المنشور

الأفكار الرديئة تطرد الجيدة



في مقال
الأسبوع الماضي «سرّ الانجذاب لمنظمة إرهابية»، حاولنا تتبع أسباب ذلكم
الزخم غير المنقطع لإقبال المعجبين والمفتونين «بعضلات وبطولات» تنظيم
«داعش» «الفرانكشتاينية» على التقاطر من كل أصقاع الأرض للانخراط في صفوفه
والقتال معه في جبهات «فتوحاته» في سوريا والعراق، وفي أماكن تواجده
الأخرى، على الرغم من جهالة البدع التي يدعو إليها ويطبقها قسراً على ضحايا
المناطق التي تجتاحها جحافله، ورعب ممارساته المستجلبة من مجاهل عصور
الغاب والوحشية. 


وهذا بحد ذاته مثار حيرة واستغراب لدى الكثيرين في بلدان العالم قاطبة
الذين صاروا يتابعون، بدوافع مختلفة، بعضها نابع من الاشتغال والاهتمام
بالشؤون الدولية، وجلّها ناتج من احتلال أخبار “داعش” صدارة نشرات الأخبار
ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى أضحت متابعتها اضطراراً، جزءاً متمماً
للوجبات اليومية الروتينية التي يتناولها المرء مع فارق الشكل واللون
والمذاق. 


وقد عرضنا لشبه إجماع المراقبين والمحللين والمتابعين على
نسبة انجذاب مجاميع غفيرة من الشباب حول العالم لتنظيم «داعش» إلى تأثيرات
المال وإلى مغريات النعم الحسية التي يروج لها التنظيم على مدار الساعة عبر
منتدياته المتكاثرة كالفطر دونما حسيب أو رقيب. وقلنا إن مثل هذا التفسير
ينطوي على جانب من الصحة، وكان يمكن أن يكون هو التفسير الأرجح لهذه
الظاهرة، لولا أن تنظيم «داعش» يستقطب أيضاً النخب المتعلمة إلى جانب
اجتذابه للدهماء. وهو ما يدعونا هنا للبحث عن سبب أكثر وجاهةً وإقناعاً. 


من دون التقليل بأي شكل من الأشكال من أهمية وجوهرية التفسيرات سالفة
الذكر، المعقولة للغاية، فإننا نقترح إضافة التعليل التالي الذي نزعم أن
الإمعان في مزيد من غربلة عديد إشكاليات الظاهرة المعقدة لظهور و«تعملق»
هذا التنظيم وسرعة انتشاره كالوباء المهلك للحرث والنسل، يدل على أثره
ويبلوره. التعليل المقصود هو التعليل المستند إلى قانون اقتصادي شهير يختص
بضرب النقود وتداولها، عُرف حينها باسم قائله السير توماس كريشام (Sir
Thomas Gresham 1519-1579)، مستشار ملكة إنجلترا، ومفاده أن النقود الرديئة
تطرد النقود الجيدة من السوق، ذلك أنه في البلاد التي يجري فيها تداول
عملتين نقديتين كليهما معتمَدة قانوناً، بيد أن إحداهما رديئة (متآكلة بفعل
التقادم) والأخرى جيدة، فإن الرديئة تطرد الجيدة من التداول الجاري بين
الناس. فقد لاحظ كريشام هذه الظاهرة في بلاده إنجلترا كلما ضربت نقود جديدة
لتحل محل نقود قديمة متآكلة، حيث إن النقود الجديدة لا تلبث أن تختفي من
التداول، ويعود السبب في ذلك إلى أنه طالما كانت للنوعين من النقود نفس
القوة الشرائية تجعل الشخص مخيراً في أن يسدد مطلوباته النقدية بالعملة
الرديئة أو الجديدة (بغض النظر عن انخفاض القيمة السلعية للعملة الرديئة
بفعل التقادم مادامت محتفظة بقيمتها الاسمية المصكوكة بها)، فإنه يختار
تسديدها بالعملة الرديئة مستبقياً العملة الجديدة لديه بعيداً عن التداول
في السوق، مادام الدائن ملزماً بقبول العملة القديمة. ولو رفض الدائنون ذلك
وطلبوا العملة الجديدة لعمل القانون بشكل عكسي، بحيث تصبح العملة الجديدة
هي التي تطرد العملة الرديئة. 
الآن لو أسقطنا هذا القانون المستنبَط من ظاهرة سلوك الناس تجاه
العملتين سالفتي الذكر، الرديئة والجيدة، على ظاهرة إقبال الكثيرين على
سلعة (عملة) «داعش»، رغم رداءتها، سنجد أنفسنا أمام السياق العام نفسه
للظاهرتين (سيادة وازدهار العملتين)، مع فارق أن تفضيل الناس تداول العملة
الرديئة على العملة الجيدة، لا ينطوي على أي نوع من الأخطار، لا على
الإنسان ولا على الأشياء الجامدة ولا حتى على آلية عمل النظام النقدي،
وبالتالي على سلامة الاقتصاد. بينما ينطوي تفضيل مجاميع من الناس «تداول
عملة» «داعش» الرديئة، على أهوال محيقة بالبشر والحجر. 


فكيف تطرد عملة «داعش» الرديئة العملة الجيدة؟ وأين هي العملة الجيدة أصلاً القابلة للتداول؟ 


يوماً ما كانت هناك في العالمين العربي والإسلامي عملة جيدة يتم تداولها
على نطاقات واسعة، حين كانت النخب والقوى المجتمعية الريادية فيهما، تعمل
بجد واجتهاد على سرعة اللحاق بركب الأمم التي سبقتها في مضمار الإنشاء
والتعمير والتحديث والتمدين، وكانت الطبقة الوسطى الناشئة والشّاقّة طريقها
آنذاك في خضم ذلكم الحراك التنموي الديناميكي، والموزعة على إطر سياسية
ونقابية وأندية ومراكز ثقافية واجتماعية مختلفة، تشكل الرافعة الأساسية
لذلك المشروع النهضوي التحديثي.


وكانت هذه القوى الاجتماعية النهضوية،
بمشاربها الليبرالية المنفتحة على العالم أجمع، هي العملة الجيدة التي كان
الطلب العام عليها عالياً، بحيث عكست «قانون كريشام»، بطردها العملة
الرديئة ضعيفة التكوين آنذاك، المتمثلة في القوى المُسيِّسة للدين التي
كانت تتحايل وتراوغ التيار التمديني العام وتعمل دونما كلل أو ملل على
مراكمة جهودها للقفز الى صدارة المشهد لإعادة عقارب الساعة الى الوراء.


وهذا
ما حدث للأسف الشديد، إذ أدى تراخي وتراجع أداء قوى التحديث وتآكل شعبيتها
بسبب خبو الدافعية والافتقاد إلى الواقعية والانضباط والمثابرة، وشيوع
الهشاشة الغريزية أمام مغريات الفساد والاستبداد، إلى تدحرج عملية استحواذ
جماعات الإسلام السياسي بأطيافها المختلفة على الرقعة الأعظم من أضواء
المشهد السياسي ثم استيلائها على مفاتيح الحياة السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية في بلدان العالمين العربي والاسلامي. فكان لابد
والحال هذه، من أن تطرد العملة الرديئة العملة التي كانت يوماً جيدة قبل
تواريها من التداول الشعبي والنخبوي العام.


وعلى ذلك يصبح من المنطق
بمكان أن السبيل الوحيد لاستعادة العملة الجيدة بريقها ووهجها وجاذبيتها
لدى الجمهور، يكمن في إعادة الاعتبار للمشروع النهضوي التحديثي ولآلياته
ودينامياته المحركة.