المنشور

لغات جلال الدين الرومي


استوقفتني وأنا أقرأ مؤلف إحسان الملائكة عن جلال الدين الرومي صفحتين أو ثلاث تتحدث عن علاقة التفاعل بين اللغات التي تَشكل وعي الرومي على تخومها، في إطار حديث عن مصادر تكوين شخصيته ومعرفته.
 
وسأشرح ذلك بإيجاز، فجلال الدين الرومي يتحدر من جذور تركية، ولكنه وضع كتبه بالفارسية، بحكم نشأته في خراسان، ونفهم أنه لم يكن يجهل التركية، لكن هذه اللغة لم تكن بلغت الشأن الذي صارت عليه فيما بعد، حيث إن اللغة كائن حي ، تتطور مع تطور حضارة الناطقين بها.

في الأصل كانت التركية لغة محدودة محصورة في القبائل المنعزلة في وسط آسيا، قبل أن تغتني مع توسع نفوذ السلاجقة بالكثير من قواعد ومفردات اللغة الفارسية، وإذا أخذنا بالاعتبار أن الفارسية ذاتها تأثرت كثيراً باللغة العربية، فإن الكثير من مفردات هذه الأخيرة وجدت مكانها في المعجم التركي، بالنتيجة.

لكن الرومي كان يتقن أيضاً اللغة العربية بدليل أنه كان يطرز آثاره بها، حسب تعبير الملائكة، فقد درسها على يد كبار أدبائها وعلمائها، سواء في مسقط رأسه أو في الشام التي أتاها فيما بعد.

المدهش ليس هذا، فقد كان الناطقون بهذه اللغات الثلاث متجاورين، ويبدو مفهوماً أن يتمكن رجل بموهبة الرومي منها جميعاً.

المدهش هو معرفته باللغة الإغريقية، ففي الأصل كان يحسن التكلم باللهجة الدارجة منها عن طريق علاقاته بنصارى الروم المقيمين في آسيا الصغرى منذ العصر البيزنطي، وفيما بعد تعلم القواعد الكلاسيكية للإغريقية لتغدو المؤلفات المكتوبة بها أحد مصادر معرفته، ويقال إنه كان لهذه المعرفة أثر في تعلق بعض الرهبان بفكره ومنهجه الصوفي.
هذه السيرة درس في تفاعل الثقافات والحضارات، فهي تنبهنا إلى كيف اغتنت الحضارة العربية الإسلامية بمنجزات اللغات والثقافات الأخرى التي بلغ الإسلام ديارها، وإلى الأثر العميق الذي تركته حضارتنا في الحضارات الأخرى، وحسبنا هنا ما أشرنا إليه عن تأثير اللغة العربية في اللغتين الفارسية والتركية.

هذا ليس درساً في التاريخ، وإنما هو درس للحاضر أيضاً، لا للعرب والمسلمين وحدهم، وإنما لكل الثقافات والحضارات الأخرى، فما من ثقافة تتطور بشكل منفصل عن الآخرين، وإنما بالأخذ والعطاء في علاقتها بسواها من الثقافات والحضارات، خاصة في عالم اليوم الذي ييسر الاتصال والتفاعل بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية.
 
حرر في: 30/08/2015