المنشور

إغراق الجيوش العربية



الجيش
العراقي غارق حتى أذنيه في أوحال الحرب الأهلية، الطائفية والمذهبية
والعرقية النزعة، وذلك منذ 9 إبريل/ نيسان عام ،2003 التاريخ الذي شهد سقوط
عاصمة الرشيد تحت الاحتلال الأمريكي، والذي دشّن حقبة الاستعمار الأمريكي
المباشر لأول مرة في تاريخ المنطقة العربية، بإجراءين سريعين وبالغي
الخطورة على الدولة العراقية ومقوماتها كياناً سيادياً متكاملاً ومستقلاً،
وعلى نسيجها المجتمعي المتداخل والمتصاهر، وهما:


1-
إعطاء الضوء الأخصر لأكبر عملية استباحة ونهب في التاريخ المعاصر لرموز
وكنوز أعرق وأعظم الحضارات الكونية، ونقصد بذلك كنوز المتاحف العراقية .


2-
إصدار الأوامر بتسريح وتصفية الجيش العراقي الذي يعد أحد أكبر الجيوش
العربية وأقواها، وذلك بأوامر مباشرة من “بول بريمر” الحاكم العسكري للعراق
الذي عينه – ويا لمهازل التاريخ – الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش
(جورج بوش الابن) في 9 مايو/ أيار 2003 رئيساً للإدراة المدنية المشرفة على
“إعادة إعمار العراق” .


والجيش
العربي السوري هو الآخر غارق منذ أكثر من سنتين في أوحال الحرب الأهلية
التي اتخذت هي الأخرى منحىً طائفياً ومذهبياً وعرقياً، والتي حوّلت القسم
الأعظم من سوريا الوطن إلى مناطق منكوبة بفعل الدمار والخراب الهائل الذي
يُذكّر بمشاهد الحرب العالمية الثانية، والأبشع منه الدمار الذي لحق
بالإنسان السوري نفسه وأحاله إلى حطام .


ومنذ
مطلع عام 2011 تجري محاولات على قدم وساق لجرجرة الجيش المصري للخوض في
مستنقع حرب عصابات على الجماعات الإرهابية المتحصنة في سيناء، والتي راحت
تشن هجمات يومية منظمة على منشآت ورجال القوات المسلحة المصرية منذ الضربة
التي تلقّاها الإخوان المسلمون بعزل الرئيس محمد مرسي عن سدة الحكم .


وفي
اليمن وجد الجيش اليمني نفسه فجأة وهو يخوض غمار حرب ضارية على عناصر
ميليشيات تنظيم القاعدة التي راحت تشن، بأسلوب حرب العصابات، هجمات منسقة
على قيادات الجيش والقيادات الأمنية اليمنية، على غرار حرب العصابات التي
يشنها فرع التنظيم في مصر على الجيش المصري .


ومازالت
فرص توريط الجيش اللبناني في الحرب الباردة المندلعة بين المكونات
السياسية اللبنانية وما يتخللها من حوادث أمنية، والزج به في حروب مناطقية
متنقلة، قائمة بقوة . وما التهدئة الظاهرة التي أعقبت معركة “عبرا” بمدينة
صيدا الجنوبية التي خاضها الجيش اللبناني مع جماعة أحمد الأسير “الجهادية”،
سوى هدنة غطاها سياسياً فرقاء الصراع الساخن على الأرض اللبنانية .


وهناك
الحرب الأهلية التي ما انفك الجيش السوداني يغوص في أوحالها، حتى بعد رضوخ
السودان للضغوط الأمريكية والأوروبية الهائلة وموافقته على التخلي عن
أراضيه الجنوبية لمتمردي جنوب السودان .


في
القراءة الأولية السريعة سوف يبدو لنا الأمر وكأنه إفراز طبيعي للتمظهرات
المتجاسرة والمستفزة ل “لاهوت” الاستبداد، المقفلة أمامه، تقريباً، كل
منافذ تنفيس السخط الناجم عنه . إنما مع إعادة كَرّة قراءة أمر هذا التطور
النوعي الخطر، لمرتين أو ثلاث، سوف نجد أنفسنا، على الأقل، أمام تساؤل
أوّلي ومنطقي، هل هي المصادفة التاريخية التي أملتها شروط التطور السياسي
والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنفسي التي حكمت دورة الركود التطوري
الطويلة نسبياً في معظم البلاد العربية والتي جعلت من الجيوش العربية الحصن
الضامن لعدم انفلات الأمور وخروجها عن 


السيطرة،
إلى انهيار الدول بعد ارتفاع منسوب السيل الجارف للسخط المتراكم؟ نقول هل
إن شروط التطور المشوه تلك قد جعلت بالفعل من الجيوش العربية إحدى ضحايا
التصدعات التي بدأت معالمها ترتسم وبسرعة على قسمات حالة ال”ستيتوس كوا”
الهاجعة في “ملكوتها” لأكثر من خمسة عقود؟


نعم
قد يكون الأمر كذلك، ولكن، برغم ذلك تبقى الجيوش العربية، في ظل فسيفساء
الأسقام المتعددة والمعقدة المتوطنة، تقريبا، في كل مناحي الحياة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية، هي الضامن الوحيد
لصون وحدة التراب الوطني وتماسك الجبهة الداخلية، وهذا ينطبق على نحو خاص
على البلدان العربية المركزية، لاسيما منها ما تسمى بدول الطوق المحاذية
ل”إسرائيل”، من حيث إن تحديات الجبهة الداخلية المشار إليها بالإشارة إلى
فسيفساء الأسقام إياها، وإنما تتصل بتحديات خارجية حقيقية تفوق في الواقع
خطورة التحديات الداخلية، وذلك برسم وقائع الصراع العربي – “الإسرائيلي”
ومنها الحروب العدوانية الصهيونية والتهديدات المتواصلة بشنها .


بهذا
المعنى فإنه لا جدال في أن حالة عدم الانضباط التنموي وعشوائيته المرتجلة
الناشئة عن تقيّحات ممارسات دولة الشرق الاستبدادية، قد وضعت الجيوش
العربية في الموضع “الدفاعي” الذي وجدت نفسها فيه . إنما هذا جانب واحد من
جوانب فرضية الاحتمالات، المرجحة على أية حال . فهناك جانب آخر وإن بقي
مستفيداً من الغموض الذي مازال يلفه رغم وجود بعض المؤشرات الحسية وغير
الحسية التي تُرجح امكانية حدوثه . الفرضية تتعلق بهدف استراتيجي وآخر
مرحلي . أما المرحلي فيتمثل في إشغال واستنزاف جيوش الدول العربية المركزية
واستهلاكها، لاسيما منها ما تُسمى بدول الطوق . وأما الاستراتيجي فيتمثل
في تحويل بلدانها إلى دول شبه فاشلة من الناحية العملية حتى من دون
الاضطرار “لتتويجها بهذا اللقب” “بفضل” الفوضى العارمة التي “ترفل” بها .