المنشور

ديمقراطية 1973… ما قبلها وما بعدها من خفايا – يعقوب سيادي

سألنا في مقالتنا السابقة، ما السر وراء تراجع بعض وعود الإصلاح، وما
صلته بالتراجع عن التجربة الديمقراطية الموؤودة، والتي كانت مأمولة، إبان
الاستقلال؟

حقاَ عاش شعب البحرين أمَلَ عرسِ ديمقراطي، بدءًا بوعد
الأمير الراحل في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1972، بإصدار دستور متطور للبلاد،
وتتابع ذاك الأمل في استجابة الحكم بصورة مرضية لمطالب شعب البحرين حينها،
في انتخاب المجلس التأسيسي، المكوّن من 22 عضواً منتخباً، و10 بتعيين
الأمير، (إلا أنه عيّن ثمانية فقط)، والوزراء بحكم مناصبهم وعددهم 12
وزيراً.

وفي مداولات المجلس التأسيسي، حول تنقيح نصوص مسودة الدستور
التي صاغها الخبراء الدستوريون بإشراف مجلس الدولة (الوزراء)، لم تتجلَّ
كثير من التعارضات بين أطراف المجلس الثلاثة، وهم الأمير عبر تعييناته وعبر
تصديقه على الدستور، والحكومة بوزرائها، والشعب عبر ممثليه المنتخبين، ما
عكس نوعاً من التوافق العام بين هذه الأطراف التي تعدادها ثلاثة، إلا أن
حقيقتها لا تتعدى الطرفين، ولكن شاءت المرحلة السياسية، أن يتقبّل الشعب
هذا الفرز، الذي أوكل الحكم، كنظام لإدارة الدولة للأمير، وعبر نصوص
الدستور تقبل ممثلو الشعب في المجلس التأسيسي، والذي تشاكل على كفتي
ميزانين، الميزان الإسلامي المذهبي، بين الشيعة والسنة في جانب، وفي الجانب
الآخر، ميزان الحداثة والمدنية قبالة الوجدان القبلي، وتقبل أيضاً الشعب،
أن يُوكِل مفاصل الدولة في السلطة والثروة، إلى الحكم كطرف متمثل في
الأمير، والحكومة التي بدورها تم تشكيلها، أيضاً بميزانين، الميزان المذهبي
بين الشيعة والسنة، في جانب، وفي الجانب الآخر ميزان الحداثة والمدنية
المتمثل في القلة الشعبية قبالة الأكثرية المتحكمة في مفاصل القرار، فكان
هناك التوافق على قبول المعادلة السياسية التي عكسها الدستور، واعتقدتها
الأطراف الشعبية، أنها متعادلة التكوين بما يحفظ لأطرافها حقوقها المتصلة
بافتراقها، ويُوجب على جميعها واجبات كل طرف تجاه الآخر.

كانت تلك
الحالة، في تقاسم السلطات، واضحة فيها الغلبة، للسلطات الحاكمة، التي عوّل
عليها الشعب أن تصون العدالة والمساواة، بين المكونات الشعبية، وبين جمع
هذه المكونات وبينها كسلطات حاكمة، بكلفة واجبة الدفع على شعب البحرين،
لقاء الأمن والطمأنينة، وتطوير المقدرات للجميع، بما يرسم نمطاً من
العلاقات المجتمعية والسياسية المتوازنة، موكولة أمانتها إلى الجهات
الحاكمة، عبر تناولها بالوعد في باقي مواد الدستور، المُقر، تعاقدياً بينها
وبين الشعب، والذي تم تأجيل تصديقه من قبل الأمير، إلى 6 ديسمبر 1973، قبل
يوم واحد من انتخابات المجلس الوطني في 7 ديسمبر 1973.

كل هذه
المراسيم أوحت لغالبية مكونات الشعب البحريني، عدا فصيل الجبهة الشعبية في
البحرين، وأفراد من المعارضة السياسية، الذين تصدّوا لاحتمالات ما يكدر صفو
بدء المرحلة الجديدة، بالمعالجة، وعندما لم يجدوا آذاناً صاغية لدى
الأطراف الشعبية الأخرى، التي غلبتها الأحلام، بأن مرحلة جديدة بدأت في 6
ديسمبر 1973، وأن هذه الغالبية وجدت فيها أرضية ممتازة لإرساء نظام الحكم
الديمقراطي، ما جعلها تغفل عن أمرين، الأول تاريخ الاستئثار بالسلطة
والثروة، والثاني استتباعاً لإغفال الأمر الأول، بإسدال الحجاب على
احتمالية تجاوز السلطات لأحكام الدستور، بالإلغاء أو التجميد، فآلت الجبهة
الشعبية على نفسها ألا تشارك في بناء مرحلة غير مضمونة الاستمرار والتطوير،
بما أوردته في رؤيتها السياسية والدستورية، من خلل التوازن بين سلطات
الحكم والشعب.

فقد نسجت السلطات شبكةً من الأحلام الشعبية، خصوصاً
وأنها المبادرة بمشروع بناء الدولة الحديثة، وبما جاء في مراسيمها من
معايير ديمقراطية، وخصوصاً المرسوم رقم 10، بتاريخ 11 يوليو 1973، الذي وعد
بزيادة عدد أعضاء المجلس الوطني المنتخبين من 30 عضواً في الفصل التشريعي
الأول، إلى 40 عضواً ابتداءً من الفصل التشريعي الثاني، مع الإبقاء على عدد
الوزراء بما لا يزيد عن 14 وزيراً كأعضاء في المجلس الوطني بحكم مناصبهم،
كما منع المرسوم على أفراد القوات المسلحة والشرطة، استعمال حقّ الانتخاب،
بما أوحى بغلبة الجانب الشعبي، في السلطة التشريعية المنوط بها إصدار
القوانين وتعديل الدستور بشكل جزئي كما نص الدستور، بما يحل مستقبلاً نواقص
الدستور فيما يتعلق بصلاحيات السلطات بما يوازن بين صلاحيات المجلس الوطني
وصلاحيات الأمير، وربما سرح الأمل لدى البعض، بغَلَبَة سلطة المجلس الوطني
على سلطات الأمير.

إلا أن التاريخ قد رسم الحدّ الفاصل بين الأحلام
والواقع، فبتاريخ 16 أغسطس/ آب 1975، بعد قرابة دورة ونصف من الفصل
التشريعي الأول للمجلس الوطني، وإثر صدور المرسوم الأميري يإيقاف العمل
بدستور 1973، وإيكال السلطة التشريعية والتنفيذية في آن معاً، إلى الحكم
متمثلاً في الأمير ومجلس الوزراء، وتطويع السلطة القضائية بما مارسته من
تطبيق قانون أمن الدولة الذي تجاوز متطلبات حالة الطوارئ.

وكان ذلك
نتيجة مرسومة، أن تم اغتيال عضو المجلس الوطني الشيخ عبدالله المدني من
قرية جدحفص، ولم يتم كشف حقيقة الدوافع والأطراف التي قامت بالاغتيال، فقد
تم اتهام تنظيمات اليسار السياسية، المتمثلة في الجبهة الشعبية وجبهة
التحرير الوطني، وحاضناتها من العمال والطلبة، وقد استشهد تحت التعذيب كلاً
من محمد غلوم وسعيد العويناتي من أعضاء التنظيمين الناشطين، وآخرين، ودخلت
البلاد في حقبة قانون أمن الدولة، الذي أكثر من عدد المعتقلين تحت طائلته،
بما تجاوز نصه وأحكامه، كما طال الاعتقال، سجن أهالي المعتقلين السياسيين،
من الرجال والنساء، بما امتد إلى سنة 2002 حين تم إلغاؤه، لتبدأ مرحلة
جديدة لم تختلف كثيراً عن سابقتها بما سنتناوله في مقالة مُكَمِّلة.

وعودة
لمضمون عنوان المقالة، لشق تلك المرحلة، نحلل الدوافع والأسباب، بأن دستور
1973، والمراسيم التي سبقته وتلته، لترسم معالم المرحلة، تم بناؤها بما
يؤسس لنتائجها، فمرحلة الاستقلال، استلزمت إصدار دستور للبلاد، من أجل
استكمال بناء عناصر الدولة، لكي يتم قبولها في الأمم المتحدة كدولة مستقلة
ذات سيادة، تلزم المجتمع الدولي على حماية استقلالها ضد المطامع
الشاهنشاهية حينها، وخصوصاً بعد قرار شعب البحرين الأكيد على استقلال
وعروبة البحرين، ما أوقع في يد البعض في استبقاء الانتداب البريطاني الذي
هيّأ الأوضاع قبل الاستقلال وبعده، وبما احتاجته من وقت لبناء الأجهزة
والأدوات القمعية، وبمشروع الدستور واستتباعاته، ليس لبدء مرحلة ديمقراطية
بنصوص الدستور، بقدر إغراق شعب البحرين في أحلام اليقظة، ريثما يتوافق
أطراف السلطة على اقتسام الثروة، بما يحفظ تماسكها، فالشعب وما حلم به من
سلطةٍ له عبر مجلسه الوطني، ما هو إلا قضاءٌ إلى حين معلوم، وإنما هي أدوار
مرسومة لكل فرد فيها.