المنشور

ديستوفسكي وتولستوي ثانيةً


على صلةٍ بما تناولناه الأسبوع الماضي حول سبب عدم التقاء تولستوي وديستوفسكي، مع أنهما عاشا في الوقت نفسه وفي المكان نفسه، وقعتُ، بالمصادفة البحتة، على إشارة شديدة العمق أوردها المفكر المغربي عبد الله العروي في حوار مطوَّل قديم معه تلفت النظر إلى أن ما بين الرجلين من ودٍ مفقود يتخطى حدود الغيرة.

في رواية «المراهق» يحكي ديستوفسكي قصة فتى ولد سِفاحاً من أحد النبلاء تنكر له، فتبناه قن كان في خدمة عائلة هذا «النبيل» الذي ترك روسيا وهاجر إلى أوروبا، لكنه ما لبث أن عاد إلى وطنه ثانية لتمر العلاقة بينه وبين الابن الذي تنكر له، بمسار ينقلها من التنكر إلى الاعتراف، ومن الكراهية إلى الحب.

تنكر هذا «النبيل» لابنه هو تنكر المثقف لأمه روسيا بسبب تأخرها المادي والثقافي يومها عن الغرب، واعترافه المتأخر بابنه هو أوبةٌ إلى أحضان الوطن وإدراك مكانته في تاريخ الإنسانية. واستوقفت العروي حوارية في الرواية يتناول فيها ديستوفسكي كاتباً لم يسمه، لكنه لم يكن سوى غريمه تولستوي، بعبارات تنم عن سخرية لكنها عميقة ومعبرة.
يقول ديستوفسكي على لسان إحدى شخصيات الرواية: «ما يعجبني عند مؤرخ النبلاء (يقصد تولستوي) أو بالأحرى عند أبطاله هو الجمال، ذلك الجمال الذي تبحث عنه باستمرار حسب قولك.

يأخذ الكاتب المذكور النبيل منذ طفولته وصباه فيصور حياته داخل أسرته، يتابع خطواته في هذه الدنيا، يصف أولى مسراته وأول أحزانه، وكل ذلك بأمانة لا تجحد وصدق لا ينكر.

إنه بحق محلل النفس «النبيلة». ولا يسع القارئ إلا أن يعترف بأنه صادق ومحق، وأن يغار منه.

نعم يغار منه، لكن ما أكثر أطفال روسيا الذين يفتحون أعينهم على البشاعة والقبح، بشاعة آبائهم وقبح المحيط الذي يعيشون فيه، فيلحق أنفسهم جرح لا يندمل أبداً.

يشعرون منذ الصغر أن الحياة كلها مصادفة وفوضى واصطدام، فهؤلاء يحسدون الكاتب المذكور وأبطاله، بل يعادونهم ويمقتونهم.

في هذا النص نعثر على تمييز ديستوفسكي بين مادته الروائية (البشاعة والتناثر) وبين مادة تولستوي (الجمال والنظام). إنه تمييز مبني على أساس اجتماعي بين الطبقة النبيلة المسيطرة وبين طبقة الفلاحين الأقنان قبل وبعد تحريرهم، حيث تعم الأمية والفقر والتعاسة.

نحن إزاء قامتين عملاقتين عبر كل منهما عن روسيا الغامضة، لكن كل واحد منهما نظر للأمر من زاويته الخاصة، فكانت لكل منهما روسياه.
 
حرر في: 25/10/2015