المنشور

التجنيس السياسي…مهمة تفتيت الوطن وتكريس الطوائف!!


في البدء علينا أن نتفهم ضرورة وأهمية إماطة اللثام ولو قليلا عن ما يجري
منذ سنوات بالنسبة لعملية التجنيس السياسي وارتباطها بتغيير التركيبة الديموغرافية
في البحرين وزيادة تعقيدات المشهد البحريني من كل جوانبه، فالتجنيس لم يعد مشروعا
بل واقعا معاشا  وممارسة عملية على الأرض تعزز
شواهدها كل ما ذكرته وحذرت منه قوى المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني طيلة
السنوات الماضية، ولا مجال أمام أي منصف يمتلك حسا وطنيا مسئولا إلا أن يتحدث حوله
بحرقة وتساؤلات تتجاوز الأسئلة المعتادة لتدخل في صلب الواقع القائم ومراميه
وأهدافه والبحث مع الخيّرين من جميع فئات ومكونات الوطن لإخراج البحرين من محنتها هذه
التي لا نريد لها أن تصبح معقدة أكثر مما هي عليه حالياً من تعقيد.  على أن إصلاح الأمر ليس بالسهولة التي ربما
نتخيلها أو نتوقعها، خاصة مع ازدياد تعقيدات المشهد السياسي وتداخل عقده التي أضحت
تهدد جدياً بتفتيت وحدتنا الوطنية، إسقاطا وتحسبا لدى من يدعمون مشروع التفتيت
المجتمعي هذا، لما تحقق من نجاحات وتماسك وانسجام وطني في مراحل وحقب تاريخية لا
زال شعبنا يذكرها بكل فخر، مثلما يذكر بعظيم التقدير كل القوى الوطنية والمجتمعية
التي هيأت لها منذ مطلع الخمسينات والستينات وحتى نهاية السبعينات من القرن
الماضي، وهي مهمة وطنية تقع  مسئولية
استدعاؤها مجددا على عاتق كل المخلصين لوحدتنا الوطنية، والتي باتت تحتاج الى مزيد
من الإخلاص وبعد النظر والتيقظ باتجاه تخليص الوطن من آلامه العديدة التي  يبرز من بينها بكل تأكيد واقع التجنيس السياسي
الذي نعيش فصوله وتداعياته على أكثر من صعيد، كما أن علينا الإقرار أن تتبع تلك
التداعيات يبدو متداخلا الى الحد الذي يجعلنا نتساءل مع كل المخلصين.. ما العمل
أمام هكذا مشهد؟!


وبالعودة الى محور هذه الورقة علينا تحقيق مقاربة أولية لمحاولة فهم مرامي
وأهداف مشروع  “التقرير الكارثة”
الذي رأسه المستشار السابق بمجلس الوزراء “صلاح البندر” وفريق عمله
والذي تزامن مع تدشين ما طرح حينها من توجهات نحو الإصلاح، وهنا علينا أن نعود
قليلا الى الذاكرة لمقاربة توقيت تسلم “المستشار
البندر” لمهامه التي انحصرت على ما يبدو في هندسة المشروع الذي نحن بصدده،  فقد تسلم “البندر” منصبه في شهر
اكتوبر من العام 2002 أي في نفس الشهر الذي انتخب فيه أول برلمان منتخب بعد إلغاء
قانون وتدابير أمن الدولة، وهو توقيت يستدعي طرح الكثير من التساؤلات حول مغزى
وتوقيت هذه المهمة الخطيرة والنوايا التي ترافقت ومسيرة الإصلاح التي ابتدأت
للتو،وقد جاء المشروع الذي قسم على مراحل مدروسة تحت مسمى” البحرين الخيار
الديمقراطي وآليات الإقصاء” وقد اصطلح على تسميته شعبياً “بمشروع
البندر” نسبة الى من قاد ورسم فصوله ومحاوره، وألزمت وسائل الإعلام  المحلية المختلفة لاحقا على تسميته بالتقرير
المثير” بعد أن أصدرت  المحكمة الكبرى
الجنائية البحرينية قرارها الذي تم بموجبه حظر النشر او التداول الإعلامي بشأنه في
13 ديسمبر 2007.  لا يكفي هنا أن نستعرض
ردّات الفعل التي ابدتها مختلف قوى المعارضة السياسية والجهات الحقوقية فتلك قضية
مسلم بها ويمكن فهمها في بلد كالبحرين تتناوبه الخلافات السياسية وحالة مزمنة
من  الصراع السياسي، وتغيب فيه عوامل الثقة
المتبادلة بين أطراف هذا الصراع منذ عقود طويلة، ويزيد من استفحالها ما تشهده
البلاد من واقع انقسام وتشرذم سياسي واجتماعي غير مسبوق، اضحى يحتم علينا إعادة
قراءة ذلك “التقرير الكارثة” بكل ما جاء فيه من تفاصيل كانت تشير اليها
وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسميه في حينه بأنها مجرد تخرصات ومخاوف لا تمت
للواقع بصلة!! الأمر الذي يجعل من مهمة تقصي واقع هذا التقرير ومآلاته مهمة ملحة
لابد أن تأخذ بها قوى المعارضة وقوى المجتمع ومؤسساته وشخصياته الوطنية ليس بدوافع
تسجيل النقاط من طرف على الآخر، ولكن وبالدرجة الأساسية وهذا هو الأهم، لتحقيق فعل
وطني يرقى لأن يكون تاريخيا  بإمتياز لحماية
وصون وحدة البحرين وشعبها واستعادة ذلك السجل الناصع من التماسك والوحدة بين
مقومات المجتمع، ولوقف هذا المشروع التدميري الكارثي الذي نستشعر بكل أسف تداعياته
المرّة فصولا لم تتوقف حتى اللحظة منذ تم الإعلان عنه، أو لنقل فضحه!


 وعلى الجانب الآخر علينا أن نحقق
فهما أكثر عمقا وشمولية وموضوعية مما هو قائم من لغط يجري تسويقه والترويج له من
قبل جهات وإعلام رسمي وشبه رسمي تمرّس كثيرا في الابتعاد عن الحقيقة، يحاول بإستماتة
أن يبتسر قضية  “التقرير
الكارثة” ودوافعه على أنها مجرد تصفية حسابات بين مكون وآخر أو بين مكونات أو
معارضة من جهة والسلطة من جهة أخرى!!  ونحن
نقول، كلا إن الأمر أكبر من ذلك بكثير ويجب أن يفهم أولا ضمن حالة انعدام الثقة
التي  تكرست ولازمت مسارنا التاريخي وحالة
الصراع القائمة في البحرين ضمن مؤشرات المصالح والثروة والامتيازات والنفوذ والاستحواذ
والهيمنة وإلغاء وتهميش الآخر وعدم قبول السلطة بأي نوع من المشاركة في صياغة
وإشادة القرار الوطني الذي ظل لعقود طويلة القضية الأبرز للحراك السياسي في
البحرين، والتي نستطيع أن نقاربها بسهولة من مطالبات وبرامج مختلف القوى السياسية
وهي التي استندت باستمرار الى ذلك الحس الشعبي الجارف التواق للاستقلال والحرية
والعدالة الاجتماعية والمساواة حتى قبل خروج سلطة الانتداب البريطاني مطلع
السبعينيات من القرن الماضي والتي استمرت حتى اليوم رغم ما ابداه شعبنا بمختلف
قواه وأطيافه السياسية من مواقف داعمة للإصلاح الحقيقي، الذي فيه خير ومصلحة
الجميع من حكام ومحكومين، وذلك ما تجلى بالضبط في فترة مناقشة حيثيات ميثاق العمل
الوطني، وكيف دفعت القوى الرئيسة الحية في البلاد جماهير شعبنا لاحقا للتصويت عليه
بنعم كبيرة، على الرغم من تباين مواقفها فيما بعد بين مشارك ومقاطع في الانتخابات البلدية
والنيابية وصولا الى مشاركتها  بشكل شبه
كامل في انتخابات 2006.  وعلى الرغم من
معرفة الجميع حينها بكثرة النواقص التي وعتها ولمستها  إن على مستوى غياب عدالة التمثيل الشعبي وتوزيع
الدوائر الإنتخابية أو حتى في ظل وجود المعوقات القانونية والدستورية واللوائح
التي تمنع وجود سلطة منتخبة حقيقية كاملة الصلاحيات كما سبق وتعهدت به دوائر
القرار الرسمي إبان الدعوة للتصويت على الميثاق، والتي يفترض أن تستند الى المبدأ
الدستوري الواضح ” الشعب مصدر السلطات جميعا”،  كل ذلك من أجل إثبات أن للجميع مصلحة في انجاح
ما جرى تسويقه من توجه نحو الإصلاح الذي كان ميثاق العمل الوطني أرضيته المتوافق
عليها، والذي لم يستثمر البتة بكل أسف من قبل السلطة التي ظلت ممسكة ومتمسكة بواقع
الهيمنة على القرار والأراضي والأملاك والأموال العامة والثروة والمصالح والنفوذ
والتعيينات والامتيازات أكثر من ذي قبل، غير مبالية بمدى حجم ونوعية التحولات من
حولها محليا وإقليميا ودوليا، وهذا الفهم 
البائس والموغل في الخطأ والتقليدية والجمود يفصح عن نهج وعقلية تحتاج بكل
تأكيد أن تفهم مسار التاريخ بصورة مختلفة ومتقدمة، لتدرك الزمن الذي عادة لا يعود الى
الوراء كما نعلم.  وبقراءة خاطفة للمحاور
العديدة التي جاءت في “التقرير الكارثة” الذي نعيش فصوله العملية منذ
أعوام، يتضح لنا بجلاء أن التجنيس السياسي هو العمود الفقري الذي استند عليه
“التقرير الكارثة” الى جانب الإيغال في ممارسات التمييز بين أبناء الوطن
الواحد!! فهو إذا نهج تجاوز كثيرا الحبر الذي كتب به يوما، كما تجاوز كثيرا بعض
مرامي وأهداف من مولوه وخططوا له وأنشأوا وهيأوا لأجله المؤسسات والطواقم والأفراد،
ومن غيروا لأجله التشريعات والقوانين والدساتير ليصبح واقعا مؤلماً وعقبة كأداء
أمام تطور مجتمعنا البحريني الساعي لتحقيق طموحاته المشروعة في العدالة والاستقلال
والتحول نحو الديمقراطية، التي لا مناص منها في ظل ما يجري حولنا من تحولات جارفة،
 ويجري كل هذا في قبالة كل الدعوات المخلصة
لقوى المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنخب السياسية والوطنية التي
بقيت متمسكة حتى اللحظة بضرورة الإصلاح السياسي والدستوري القائم على مشروع واضح
المعالم للعدالة والمساواة التي باستطاعتها أن تقود مجتمعنا نحو الاستقرار
والتنمية والديمقراطية  القائمة على
التعددية السياسية.


 وأمام ما افرزته  الأزمة السياسية المستفحلة التي عصفت بالبلاد
منذ الرابع عشر من فبراير 2011 على خلفيات ما جرى ويجري في محيطنا العربي وما هيأه
الحراك الشعبي في أكثر من بلد عربي من ظروف مواتية أمام مختلف قواها المجتمعية
الطامحة لتحقيق مطالبها المزمنة والمشروعة في الاستقلال الوطني والعدالة وصيانة
حقوق الإنسان والمشاركة السياسية في صياغة قرارها الوطني، فإن القوى  السياسية الحية لدينا في البحرين انحازت  بشكل طبيعي نحو هذا الخيار الواقعي القائم على
تحقيق المطالب العادلة التي طال انتظارها بالطرق المشروعة القائمة على خيار
السلمية الذي رأت فيه محقة تجنيباً للبلاد وللنظام أيضا مغبة الدخول نحو المجهول، إلا
أن مواقع النفوذ المدعومة بلوبيات الفساد والمستفيدة من بؤس الواقع الحالي المُعاش
لم تشأ مجرد القبول بحل سياسي واقعي يجنب البحرين وشعبها ما يعترضها من متاعب
تسببت فيها تلك القوى التي نجحت في إحالة كل توجهات الإصلاح المتوافق عليها شعبيا ضمن
ميثاق العمل الوطني الى مسلسل لا يتوقف من السيناريوهات المتصلة والمتداخلة التي
غايتها الاستمرار في إعاقة المسار الطبيعي للتطور السياسي المأمول، والمضي قدما في
مشروع افقار الوطن ونهب ثرواته وتكبيله بمديونية ضخمة تجاوزت الخمسة مليارات دينار
حتى الآن، وتهميش إرادة الناس عبر استحضار وتفعيل مشاريع مشبوهة من بينها المشروع
الكارثي الذي نحن بصدده، والتي أكدت مجددا كل مخاوف قوى المعارضة ومؤسسات المجتمع
المدني إزاء ما جاء في “التقرير الكارثة” من حيثيات اقل ما يمكن أن يقال
عنها أنها  تستدعي مفاهيم ماضوية سقيمة
تقوم على احياء الطوائف والعشائر والقبائل والفئات وتكريس المذهبية والعصبيات
الضيقة وتفتيت وضرب مكونات المجتمع بعضها ببعض.  وفي هذا يقول تقرير مجموعة الأزمات الدولية
الصادر عام 2005 حول الأوضاع في البحرين استنادا الى ما جاء في حيثيات
“التقرير الكارثة” في اشارة الى الانتخابات والتمثيل الشعبي في البحرين “
أن السؤال أصبح ليس من هو الاتجاه السياسي أو البرنامج الانتخابي الذي يفترض أن
يفوز في تلك الانتخابات النيابية أو البلدية بل 
من هي الطائفة الفائزة بتلك الانتخابات؟ وهو تكريس مفضوح عززه وسعى اليه “تقرير
البندر” الشهير سعيا من القائمين عليه لإنعاش وتحفيز الطوائف والمذهبية
والعصبيات والغاء الوطن…. “.  


وهنا تبرز أمام قوانا السياسية وشخصياتنا الوطنية اسئلة ملحة لا سبيل
لتأجيلها، ومهمة كبرى بل ومقدسة يكمن في روحها كيفية استعادة وحدتنا الوطنية بعيدا
عن تلك المشاريع المشبوهة والعمل بدوافع وطنية خالصة يجب أن تبتعد عن انحيازات
الطوائف ودعوات الانقسام لتدخل في صلب بناء الوطن الذي تنتفي فيه العصبيات
وممارسات الكراهية وتتحقق فيه العدالة للجميع وهو أفضل رد حضاري يمكن أن تواجه به
حركتنا الوطنية أصحاب تلك المشاريع المشبوهة والمدمرة.