المنشور

أرمينيا… تجربة تستحق الدراسة



سافرت
في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى جمهورية أرمينيا، وهي إحدى البلاد
التي كانت تشكل جمهوريات الاتحاد السوفييتي الخمس عشرة حتى سقوط الاتحاد
السوفييتي في ديسمبر/كانون الأول 1991 (استقلت عن الاتحاد السوفييتي في 21
سبتمبر/أيلول 1991 أي قبل سقوطه الرسمي) . وهي بلد قوقازي أوروآسيوي، إذ
تتموضع عند ملتقى غرب آسيا وشرق أوروبا . تبلغ مساحتها 7 .29 ألف كيلومتر
مربع، ولا يتجاوز عدد سكانها 5 .3 مليون نسمة، يجمعون سنوياً من خلال
مزاولة أعمالهم على مدار العام في التعدين وتحديداً مناجم النحاس والزنك
والذهب والرصاص، وفي الزراعة (التي تستوعب نحو 40% من العمالة)، وصناعة
الآلات والمنسوجات، وصناعة المنتجات الكيماوية والإلكترونيات، وصناعة
الأغذية والمستحضرات الطبية والصيدلية، إجمالي ناتج محلي يقارب 20 مليار
دولار (بمعيار القوة الشرائية للعملة الوطنية) .


ما
يدهش في الأمر أنك وبعد مشاهداتك ومعاينتك عن قرب لأوجه ومعالم التحضر
والتحديث التي تقارب المستويات الأوروبية، ليس في عاصمة البلاد “يريفان”
فقط، وإنما في البلدات الأخرى المجاورة مثل فانادزور (أو وادي الورود)، سوف
تُسائل نفسك كيف لبلد أصيب بزلزال مدمر (زلزال سبيتاك) في عام 1988 قُتل
فيه 25 ألف شخص وشُرِّد نصف مليون شخص، ودخل في أواخر عام 1992 في حرب مع
أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورنو قره باغ ذي الغالبية الأرمنية حتى شهر
مايو/أيار ،1994 نتج عنها تشريد 80 ألف أرمني، فضلاً عن معاناة البلاد من
وضعها الجغرافي الطبيعي، من حيث كونها بلداً جبلياً غير ساحلي محاطاً ببيئة
جيوسياسية غير صديقة (تركيا في الغرب وأذربيجان في الشرق)، كيف لبلد يتعرض
لمثل هذه الصواعق دفعة واحدة، أن ينهض ويعيد إنتاج حياته السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بتصميم وكفاءة، تشهد عليهما علائم
التعافي والرقي الذي يليق حقاً بمجتمعات المراكز الحضارية المتقدمة .


الجواب
عن هذا التساؤل الاستغرابي يكمن، كما نعتقد، في عراقة تاريخ وثقافة الشعب
الأرمني وحيويته التي تمكنه من التعامل مع أصعب التحديات . وتكفي زيارة
لمتحف التاريخ الوطني في العاصمة يريفان، للتيقن من هذه الحقيقة . وبهذا
الصدد قد يكون مفيداً الإشارة إلى أنني كنت محظوظاً أن تتزامن زيارتي
للعاصمة الأرمنية مع احتفالات البلاد بذكرى مرور 1795 سنة على إنشاء
المدينة . حيث وفد كثيرٌ من الأرمن المنتشرين في بلاد المعمورة لمشاركة
أبناء شعبهم الاحتفال بهذه الذكرى، وكان ذلك في يوم الجمعة الموافق 12
أكتوبر/تشرين الأول ،2013 وكانت مناسبة أظهر خلالها الأرمن اعتزازهم البالغ
برابطتهم القومية وتمسكهم بانتمائهم لوطنهم ولثقافتهم، مهما أخذتهم
المسافات بعيداً عنها في بلدان المهجر على تعددها وتنوعها . فلقد فرضت مآسي
الغزو والاحتلالات والمجازر التي تعرض لها الأرمن على امتداد تاريخهم من
قبل الغزاة المجاورين لهم، وأبشعها وأكثرها إيلاماً وحفراً و”استيطانا”
للذاكرة الجمعية الأرمنية، المذابح التي تعرض لها الأرمن على أيدي الأتراك .


ومع
ذلك فإن من مدهشات الشعب الأرمني نجاحه الباهر في تحويل هجراته القسرية
والاختيارية ووجوده في بلدان المهجر المختلفة، إلى قوة مجتمعية محلية قوية
ونافذة، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا . فلقد كان اللوبي
الأرمني في كل من الولايات المتحدة (يبلغ تعداد الجالية الأمريكية من أصول
أرمنية فيها نحو نصف مليون نسمة)، وفي فرنسا التي يصل تعداد الأرمن
الفرنسيين فيها إلى 600 ألف أرمني .  لقد
كان هذا اللوبي الأرمني وراء تصويت كل من الكونغرس الأمريكي والجمعية
الوطنية الفرنسية (البرلمان) على قانون يعد ما قامت به تركيا بحق الأرمن في
عام ،1915 إبادة جماعية سوف تجبر تركيا على دفع أثمانها عاجلاً أو آجلاً .
حصل ذلك رغم أن تعداد أفراد الجالية التركية في عدد من الدول الأوروبية
يزيد 20 ضعفاً على عدد أفراد الجالية الأرمنية . ومع ذلك فإن الاتحاد
الأوروبي وكندا إضافة إلى الولايات المتحدة رأت ما حدث للأرمن في عامي 1915
و1916 على أيدي الأتراك العثمانيين، إبادة . كما أن الكثير من الدول
الأوروبية بما فيها تلك التي لا تتوفر على جاليات أرمنية موزونة مثل
هنغاريا وسلوفاكيا، أعلنت يوم 24 إبريل/نيسان من كل عام ذكرى أليمة في
أجندات تواريخها الوطنية .


أرمينيا تجربة شعب ووطن تستحق الدراسة والتأمل .