المنشور

ما أعطاه العرب للعالم

في مختصره الرائع لتاريخ العالم توقف الألماني غومبريتش أمام ظهور الاسلام في شبه جزيرة العرب، والصعوبات الجمة التي واجهت النبي محمداً عليه الصلاة والسلام في نشر الدعوة الجديدة، في بيئة معادية تعلق أهلها بعبادة الأصنام، وبالإغارة على بعضهم بعضاً، وأبدى دهشته للطاقة الروحية الهائلة التي أشاعها الدين الجديد لدى من اعتنقوه، والتي حملتهم خلال عقود قليلة على بلوغ مدارج لم تكن في الحسبان .


بلغت شعلة الإسلام فارس والهند ومصر وشمالي إفريقيا ومنذ النصف الثاني للقرن السابع الميلادي بدأت الجيوش العربية محاولاتها للسيطرة على القسطنطينية، عاصمة بيزنطة، فيما دانت لهم الأندلس .


سيكف العرب عن أن يكونوا مجرد محاربين صحراويين أشداء، فما إن بدأت حرارة المعارك تبرد حتى أخذوا في التعلم من الشعوب التي أدخلوها في الإسلام، وستغدو حضارتهم مزيجاً من آراء واكتشافات وفنون الفرس والإغريق والهنود وحتى الصينيين في حضارة واحدة . 


ولم تكن مصادفة انجذابهم نحو ترجمة كتابات المعلم الأكبر الإغريقي أرسطو، منه تعلموا النظرة الكلية للظواهر، وامتلكوا قاعدة فلسفية مكنتهم من البناء عليها فيما بعد، لتبلغ ذروتها في إسهامات الفلاسفة العرب في الأندلس خاصة، وليؤسسوا لعلوم جديدة كالكيمياء والجبر .


بالنسبة لباحث أجنبي لا تعنيه الكثير من التفاصيل التي تعنينا، فإن أهم ما شدّ غومبريتش إلى الحضارة العربية أمران: الأول هو حكايات ألف ليلة وليلة، تلك الحكايات الرائعة التي خلدها الزمن، واستلهم مناخاتها الأسطورية كبار الكتاب والمبدعين في العالم كله . ما من روائي عالمي كبير نجا من سحر هذه الحكايات، والكثيرون منهم تحدثوا عن الأثر الذي خلفته قراءتهم لها في أعمالهم .


الأمر الثاني الذي شدّ الرجل إلى حضارة العرب والمسلمين هو تجاوزهم للطريقة التي كان بها الرومان يكتبون الأرقام . فقد سهل العرب الأمر كثيراً، ليس فقط بسبب ان هذه الأرقام جذابة الشكل وسهلة الكتابة، وانما لأنها تحتوي على شيء جديد، هو القيمة المكانية، أي القيمة التي تعطى للرقم تبعاً للموقع الذي يأتي فيه، فالرقم الذي يوضع على يسار رقمين آخرين لا بد أن يكون رقماً مئوياً، لذا نحن نكتب الرقم مئة في صورة واحد متبوع بصفرين .


ليس في هذا القول الكثير من الجديد، ولكنه تذكير أوروبي المنشأ، على درجة عالية من الإنصاف بإسهام العرب في صنع الحضارة العالمية، لم يعد العرب أنفسهم يتذكرونه .


د . حسن مدن