المنشور

ذروة التشدد

أسعار النفط
لها ذروتها في الصعود، أي أنها تصل الى ذروة صعودها التي يصبح من غير المتصور
تجاوز الحد الذي بلغته. كذلك الحال مثلا بالنسبة للحدود القصوى التي يمكن أن
يبلغها استهلاك الفحم أو الوقود الاحفوري بوجه عام قبل أن يبدآن منحناهما النزولي.
أيضا فإن الدول صارت تضع لنفسها سقفا لبلوغ ذروة انبعاثاتها من غازات الاحتباس
الحراري


(GHGs)

، بحيث لن يكون ممكنا
تجاوز هذه الذروة.

     بمعنى آخر
فإن لكل شيء تقريبا ذروته التي يرتقى قمتها قبل أن يفقد قدرته على الاستمرار في
منحناه الصعودي فيبدأ بالانعطاف هبوطا. فهل تنطبق هذه الحتمية التاريخية على موجة
التشدد التي ركب صهوتها مشايخ التكفير وتنظيمات الاسلام السياسي المتطرفة وفي
طليعتها تنظيم القاعدة وتنظيم “داعش” ونسليهما من مجموعات تسمت بأسماء
فرعية تابعة لهما؟

     هذا السؤال
يطرح نفسه في ضوء تصاعد وتسارع موجة الرعب الارهابي التي تضرب مناطق شاسعة من
الشرق الأوسط وبعض أجزاء من آسيا وافريقيا في الشهور القليلة الماضية. بالأمس (يوم
الخميس 2 ابريل/نيسان 2015) اقتحم مسلحون ملثمون حرم كلية جاريسا الجامعية في شمال
شرق كينيا ونفذوا تفجيرات واقتحموا غرف الطلاب والطالبات وقاموا بقتل غير المسلمين
بدم بارد، حيث راح ضحية هذا الهجوم البربري 150 من الطلبة وبعض رجال حرس الجامعة.
وأعلنت مليشيا الشباب الصومالية التابعة لتنظيم القاعدة مسؤوليتها عن هذا الهجوم،
والذي كانت قد تبنت قبله هجوم دموي شنته في عام 2013 على مركز للتسوق في العاصمة
الكينية نيروبي.





     وقبل ذلك بوقت وجيز كان ارهابيو داعش يقيمون
طقس شلال الدم على ضفاف أحد سواحل البحر الليبية. حيث قام وحوش التنظيم ببث شريط
مصور يظهر عملية ذبح 21 قبطيا مصريا، كان التنظيم قد اختطفهم في وقت سابق.. وكانوا،
قبل عملية الذبح، قد ألبسوا الضحايا الزي البرتقالي وأجبروهم على أن يجثموا على
ركبهم مكتوفي الأيدي ومن خلفهم يقف الملثمون المكلفون بعملية الذبح التي أحالت لون
مياه البحر الى أحمر قاني!

     وقبلها،
وتحديدا في الثالث من يناير 2015 كان التنظيم قد استعرض ذروة توحشه في الفيلم الذي
بثه لعملية حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا داخل قفص حديدي محكم الاغلاق.
وقبل هذا التاريخ أيضا، وتحديدا في السادس عشر من ديسمبر/كانون أول 2014، قام 8
ملثمون ينتمون الى حركة طالبان الباكستانية التي أعلنت، ولو بصورة مخاتلة،
مبايعتها لتنظيم داعش، قاموا بارتكاب مجزرة في مدرسة للأطفال بمدينة بيشاور
الباكستانية بعد أن اقتحموا صفوف التلاميذ وأطلقوا عليهم الرصاص فقتلوا 132 طفلا
و9 مدرسين.

     وقبل أيام فقط، وتحديدا يوم الثلاثاء 17
مارس الماضي

شهدت العاصمة التونسية مذبحة مروعة أسفرت عن مقتل 23
شخصاً، بينهم 17 سائحاً أجنبياً، في عملية نفذها إرهابيان اقتحما متحف باردو
الوطني الذي يقع على بعد أمتار من مقر البرلمان،

راح ضحيتها 23 قتيلاً، من بينهم 17
سائحاً أجنبيا



ينتمون إلى جنسيات بولونية وإيطالية وألمانية وإسبانية
، وقد كانوا
أثناءها يهمون بالنزول من حافلات سياحية نقلتهم من ميناء حلق الواد إلى باردو، وكان
الارهابيان اللذان ارتديا ملابس عسكرية، بانتظارهما. وعندما هم السياح للنزول من
الحافلات اندفع نحوهم الإرهابيان وأطلقا عليهم النار.

     هذا طبعا بخلاف الجرائم الأخرى التي يرتكبها
تنظيم “داعش” الذي يمثل ذروة التوحش التي بلغتها التنظيمات الارهابية
منذ أن دشن التنظيم الأم “تنظيم القاعدة” أولى عملياته الارهابية في عام
1998 بتفجيرات سفارات الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام وما تبعها من عمليات
ارهابية نفذها فرعه الشيشاني في روسيا، قبل أن يتوجها بـ”غزوة” 11
أيلول/سبتمبر 2001 الارهابية الشهيرة ضد برجي التجارة العالمية في نيويورك، والتي راح
ضحيتها نحو ثلاثة آلاف قتيل من شتى بلدان العالم، وتكبّد العالم بأسره جرائها خسائر
قدّرت بمليارات الدولارات. وهي جرائم لا يتوقف التنظيم عن ارتكابها على مدار الأربع
وعشرين ساعة، من تدمير المتاحف والآثار التاريخية التي يعود بعضها لآلاف السنين
قبل الميلاد، وحملة التجهيل التي تشنها مليشياته في المناطق الخاضعة لسيطرته (أكثر
من 670 ألف طفل في سوريا حرموا من التعليم بعد أن أمر التنظيم بإغلاق المدارس الى
حين تغيير المناهج)، وسبي واختطاف  النساء
وبيعهن في “سوق النخاسة” (من الوثائق التي عُرضت على مجلس حقوق الانسان
في جنيف وثيقة توثِّق قيام تنظيم داعش باختطاف أكثر من 5000 إيزيدية وبيعهن في سوق
النخاسين). بخلاف الروايات المرعبة التي سردها بعض النسوة الناجيات من جريمة غزو
قرى ونواحي قضاء سنجار الواقع شمال غرب الموصل، ومنها ما روته لقناة
“نيوز”  فتاة أيزيدية كانت تسكن
قرية “كوجة” بعد استيلاء الدواعش علىها.

     الآن للاجابة على التساؤل عما إذا كان شيوخ
التكفير ودعاة ورعاة الارهاب  ومشغلوه
التنفيذيون على الأرض، قد بلغوا ذروة تشددهم العقائدي وتطبيقاته على الأرض، نبادر
أولا الى القول: وهل ما عرضناه من “عينات” إجرامية يشكل ذروة


(Peak)


ما في
جعبة “داعش” وأخواتها من أهوال وفظائع لإرعاب البشرية أم أن جنونها لا
حدود له؟!


     الأرجح أن هذه التنظيمات الارهابية لن تتورع
عن اللجوء الى “ابتكار” أبشع الأساليب وأكثرها رعبا وفتكا في حال توفرت
لها الوسيلة والموارد، وفي حال أُعطيت لها الإشارة من قبل مُشغِّليها. وهي تسعى
على أية حال للوصول الى أنواع، ولو بدائية، من أسلحة الدمار الشامل لاستخدامها
بهدف إيقاع أكبر قدر من الضحايا والدمار وبث الرعب في نفوس المجتمعات. وما دام
الجهد الدولي في مواجهة هذه التنظيمات الارهابية، مشتتا ومتفرقا، وخاضعا لاعتبارات
المصالح والحسابات السياسية، الجيوبوليتيكية والوطنية، فلسوف يستمر دأب هذه
التنظيمات في البحث عن الوسائل التي توصلها الى مبتغاها.

     بمعنى آخر فإن لحظة وصول هذا الارهاب الأعمى
الى منتهاه..الى ذروته، هي نفس اللحظة التي يقرر فيها “كبار اللاعبين”
وضع حد للعبة تشغيل تنظيماته، على الصعيد الفكري قبل اللوجستي. ولا تبدو مثل هذه
الانعطافة النوعية نحو إنهاء ظاهرته، وشيكة في ضوء الموقف الدولي المعقد والمحيط
بكافة ملابساتها.