المنشور

الى أين ستقود سياسات الأنظمة منطقتنا ؟!


تكاد طبيعة المشهد العام في منطقتنا العربية أن تفصح عن المزيد من التعقيدات المفتوحة على العديد من الاحتمالات التي يصعب التنبؤ بمآلاتها القادمة، في ظل ما تمر به المنطقة من حالات استقطاب واصطفاف وتدخلات اقليمية ودولية أضحت ترسم بتسارع مجنون لسيناريوهات قادمة، لاشك انها ستقرر واقعا مغايرا لما هو عليه الآن حال المنطقة بأسرها، وهي أمور لا شك انها ستغير الكثير من عوامل وتكتلات وربما حدود واصطفافات لازالت قائمة حاليا، علينا الاستعداد جيدا للتعاطي معها  على الأقل من واقع المسؤلية التي يحتمها موقعنا كقوى تقدمية لها مصلحة أساسية في التغيير نحو الأفضل، وفي فضح تلك السيناريوهات التي لاشك ان بعضها قد ابتدأ فعلا، وهي مرعبة على أية حال، خاصة فيما يتعلق منها بطبيعة وممارسات القوى التي تعطى الآن مساحات واسعة ودعم وامكانات مالية ولوجستية غير محدودة من قبل دول وأطراف متصارعة، من أجل تمهيد المشهد أمام تفعيل تلك السيناريوهات وربما بعضها، لتصبح واقعا على الأرض.

  فها نحن نتابع حجم ونوعية الدول والمشاريع والقوى التي تقف في مواجهة بعضها، حيث تتمترس قوى وتيارات أضحت مدعومة بوضوح من قبل قوى اقليمية ودولية لها مصلحة واضحة بكل تأكيد في تعزيز وتأكيد حضورها ضمن لعبة كبرى رسمت وترسم معالمها بكل تأكيد في دول القرار العالمي، في حين تترك شعوب دول المنطقة بأسرها لتعيش على وقع ارتداداتها وتأزماتها وانقساماتها ودمويتها غير المسبوقة، ويلحظ المراقب بالعين المجردة أن مصالح بعض الأنظمة  وحلفاؤها هي معيار التفوق والانتصار فيها، وليس بالضرورة مصالح الشعوب التي تبقى في أفضل تلك السيناريوهات معزولة قسرا عن ما يجري ويدور. 
 
 وعلى الرغم من فاعلية السياسات الرسمية التي تقودها آلة اعلامية رسمية  أضحت تعمل بمنهجية واضحة وموجهة، دون أن تهتم بابسط مقومات احترام ارادة الجماهير في المشاركة والتغيير، ودون الاكتراث بأدنى مقومات الوحدة الوطنية ومعايير الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي، التي عملت على هدمها أجهزة استخبارات وحكومات توظف بشكل سافر قنوات اعلامية وصحف ووسائل اعلام وفئات طفيلية تعتاش من مستنقعات حروب الكراهية والتخلف المفتعلة تلك، وفضاء واسع مليء بالعبث والطائفية والمذهبية تسخره وسائل التواصل الاجتماعي وتوظفه الحكومات والأنظمة في اشغال والهاء واضح للجماهير بعيدا عن قضاياها الحيوية، لتستمر لعبة العبث بمصائر الشعوب ومقدراتها،وتحميل الأجيال القادمة كلف وتبعات تلك السياسات الفاشلة التي استمرت لعقود، مدللة على العجز وقلة الحيلة وغياب الارادات السياسية التي تمضي دون وجل وحياء في تهميش الشعوب وتغييب اراداتها، دون الاهتمام كثيرا بطبيعة وحتمية التحولات القادمة، التي تتعارض حتما مع مضامين عقلية الهيمنة والنفوذ والاستحواذ ورفض الآخر، وأي نوع من أنواع المشاركة الشعبية في صناعة القرار الوطني. 

نعم يستمر العبث بمقدرات الشعوب وتستمر عقلية المصادرة والمنع وتغييب ارادة الناس، على الرغم من كل ما تحفل به دساتير وقوانين وتشريعات غالبية دول المنطقة من مفاهيم ترتقى نظريا الى حد ما مع مفاهيم عالمية حول ممارسات حقوق الانسان ومحاربة الفساد والشراكة الشعبية وحرية التعبير، الا أنها بكل أسف تبقى بالنسبة لدولنا وجاهات ويافطات لابد منها للتعاطي شكليا مع العالم من حولها  الذي أضحى يضيق ذرعا بتصرفات أنظمة وحكومات لم تعد تنتمي بافعالها وممارساتها لعالم تتماهى فيه سياسات التنمية الشاملة مع مسائل ذات ابعاد انسانية واقتصاية واجتماعية وحقوقية، لذلك نجد اهمالا واضحا في قضايا حرية التعبير وحقوق الانسان، حيث تشيع ممارسات الاضطهاد والتمييز القائم على أساس العرق والجنس والمذهب والطائفة والقبيلة، وتصبح دول المنطقة في مقدمة دول العالم في مؤشرات ومدركات الفساد، وتنهب الثروات لصالح فئات وشرائح  محددة، تستفيد بطريقة أو بأخرى من فساد وهيمنة قوى بعينها على سدة القرار في تلك الدول، التي لا تتورع ابدا عن توظيف الدين والتخلف وسياسات الافقار واشعال الحروب والفتن بكل أشكالها لضرب مكتسبات ناضلت لأجلها شعوب المنطقة، عبر عقود اتسمت بدموية وقهر وحرمان وتهجير وقتل وسجون وعذابات مستمرة من أجل اعاقة تطور ونماء شعوب لا زالت تئن تحت ثقل  فاتورة الخسائر والسياسات الظالمة، علاوة على ارغامها لتعيش تحت رحمة قوى التطرف التي تستفيد من أموال وثروات تنهب لتصب في اعادة انتاج التخلف بقوالب ومسميات أخرى، ولا ضير بعد ذلك بالنسبة لهم أن يطنطنوا في الحديث عن الدولة المدنية التي يراد لها أن تكون مسخا في ظل ما خلفته سياساتهم تلك من خراب وتشوهات وتخلف وفساد يكفل لقوى الفساد المهيمنة  أن تبقى ممسكة ممسكة بمصائر شعوبنا.

هكذا يبدو المشهد السياسي العام في منطقتنا العربية التي دخلت معظم دولها منذ العام 2011  مرحلة مغايرة، حين ارتفعت شعارات الحرية والكرامة والخبز وحقوق الانسان والديمقراطية بعفوية في الساحات والميادين، تحت ثقل وطئة سنوات عجاف من القهر والاستلاب، ونظرا لتغييب القوى الحية القادرة على قيادة وتوجيه بوصلة مجتمعاتنا نحو تحقيق أهدافها بوعي ومسؤلية وطنية، تنفلت الأمور بشكل متسارع وتدخل مجتمعاتنا ومعها الأنظمة القمعية في حالة تتسم بالفوضى وعدم اليقين بالمستقبل، وتغدوا ارتدادات كل ذلك حروبا وكوارث ودمار وأزمات تعجز الأنظمة عن ايقاف تداعياتها لأنها ببساطة لم تعد قادرة على ذلك لاعتبارات ترتبط وثيقا بطبيعة ونهج وهيكلية ومعالجات الأنظمة ذاتها، وتغوص فيها الشعوب حد الركب في اوجاعها ومآسيها، ويسحق قسرا ما تبقى من قواها الحية الحقيقية، اما بفعل  طبيعة وحضور القوى الطارئة على الأرض، أو بفعل  المعالجات الأمنية الجاهزة على الدوام للتعاطي مع حدة الصراع القائم ذاته ومسوغات فهمه وتجلياته لأسباب ثقافية واجتماعية وحتى تاريخية، حيث تتلاشى بشكل كبيرعوامل الثقة بين اطراف الصراع ويغيب الحوار الجاد بينها، دون أن يستفيد  الجميع من تجارب قريبة أو بعيدة كان أجدى استحضارها والتعلم منها، لتوغل مجتمعاتنا بعيدا في مستنقعات الكراهية والطائفية والتمييز والانقسام الداخلي، وتبدع سياسات الأنظمة وأجهزة استخباراتها ودوائر القرار الضيقة في توظيفها بشكل قميء، لتغدوا خرابا ودمارا مزلزلا في أوطاننا، وتتضائل فرص الخروج من الأزمات المتناسلة، ويتراجع الحوار الجاد دون أفق منظور يعيد لشعوبنا شيئا من الأمل في غد أفضل، وحين يصادر دور الأحزاب  والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني الحقيقية بفعل تشريعات وقرارات واحكام عرفية وقوانين طوارىء، يبقى السؤال يلح باحثا عن اجابات شافية.. الى أين ستقود سياسات الأنظمة منطقتنا يا ترى؟!  


 
الكاتب: عبدالنبي سلمان
من نشرة التقدمي العدد 92
السنة الثالثة عشر- يونيو 2015