المنشور

حزب الليبرالية الجديدة في أمريكا

من بين
المفارقات المثيرة للاهتمام في النظام السياسي الأمريكي بضلعيه الرئيسيين
المتناوبين على إدارة دفته، أن أفكار اليمين، الوسط والراديكالي، تبقى توجه
مسار الأجندة الوطنية الأمريكية، خصوصاً فيما خص السياسة الخارجية التي
يعتبرها النظام السياسي الأمريكي، تاريخياً، حجر الزاوية في تعظيم المصالح
الأمريكية في كافة أرجاء العالم، وتوفر وسادة الإسناد المريحة لتثوير معدل
نمو إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، حتى في ظل حكم الديمقراطيين (الحزب
الديمقراطي) للبيت الأبيض . فما هو السبب يا تُرى؟


بالنسبة للحزب
الجمهوري، فإن الأمر محسومٌ تماماً . فهو وفيٌ أشد الوفاء لإيديولوجيته
اليمينية المتطرفة، سواءً فيما خص الأجندة الاجتماعية أو التوجهاب الحربية
التوسعية، العدوانية في مطلق الأحوال الخارجية . المشكلة في الضلع الآخر
الذي يشكل ثنائية النظام السياسي الأمريكي التي صممتها وأخرجتها طبقة
الأثرياء وكبار ملاك الشركات والبنوك ومختلف أنواع الأصول، وهو هنا الحزب
الديمقراطي الذي مازال يقدم نفسه للجمهور الأمريكي وللعالم بأنه حزب
الليبرالية المنفتحة . فلو بحثنا في أصول هذا الحزب سنجد أنها تعود إلى ما
كان يسمى بالحزب الجمهوري – الديمقراطي الذي تأسس عام 297ù على يد توماس
جيفرسون وجيمس ماديسون وغيرهما من معارضي النزعة “الفيدرالية” في السياسة
الأمريكية، قبل أن يُعاد تشكيله باسمه الحالي تحت قيادة الرئيس آندرو
جاكسون الذي ناصر مبادئ جيفرسون عند انقسام أعضاء الحزب في عهده (1829 –
1838) .


لم يُعرف عنه في ذلك الوقت سوى أنه الحزب المُؤسَّس على الفكر
المحافظ الذي ارتبط تاريخه بحماية مؤسسة العبودية حتى من قبل اندلاع الحرب
الأهلية الأمريكية في عام ،1862 حيث كان يحظى بشعبية كبيرة في الجنوب
المحافظ أو “الجنوب الصلب” كما كان يُكنّى، امتدت من نهاية الحرب الأهلية
إلى سبعينات القرن العشرين . ولم تحدث الانعطافة الحقيقية في فلسفة الحزب
إلا حين تقلّد الرئيس فرانكلين روزفلت منصبه رئيساً للبلاد في 4 مارس/آذار
1933 (حتى 2 إبريل/ نيسان 1945)، أي في ذروة أزمة الكساد العظيم، حيث صار
الحزب يعتبر نفسه ممثلاً لتيارات الليبرالية ومناصراً للطبقات الوسطى
والفقيرة وللتدخل الحكومي في الاقتصاد . 


اليوم لم يعد في وسع جهابذة
الحزب الديمقراطي الأمريكي الزعم بانتمائهم للسياسات الليبرالية التي
أدخلها على الحزب فرانكلين روزفلت، والتي اقتضتها على أي حال الظروف
الموضوعية ومصلحة الحزب آنذاك في مسايرة الطبقات التي طحنتها أزمة الكساد
العظيم كي لا تتحول الى سخط على الحزب الذي كان تسلم للتو السلطة في البيت
الأبيض . فالديمقراطيون اليوم يكادون يزايدون على الإيديولوجية اليمينية
الفاقعة للحزب الجمهوري . فمنذ ولاية الرئيس بيل كلينتون وهم يعملون على
وضع سياسات تزيد الأغنياء غنىً وتزيد نفوذ الطبقات في أعلى الهرم الاجتماعي
. فالمعروف أن ال”نيوليبراليزم” تقترن عادةً بسياسات الخصخصة، وتحرير
التجارة وأسواق المال وحركة رأس المال من القيود هذا صحيح في الإطار العام،
ولكن الدولة الأمريكية تسارع الى نبذ هذه السياسات حال تورط رأس المال
الكبير في أزمة كما حدث إبان انهيار وول ستريت في ،2008 وهذا ما يجعل الحزب
الديمقراطي في حالة حيص بيص، كما يقول المثل . فهو في الوقت الذي يعتمد
فيه على أصوات المجموعات الاجتماعية مثل النساء وأعضاء النقابات والسود
واللاتين وأنصار البيئة، المتطلعين للمساواة بين الجنسين ورفع الحد الأدنى
للأجور ورعاية صحية بتكلفة منخفضة وحماية أكبر للبيئة وحقوق أوسع وأمتن
للمهاجرين، فإن الحزب، من جهة أخرى، بحاجة الى مليارات الدولارات لتمويل
أنشطته وحملاته الانتخابية، ولذا فإن قياداته وكوادره يهرعون للشركات
لإغداق الوعود عليها بمنحها المزيد من التخفيضات والإعفاءات الضريبية
للحصول منها على هذا التمويل .


ولقد كان من الطبيعي أن يؤدي جنوح الحزب
الديمقراطي نحو مواقع اليمين الجمهوري، بما في ذلك إبان الولاية الرئاسية
الحالية فيما يتعلق بالأجندة الاجتماعية (مسايرة الجمهوريين في شطب مليارات
الدولارات من برامج الرعاية الاجتماعية الشاملة خصوصاً للتعليم والطبابة،
والهجوم على نقابات المعلمين، واللغو الخاوي عن زيادة الأجور، وقتل تشريع
إصلاح أوضاع المهاجرين، وإفشال مؤتمر أطراف تغير المناخ في كوبنهاغن في عام
،2009 وقبل أوباما كان كلينتون قد سار على نفس النهج) ” لقد كان من
الطبيعي أن يؤدي هذا الجنوح الى أن يُمنى الحزب في عهد أوباما بأكبر خسارة
في الانتخابات النصفية للكونغرس في تاريخ الرئاسات الأمريكية” .


فإذا
كان بيل كلينتون رائد الحزب الديمقراطي في إنفاذ “الثورة الريغانية”
بفاعلية بالغة، وذلك بقضم برامج الرعاية الاجتماعية، وبتمريره لاتفاقية
“نافتا” (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية) وتحرير قطاع الاتصالات
والقطاع المالي، وتدشين نظام التجسس الحكومي والدولة البوليسية، وإساءة
معاملة المهاجرين، وإلقاء ملايين الفقراء من النساء خارج مظلة الرعاية
الاجتماعية إرضاءً لجناحه اليميني كعربون لحملته الانتخابية في عام 1996 ،
فإن الرئيس أوباما سوف يكتسب شهرته كرئيس أدار دفة السياسة الخارجية لبلاده
بعدوانية “ناطح” بها، مزايدةً، نزعات اليمين الجمهوري . فلقد أظهر الرئيس
أوباما أنه أكثر اندفاعاً حربياً من سلفه بوش، فقد قُصفت في عهده 7 دول
(أكثر من بوش الابن) . حتى إن غلن غرينوالد المؤلف والمحامي الدستوري
والكاتب الصحفي في “الغارديان” و”نيويورك تايمز” و”لوس أنجلوس تايمز”، لاحظ
في أحد آرائه المنشورة بأن “أوباما واصل السياسات الإرهابية للثنائي بوش/
تشيني، وهي ذات السياسات التي هاجمها الديمقراطيون، ومنها الاحتجاز لمدد
مفتوحة، وتسليم محتجزين لحكومات حليفة لانتزاع اعترافات منهم بالقوة،
والإبقاء على السجون السرية، والتوسع في العقائد المحاطة بستار من السرية” . 


ولعل هذا يطرح تساؤلاً مشروعاً عما إذا كانت إصلاحات الرئيس الراحل
المحسوب على الحزب الديمقراطي فرانكلين روزفلت، صادقة في نزعتها الليبرالية
على حساب نزعة الحزب اليمينية التقليدية؟ بما يعني أن من المفيد للمتابع
والمهتم، والآخر المشتغل بالشأن السياسي الدولي، وفي القلب منه الدور
القيادي الذي تضطلع به الولايات المتحدة في تشكيل وتقرير اتجاهاته ومصائره،
أن نفتح نافذة نطل منها على الحقبة الرئاسية الفارقة في الحياة الأمريكية
للرئيس فرانكلين روزفلت .