المنشور

انتقام الجغرافيا


ليست مقاومة الجيش والشعب في روسيا وحدها من هزم نابليون حين غزاها في القرن التاسع عشر في معركة حشد لها أكثر من نصف مليون جندي. ثمة عامل آخر لا يقل حسماً، إن لم يكن الأكثر حسماً. إنه الثلج.

جنرالات نابليون حذروه من مغامرة غزو روسيا الشاسعة مترامية الأطراف، لكنه كان مأخوذاً بفكرة المجد التي جعلته في وضع لا يبدو معه مستعداً للإصغاء لمثل هذه التحذيرات التي بدت له تخاذلاً، فدفع بجيشه نحو المدن الروسية معتقداً أنه بذلك سيغير وجهة التاريخ كلية، وهذا ما كان سيحدث فعلاً لو أن الحظ حالفه.

لكن لم يكن بوسع الحظ أن يحالفه. للحروب، كما للسياسة، حسابات معقدة أشبه بالمعادلات الرياضية. وقد يكون نابليون، وهو الداهية العسكري، قد حسب كل شيء، لكنه نسي أن يحسب حساب الثلج عندما ينهمر ويتراكم طبقات فوق طبقات، وحين تنخفض الحرارة فتبلغ العشرين درجة تحت الصفر أو حتى ما هو دونها، وأثر ذلك في كفاءة ومعنويات جيشه الذي لم يعتد الحروب في مناخ قاس مثل هذا.

تحضر هذه الواقعة من التاريخ في الذهن ونحن نطالع كتاب «انتقام الجغرافيا» لمؤلفه روبرت كابلان الصادر ضمن سلسلة «عالم المعرفة» في دولة الكويت، الذي يقدم لنا دليلاً شائقاً في قراءة خريطة العالم الجيو سياسية متنبئاً بمصير الصراعات بين القوى الدولية النافدة، على خلفية قراءة ما عرفه التاريخ من صراعات واستقطابات.

هل غدا العالم بالفعل قرية كونية حسب التوصيف الذي قدمه الكندي مارشال ماكلوهان ؟

ربما يكون هذا صحيحاً في بعض الأوجه، لكن الكون شاسع، شاسع للغاية، والقرية، عادةً، صغيرة، صغيرة جداً. وإن وحدت الطائرات النفاثة فائقة السرعة وشبكة الإنترنت وثورتا الاتصالات والمواصلات هذا العالم وقربت المسافات بين أطرافه، وأنهت عزلة النائي من هذه الأطراف، فإنها، جميعها، لم تفلح، ولا يبدو أنها ستفلح، في إلغاء حقيقة كبرى هي الجغرافيا، تلك التضاريس التي لا يد للإنسان فيها، ولا طاقة له على تغييرها.

هذه الجغرافيا هي من يتحكم في توزيع الثروات الطبيعية بين أرجاء العالم، هي من يجعل بلداً غنياً بالنفط أو الغاز أو المعادن أو بالزراعة، وهي من يجعل من بلد فقيراً، حتى لو كبرت مساحته، وهي من يجعل السكان يكتظون في رقعة محددة تضيق بهم، فيما مساحات شاسعة من حواليهم صحراء مقفرة. وعلى هذا تنشأ عواقب كبرى.


حرر في:   07/02/2016