجه إلى وضع ضمانات لحماية المرأة خلقياً وتربوياً من جهة أخرى. بينما قانون العمل الجديد قلب الصورة رأساً على عقب فجعل جواز تشغيل النساء ليلاً هو الأصل، وما يقرّره وزير العمل بمنع تشغيلهن في حالات معينة هو الاستثناء. وهذا الانقلاب في الصور له تداعيات خطيرة على النساء العاملات لم يفطن إليه المشرّعون الجدد بالتأكيد. ومن تداعيات هذا الانقلاب:
سيكون من الآن وصاعداً لأصحاب الأعمال الحق في تشغيل النساء العاملات ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن دون استثناء إلى أن يصدر وزير العمل قراراً يستثني فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيلهن ليلاً.
ولذلك نلتمس العذر من السيدات العاملات إنْ قلنا لهن عليكن الانتظار طويلاً إلى حين صدور هذا القرار.
إذا افترضنا جدلاً أن وزير العمل أصدر القرار المنتظر بشكل عاجل، والذي سيحدد فيه الأعمال والأماكن التي لا يجوز فيها تشغيل النساء ليلاً استثناءً من الأصل، غير أنه من المعروف أن الاستثناء هو من حيث الكم أقل من الأصل، بمعنى أن النساء سيجبرن على العمل ليلاً في كل الأعمال وفي كل الأماكن إلاَّ القليل فيما يستثنى منها.
وحيث ان الاستثناء لا يقبل القياس ولا التشبيه إنما هو محصورٌ فيما حُصر فقط، فإنه والحال ذلك يلزم حصر الأعمال والأماكن المستثناة التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً وتحديدها تحديداً دقيقاً ومتكاملاً ووافياً.
وهذا التحديد الدقيق والمتكامل والوافي هو من الصعوبة بمكان إدراكه أو حصره، بل من الصعوبة التنبؤ بثباته واستقراره في ظل ظروفٍ ومناخٍ مهني وصناعي مُعقَّد ومتقلب غير ثابت. وبالتالي فإن القرار الوزاري المنتظر صدوره في شأن تحديد الأعمال أو الأماكن التي لا يجوز تشغيل النساء فيها ليلاً سيكون قاصراً عن احتواء هذه الأعمال وهذه الأماكن إلاّ في منظور زمني قريب، وإنْ احتواها فإنها ستظل بالطبع في حدود دائرةٍ ضيقة، وسيبقى الأصل (تشغيل النساء ليلاً) في الدائرة الأكبر والأوسع، بخلاف لو أن حظر تشغيل النساء ليلاً كان هو الأصل – على نحو ما كان عليه قانون العمل القديم – فإن الاستثناء بتشغيل النساء ليلاً سيبقى بالتأكيد في حدود دائرته الضيقة.
وعليه نخلص إلى أن قانون العمل الجديد حيث قلب الصورة على نحو ما تقدّم، فإن هذا الانقلاب سيرتد على النساء العاملات بضرر اجتماعي وجسدي لا تحمد عقباه.
ثانياً: جاء في المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على:
أ – «تحصل العاملة على إجازة وضع مدفوعة الأجر مدتها ستون يوماً، تشمل المدة التي تسبق الوضع والتي تليه…، ويجوز أن تحصل على إجازة بدون أجر بمناسبة الوضع مدتها خمسة عشر يوماً علاوة على الإجازة السابقة».
ب – يحظر تشغيل العاملة خلال الأيام الأربعين التالية للوضع…».
والمتأمل إلى النص السابق بفقرتيه يُقدِّر أن المشرِّعين الجدد غير محيطين بأبعاد القاعدة القانونية وشروطها، وهذه إحدى الميزات التي أشرنا إليها في بداية الحلقة.
فالقاعدة القانونية هي إمّا أن تكون قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام لا يجوز مخالفتها مطلقاً أياً تكن الأسباب وإنْ برضى العامل وصاحب العمل معاً. وإما أن تكون غير ذلك، أي لا تتعلق بالنظام ويجوز مخالفتها بالتراضي.
ومن المسلم به أنه عندما يضع القانون قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام بحيث يجوز مخالفتها بالتراضي فإن هذه القاعدة لن تكون بذات قوة القاعدة القانونية المتعلقة بالنظام العام التي لا يجوز مخالفتها، وبفقدانها هذه القوة سوف لن تحمي الطرف الضعيف كالعامل مثلاً، إذ قد يرضخ العامل أو يُجبر على قبول مخالفتها قسراً.
بعد هذه المقدمة نعود إلى النص السابق، فنلحظ في الفقرة (أ) أن القانون وضع قاعدةً قانونيةً منح بموجبها المرأة العاملة إجازة وضع مدتها ستون يوماً، وفي الفقرة (ب) حَظَرَ القانون تشغيل المرأة العاملة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها.
وهذا يعني أن قاعدة «حظر تشغيل المرأة خلال الأربعين يوماً من تاريخ ولادتها» قاعدة قانونية آمرة لا يجوز مخالفتها وإنْ برضى صاحب العمل والعاملة. أما بعد الأربعين يوماً تنقلب هذه القاعدة إلى قاعدة قانونية لا تتعلق بالنظام العام فيجوز مخالفتها. وهنا تكمن الخطورة على العاملة، إذ قد يضغط عليها صاحب العمل بطلب العودة إلى العمل بعد مضي مدة أربعين يوماً من تاريخ ولادتها، أي قبل عشرين يوماً من انتهاء مدة الإجازة المقررة قانوناً، فترجع مرغمةً، وإن قبلت بذلك من حيث الظاهر لكي ترضي صاحب العمل خشية ألاّ يتخذ ضدها موقفاً سلبياً لاحقاً، طالما لا توجد أمامه قاعدة قانونية آمرة تتعلق بالنظام العام تردعه أو تمنعه من الضغط عليها.
ومن ثم نخلص إلى القول إن الفقرة (ب) من المادة رقم (32) من قانون العمل الجديد سابقة الذكر ليست موفقة، من حيث أنها قد تشكل ضرراً بالغاً على العاملة بخسارتها ثلث إجازة الولادة المقرّرة لها قانوناً للأسباب التي أشرنا إليها، وللأسف أن يكون سبب هذه الخسارة عائداً لحكم القانون.
وهذا يعني أن قانون العمل الجديد بعد أن منح المرأة العاملة إجازة ولادة تزيد عمّا منحها قانون العمل القديم عاد وأخذ منها هذه الزيادة بطريقة قانونية، كالذي يُعطي باليد اليمنى ويسترجع ما أعطاه باليد اليسرى، وهذا هو منتهى الإجحاف.
ولنا لقاء متواصل في حلقات قادمة متتابعة، وسنخصص الحلقة القادمة للوقوف على بقية النصوص الخاصة بالنساء العاملات لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف والحيف الواقعين على العمال والعاملات من قبل قانون العمل الجديد واعوجاج نصوصه شكلاً وصياغةً وتنظيماً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهد مملكة البحرين.
(6)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد بدأنا الحلقات السابقة بالإشارة إلى وجوب أن تتوفر في القائمين على إعداد مسودة القوانين أو تعديلها ثلاث مميزات: معرفة القاعدة القانونية بأبعادها وشروطها، والخبرة في مجال العمل المرتبط بالقانون، ومعاصرة الواقع بالتوطن أو الإقامة الطويلة.
وقد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص قانون العمل المذكور، وخصصنا الحلقة السابقة (الخامسة) في شأن النصوص المتعلقة بالنساء العاملات، ورأينا كيف كانت تلك النصوص في غير صالح النساء العاملات أيضاً، فأثبتنا من جديد أن المشرِّع قد أخذ موقفاً سلبياً نحو العمال والعاملات على حد سواء.
وفي هذه الحلقة سنقف على جانب آخر من نصوص القانون المتعلقة بالنساء العاملات أيضاً لنثبت من خلاله مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:
أولاً: تنص المادة رقم (34) من قانون العمل الجديد لسنة 2012 على أن «تستحق المرأة العاملة الحصول على إجازة بدون أجر وذلك لرعاية طفلها الذي لم يتجاوز ست سنوات بحد أقصى ستة أشهر في المرة الواحدة، ولثلاث مرات طوال مدة خدمتها».
والمتأمل إلى هذا النص يدرك دون أدنى جهد وعناء أنه يحمل عدة عيوب، منها عيب في الصياغة من حيث ركاكته وعدم انتظام مفرداته، وعيب الغموض وعدم الوضوح، وعيب القصور.
فعيب الصياغة لا يحتاج إلى إيضاح، وأما عن عيب الغموض وعدم الوضوح فمن ظاهره أنه يحمل أكثر من معنى، فعندما يذكر النص «بحد أقصى ستة أشهر في المرة الواحدة» فهل هو يقصد أن للمرأة العاملة أن تأخذ إجازة لمرة واحدة لرعاية «طفلها» بحيث لا تتجاوز هذه الإجازة ستة أشهر، أم أنه يقصد لعدة مرات على ألاّ تتجاوز مجموعها ستة أشهر. وفي هذا وذاك يظهر الغموض وعدم الوضوح في النص.
وأما من حيث قصور النص؛ فمن المتفق عليه أنه عندما يقرر المشرِّع نصاً (أو حكماً) كان يستحسن دائماً أن يؤسسه على سبب أو قصد يبني عليه حكمه، وهو ما يطلق عليه «الحِكمَةُ من الحُكم» بحيث إذا ما انتفت الحكمة ينتفي الحكم، وإلاّ يكون حكماً قاصراً ومعيباً، بيد أننا نلحظ أن النص السابق يفتقر إلى هذا الأساس لخلوه منه.
فحيث يقرر المشرّع طبقاً لما جاء في النص «ان للمرأة العاملة الحق في إجازة لرعاية طفلها» كان يفترض أن يؤسس حكمه على سبب يبرر الرعاية، كأن يشترط أن يكون الطفل بحاجة إلى رعاية بتقرير طبي، لا أن يترك ذلك إلى تقدير العاملة (أم الطفل)، وخصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار طول هذه الإجازة (ستة أشهر) التي إنْ استعملتها العاملة بحسب تقديرها وبدون سبب، أو إذا ما تواجدت أكثر من حالة مماثلة في آن واحد لدى صاحب العمل الواحد فإن ذلك بالتأكيد سيؤثر على سير العمل وسيربك صاحب العمل، ما يؤدي بالنتيجة إلى الإضرار به. علاوةً على ذلك فإن المشرع عندما يمنح المرأة العاملة الإجازة المذكورة لثلاث مرات كحد أقصى بحسب ما جاء في النص، أي لثلاثة أطفال متتالين فقط، فهنا يثور أمامنا سؤال هو: ما هي الحكمة من أن تمنح العاملة حق رعاية ثلاثة أطفال من أبنائها بالتتابع وتُحجب الرعاية عن الأطفال اللاحقين، فلربما يكون الطفل الرابع أو ما سيأتي بعده أولى بالرعاية.
وعليه نخلص إلى القول؛ ان النص السابق نص معيب بعيوب مزدوجة، الأمر الذي يؤكد من جديد أن القائمين على صياغته وتقريره يفتقرون إلى المميزات التي بدأنا بها الكلام في هذه الحلقة.
ثانياً: نصت المادة رقم (35) من القانون الجديد لسنة 2012 على أن «يكون للمرأة العاملة بعد الانتهاء من إجازة الوضع وحتى أن يبلغ طفلها ستة أشهر من العمر فترتا رعاية لرضاعة طفلها على ألاّ تقل مدة كل منهما عن ساعة واحدة، كما يحق لها فترتا رعاية مدة كل منهما نصف ساعة حتى يبلغ طفلها عامه الأول…». وهذه المادة تقابلها المادة رقم (62) من قانون العمل المعدلة بالقانون رقم (14) لسنة 1993 ونصها «في خلال السنتين التاليتين لتاريخ الوضع يحق للعاملة عند عودتها لمزاولة عملها بعد إجازة الوضع أن تأخذ بقصد إرضاع مولودها الجديد فترة للاستراحة أو فترتين لا تزيد مجموعها على الساعة الواحدة في اليوم الواحد…».
وبمقارنة النصين نجد أن قانون العمل الجديد أنقص مدة الرضاعة بأن جعلها سنة واحدة بدلاً من سنتين على نحو ما كانت عليه في قانون العمل المُعدَّل بالمرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1993، وهو ما يعد تراجعاً إلى الخلف، دون أن يُفصح المشرّع عن أسباب هذا التراجع. إنما كل ما ندركه هو أن هذا التراجع فيه انتقاص لحق كان مقرراً للمرأة العاملة بحكم القانون القديم، وبحكم الشريعة الإسلامية بقوله سبحانه وتعالي «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة» (البقرة، 233).
ثالثاً: إذا كنا قد رأينا في الحلقة السابقة أن قانون العمل الجديد لم يكن منصفاً مع المرأة العاملة بأن جعل جواز تشغيلها ليلاً هو الأصل بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم، وأنه اعتبر تشغيلها بعد أربعين يوماً من تاريخ ولادتها (أي قبل عشرين يوماً من انتهاء إجازة الوضع المقررة لها قانوناً) أمراً جائزاً ضمن قاعدة غير متعلقة بالنظام العام، إلاَّ أنه من جانب آخر نراه قد أغدق عليها في العطاء، ويتمثل هذا العطاء فيما يلي:
(1) زيادة إجازة الوضع إلى مدة ستين يوماً مدفوعة الأجر، بدلاً من خمسة وأربعين يوماً طبقاً لنص المادة رقم (32).
(2) منحها إجازة خاصة لرعاية طفلها الذي لم يتجاوز ست سنوات بحد أقصى ستة أشهر ولثلاث مرات طوال مدة خدمتها طبقاً لنص المادة رقم (34).
(3) منحها إجازة شهر مدفوعة الأجر إذا توفي زوجها، وإجازة مدتها ثلاثة أشهر وعشرة أيام أخرى متصلة إكمالاً للعدة، طبقاً لنص الفقرة «ج» من المادة رقم (63).
فهذه الإجازات الثلاث هي في مجموعها تفوق السنة الواحدة، ولذلك يجوز لنا أن نسمي هذا العطاء عطاءً مغدقاً.
ولكن لو نظر إلى هذا العطاء المغدق نظرة ثاقبة ومتأملة سنجد أن له تداعيات سلبية على النساء أنفسهن قد نلمس تأثيراتها في المستقبل القريب، وهذه التداعيات – بحسب رؤيتنا – تتمثل على وجه التأكيد في عزوف أصحاب الأعمال عن توظيفهن، أو أنهم سيعملون جل جهدهم للتخلص من العاملات اللاتي لديهم بالقدر الممكن طالما رأوا أن توظيفهن بات مرهقاً عليهم للكلفة المادية الباهظة بسبب تعدد الإجازات الممنوحة لهن، فضلاً عن أنه سيؤثر حتماً على سير العمل وسيؤدي إلى اضطرابه.
ولهذا نخشى أن يكون هذا العطاء المغدق، الذي قلنا عنه في بداية الحلقة الأولى انه بمثابة نقاط بيضاء وحيدة في قانون العمل الجديد، قد يعود بالضرر على النساء العاملات وخسارتهن بدلاً من نفعه. وسنظل بالتالي ننظر إلى هذا القانون على أنه قانون غير متوازن، وأنه القانون الأسوأ مقارنةً بما سبقه.
ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف أو عدم الإنصاف الواقع على العمال من جانب قانون العمل الجديد، فضلاً عن اعوجاج نصوص هذا القانون شكلاً وتنظيماً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.
(7)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) للعام 2012 وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوصه، ورأينا كيف أنها مجحفة وغير منصفة بحق العمال قاطبة.
وفي هذه الحلقة؛ سنقف على نصوص أخرى من القانون في الجانب المتعلق بالأجور وحساب حقوق العامل؛ لنثبت من خلالها مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يأتي:
أولاً – جاء في نص المادة رقم (45) من القانون المذكور ما يأتي: «لا يجوز الحجز على الأجر المستحق للعامل أو النزول عن أي جزء منه، أو أن يستقطع منه وفاء لدين إلاّ في حدود 25 في المئة من هذا الأجر، ويجوز رفع هذه النسبة إلى 50 في المئة في حالة دين النفقة».
«وعند تزاحم الدين يقدم دين النفقة، ثم ما يكون مطلوباً لصاحب العمل بسبب ما أتلفه العامل من أدوات أو مهمات، أو ما صُرف إليه بغير وجه حق، أو ما وقع عليه من جزاءات مالية».
من النص السابق نستنتج أن قانون العمل الجديد أجاز حجز أو اقتطاع نسبة 50 في المئة من أجر العامل، بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم الذي منع بمقتضى المادة رقم (75) حجز أكثر من 25 في المئة من أجره، وكذلك قانون الخدمة المدنية الذي لم يجز بمقتضى المادة (77) تجاوز مقدار المحجوز عليه شهريّاً ربع المبالغ المستحقة للموظف. ما يعني ذلك أن قانون العمل الجديد زاد نسبة الحجز أو الاقتطاع بضعف ما نصّ عليه كل من قانون العمل القديم وقانون الخدمة المدنية، وهذه نسبة جد كبيرة وغير منطقية لم يقرّرها أي تشريع شرقي أو غربي، وكأن الذي شرَّع هذا القانون غير وارد في ذهنه مراعاة العمال الذين يمثلون الجانب الأكبر في المجتمع والذين يعتمدون في معيشتهم على ما يحصلون عليه من أجر. بل ربما لم يُدرك هذا المشرِّع أن وظيفة قانون العمل الأساسية هي حماية العمال، سواءً من حيث تحسين معيشتهم أو تحريم ما يؤدي إلى فرض أعباءٍ أو التزاماتٍ تؤثّر على حياتهم المعيشية. هذا في الوقت الذي تتفق فيه المواثيق الدولية المتصلة بالعمل على وجوب أن يكون العمال محلَّ تقدير الدولة والمجتمع.
ويزيدنا قناعةً بأن من شَرَّع هذا القانون لم يعر اهتمامه إلاّ لأرباب العمل عندما نجده يهتم بالديون المستحقة على العامل لصالح صاحب العمل دون غيرها، بدليل أنه في موضوع الحجز والاقتطاع محل البحث نظر فقط إلى «ما هو مطلوب لصاحب العمل بسبب ما أتلفه العامل من أدوات أو مهمات، أو ما صُرف إليه بغير وجه حق، أو ما وقع عليه من جزاءات مالية»، بحسب ما جاء في الفقرة الثانية من المادة سابقة الذكر، ونسي أن هناك ديوناً أخرى قد تترتب على العامل تستوجب الالتفات إليها ووضعها ضمن قائمة ديونه لتدخل ضمن باقي الديون في حدود نسبة الاقتطاع المقررة قانوناً على غرار ما نص قانون العمل للعام 1976 في المادة رقم (75) حيث تنص: «وعند التزاحم يبدأ بخصم دين النفقة في حدود الثمن والباقي للديون الأخرى، وهكذا بالمثل في قانون الخدمة المدنية في المادة رقم (77).
ثانياً – تنص المادة رقم (47) من قانون العمل الجديد للعام 2012 «تحسب حقوق العامل على أساس الأجر الأساسي الأخير للعامل مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية إن وجدت».
«فإذا كان العامل ممن يعملون بالقطعة أو الإنتاج أو يتقاضى أجراً ثابتاً مضافاً إليه عمولة أو نسبة مئوية اعتد في حساب الحقوق بمتوسط أجر العامل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة».
هذه المادة تقابلها المادة رقم (67) من قانون العمل القديم للعام 1976 التي جاء فيها «يُراعى في حساب حقوق العمال الأجر الأساسي الأخير للعامل مضافاً إليه علاوة غلاء المعيشة وعلاوة أعباء العائلة وذلك في المنشآت التي تضع لعمالها جدولاً للأجور يمنحون بمقتضاه علاوةً دوريةً، وفي غير هذه الحالات يتخذ مجموع الأجر الأخير الذي يُصرف للعامل بصفةٍ دوريةٍ ومنتظمةٍ أساساً لحساب الحقوق».
«فإذا كان العمال يتقاضون أجورهم بالقطعة أو بالإنتاج يكون التقدير على أساس متوسط ما تناوله العامل من أيام العمل الفعلية في الثلاثة شهور الأخيرة».
وبمقارنة النصين نلحظ ما يأتي:
أن قانون العمل الجديد اعتد في حساب حقوق العمال على أساس الأجر الأساسي مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية فقط، بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم الذي نص بموجب المادة رقم (67) سابقة الذكر على اعتبار مجموع ما يتقاضاه العامل بصفة دورية ومنتظمة أساساً لحساب حقوقه.
فلو افترضنا أن عاملاً يعمل في مؤسسةٍ لا تضع لعمالها جدولاً يمنحون بمقتضاه علاوة دورية، وأن أجره الأساسي 500 دينار مضافاً إليه علاوة اجتماعية مقدارها 50 ديناراً، وعلاوة سكن مقدارها 100 دينار، وعلاوة تأمين صحي ثابتة مقدارها 200 دينار، وأردنا أن نحسب مستحقه عن بدل الإجازة السنوية مثلاً (المقرّرة قانونيّاً بأجر شهر واحد) فإنه بمقتضى قانون العمل الجديد سيحصل على بدل نقدي مقداره 550 ديناراً (الذي يمثل أجره الأساسي مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية فقط)، بينما لو طبقنا بشأنه قانون العمل القديم؛ فإنه سيحصل على بدل نقدي مقداره 850 ديناراً (الذي يمثل أجره الأساسي مضافاً إليه جميع العلاوات المشار إليها)، أي بفارقٍ أقل بـ 300 دينار.
وبهذه النتيجة نخرج بمحصلةٍ أن قانون العمل الجديد أسوأ من سابقه بالنسبة إلى العمال.
بالعودة من جديد إلى نص الفقرة الثانية من المادة رقم (47) من قانون العمل الجديد للعام 2012 وإلى نص الفقرة الثانية من المادة رقم (67) من قانون العمل القديم للعام 1976 سابقتي الذكر بشأن احتساب متوسط أجور العمال الذين يعملون بالقطعة أو بالإنتاج أو يتقاضون أجوراً ثابتةً مضافاً إليها عمولة أو نسبة مئوية. وبمقارنة هذين النصين نلحظ أن قانون العمل الجديد احتسب متوسط أجر هؤلاء العمال على أساس ما يتناوله العامل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، بينما قانون العمل القديم احتسب متوسط أجورهم على أساس ما يتناوله العامل خلال الأيام الفعلية في الثلاثة شهور الأخيرة. وهذا الفارق البسيط بينهما يراه البعض أمراً هيّناً بينما هو فارق كبير يصيب العامل بالضرر. ولإيضاح ذلك نسوق المثال الآتي:
عامل يعمل بالعمولة بنسبة معينة من مجموع مبيعاته، وبلغ مجموع ما يستحقه من عمولة عن الشهور الثلاثة الأخيرة 1200 دينار، وكان قد عمل عملاً فعليّاً خلال هذه الشهور مدة ثمانين يوماً فقط (بعد خصم أيام الجمع والعطل الرسمية المقرّرة قانوناً).
فإنه عندما نحسب متوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل القديم نقسم ما حصل عليه خلال الثلاثة شهور الأخيرة على عدد أيام العمل الفعلية فقط (وهي 80 يوماً) طبقاً لما جاء في النص السابق، لأن هذا العامل لا يعمل على أساس الوحدة الزمنية إنما يعمل على أساس الوحدة الإنتاجية، فيكون بذلك متوسط أجره اليومي هو (1200 دينار ÷ 80 يوماً = 15 ديناراً) وهذا هو عين العدالة والحق، طالما أن الأيام التي لم يعمل فيها خلال الشهور الثلاثة هي في إطار الإجازات والعطل الرسمية.
في حين لو أننا طبقنا قانون العمل الجديد لاحتساب متوسط أجره اليومي لاستوجب أولاً استخراج متوسط أجره الشهري فيكون (1200 دينار ÷ 3 شهور = 400 دينار) فيصبح بالتالي متوسط أجره اليومي هو 400 ÷ 30 = 13.333 ديناراً.
وبناء عليه يكون متوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل القديم 15 ديناراً، ومتوسط أجره اليومي طبقاً لقانون العمل الجديد 13.333 ديناراً.
وهذا الفارق الكبير بين الحسابين يعد خسارةً تصيب العامل دون وجه حق بسبب التشريع الخاطئ.
ولنا لقاءات أخرى في الحلقات المقبلة لنكتشف من خلالها المزيد من الإجحاف وعدم الإنصاف الواقعين على العمال من جانب قانون العمل الجديد، فضلاً عن اعوجاج نصوص هذا القانون شكلاً وتنظيماً وصياغةً، ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده البحرين.
(8)
في تعليقنا على نصوص قانون العمل الجديد الصادر بالمرسوم بقانون رقم (36) لسنة 2012 كنا قد وقفنا في الحلقات الماضية على بعض نصوص هذا القانون ورأينا كيف أن تلك النصوص مجحفة وغير منصفة بحق العمال والعاملات على السواء.
وفي هذه الحلقة سنقف على نصوص أخرى في الجانب المتعلق بساعات العمل وفترات الراحة لنُظهر من خلالها عيوب هذا القانون من حيث قصوره وغموضه وسوء صياغة نصوصه وإجحافه، تكملةً لما لمسناه وأظهرناه في الحلقات السابقة، ولنثبت مجدداً صحة مآخذنا على هذا القانون وعلى القائمين على إعداد مسودته، وذلك فيما يلي:
أولاً: المادة رقم (50) من الباب السابع: تنص على أن «يمنح العاملون بنظام النوبات الليلية ونظام الحجز الوظيفي بدل طبيعة عمل».
هذا النص يشوبه عيبان مزدوجان؛ فهو (أولاً) لم يحدد البدل المشار إليه، في وقت نلحظ فيه – وفقاً لظاهر النص – أن المشرِّع لم يمنح «الوزير» حق تحديده بقرار وزاري يصدر منه، ومن ثم يصبح هذا النص وكأنه خالٍ من مضمونه. ومن المتفق عليه فقهاً أن أي نص قانوني خالي المضمون يعتبر كأن لم يكن.
ولا ندري هل أن المشرَّع يهدف من عدم تحديد هذا البدل بأن يجعل تحديده من قبل صاحب العمل بمفرده وبأية قيمة يقررها، فإن كان ذلك فعلى العمال السلام.
ثم أنه (ثانياً) لم يوضح مفهوم «نظام الحجز الوظيفي» الوارد في النص، في الوقت الذي لم يرد تعريفه في الفصل الأول من القانون الخاص بالتعريفات. وبناءً عليه يصبح هذا النص معيباً بالقصور وعدم الوضوح. وهذان كافيان لإثبات أن المشرِّع غير ملم بأبعاد القاعدة القانونية وغير محيط بشروطها.
ثانياً: المادة رقم (51) من الباب السابع أيضاً: جاء فيها النص التالي: «لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من ثمانٍ وأربعين ساعة في الأسبوع». بينما جاء في المادة رقم (53) من الباب نفسه «لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من ثماني ساعات في اليوم الواحد ما لم يتم الاتفاق على خلاف ذلك».
فنحن هنا إذاً أمام نصين مفترقين ومتباعدين على رغم أنهما يتناولان موضوعاً واحداً، وهذا يُعدُ عيباً كبيراً في التنظيم. بيد أن العيب الأكبر يكمن في أن الأول ينظر إلى تشغيل العامل أسبوعياً بحيث لا تتجاوز مدة تشغيله ثمانٍ وأربعين ساعة كحد أقصى، وينظر الآخر إلى تشغيل العامل يومياً بحيث لا تتجاوز مدة تشغيله ثماني ساعات من حيث الأصل إلاّ بموافقة العامل استثناءً. وهذان النصان لهما معنيان متناقضان في الظاهر.
فعندما ينص القانون على أن «لا يجوز تشغيل العامل تشغيلاً فعلياً أكثر من ثماني ساعات في اليوم الواحد»، نفهم منه أن هناك قيداً على صاحب العمل، وهو عدم تجاوزه مدة التشغيل عن ثماني ساعات يومياً.
وعندما ينص في جانب آخر على أن «لا يتجاوز تشغيل العامل مدة ثمانٍ وأربعين ساعة أسبوعياً» نفهم من هذا النص أن ليس على صاحب العمل إلاّ التقيد بالحد المقرر أسبوعياً، بحيث يستطيع أن ينظم ساعات العمل بطريقة غير منتظمة، فيجعلها مثلاً أربعة أيام عمل كل يوم بعشر ساعات، واليوم الخامس بثماني ساعات، ويجعل الراحة الأسبوعية يومين. وهذا هو المعنى الذي ذهب إليه الكثير من المفسرين في تفسيرهم للمادة رقم (78) من قانون العمل القديم لسنة 1976 التي جاء فيها «لا يجوز تشغيل العامل أكثر من ثماني ساعات يومياً أو ثمان وأربعين ساعة في الأسبوع».
وبهذا فإن قانون العمل الجديد قد أوقعنا في نصين متناقضين على الأقل من حيث ظاهرهما، وهذا ما سوف يخلق مشاكل جمة بين العمال وأصحاب الأعمال، إذ إن كلاً من الطرفين سوف يستند إلى النص الذي يرى فيه مصلحته دون الآخر.
ثالثاً: جاء في الفقرة «ج» من المادة رقم (53) من قانون العمل الجديد «يجب تنظيم ساعات العمل وفترات الراحة بحيث لا تتجاوز الفترة من بداية ساعات العمل إلى نهايتها أكثر من إحدى عشرة ساعة في اليوم الواحد، وتحسب فترة الراحة من ساعات التواجد إذا كان العامل أثناءها في مكان العمل».
هذا النص لا ندري كيف مرره ممثلو العمال، وما إذا كانوا قد ارتضوا به أم لا، أم أنهم لم يدركوا معناه وأبعاده! إنه بحق يصدق عليه القول إنه «مسلخ» يُسلخ فيه العمال.
فالنص معناه: أنه لا يجوز لصاحب العمل أن يبقي العامل في مكان العمل أكثر من إحدى عشرة ساعة يومياً، وهذه المدة تشمل ساعات العمل الأصلية، وساعات العمل الإضافية إن وجدت، وفترة الراحة التي يفترض أن لا تقل عن نصف ساعة.
بيد أنه عندما يأتي النص بعبارته الأخيرة «إذا كان العامل أثناءها في مكان العمل» (التي لم تكن موجودة في قانون العمل القديم)، فهذا يعني أن المشرع يشترط لتطبيق النص السابق أن يكون العامل متواجداً في مكان العمل خلال وقت الراحة، فلو أنه أمضى وقت الراحة في منزله مثلاً أو خرج لقضائها في مكان غير مكان العمل فلا محل لتطبيق النص السابق. وبهذا المعنى يستطيع صاحب العمل أن ينظم ساعات العمل الأصلية لديه بمدة ثماني ساعات يومياً ويقسم هذه المدة إلى قسمين ويجعل فترة الراحة بينهما أربع ساعات أو أكثر مثلاً عندما يشعر أن العامل سوف لن يقضي فترة الراحة هذه في مكان العمل، وفي هذه الحالة يصبح صاحب العمل غير متجاوز لحدود القانون، بينما يظل العامل أسير العمل اليومي من الصباح إلى الليل من دون مقابل.
رابعاً: تنص المادة رقم (54) من قانون العمل الجديد على أنه «يجوز لصاحب العمل تشغيل العامل ساعات عمل إضافية إذا اقتضت ظروف العمل ذلك».
من ظاهر النص يثبت أن قانون العمل الجديد تجاهل تحديد الحد الأقصى لساعات العمل الإضافية اليومية، وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المشرِّع (أو المشرعين الجدد) قد أعطوا صاحب العمل اليد الطولى والسلطة المطلقة في تنظيم سير العمل من دون قيود أو حدود بخلاف ما كان عليه قانون العمل القديم.
ونأسف عندما يطلع علينا مؤخراً أحد المُنظرين ليقول لنا قولاً لا نفقهه؛ بأن قانون العمل الجديد متوازن وأنه جاء مراعياً لمصالح أطراف الإنتاج، وكأني أخاله يريد أن يوزن قانون العمل على قاعدة تقسيم الأرباح والخسائر بالتساوي بين العمال وأصحاب الأعمال والدولة، متناسياً أن قانون العمل لا يوزن على هذا الأساس. ويا ليت أن قانون العمل الجديد محل البحث قد راعى هذه القاعدة إنما جاء مجحفاً بحق العمال، وننصح هذا المُنظِّر أن يعيد قراءة هذا القانون جيداً (إن لم يكن قد شارك هو في إعداد مسودته) ليجد كم أنه سيئ مبخس في حق العمال، ونتمنى أن يتفرَّس هذا المُنظّر جيداً فيما طرحناه في الحلقات السابقة، وما سنطرحه في الحلقات القادمة (لغاية الحلقة العشرين الأخيرة)، ثم يقول بعد ذلك كلمته فيها بالنقد أو القبول بما جاء فيها.
ولنا لقاءات أخرى في الحلقات القادمة لنكتشف من خلالها المزيد من الاعوجاج في التنظيم والصياغة والتعبير والشكل الظاهر في متن قانون العمل الجديد، ومن المزيد من الإجحاف الذي وقع على العمال من خلال نصوصه. ولنثبت مجدداً أن هذا القانون هو أسوأ قانون عصري تشهده مملكة البحرين.