المنشور

يوم أُستشهد هاشم


في مثل هذا الوقت، في عام 1986، كنت قد وصلت إلى باريس للمشاركة في مهرجان الجريدة الفرنسية التقدمية الشهيرة “اللومانتييه”. 




كان
المهرجان السنوي لهذه الجريدة العريقة وما يزال حدثا ثقافيا وفكريا
وسياسيا مهما في فرنسا، كما انه حدث أممي بامتياز، فإليه يأتي المناضلون من
أجل الحرية والديمقراطية من بلدان العالم المختلفة ممثلين لأحزابهم
وحركاتهم السياسية وعارضين لقضايا أوطانهم وشعوبهم. 


أنا أيضاً
ذهبت بهذه الصفة حاملاً قضية شعبي. كان قانون أمن الدولة مُسلطا على رقاب
المناضلين والوطنيين البحرينيين، وكانت السجون والمعتقلات تعج بنزلائها من
دعاة الحرية والعدالة، وكان على العالم أن يعرف الحقيقة. 


أذكر إن
تلك الفترة شهدت واحدة من أوسع حملات التضامن مع الفنان الموسيقي والمناضل
مجيد مرهون الذي كان يقضي عقوبته بالسجن المؤبد، وكان تركيز الحركة
الوطنية البحرينية في وقتها على إبراز قضية ومعاناة هذا المناضل وبقية
رفاقه من السجناء والمعتقلين السياسيين، ولكن في غمرة هذا الوضع جاءت
الأنباء من البحرين عن حملة اعتقالات واسعة جديدة ضد مناضلي جبهة التحرير
الوطني رداً على تصاعد نضالهم من اجل الحريات الديمقراطية وإعادة الحياة
البرلمانية وإلغاء قانون أمن الدولة. 


كان مهرجان “اللومانتيه”
مناسبة لتوسيع حملة التضامن مع المناضلين البحرينيين. حيث وقع الآلاف من
جمهور المشاركين فيه على مذكرات وبطاقات تضامن تطالب بإطلاق سراح المعتقلين
ووقف القمع. 


يستمر المهرجان يومين فقط. في اليوم الثالث كنت أعد
حقيبتي للانتقال إلى فندق آخر بعد نهاية المهرجان، حيث كان علي البقاء
يوماً إضافياً أو أكثر في باريس لدواعي حجوزات الطيران. وقبل أن أغادر
الغرفة رن جرس الهاتف. 


على الخط الآخر أتى صوت المفكر المصري
التقدمي الراحل ميشيل كامل الذي كان يقيم حينها في باريس ، حيث يصدر منها
مجلة ” اليسار العربي”، التي تشرفتُ بنشر عدد من المقالات فيها. 


لم
يكن صوت ميشيل كامل يحمل خبراً ساراً. قال لي إن رفاقنا من دمشق اتصلوا
فيه وطلبوا منه أن يبلغني بأن الدكتور هاشم العلوي قد استشهد تحت التعذيب
في السجن، وان خطر الموت ربما يتهدد حياة رفاق آخرين، ووعد ميشيل بمساعدتي
في استثمار ما تبقى لي من وقت في باريس لترتيب لقاءات بالمنظمات الحقوقية
وبالنواب اليساريين في الجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان الأوروبي
ومناشدتهم التحرك للتضامن مع ضحايا التعذيب في البحرين. 


كان الجو
مُمطراً في باريس وبارداً، كأن الطبيعة قررت أن تقيم طقساً يلائم المشاعر
التي انتابتني، وأنا أتذكر ذلك الوجه المضيء للدكتور هاشم العلوي، الذي بات
شهيدا، تلك الابتسامة المشرقة التي لا تفارق محياه، وتلك الرهافة
الإنسانية النادرة التي تخفي خلفها روحاً من الجسارة والبطولة والتفاني في
القضية التي آمن بها ونذر حياته من أجلها. 


إن هذا الرجل الشجاع،
الفاتن والجميل في إنسانيته، لم يغادر ولن يغادر قلوبنا وأذهاننا. إن طيفه
المهيب يمر في صفوفنا، في أيامنا وليالينا، ليقول لنا إن الشهادة من أجل
الحياة هي الحياة الأزلية الباقية.