المنشور

عندما تتحول الخصومة السياسية إلى عداوة

الحقيقة التي لا تقبل جدالاً، هي أن كل التنازعات مهما اشتدت حدتها، وكل
الأزمات مهما طال أمدها، لابد أن تنتهي بالحل السياسي. والمؤكد إن كل
أطراف هذه النزاعات تدرك ماذا يعنيه الحل السياسي وما ينطوي عليه من
التزامات وشروط، وما يتطلبه من تنازلات متبادلة لتوفير فرصة «الحل الوسط»
التي تسمح بالوصول إلى تسوية سياسية بين الأطراف المتصارعة.

ولا أحسب
أن هناك من يرى أو يعتقد أن أزمة البحرين يمكن أن تكون استثناء عن هذه
القاعدة، لذلك يبرز تساؤل مشروع وهو: أين هي نقطة «الحل الوسط» التي يمكن
أن تلتقي عندها الأطراف المتنازعة في ظل المواقف المتضاربة والمتعارضة
واتساع هوة الخلاف بينها؟

إحدى النقاط الجوهرية في هذا السياق تكمن
في معرفة «مفهوم» أو وجهة نظر كل طرف حول ما نسميه «فرصة الحل الوسط»،
وبالتالي معرفة نوايا كل طرف ومدى مصداقيته ورغبته في الدفع في اتجاه
الوصول إلى الفرصة الملائمة للحل السياسي.

وأمامنا هنا مسلكان للتحقق
من هذه الصدقية، الأول: هو سلوك هذه القوى السياسية وطريقة تعاطيها مع
الأزمة وإفرازاتها المختلفة، الثاني: خطابها السياسي والإعلامي الذي يرسم
سقوفها السياسية. هذان المسلكان يكشفان بوضوح مدى التباين الموجود في رؤى
هذه القوى في تشخيص أسباب تفجر الأزمة وطرق معالجتها.

بداية يجب أن
تقر جميع الأطراف بوجود علل سياسية واجتماعية تفتك بالمجتمع البحريني، وتعد
هي الأسباب المحركة للأزمة، وفي مقدمة هذه العلل الاستبداد والفساد
والاعتداء على الحريات والتنكر لحقوق الإنسان وغياب مبدأ المواطنة
المتساوية ونهب الثروات وهدرها بعيداً عن مصلحة الوطن والمواطن.

هذه
العلل هي المسئولة عن الأوضاع المتفاقمة والمضطربة سياسياً واجتماعياً،
وعليه فإن من يريد مقاربة هذه الأزمة بصورة جدية والبحث عن حلول عملية لها،
عليه أن يتحلى بقدر من الواقعية والعقلانية، ويتمتع بعقل سياسي وطني متزن،
لا عقل أمني صرف، أو عقل طائفي متهور، بمعنى أن يكون لديه عقل منفتح على
تسوية وطنية، وقادراً في ذات الوقت على تقديم رؤى شاملة تعمل في اتجاهين،
الأول: تحديد خطوات الحل السياسي من خلال تبني خارطة طريق تتضمن استحقاقات
دستورية وحقوقية كانت وراء خروج الناس إلى الشارع للمطالبة بها، والتي
بتحقيقها فقط يمكن معالجة العلل التي أشرنا إليها أعلاه؛ والثاني: محاصرة
الانفلات في الغرائز البدائية مثل الأحقاد والكراهية الطائفية، التي تمثل
أحد أسوأ وأخطر إفرازات الأزمة والتي تهدد بتدمير البلد على رؤوس كل من
فيه.

إذاً نحن بحاجةٍ إلى تفكير موضوعي وعقلاني، وإلى تحرك وطني صادق
يدفع في اتجاه البحث عن حل عادل، وهذا يجب أن يبدأ بفضح وتعرية الأطراف
التي تصر على تأزيم الوضع بشكل دائم، والأخذ به إلى أجواء العداء والكراهية
بين المواطنين، لأنها لا ترى لنفسها وجوداً إلا من خلال هذه الأجواء
المضطربة. ومن المؤسف القول أن البلد اليوم واقعٌ تحت رحمة هذه القوى التي
تتغذى على بعض الدعم المادي والسياسي والإعلامي الذي تتلقاه من الدولة.

وهذا
ما يجعل أحد المهمات الوطنية العاجلة لقوى المعارضة الديمقراطية ولكل
الرموز الوطنية والمواطنين الغيورين على مستقبل بلدهم، تعرية هذه القوى من
ألبستها الطائفية والانتهازية، لأن مثل هذه القوى لم تقدم الدليل على كل
إدعاءاتها حول إيمانها بالديمقراطية، ولم تثبت إنها معنية بخيار الحل
السياسي والمساهمة في توفير فرص النجاح له، لأن مثل هذا الخيار يهدد
مصالحها الفئوية بل يهدد وجودها، لذلك هي دائماً مهمومة فقط بالبحث عن
الطريقة التي تحفظ بها المغانم التي استحوذت عليها دون وجه حق، والسكوت أو
تبرير المظالم التي وقعت على إخوانهم وشركائهم في الوطن، وهذا ما يحفزها
دائماً على العمل بكل إمكانياتها المتاحة (المعلن منها والخفي) على تحويل
الخلافات السياسية إلى عداوات وأحقاد، واعتماد خطابات طائفية وسياسية
متطرفة ومأزومة، مشدودة في مجملها إلى النظر لقوى المعارضة باعتبارها طرفاً
يتبع الخارج، وتغطية سلوكها هذا بشعار من الوطنية الزائفة والمخادعة، كما
يغلب على خطاباتها لغة الشتم والسباب لكل من يعارض أو يرفض سلوكها
الاستبدادي والعنصري، وصب اللعنات على كل من يحاول فضح سياستها المتطرفة.
لذلك هي لا تتوقف عن التحريض، ولا تنفك عن شحن النفوس بالضغائن ضد المعارضة
باعتبارها عدواً وليس خصماً سياسياً.

وكما هو حاصل اليوم فلم تعد
دعوات التحريض والكراهية مجرد همسات تتردد في غرف مغلقة، بل صارت صاخبة
ومعلنة في وسائل الإعلام المختلفة، تعبيراً عن مدى حنق وهياج مشاعر بعض
العناصر الموتورة ضد كل ما له صلة بالمعارضة الوطنية الديمقراطية ورموزها
السياسية، والوقوف عقبة في وجه التوصل إلى حل سياسي للأزمة التي تستنزف
مقدرات البلد. والنتيجة المنطقية المترتبة على هذه الوضعية، أن هناك طرفاً
لم يعد يقبل بأقل من القضاء على هذا «العدو السياسي» وعلى كل القوى والفئات
الاجتماعية الداعمة له، ولا يرى سوى الخيار الأمني حلاً وحيداً لإنهاء
النزاع، والذي يجب أن يبدأ بحصار المعارضة وينتهي بالقضاء عليها.

وهذا
يلقي على المعارضة الوطنية مهمة وطنية أخرى وهي إعادة تأسيس السياسة في
البلاد على أساس التعددية واختلاف الأفكار وتصارعها من أجل مصلحة الوطن، لا
على أساس الكراهية، والنهج الذى جرى اعتماده في أعقاب تفجر الحراك السلمي
قبل أكثر من عامين، وهو (النهج) المسئول عن حالة الانقسام التي باتت سمة
واضحة في المجتمع البحريني، وهو انقسام مقلق وخطير لأنه تجاوز ما كنا
نعتبره يوماً خطوطاً حمراء، تربت عليها الأجيال السابقة، بينما اليوم أصبح
الحديث عن «وحدة الشعب» و»الوحدة الوطنية» أو «تماسك المجتمع» مجرد أوهام
تتقاذفها وقائع الحياة اليومية التي يعاني منها فئة من المواطنين دون
غيرهم. ومهما جرى من محاولات للتعمية على هذه الحقائق ببعض الشعارات
الفارغة من كل معنى، فإن السياسات القائمة وما يعجّ به الإعلام الرسمي وما
يصدر عن بعض العناصر الموالية من مواقف وكتابات، كفيلٌ بكشف الكثير من
المستور، فالدولة التي تتعامل مع معارضيها بنوع من «الحقد» وتنظر لهم بأنهم
«خونة» و»عملاء»، فلا شيء ينتظرهم غير السجن والاعتقال والحرمان من أبسط
حقوق المواطنة.

أمام هذه الحالة هل يمكن لأحد أن يتصور أو يثق بأن
مثل هذه القوى تؤمن بالديمقراطية وبتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية
للجميع كأهداف لتغيير الواقع السيء والنهوض بالبلد؟

من هنا فإن القوى
السياسية المعارضة تواجه إضافة إلى مشاكلها مع الدولة لأنها تطالب
بالتغيير والإصلاح، تواجه مشاكل أكثر حدة مع هذه العناصر الموالية، والتي
يطلب من المعارضة أن تدخل معها في حوار للتوصل إلى اتفاق لإعادة بناء مسار
الديمقراطية في البلاد، بينما هي تتصرف وكأنها الطرف المنتصر، في مقابل طرف
مهزوم، وليس عليه سوى الإذعان لشروطهم وإملاءاتهم! مثل هذه النظرة
المتعالية والمتعجرفة تحول دون شك من رؤية الوقائع كما هي، وتقود إلى الشطط
والغلو وانعدام التوازن، وبالتالي غلبة النظرة العدائية ورفض كل ما هو
صادر من المعارضة لأنه مشبوه في عرفهم، وآخر مثال على ما نقول موقفهم
المتسرع ورد فعلهم المتشنج على المبادرة التي طرحتها المبادرة أمس الأول.

وعليه
فإن الاقتراب من نقطة «الوسط للحل السياسي»، تفترض عقلية مغايرة تماماً،
تؤمن بوجود بعض المشتركات، التي يمكن البناء عليها، مثل أن البلد بحاجة
قصوى إلى إصلاحات عاجلة وشاملة، تضعنا على أعتاب الديمقراطية، وكذلك اعتماد
مبدأ المواطنة الذي يجرم التمييز أو الإقصاء لدوافع سياسية أو طائفية.
فهذه خيارات ضرورية لأي تحرك جاد يرمى إلى خروج البلد من الواقع الراهن إلى
واقع أكثر عدلاً وإنصافاً. ولابد أن يشعر المواطن بأن أي تغيير لابد أن
يحقّق قيمته الإنسانية والذاتية، دون النظر إلى انتمائه السياسي أو العرقي
أو المذهبي. كما تفترض مقاربة الحل الوسط حاجة البلد إلى عدالة اجتماعية،
لا تنحاز إلى طرف أو فئة على حساب الأخرى، وكذلك إلى حرية حقيقية لا شكلية
من أجل أن يشعر المواطن بأن إرادته ومشاركته في صنع القرار متحققة، بصيغة
أو بأخرى، فليس هناك أية قيمة لديمقراطية لا يجد فيها المواطن أي تحسن في
حياته وظروفه السياسية والاجتماعية والمعاشية.

عدم الاتفاق على مثل
هذه المشتركات أو الإقرار بهذه المبادئ، بين القوى السياسية المتنازعة، هو
المسئول عن حالة الفشل أو عدم الوصول إلى حلول للأزمة رغم مرور كل هذا
الوقت، ورغم كل الخسائر التي طالت كل المستويات، ما يكشف عمق حالة الإرباك
التي تمر بها البلاد. فبينما يجري الحديث كثيراً في الإعلام عن الإنجازات
والمكاسب الديمقراطية، وتكثر الوعود عن الإصلاحات والالتزام بالقانون، فإن
ما يحصل على أرض الواقع أمر مغاير تماماً، حيث الإصرار على بناء الجدران
السميكة والأسوار الشاهقة التي تحول بين البلد وبين الإصلاح والديمقراطية،
وتتزايد الإجراءات والقرارات الاستثنائية التي تصادر الحريات، وتكرس صورة
عودة الدولة الباطشة التي لا همّ لها سوى كسر شوكة المعارضين والمخالفين،
وهو ما يعني أن هناك من ضاق ذرعاً بالإصلاحات المحدودة التي حصلت، ولم يعد
قادراً على تحمل تكاليفها البسيطة، لذلك قرر العودة سريعاً إلى آليات
الدولة السلطوية، وعودة مفاهيم وسلوكيات حسبنا إننا قد غادرناها دون رجعة،
وكأنما كل الفترة التي أعقبت صدور ميثاق العمل الوطني لم تكن سوى هدنة
مؤقتة أو استراحة تسترجع فيها الدولة أنفاسها قبل العودة من جديد للانقضاض
على تلك المكتسبات التي تحققت بفضل تضحيات الناس، هؤلاء الناس الذين كانوا
ينتظرون ويحلمون بالأيام الجميلة التي لم يعيشوها بعد، وفجأة وجدوا أنفسهم
وقد أفاقوا على كابوس مرعب، وهو ما يمثل ذرة الارتداد عن الديمقراطية وقمة
العصف بحريات المواطنين ومصادرة حقوقهم.

«عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم» (الممتحنة، 7).

محمود القصاب