المنشور

أزمة الإعلام الغربي

انتهينا
في مقالتنا السابقة المعنونة “إشكالية الصحافة العالمية . .محاولة للفهم”،
الى أن الوسائط الإعلامية الغربية أضحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة
الحاكمة، باعتبارها أحد أكثر أوساط الطبقات المسيطرة على عملية التراكم
الرأسمالي، من دون التقليل أيضاً من حقيقة هامش الحرية الذي تتمتع به،
باعتبارها، بحد ذاتها، مركزاً من مراكز قوى رأس المال النافذة والمتمتعة
بسلطة غير مرئية على عملية مونتاج وتصنيع مخرجات مطبخ دوائر صناعة القرار .


ونتيجة
لقوة الجذب الهائلة التي ما فتئت تتعرض لها الصحافة ووسائط الميديا
الغربية بوجه عام من جانب رأس المال الكبير، فكان من الطبيعي أن يثير ذلك
الشبهة في صدقيتها، وأن يطرح تساؤلات عن مدى أهمية وفاعلية الجمعيات
والنقابات التي تنتظم ممتهني الحرفة الصحفية في الغرب الذي نجح باقتدار في
تسليع كل شيء، باستثناء الهواء الذي تتنفسه مجتمعاته . . ومدى جدوى ونفع
مواثيق الشرف التي يقررون فيما بينهم توقيعها كردة فعل يبغون بها اشهار
تعهدهم بصون شرف المهنة الذي يقدسون لغواً .


فلا يزال الإعلاميون في
الغرب، والقائمون منهم على إدارة الوسائط الإعلامية، مستمرين في العمل بوحي
من مركز عقل “الأخ الأكبر” الذي يصمم ويضع الاستراتيجيات ويسند إلى
مخدوميه مهمة التكفل بتطبيق تفاصيل السياسات الإعلامية لتلك الاستراتيجيات،
من حيث استمرارهم في استخدام الأدوات ذاتها لإحداث التأثير النفسي
والإبستيمولوجي في الجمهور المستهلك لمختلف الوسائط الإعلامية، حيث لا يزال
التشويق والإغواء والترفيه والاثارة والتغريب، “خلطة البهارات” المفضلة
لدى الدوائر الإعلامية الغربية في تقديم “أطباق وجباتها” لثبوت نجاعتها
ومفعولها السحري في الناس المستهلكين لها .


فلاغرو أن يجد المراقب
صحفيين موضوعيين أمثال سيمون هيرش، يتامى تقريباً في مقابل الكم الهائل من
أمثال أحد أقطاب المحافظين الأمريكيين الجدد فؤاد عجمي، وكُتّاب وصحفيي
“مدرسة” مجموعة “فوكس نيوز” الإعلامية الأكثر غلوا في تطرفها النيوليبرالي
و”المدارس” الأخرى اليمينية الأوروبية الأقل غلواً، ولكن الأكثر مكراً في
تعاطيها المعياري المزدوج مع الأحداث العالمية . وفي المحصلة سيكون من
النادر أن تخلو هذه الواجهات الصحفية من مقال كيدي ضد الصين وروسيا
المنافستين الكبيرتين للغرب على الزعامة العالمية . ومن النادر جداً جداً
أن تجد مقالاً، أو حتى خبراً في هذه الواجهات يتحدث بموضوعية عن القضية
الفلسطينية في الصحافة الأوروبية فما بالك بالصحافة الأمريكية التي تعمل
فيها صحافة السوق الحرة “بكامل طاقتها”، فلا تكاد الصحافة الاحترافية تجد
فيها متسعاً لمزاولة وظيفتها الأصلية التي كانت أنشئت من أجلها أساساً قبل
ما يربو على ثلاثة قرون . بل إن ضواري هذا السوق البالغ العِظَم، نجحت،
بفضل تكالبها على تعظيم أرباحها، في تجريد النظام المؤسسي الديمقراطي الذي
أشاده الآباء الأوائل المؤسسون للاستقلال، من إحدى أهم آليات تجديده وتصحيح
أعطاله من الداخل ومن دون الحاجة للاضطرار لاجتياز دروب التغيير الوعرة في
حال انسدادها وجمودها . 


“لو كان النظام الدولي الجديد يتمتع بشيء من
الرحمة وشيء من الإنسانية وشيء من الأخلاق فلربما كانت الحكومة العالمية هي
ما نحتاج اليه . بيد أن هؤلاء لا يعدون أن يكونوا أناساً مقرفين تتملكهم
شهوة المال وإهمال متحجر القلب للمعاناة الإنسانية . وللأسف، فإن هذا يحدث
فقط لأن القسم الأعظم من الميديا الممملوكة والموجهة بواسطة تلك القوى،
ولأن مالكي الميديا، هم من يختار ويقرر اتجاهات تسليط الأضواء، لذا فإن
القصص نفسها والأصوات نفسها تصدح عبر 6 مجمعات إعلامية احتكارية لتلقن
الناس ما يتوجب عليهم معرفته عن عالمهم وعن بلدهم” . .(كريس برات Chriss
Pratt منتج فيلم الخداع Deceptions)


بيد أن دوام هذا الحال المريح
للاعلام الغربي من المحال . فقد واتته المفاجأة من “السيستم” ذاته الذي
اقتضت طفرات الرأسمالية في فرع تكنولوجيا الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات،
فتح خطوط انتاج جديدة عالية الربحية بارتياد أفق الاقتصاد المعرفي وتوجيه
أموال استثمارية طائلة للفوز بقصب السبق في هذين القطاعين العملاقين
الصاعدين . فكان أن ظهر لأول مرة ذلكم التهديد الجدي للحالة الاحتكارية
التي انتهى إليها الإعلام الغربي بعد ثلاثة قرون ونيف، والمتمثل في الإعلام
الموازي أو الإعلام الشعبي الآخذ في الاتساع بصورة مدهشة الذي يتخذ من
برامج التواصل الاجتماعي المتكاثرة على شبكة الإنترنت وسيلته العجيبة لكسر
وتجاوز احتكار الإعلام الموجه الذي انتهى به الحال ليكون جزءاً من “عدة”
الصراع الإيديولوجي الذي ما زالت تخوضه الرأسماليات المركزية ضد كل أشكال
ونماذج الاستقلال التنموي عبر العالم .


ولكن علينا أن نتذكر أن القوى
القابضة على مفاتيح الاقتصاد، وبضمنها أجهزة الدعاية والإعلام، كانت
دائماً، وعلى امتداد مراحل تطور الرأسمالية، على قدر التحديات التي
تقابلها، وكانت تنجح دائماً في تخطي صعابها بفضل المرونة التي تتمتع بها في
تطويع وتكييف نفسها مع مختلف المستجدات والتطورات . وهي في هذه الحالة
التي نحن بصددها، ونقصد ظهور الإعلام الموازي لمؤسستها الإعلامية الضخمة،
ذي الطابع الشعبي، لن تعدم الوسيلة للتغلب على هذا النوع الجديد والخطر من
التحديات، إما من خلال الاحتواء بتخليق آليات إعلامية أمنية تؤمن له حضوراً
مادياً غير مباشر داخل توليفته، وإما عن طريق تتبعه ومراقبته وإغراقه
بالتوافه، كما جرى لوسائل الإعلام المرئي، وإفراغه، ترتيباً، من محتواه
“الضار” بالخط العام للتوجهات والسياسات الإعلامية “المتبعة” .


لطالما
شنّف هذا الإعلام آذان مستمعيه وكحّل أعين متابعيه وهو يلوك اتهاماته
لل”آخر” ويوصمه بال”الغوبلزية” (نسبة الى جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازية
ورفيق الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر مؤسس “فن غسيل الأدمغة” حتى
الدقائق الأخيرة من حياة “الفوهرر” – القائد)، فإذا هو اليوم يسير على هذه
الخطى ليس أكثر، حتى إن تعرَّق وأنكر ذلك .


أين المشكلة؟ المشكلة أن هذا
الإعلام الموجه على نحو سافر، ما انفك يدَّعي الموضوعية والحيادية، مع أن
صدق القول أنه إنما يعكس مصالح الحكومات الغربية المتعاقبة، الراعية ليل
نهار لمصالح قوى رأس المال الكبير، أو لو أنه توقف على الأقل عن ادعائه تلك
الموضوعية والرصانة، لكان أكسبه ذلك احتراماً مستحقاً . أما أن يدّعي
الموضوعية والحيادية، في حين أنه لا يعدو أن يكون صورة مُطَوَّرة ومبهرجة
من الإعلام الحكومي “العالم ثالثي”، فهذا لا يضمن استحقاقه للمصداقية التي
تشكل الرأسمال الأساسي للعمل الإعلامي .



د . محمد الصياد