المنشور

ثمانمئة سنة على ” الماغنا كارتا “


 
في أجواء احتفالية واحتفائية أحيت بريطانيا ذكرى مرور 800 سنة على توقيع وثيقة «ماغنا كارتا». ففي عام 1215 وقع الملك جون على هذه الوثيقة التي أقر فيها بأنه يخضع للقانون، وليس فوقه.

وقد تضمنت الاحتفالات التي بدأت رسمياً يوم الاثنين 15 يونيو/حزيران 2015، نقل نسخة من الوثيقة على متن قوارب تسير في نهر التايمز، واختير  23 شخصاً لحمل الوثيقة وعرضها خلال الاحتفالات، تناوبوا خلالها على سرد حكايتها على الناس.

ونصت “الماغنا كارتا” على حق المواطنين في المحاكمات العادلة وخفض الضرائب عن الذين ليس لهم تمثيل في البرلمان. وتنظر الأمة البريطانية بفخر واعتزاز إلى هذه الوثيقة التاريخية، إذ تعتبرها من أهم الوثائق في العالم وأشهرها، وأنها كانت ملهمة لعدد من الوثائق، منها الدستور الأمريكي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

في 15 يونيو  1215  وافق ملك إنجلترا، الملك جون، على توقيع ما سمي بالوثيقة العظيمة أو الوثيقة العظيمة للحريات (باللاتينية Magna Carta Libertatum) التي توسط في التوصل إليها وصياغتها كبير أساقفة كانتربري، بهدف إحلال السلام وإنهاء الصراع المسلح بين الملك جون ومجموعة من بارونات إنجلترا، من كبار ملاك الأراضي بزعامة روبرت فيتزوالتر، وحماية البارونات من الاعتقال غير القانوني، وتمكينهم من العدالة، وتقليص المدفوعات الإقطاعية للعرش، وحماية حقوق الكنيسة. على أن تنفذ بنود هذا الميثاق بواسطة مجلس يضم 25 باروناً. بيد أن البابا إنوسنت الثالث نقض هذا الميثاق ما أدى إلى نشوب حرب البارونات الأولى.
وبعد وفاة الملك جون قام نجله هنري الثالث بإعادة إصدار الوثيقة في عام 1216 ولكن بعد حذف أجزاء من محتواها الحقوقي. ولكن اتفاق السلام الذي أبرم في عام 1217 هو الذي أعاد للوثيقة اعتبارها بجعلها جزءاً متمماً لاتفاق السلام، حيث اكتسبت الوثيقة مسماها الشهير «ماغنا كارتا» (Magna Carta).

فكان أن أصبح هذا الميثاق جزءاً من الحياة السياسية البريطانية، وظل يخضع للتعديل والتجديد مع تتويج كل ملك جديد على العرش في إنجلترا إلى أن ذاب في القوانين البريطانية التي كانت تصدر تباعاً مواكبة لمستجدات العصر. ورغم ذلك لايزال يُنظر إلى وثيقة ال«ماغنا كارتا» باعتبارها الحجر الأساس لذيوع الحريات الفردية في إنجلترا أولاً، وفي بقية أنحاء المعمورة تالياً. وبهذا الصدد يذكر اختصاصيو التاريخ أن ال«ماغنا كارتا» كان لها تأثير واضح في مستعمري أمريكا، ولاسيما ولاياتها الثلاث عشرة الأولى، وفي صياغة الدستور الأمريكي في عام 1787 الذي أصبح القانون الأعلى للجمهورية الجديدة للولايات المتحدة.

أجهزة الاعلام الحكومية أو شبه الحكومية البريطانية، حرصت على المشاركة في النقاش والجدل الوطني المثار في إطار إحياء الذكرى ال800 لتوقيع ال«ماغنا كارتا»، وفي المراسم الاحتفالية الوطنية التي نُظمت احتفاءً بهذه المناسبة. فأفردت شبكة هيئة الاذاعة البريطانية، ولاسيما الناطقة بالإنجليزية، مساحات خاصة في برامجها الإخبارية اليومية، للحديث عن هذه الوثيقة وقيمتها التاريخية، وأثرها الممتد في الزمان والمكان، وعلاقتها بما وصلت إليه مدونة الحقوق المدنية وعلاقة الناس بالسلطات غير المركزية في الدولة البريطانية الحديثة.

والواقع أن الفعاليات المقامة تخليداً لهذه الذكرى كان قد تقرر إقامتها على مدار العام الجاري، من شهر يناير/كانون الثاني حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وتشتمل على إلقاء محاضرات في مختلف المدن البريطانية وتحت قبة مجلس العموم، وإقامة معارض تؤرخ لهذه الوثيقة، وتخصيص يوم للحديث عن «الماغنا كارتا» ومستقبل الديمقراطية في العالم، وتدشين إصدارات جديدة مكرسة لهذه الوثيقة، وعرض للنسخ الأربع الأصلية من الوثيقة ليوم واحد (الثالث من فبراير/شباط الماضي) في المكتبة البريطانية، والعديد من الفعاليات الأخرى.

المثير في الأمر، المُدلِّل في ذات الوقت على تعدي هذه الوثيقة التاريخية نطاقها المحلي وانتقال ثقل تأثيرها للعالمية، هو الاحتفاء بهذه الذكرى (مرور 800 عام على صدور الماغنا كارتا)، من جانب بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، أستراليا، نيوزيلندا وبلدان أخرى عدة.

ومع أن الوثيقة عالجت الحق المدني لمن أطلقت عليهم ب«الرجال الأحرار» (Free men) الذين كانوا يشكلون في عام 1215 أقل من نصف الشعب الإنجليزي، فيما كانت أغلبيته من الأقنان العاملين في إقطاعيات ملاك الأراضي الذين لم تمتد لهم مظلة الوثيقة، أيضاً، ومع أن الوثيقة حينما أشارت إلى «الرجال» فإنها قصدت الرجال تحديداً من دون النساء، باستثناء إشارة عابرة الى الأرامل، برغم ذلك، فإننا نزعم أن «ماغنا كارتا» هي بالذات التي دشنت مقاربة الحريات الفردية وفتحت الباب أمام تحرير الإنسان من عمل السخرة في أراضي كبار ملاك الأراضي، وتمكينه فيما بعد من حرية بيع قوة عمله للحاضنات الرأسمالية الأولى الناشئة آنذاك في الدولاب الاقتصادي للنظام الاقطاعي السائد.

إنما السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان المستوى الذي بلغته الديمقراطية البريطانية ومدونات مكتسبات الحقوق المدنية المكفولة اليوم لعموم البريطانيين بموجب القوانين السارية، تتناسب مع هذه الفترة الطويلة البالغة 8 قرون من تقنين أول حزمة من هذه الحقوق؟

نعم، قد لا يكون هذا المستوى مرضياً لشرائح واسعة من الناس داخل بريطانيا وخارجها، ولكنه بالتأكيد كفل للبلاد بلوغ مستوى ما تسمى بالديمقراطيات العريقة التي ترسخت تقاليدها وأضحت أقوى من مفعول القوانين بحد ذاتها. ولا ننسى الكوابح التي حالت، وتحول دون تنامي رقعة الممارسة الديمقراطية وعلى رأسها مراكز قوى رأس المال الكبير وامتداداته داخل السيستم الناظم لحركة الدولة والمجتمع.

ولربما ذهبنا في حسباننا إلى اعتبار مقاربة «الماغنا كارتا»، المحفز الأساس لفكرة العقد الاجتماعي المتقدمة التي اهتدى إليها فيما بعد فلاسفة عصر النهضة، أو عصر الأنوار، باعتبارها المقاربة المناسبة لكفالة وحفظ التوازن بين السلطات ومحكوميها.

 
17/07/2015