المنشور

مشروع قانون التقاعد الجديد… هل هو الحل؟ #ارفعوا_أيديكم_عن_التأمينات

محمد كمال

منذ  أن أطلق جلالة الملك المشروع الإصلاحي، والذي يهدف إلى رسم خارطة طريق إلى مستقبل مشرق تتحقق فيه كرامة المواطن ويكون له فيه مشاركة فعلية في رسم السياسات العامة وصياغة جميع أنواع التشريعات التي تمس أمن الوطن وحقوق المواطن، وإلى اليوم لم يحظ أي موضوع او مشروع قانون او اقتراح بهذه الأهمية والإهتمام الذي حظي به “مشروع قانون التقاعد الجديد”، الذي زلزل المجتمع بكامل كيانه ومكوناته.

 النواب المنتخبون من قبل الشعب كانوا في وضع حرج، لأن التعديلات تمس أرزاق الناس، وهم أعلم بِمَثِلِ الكرامة (مَثَلٌ شعبي عميق حكيم)  الذي جوهره “قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق”، فما كان أمام هؤلاء التعساء من خيارسوى النطق بِلاءٍ خجولة ، حفظاً لماء الوجه وأملاً في دورة نيابية جديدة، وهي في أفق الزمان القريب، أما أعضاء الشورى الذين لم يوفوا قط لروح الشورى معانيها ومغزاها، فإن الناس قد إعتادوا على مواقفهم البعيدة عن أصول المشورة الصادقة والأمينة والمستقلة، فهم يعيشون هاجساً يفك عضد المشورة ولا يعلم كنهه إلاّ الغيب، وهم كمن يتقلب على صفيح ساخن رغم وجاهة موضعهم على كراسي فارهة في بنيان معماري مشيد بمعايير القصور.

 إلاّ أن الذي قد خلع عن نفسه الثقة اللازمة الملزمة فإنه مسكين وإن دَثَّرُوهُ بعباءة الوجاهة، نقول هذا، والقول موجه لما جادت به جهودهم وآراءهم الشورية، ولا يمس هذا القول مكانتهم كأشخاص لها كل الإحترام الذي يستحقه أي إنسان، فالنقد لأفعال الأشخاص وليس لذات الأشخاص… أما عامة الناس وهم ذوات الشأن المباشر، من المتقاعدين وأولئك الذين ينتظرون كأس التقاعد، فالمتقاعدون هم السابقون والعاملون هم اللاحقون، كأسٌ كُلٌّ واردها، فإنهم جميعاً قد شعروا وكأن كارثة معيشية تتهددهم وأنهم أولى بالتصدي لها، وكان هذا التوقع الحتمي لورود الكأس، كأس التقاعد، هو الجامع للسابق واللاحق، فكان أول مهرجان ديمقراطي ضم الرجال والنساء، ضم العاملين والمتقاعدين، ضم الكبار والصغار، للتصدي للكارثة المتوقعة.

 ولا غرابة في ذلك لأن الإنسان قد يتغاضى عن كل الأوضاع والقوانين المجحفة إلاّ أنه من المستحيل أن يسمح لأي سيف وإن كان سيف القانون أن يُقَطِّعَ رزقه ورزق أبنائه … فعندما يرى الشعب أن رزقه في مهب الريح فإنه كشمشون الجبار يهب هبة المنتصر لحقه، وأنه  في لحظة اليأس قد يهدم المعبد عليه وعلى من تطاول على رزقه وعلى حقوقه، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

 لقد أجمع الشعب البحريني على كلمة الفصل في أمر رزقه، فقال بصوت واحد وبنبرة مشتركة واضحة أن لا … لا لأي تعديل لقانون التقاعد يمس الحقوق المكتسبة، فهي حقوق يحميها دستور الوطن ويؤكد عليها الدستور الطبيعي الذي أكْرَمَ الإنسانَ، فتوجه بكل إحترام وأريحية وبروح من الوطنية الصادقة إلى القيادة الرشيدة للنظر في أمر حساس، حساسية المصير، للنظر إلى ما تفعله إدارات أوكلت إليها أمانة الشعب، ولسان حال الشعب في رسالته إلى القيادة الرشيدة هو أن الأمانة في خطر، فتدارك يا جلالة الملك أمر الأمانة من هذا الخطر، وقد شاركت الصحافة هموم الناس، وفي الواقع كانت هي السباقة لكشف المستور المؤلم وراء الخطر المحدق بأرزاق المتقاعدين.

لقد عقد الشعب جلسته الديمقراطية الأولى، وخرج بتوصية واحدة، وهي لا ثم لا للتعديلات على قانون التقاعد، وحمل التوصية بنفسه مباشرة إلى القيادة الرشيدة، مختزلاً الطريق ومتخطياً بذلك ردهات المجلسين، وهما مجلسان أثبتا عجزهما عن حفظ أمانة الناس، ومن لا يقدر على حفظ أمانة الناس كيف سبيله إلى حفظ أمانة الوطن. إختزل الشعب الطريق وتوجه مباشرة إلى جلالة الملك … وجاء الرد الملكي مستجيباً لإرادة ذوي الحق، ولا عجب فإن الذات الملكية حريصة على إحقاق الحق لصاحب الحق، وهي الأقرب إلى نفوس الناس من كل الوسطاء، وسطاء المجلسين  إدارات مصالح الناس.

ما الذي جرى ويجري حتى نصل إلى هذا المنعطف الحاد والحساس والمؤلم والمليئ بالهواجس والإحساس بالغبن والإستنفار والتوجه مباشرة إلى جلالة الملك؟ لا بد أن في القضية أمر جلل … نعم… إنه ذاك السيف الذي تلوح به إدارات التقاعد على رقاب الناس … إنه سيف الإكتواري، وما أدراك ما الإكتواري، ومِنْ هذا الإكتواري إلى ضرورة تعديل قانون التقاعد!!! عجباً والله عجب!!!… فما هو هذا الإكتواري الذي تستغيث به إدارات التقاعد وتواري سوءتها خلفه، والذي لا يعرف المتقاعد عنه شيئاً ولا يهمه أن يعرف عنه أي شيئ، فهذا ليس شأنه، بل هو شأن الإدارة التي أوكلت إليها أمانة الناس؟

الحساب الإكتواري يرتكز على علوم الرياضيات والإحصاء والمحاسبة ومهارات الإتصال عند الخبير الإكتواري، ويعتمد على البيانات والأرقام السابقة والحالية من الأموال الواردة المستحقة من المساهمين  والأموال المدفوعة لمستحقيها من المتقاعدين، إضافة إلى الوارد من الناتج الإستثماري من صناديق الإستثمار التي تديرها اللجنة المختصة بالإستثمار، وإدراج بيانات إحتمالية حول الوفيات والوافدين الجدد من المتقاعدين، وهذه كلها عناصر تدخل في معادلة الإكتواري، وهي في محصلتها أقرب إلى الإحتمالات والإفتراضات وليست حقائق دامغة، ولكنها مفيدة كمؤشر .

 وهذا المؤشر عملة ذات وجهين، وجه يضع تصوراً إحتمالياً عن المستقبل، إيجاباً أو سلباً، مما يستدعي إتخاذ إجراءات وحلول في الحالات السلبية و العمل على التطوير في الحالات الإيجابية، الوجه الآخر هو مؤشر أداء الإدارة، وهذا المؤشر هو بمثابة الحكم على مهنية ومصداقية الإدارة في الأداء… إذاً، فالحساب الإكتواري يشير بالبنان الى أداء الإدارة وفاعليتها ومهنيتها ومصداقيتها، بمعنى أن القرار الأجدى في حالة الناتج الإكتواري السلبي هو محاسبة الإدارة وليس معاقبة المتقاعدين، محاسبة الإدارة ومعاقبتها، إن ثبت الأمر ضدها، لا رفع شأنها فوق القانون بإعطائها تخويلاً لصلاحيات حساسة تزيد الطين بَلْةً.

وهذا الأمر يقتضي فتح ملفات، كقرار للنظر في موضع الخلل في أداء الإدارة، وكيفية تحسين أدائها أو تطهيرها، حتى يمكن تحويل بوصلة الإكتواري من السالب إلى الموجب، وبذلك نجنب الناس قطع الأرزاق ونجنب الوطن مخاطر لا يمكن التكهن بنتائجها.

 هناك ثلاث ملفات ذات علاقة وهي ذات فاعلية في نتاج الحساب الإكتواري، أولاً؛ ملف إدارة الإستثمار ويتخلل هذا الملف نشاط غريب وشاذ هو الإقراض، ثانياً؛ ملف المتقاعدين ذوي الرواتب العالية التي تتخطى سقف الأربعة آلاف دينار، و ثالثاً؛ ملف المكافآت لكبار الموظفين وأعضاء مجلس الإدارة… ولا نرى ضرورة الخوض أكثر في أمر هذه الملفات، ولكن أمرها متروك لقرارات من القيادة الرشيدة، التي إستجابت بحكمة للتوصية الديمقراطية المرفوعة إليها من أبناء الوطن الغيارى.

وإذا عرف السبب بطل العجب، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى…

نشرة التقدمي لشهر يوليو 2018.