المنشور

الليبرالية الاجتماعية والرأسمالية… “عميا تمشّط مجنونة”! – د.فواز فرحان

بقلم: د.فواز فرحان


عندما
ثارت الشعوب الأوروبية وتحديداً في فرنسا على الإقطاع الممثل بالنظام
الملكي المتحالف مع الكنيسة تحت شعار (دعه يمر.. دعه يعمل..) كانت
البرجوازية في ذلك الوقت هي الطليعة الاجتماعية والسياسية الواعية التي
قادت تلك الثورة وبالتأكيد كانت هذه الطليعة (تقدمية) في ذلك الوقت بناءً
على موقفها السياسي الاقتصادي الاجتماعي من الإقطاع والنظام الملكي المطلق
عموماً، كان منطلق هذه الثورة منطلقاً طبقياً متمثلاً بتعارض مصالح هذه
البرجوازية التي تريد للناس والسلع أن تنتقل بين أسواق الإقطاعيات
والملكيات بحرية وبين مصالح الطبقة الإقطاعية التي كانت تمنع هذا التنقل
أحياناً وتفرض عليه شروطاً مرهقة وتعجيزية أحياناً أخرى، ولم يكن منطلق هذه
الثورة تنويرياً كما يروّج العقلانيون الجدد في هذه الأيام رغم أن حملات
التنوير الفردية والمتفرقة كانت تنتشر في أوروبا منذ قرون سبقت هذه الثورة
وبالتأكيد كان لها أثر على نضوج الطليعة الواعية ولكن هذا لم يرقى لكونه
المحرك الأول لها أو المنطلق لثورة الشعوب. 


تحول شعار (دعه يمر.. دعه يعمل..) إلى
منطلق اقتصادي للنظام الرأسمالي الذي ساد بعد نهاية النظام الإقطاعي وتحولت
معه البرجوازية إلى طبقة تعتمد على هذا النظام الجديد لتثبيت سيطرتها على
المجتمع والدولة بهدف زيادة الربح ولا شيء سوى الربح، ومن غير شك أن هذا
النظام الرأسمالي تطورت في ظله الديمقراطية وتبلورت معه مفاهيم الحريات
الشخصية والفردية وخصوصاً حرية السوق، ولكن هذا النظام تحول شيئاً فشيئاً
إلى نظام (مجنون) تزداد معه الفوارق الطبقية ويزداد الأثرياء ثراءً
والفقراء فقراً بسبب طبيعة هذا النظام الاستغلالية مهمشاً شيئاً فشيئاً
مباديء العدالة الاجتماعية، وظهرت الليبرالية مع ظهور هذا النظام؛ فهي
ابنته المباشرة ونتيجته الطبيعية التي اكتسبت مبادئها ومنطلقاتها من مبدئه
ومنطلقه الاقتصادي المتمثل بحرية السوق، فالليبرالية هي المذهب السياسي
الذي ينطلق من الحرية الفردية ويتمحور حولها ويعتمد النظام الرأسمالي كنظام
اقتصادي انطلاقاً من هذه الحرية متناسياً مبدأ العدالة الاجتماعية الذي
ضيعه تقديس الحرية الفردية وبالأخص حرية السوق بشكلٍ مفرط، والليبرالية
ليست هي التحررية كما يحاول أن يرسّخ ذلك الليبراليون العرب ومن ضمنهم
التنويريون والعقلانيون الجدد الذين لا يضعون للتطور التاريخي الذي نشأت به
الليبرالية أي اهتمام واقعي أو اعتبار علمي.


بسبب هذا النظام الرأسمالي والخلل
البنيوي فيه والمتمثل بعشوائية السوق التي تؤدي إلى فائض في الانتاج وضعف
في الطلب وبالتالي المزيد من التضخم والبطالة والفقر حدث (الكساد الكبير)
أو ما تسمى بالأزمة الاقتصادية الكبرى في عام ١٩٢٩ والتي خلفت الكثير من
المآسي البشرية، وطرح في ذلك الوقت المفكر الاقتصادي الإنجليزي (كينز)
حلولاً كان يعتقد بأنها ناجحة وناجعة للتغلب على مشاكل النظام الرأسمالي
مثل دعم الطبقات العاملة والفقيرة والمهمشة وتدخّل الدولة لصالح ذلك حتى لا
يزيد استغلال البرحوازية لهذه الطبقات فيزداد الفقر والعوز فنشأت
(الكينزية) أو ما تم الاصطلاح عليه بالليبرالية الاجتماعية والتي تنطلق من
نفس منطلقات الليبرالية الكلاسيكية التي سبقت (الكساد الكبير) ولكنها
مُطعّمة ببعض الأفكار الاجتماعية أو الاشتراكية مثل تدخل الدولة في
الاقتصاد، فالليبرالية الاجتماعية هي تعديل طفيف على الليبرالية الكلاسيكية
للتخفيف من مشاكل النظام الرأسمالي ولكنها لا تعالج خلله البنيوي وتناقضه
الرئيسي اللذين هما أساس هذه المشاكل.


والليبرالية الاجتماعية ليست كما يروّج
أتباعها -إما جهلاً أو تدليساً- على أنها الخط الثالث الوسطي بين
الرأسمالية والاشتراكية بل هي تطور تاريخي للليبرالية الكلاسيكية،
والليبرالية الاجتماعية كذلك ليست هي الاشتراكية الديمقراطية كما يتوّهم
بعض من يدعي التنظير السياسي والفكري لأن الأولى منطلقها الحرية الفردية
والثانية منطلقها العدالة الاجتماعية وإن تشابهت برامجمها على أرض الواقع
أو اندمجت بعض الأحزاب التي تمثلهما في بعض الدول الأوروبية، والدليل
التاريخي الملموس على عدم جدوى هذه الليبرالية الاجتماعية في إيجاد حل جذري
لمشاكل الرأسمالية أن أكبر الدول التي كانت تتبناها مثل أميركا وبريطانيا
انتقلت بعد ما يقارب الستين عاماً على تبنيها إلى (الليبرالية الجديدة)
والتي تعتبر كذلك تطوراً تاريخياً لليبرالية الاجتماعية في بعض الدول التي
انتعشت اقتصادياً وتوهمت أن الطبقات العاملة وصلت إلى مرحلة لم يعد ممكناً
بعدها أن تعاني من مشاكل التضخم والبطالة والفقر ولكن التاريخ أثبت عكس
ذلك، فالأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في عام ٢٠٠٨ مازالت تغرس أظفارها
في لحوم الشعوب والبطالة والفقر يأكلان مجتمعات أوروبية وأميركية شمالية
وجنوبية ومجتمعات أخرى في العالم.


باختصار؛ الرأسمالية نظام مجنون تستخدمه
الطبقة البرجوازية لاستغلال الطبقة العاملة لجني المزيد من الأرباح،
والليبرالية الاجتماعية تعتقد بأنها تعالج مشاكل الرأسمالية من خلال بعض
التعديلات على النظام الاقتصادي غير ملاحِظة للخلل البنيوي للرأسمالية
وتناقضها الرئيسي، ولا ينطبق على الليبرالية الاجتماعية والرأسمالية إلا
المثل الشعبي الذي يقول: عميا تمشّط مجنونة!


————————————–
*عضو التيار التقدمي الكويتي.