المنشور

الحداثة بين الصحوة والشيخوخة


من مفارقات الحراك الاجتماعي السياسي في العالم العربي في الزمن الراهن، أنه في الوقت الذي تتضاعف فيه الحاجة إلى الحداثة، فكرة وممارسة، أمام سطوة الاتجاهات المحافظة والتكفيرية، التي تدفع بالأوطان نحو منزلقات وفتن دامية، فإن القوى الحداثية المنظمة تظهر شيخوختها وعجزها عن النهوض بالمهام الصعبة الملقاة على عاتقها.
 
تكفي نظرة على قوائم الأحزاب والتنظيمات المدنية المؤمنة بفكرة الحداثة، لنجد أن متوسط أعمار لا قياداتها وحدها، وإنما منتسبيها أيضاً، يجنح نحو الكهولة، لا بل الشيخوخة، وهناك تعثر في استقطاب دماء شابة جديدة تعوِّض رحيل أو عجز القيادات المخضرمة، التي يختار بعضها العزوف عن العمل الميداني والتفرج عليه وتوجيه الانتقادات للمنخرطين فيه للتعويض السيكولوجي عن كسلها وتقاعسها.

ينطبق هذا أيضاً على مؤسسات المجتمع المدني، كالنقابات والاتحادات النسوية مثلاً، حيث نجد الناشطات في سبيل حقوق المرأة وتمكينها عبر أطر المنظمات النسوية هن أنفسهن منذ عقود، فلا هن عدن يتمتعن بالحماسة والقدرات التي كن عليها عندما كن شابات، ولا هن قادرات على إحلال قيادات شابة جديدة تمتلك مهارات الجيل الجديد في قيادة هذه الأطر، لما عرف عن عزوف الجيل الجديد من الشابات، شأنهن شأن الشباب الذكور، عن العمل فيها.

بالمقابل، نجد أن التحركات الجارية في بلدان عربية كالعراق ولبنان ضد فساد الطبقة السياسية المتنفذة والمطالبين بدولة مدنية عصرية، وإنهاء المحاصصات الطائفية وتحكم النخب المذهبية والدينية، حديثة النعمة أو قديمتها، في أمور البلاد والعباد، تقوم أساساً على طاقات الشباب من الجنسين الذين يملأون الساحات المركزية في غير عاصمة، مذكرين إيانا بما جرى في ميدان التحرير بالقاهرة، أو في ساحات تونس وغيرها إبان الانتفاضات الشعبية.

صحيح أن للقوى المدنية مشاركات لا تنكر في ذلك، لكن هذا لا يلغي حقيقة عفوية هذه التحركات، وحقيقة أن المشاركين فيها هم، في أغلبيتهم، غير منضوين في الأحزاب التقدمية أو هيئات المجتمع المدني، مع أن المطالب والشعارات التي يرفعونها تشكل صلب البرنامج الاجتماعي – السياسي لهذه الأحزاب والهيئات.

التجربة برهنت أن هبَّات الشباب العفوية غير المؤطرة، على ما فيها من حيوية وزخم واجتراح لمبادرات وأساليب عمل غير مسبوقة، تظل محكومة بعدم الخبرة وضعف الوعي السياسي، وبالتالي فإن هبَّاتهم هذه عرضة للقمع والاحتواء السريع من قبل الطبقات السياسية الممسكة بزمام الأمور، ما يضع قوى الحداثة المنظمة أمام مسؤوليات تاريخية كبرى.


حرر في: 31/08/2015