المنشور

إشكالية الصحافة العالمية . . محاولة للفهم

يمتد تاريخ
ممتهني العمل الصحفي والإعلامي في العالم، وكفاحهم من أجل انتزاع اعتراف
رسمي ومجتمعي بشرعية وأهمية مهنتهم إلى ما قبل عام 1700 حين كان مفهوم
الصحافة مرتبطاً حصراً بعملية جمع ونقل الأخبار، وكانت الصحافة بهذا
المفهوم مقتصرة على الصحف قبل أن تضاف إليها وسائل صحفية جديدة، المجلات في
القرن الثامن عشر والإذاعة والتلفزيون في القرن العشرين وأخيراً وليس آخر
الإنترنت في القرن الحادي والعشرين .


وحتى منتصف القرن السابع عشر، وإلى
ما قبل صدور أولى التشريعات المنظمة لنقل وتداول الأنباء، كانت الصحافة
مهنة محفوفة بالمخاطر، وكان من ضحاياها في تلك الفترة في إنجلترا الناشر
بنيامين هاريس الذي أدين بتهمة التشهير بسلطة الملك، وفرضت عليه غرامة
مالية كبيرة عجز عن دفعها فأُودع السجن، قبل أن ينتقل إلى أمريكا ويؤسس
واحدة من أولى الصحف هناك . وفي مرحلة لاحقة خففت السلطة البريطانية،
خصوصاً في عهد الملك وليام، من محاصرتها للصحافة بالتوازي مع تطور نظرة
السلطة للأحزاب، حيث اعتُبرت معارضة برلمانية، بعد أن كانت تُصنّف خائنة .


ويمكن
القياس على هذا المسار التطوري لمهنة الصحافة في بريطانيا فيما خص ذات
المسار الذي سارت عليه في ألمانيا، حيث أسست أول صحيفة في عام ،1605 وفي
فرنسا المجاورة في عام 1632 وفي بقية بلدان الثورة الصناعية .


واليوم
حين يجيل المراقب نظره متوغلاً في ذلك المسار التاريخي للصحافة، وصولاً إلى
ما أضحت عليه المهنة الصحفية اليوم، ومتوقفاً عند محطات صعودها ونكساتها،
ومغالبة خط الاستقامة والمهنية والاضطلاع بوظيفتها الأصلية في كشف مستور
الاختلالات والأعطاب نهوضاً بمسؤوليتها تجاه المجتمع – مغالبته لتيارات
أدلجتها وتعليبها ورسملتها تجارياً وصولاً لتمظهراتها الأبرز: صحافة
الإثارة والصحافة الصفراء .


وعلى ذلك يميل المراقب إلى الاعتقاد بأن
المعركة التي خاضتها وتخوضها الصحافة لتأمين حقوقها، وتعظيم مكتسباتها تشبه
إلى حد ما المعركة التي خاضتها وتخوضها المرأة من أجل نيل كامل حقوقها .
والفرق أن المرأة قد نالت عن جدارة جزءًا كبيراً من حقوقها، من دون أن تنجم
عن ذلك أضرار ذات بال على المجتمعات التي تنتمي إليها، اللهم تراجع ذكورية
هذه المجتمعات نتيجة إعادة توازن السلطة الجندرية بين الرجل والمرأة . في
حين أن دأب الصحافة والصحفيين للدفاع عن حقوقهم وعن ممارسة مهنتهم من دون
قيود أو عوائق سواءً في صورة قوانين مقيدة للحريات الصحفية أو إجراءات
قمعية أو سياسات رفض الإفصاح وحرية نقل وتداول وإذاعة المعلومة – إن كل ذلك
قد أسهم بلا شك في توسيع قاعدة حقوق الصحفيين وتعظيم هامش حريتهم وسقوف
تمكينهم من الوصول للمعلومة، وترتيباً في تعزيز مكانة الصحافة، بل ورفعها،
من حيث السطوة، إلى مرتبة السلطة الرابعة بعد السلطات الثلاث التنفيذية
والتشريعية والقضائية . . ولكن ليس من دون “فاقد” ولا من دون أضرار، جسيمة
في أحيان كثيرة، على أقسام أو شرائح مجتمعية أو على المجتمع في أحيان ليست
بالقليلة من تاريخها المعاصر خصوصاً . فقد صارت الصحافة، والإعلام عموماً،
تسبق السلطة التنفيذية، في التعبير دفاعاً عن مصالح رأس المال، وذلك بعد أن
أضحت الصحافة “بيزنس” كما يقال في الغرب، وصارت الصحافة والرأسمالية صنوان
لا ينفصلان . بيد أن هذا التلازم لم يحل دون تمتع الإعلام في الغرب
الرأسمالي بهامش من الاستقلالية، في حين ما زالت أنظمة الحكم في الشرق تنظر
للإعلام نظرة توجس وتشكك يستوجبان أخذ الحيطة والحذر ووضعها تحت رقابة
محكمة كي لا تتسبب في “ما لا يُحمد عقباه”!


واليوم وبعد كل هذا التاريخ
الحافل بالتضحيات من أجل أن تصل الصحافة إلى ما وصلت إليه من مكانة رفيعة،
ربما فاقت المرتبة التي توافق العالم على رفعها إليها، فإن المراقب الحصيف
حين يناظر كل ذلك، لا سيما في بلدان الديمقراطيات الليبرالية الغربية، لن
يجد سوى واجهات إعلامية لمراكز قوى ونفوذ رأسمالية تفزع لها على نحو ما
درجت عليه الممارسة المترسخة عميقاً في الثقافة العربية “انصر أخاك ظالماً
أو مظلوماً”، من دون أن يعني ذلك بالتأكيد خلوها من بعض الأقلام والأصوات
الناقدة لسياسة ما هنا أو لممارسة فاسدة أو خاطئة هناك . إنما بالإجمال يصح
القول في ضوء الوقائع الملموسة غير القابلة للإنكار، إن الإعلام الغربي
أضحى اليوم جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة الحاكمة، ووسطاً فاعلاً من أوساط
الطبقات الأكثر ثراءً وسيطرةً على التراكم الرأسمالي .