المنشور

الروس عائدون


حين زار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي موسكو، قال إنه أتى من أجل أن يفهم روسيا . وتلك عبارة لا يمكن أن تؤخذ على أنها كلام مرسل . فهذا البلد كان وسيظل غامضاً لمن ينظر إليه من خارجه، وكانت التفاتة ذكية من فلاديمير بوتين حين استعان في رده على ضيفه الفرنسي ببيت من الشعر لواحدٍ من الشعراء الروس مفاده: “أنه بالعقل وحده لا يمكن فهم روسيا” .





في فيلم “المبنى الروسي” للمخرج الكسندر سوكروف الممتلئ بالحنين إلى روسيا العظيمة الضائعة أو المفتقدة ترد العبارة التالية: “لم تكن الجمهورية تصلح لروسيا يوماً”، وهي عبارة تحتمل تأويلات عدة بالنسبة للمتأمل في ماضي وراهن هذا البلد الشاسع الممتلئ بالغموض .


لا نعلم إلى أي مدى تصح فكرة أن الجمهورية لا تلائم روسيا، ولكن المؤكد أن روسيا لا يلائمها أبداً أن تكون بلداً غربياً بالمفهوم المتداول . إن موقعها الجغرافي الفريد بين قارتين، أوروبا وآسيا، يجعل منها بلداً مزدوج التكوين، حتى في الخصال النفسية لشعبها . 


حين أدت “بريسترويكا” و”غلاسنوست” غورباتشوف إلى تفكك الإمبراطورية السوفييتية جربت روسيا السعي لأن تكون غربية الهوى، ولكنها بدت كالغراب الذي جرب أن يمشي مشي الطاووس فلم يفلح . وبوتين لا يريد العودة بروسيا إلى اشتراكيتها، فهو نفسه قد خلع عباءتها، لكن يظل أن روسيا ما زالت مسكونة بالحنين إلى عهد الدولة العظمى التي كانت، وهو ما يجاهد بوتين في سبيل استعادته، لعل هذا يفسر العبارة المنسوبة إليه القائلة: “إن من لا يحن للاتحاد السوفييتي لا قلب له، ومن يريد إعادته لا عقل له” .


زيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين إلى مصر مؤخراً، والحديث عن تقارب روسي مع السعودية يعبران عن شعور روسيا بتنامي دورها مجدداً، وإدراكها للتبدلات الملحوظة في توازنات القوى الدولية أمام تعثر السياسة الأمريكية في أكثر من مكان، ويظل أن روسيا قوة دولية جار عليها الزمن، من دون أن يعني ذلك فقدانها عوامل القوة الكامنة الكثيرة التي تختزنها، والتي تستعيد اليوم تفعيلها، حتى لو كانت روسيا ليست الاتحاد السوفييتي، وزمن بوتين ليس زمن خروتشوف أو بريجنيف .