المنشور

تغوُّل الهويات على بعضها



ينطوي موضوع الهويات على قدر كبير من التعقيد، ومع أن الأمر ليس جديد الطرح في عالمنا العربي، إلا أن ما نحن بصدده اليوم من انفجار مروع للهويات الفرعية، وتشظّ للهويات الوطنية الجامعة، يحملنا على إمعان النظر في الحدود الفاصلة بين الاعتراف بحق الهويات الفرعية، من حيث هي مكونات ثقافية أو دينية أو لغوية، في الاعتراف بها، وبين أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تغول هذه الهويات على بعضها، أو تغول إحداها، كبراها خاصة، على الهويات الأصغر
.


تعايش اللبنانيون لعقود ليست قليلة بعد الاستقلال مع تعدد الهويات في مجتمعهم، وأوجدوا صيغة “ديمقراطية” تنظم هذا التعايش وتقاسم السلطة بين ممثلي هاته الهويات، ومع أنها لم تكن صيغة مثالية بدليل أنها سرعان ما انفجرت على شكل حرب أهلية طاحنة، كان للعامل الخارجي دور حاسم فيها، إلا أنها أمنت مساحة من الحريات السياسية والممارسة الديمقراطية لم يكن لها نظير في أي بلد عربي آخر
.


في الصيغة اللبنانية الكثير من الثغرات والألغام الموقوتة وغير الموقوتة، ولكنها، من زاوية معينة، أظهرت قدرة الممارسة الديمقراطية على تأمين تعايش وتفاعل الهويات، عبر آلية التوازن السياسي الذي يمكن الجميع من السلطة بصيغة من الصيغ
.


هذا لم يحدث في العراق مثلاً بعد سقوط النظام السابق، لأن هذا السقوط لم يتأتَّ نتيجة دينامية سياسية داخلية، إنما فرض فرضاً بالقوة من قبل الولايات المتحدة، التي “هندست” نظاماً وصفته بالديمقراطي، لكنه لم يكن كذلك، حتى ولو تزيّا ببعض مظاهر الديمقراطية


التجربة برهنت أن الحكومة المنتخبة ودورية الانتخابات لا تؤمن ممارسة ديمقراطية، إذا كان الأمر قائماً على المغالبة الملتبسة بالمذهب والطائفة، فتأتي الغلبة العددية للقائمة الفائزة لا تعبيراً عن برنامج سياسي يرمي بناء الدولة الوطنية، إنما تعبير عن “نشوة” الطائفة بفوز ممثليها، على ما في الطوائف من تناقضات وتنوع في الأفكار والمصالح
.


في الظاهر نحن إزاء تعددية من نوع ما يمثلها تعدد الكتل الانتخابية الممثلة في السلطة التشريعية، لكن هذا التعدد قائم على نفي التنوع الأفقي الموجود في كل طائفة على حدة وفي المجتمع كاملاً، وفي نتيجته يتولد الشعور بأن فريقاً معيناً يتغول على فريق آخر أو عدة فرق أصغر منه، بإقصائها أو تهميشها
.

وضع مثل هذا يشكل بيئة ملائمة للعنف والاقتتال والتأزيم السياسي وسد الأفق بوجه الاستقرار
.