المنشور

العراقيون تحت جدارية جواد سليم

تبدو القوى المدنية والحركة الشعبية في العراق متسقة مع الإرث الحداثي، المدني، التنويري في البلد حين انطلقت من ساحة التحرير في بغداد، التي هي قلب العاصمة، ورئة تنفسها النقي، لتعلن احتجاجاتها على نهج الفساد والسرقة والرشوة والمحسوبية الذي تتمرغ فيه رموز النخب السياسية الطائفية، من وزراء ونواب وسياسيين، الذين أحكموا الخناق على البلد منذ الاحتلال الأمريكي له، وأهدروا فرصة تاريخية لبناء عراق ديمقراطي حر من الاستبداد والفساد، حين أخذوا في التسابق على سرقة الغنائم والثروات، وأثبتوا فشلهم في الدفاع عن الوطن، عندما سقطت أراضيه في قبضة «داعش».

في ساحة التحرير، تقف شامخة جدارية الفنان العظيم جواد سليم التي أهداها إلى وطنه بعد سقوط الملكية، مستحضراً رموز حضارة العراق وتاريخه العظيم، من الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة إضافة إلى تخليد ثورة تموز 1958. وحول هذا النُصب كان العراقيون من مختلف المكونات يتجمعون للتعبير عن مواقفهم، كونه رمزاً للتخلص من العبودية والظلم، وها هم يفعلون اليوم أيضاً، حيث شهدت الساحة شرارة الاحتجاج الذي عمَّ مختلف المدن العراقية.
هذا الاحتجاج وفاء للتاريخ الوطني الموحد للعراقيين، الذي أساءت اليه النخب الطائفية التي عبثت بالنسيج الوطني، وبمنجزات الحداثة العراقية في المجالات المختلفة، التي كانت أحد أهم روافد الحداثة العربية في المجالات العلمية والفكرية والثقافية، حيث تميز العراق بالكثير من الأدمغة النابغة في المجالات شتى، التي أثرت حياتنا السياسية والثقافية بمنجزاتها، وبالمواهب في مجالات الشعر والأدب والمسرح والتشكيل والموسيقى والغناء.
الاحتجاجات الشعبية في العراق على فساد النخبة السياسية الحاكمة، تقدم دليلاً آخر على إخفاقات «الإسلام السياسي» الذي توفرت له في الفترة الماضية فرص الوصول إلى الحكم في بلدان عربية مفصلية، فأظهر أنه لا يقل سوءاً عن الأنظمة التي جاء بديلاً عنها، بل إنه بزها في أوجه أخرى خطرة، كالعبث بالوحدة الوطنية للمجتمعات من خلال الخطابات والأجندات الطائفية، ومن التعدي على الحريات الفردية وحقوق الأقليات، وتخريب منجزات الحداثة التي لم تكن من صنع الحكومات، بمقدار ما هي نتيجة التطور الذي حققته المجتمعات ومؤسساتها المدنية، وحصيلة تطور تاريخي مديد أنفقت أجيال من التنوريين العرب أعمارها في سبيل بلوغه.
تحية للقوى المدنية في العراق التي يمكن لنهضتها اليوم في حال استمرارها وثباتها، أن تشكل رافعة لنهضة منتظرة للقوى النظيرة في البلدان العربية الأخرى.