المنشور

ما بعد وما قبل


في نطاق اشتغالاته على الخطاب ما بعد الكولونيالي (ما بعد الاستعماري)، حرص إدوارد سعيد على توضيح أن المسألة بالنسبة له لا تحمل ما يمكن أن نطلق عليه التتابعية أو التوالي، الآتية من اللبس الذي تثيره مفردة: «مابعد»، التي تفترض أن هناك ما هو قبل، وهو الكولونيالية ( الاستعمار)، فكأننا حين نقول ما بعد الكولونيالية نفترض أن الاستعمار قد انتهى وجاء ما بعده.

الاستعمار لم ينته،والاستقلال الذي نالته الأغلبية الساحقة من البلدان التي خضعت للهيمنة الاستعمارية الأوروبية في وقتها، لا تعني أن البلدان التي نالت استقلالها وأصبحت عضوة في المنظمات الدولية والإقليمية، قد باتت بالفعل حرة ذات سيادة بالمعنى الحقيقي للسيادة.

الذي حدث بالضبط هو أن الاستعمار اتخذ لنفسه صوراً وأشكالاً جديدة تلائم ما بعد «الاستقلال»، الذي فرضته التوازنات الدولية الجديدة الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، والنهوض العاصف للحركات التحررية والقومية في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.

وهذه الصور الجديدة من الاستعمار، غير السافر أو المعلن، تجلت أكثر ما تجلت في استمرار هيمنة الدول الكبرى على مفاصل الاقتصادات الوطنية للبلدان النامية، وإعاقتها لأية تنمية حقيقية فيها، ورعايتها للأنساق المشوهة للاقتصاد التي فرخت نخباً فاسدة في هذه البلدان، نتيجة التزاوج بين المال والسلطة.

المدهش أن الصور الجديدة للاستعمار، المخملية إلى حد ما، لم تحل دون عودة أشكال الهيمنة التقليدية: استخدام القوة واحتلال البلدان وإعادة هندسة نظمها السياسية بما يلائم اللُعب الإقليمية والدولية، وكان للعالم العربي من هذا نصيب الأسد، وما احتلال العراق مباشرة، والتدخل لتخريب ليبيا وسوريا وسواهما، سوى أمثلة فاقعة على ذلك.

كما كان المستعمر القديم يأتي على البوارج مُحَمِّلاً جنوده بالبنادق في يد ونسخ الإنجيل في يد أخرى بزعم نقل البلدان «المتخلفة» حسب الخطاب الكولونيالي إلى الحضارة، فإن ورثة هذا الاستعمار من أبناء اليوم الماسكين بالقرار في المركز الغربي يرددون المفردات ذاتها، وبنفس الحرفية.

لتبرير احتلال بلد مفصلي غني بالثروات مثل العراق، مهد «المحافظون الجدد»، من المستشارين والخبراء والإعلاميين الأرض لجورج بوش الابن ليجعل من هذا الاحتلال حرباً ضد الاستبداد ومن أجل الحرية.

ليس ثمة ما بعد وما قبل إذن. صحيح أن الزمن لا يتوقف، ولكل عصر ظروفه، لكن للهيمنة جوهراً واحداً ثابتاً، قد تتبدل تجلّياته، لكن الديناميات المحرّكة لها، ومفردات الخطاب المبرر لها هي ذاتها.
 
12/07/2015