المنشور

مانديلا المُلهم يترجل


ترجل الملهم العظيم، نيلسون مانديلا، لكي يدخل ملكوت الخلود، حياً في ذاكرة البشرية جمعاء، ما بقيت هذه البشرية .





من أقصى القارة الإفريقية، من المنطقة المشتعلة منها التي ظلت حتى عهد قصير مضى معقل التمييز العنصري، شقَ هذا القائد النادر طريقه، ومعه شعب جنوب إفريقيا، إلى المجد عبر رحلة عذاب طويلة، قادته إلى السجن المرير المديد ليصبح أهم وأشهر سجين سياسي في القرن العشرين، إذ رفض كل أشكال المساومة على المبدأ وتمسك بثوابت النضال الوطني الإفريقي، دافعاً ضريبة ذلك من حياته وحريته، وكان هذا التمسك بالذات من أهم العوامل التي ألهبت حماسة الشعب بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي وقادته نحو النصر المؤزر .


وبعد أن استطاع العبور ببلاده من جحيم التمييز العنصري ومخاطر الحرب الأهلية المدمرة إلى أفق التسوية التاريخية من خلال حلٍ شجاع وعادل، أضفى على مسيرته الجليلة أروع اللمسات وأرقها، حين قدّم الدرس الأعظم في التسامح والغفران والحوار .


عهد إلى القس المناضل ضد العنصرية “ديزموند توتو” رئاسة “لجنة المصالحة والحقيقة” للتحقيق العادل والعلني مع المتهمين في جرائم القمع والقتل خارج القانون، على أن تكون لهذه اللجنة مهمة الصفح عن هؤلاء مقابل اعتذارهم لضحاياهم .


ورغم ما عاناه شعبه من مرارات من قبل نظام الفصل العنصري البغيض، وما عاناه هو شخصياً من قساوة السجن المؤبد، قال قولته الشهيرة: “نغفر ولكننا لن ننسى” . وهو في هذا يعني النسيان الفتاك، حين يُصبح المطلوب تغييب الذاكرة الجمعية للناس، وسلخهم من تاريخهم وحملهم على نسيانه .


بعد خروجه من السجن أًصبح أول رئيس لجنوب إفريقيا الجديدة، الحرة، لينجز الفصل الأخير من مسيرة تحرير بلاده من عار العنصرية، بإجماع شعبي قلّ نظيره ولكنه عند انتهاء الأمد الدستوري لولايته أصر على ألا يترشح ثانية، مع أنه كان يملك من التفويض الشعبي ما يجعل منه رئيساً لبلاده مدى الحياة، فهو بالنسبة لشعب جنوب إفريقيا ليس مجرد زعيم، إنما رمز لملحمة النضال العنيد من أجل الحرية .


لكنه في مسألة العلاقة مع السلطة أعطى القدوة الرائعة ذاتها التي أعطاها بسنوات سجنه الطويلة، حين غادر منصبه بإرادته الحرة، ليظل ضميراً ليس لشعبه فقط، إنما لكل المناضلين من أجل الحرية والتواقين إليها في العالم كله .


مانديلا لم يرحل . لقد بدأ رحلة خلوده الأبدي .