المنشور

برنارد لويس وأردوغان



حين
أعلن بعض أركان الإدارة الأمريكية أن “بلادهم تتابع عن كثب ما يجري في
تركيا”، في حين أن لسان حالهم ينقل عن سريرتهم “متابعتهم المقرونة بقلق
بالغ”، ما بدا لأول وهلة تحرك جماهيري محدود ضد محاولة حكومة رجب طيب
أردوغان التطاول على أحد رموز الدولة المدنية الحديثة التي أشادها مؤسس
تركيا المعاصرة مصطفى أتاتورك، تذكرت الردود المتشنجة التي قابل بها رئيس
الوزراء التركي أردوغان تعبير “الإسلام المعتدل” الذي استخدمته عضوة
الكونغرس الأمريكي جين هارمان للتفريق بينه وبين الإسلام المتشدد، ورده
الغاضب أيضاً على المفكر الأمريكي المتخصص في الشؤون الإسلامية برنارد لويس
– وهو بالمناسبة أحد أقطاب تيار المحافظين الجدد – حين استخدم تعبير
“الإرهاب الإسلامي” وقتها، رد رئيس الحكومة التركي على ذلك بالقول ليس هناك
إسلام معتدل وإسلام متطرف وإنما هناك إسلام وحسب . ولكنه استدرك في الوقت
نفسه وأكد “بأننا في تركيا نسلك طريقاً وسطاً” . 


كان
ذلك خلال مشاركته في ندوة حوارية عُقدت حول الشرق الأوسط في أكاديمية
الإنجاز في شيكاغو في يونيو من العام ،2004 أي بعد عامين من وصول حزب
العدالة والتنمية الذي يتزعمه إلى السلطة في العام 2002 .


ولكن
يبدو أن مثابرة حزب العدالة والتنمية التركي على محاولة إقناع رعاة
التيارات الأيديولوجية الأساسية ذات النفوذ والتوجيه الصريحين في النظام
السياسي المؤسسي الأمريكي، لاسيما تيار المحافظين الجدد ومراكز خزاناته
الفكرية، بتغيير موقفها المتشكك من حركة الإخوان المسلمين وممثلها الصاعد
نجمه آنذاك في الحياة السياسية التركية، حزب العدالة والتنمية، وهي التي لم
تكن تثق يوماً إلا في ورثة أتاتورك من الأحزاب العلمانية التركية، قد
تكللت بالنجاح، حيث حاز الحكم الإخواني التركي الجديد ثقة حلفاء تركيا في
الغرب بعد أن تثبتوا من إقرانهم القول بالفعل، فحازوا ثقة الأجنحة الأقل
أيديولوجية (من برنارد لويس على سبيل المثال)، والأكثر براغماتية في
التيارات المحافظة في أمريكا وأوروبا،  قبل أن يتطور هذا التوجه الغالب إلى قناعة أكثر  تماسكاً
بإمكان تحويل تركيا/حزب العدالة والتنمية الإخواني، إلى رهان ناجح لشرق
أوسط أكثر اندماجاً في البوتقة الاقتصادية والثقافية المنفتحة على قيم
وقواعد لعبة الليبرالية الجديدة .


وبالفعل
نجح أردوغان ورفاقه في حزب العدالة والتنمية في ما كان عجز عنه سلفه في
الحزب، الراحل نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه ورئيس وزراء تركيا خلال
الفترة من 1996 و،1997 ورجائي كوتان زعيم حزب الفضيلة، حيث راح بشكل تدريجي
“يقصقص” أجنحة الجيش، عماد الدولة الأتاتوركية، مستفيداً من المعايير
والمتطلبات التي وضعها الاتحاد الأوروبي شرطاً للبت في طلب عضويتها فيه،
ويزحف على مؤسسات الدولة، مستفيداً من ديناميكية عمل كوادر حزبه، حزب
العدالة والتنمية، ومن الحراك الاقتصادي النشط الذي وفره الاستقرار السياسي
للبلاد على مدى العشرية الأخيرة، قبل أن يتحول خارجياً للعب دور ريادي في
منطقة الشرق الأوسط . وكان من الطبيعي أن تحجب كل هذه الإنجازات الباهرة،
الرؤية عن النزعة الشمولية التي بدأت تكسو وجه الحكومة التركية ورئيسها رجب
طيب أردوغان، خصوصاً في ما خص علاقتهما بالمعارضة والصحافة المستقلة
ونشطاء منظمات المجتمع المدني .


ولوهلة
بدا وكأن الأمور تسير حسبما خُطط لها، حيث نجح حزب العدالة والتنمية في
“تأمين” منصب رئاسة الوزراء، وبقي عليه حجز وتأمين منصب الرئاسة لأردوغان
للفوز به في انتخابات الرئاسة العام المقبل بعد إدخال تعديلات دستورية تحيل
بعض صلاحيات رئاسة الحكومة إلى رئاسة الدولة . ولكن الاندلاع المفاجئ
للاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة ورئيسها في الحادي والثلاثين من مايو/أيار
الماضي، ربما ألقى بظلال الشك على إمكان تحقّق هذا المراد .


وكما
يقال، فإن غلطة الشاطر بألف، فلقد وجه أردوغان نعوتاً نابية إلى المحتجين
بدلاً من استيعاب غضبتهم، وأهان رمز تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك
بوصفه إياه بالمخمور، غير عابئ بمعرفة الناس بأن هدفه من وراء هدم متنزه
غيزي ومعه مركز أتاتورك في ميدان تقسيم، إقامة مجمع تجاري مكانهما، وأن
الشركة المنفذة للمشروع هي شركة “غاليك هولندينغ غاليك” التي يشغل فيها
صهره “بيرات البيرق” منصب رئيسها التنفيذي، وأنه قرر إطلاق اسم السلطان
العثماني سليم الأول، المعجب به على جسر على مضيق البوسفور .


لقد
اختار أردوغان أسلوب دولة الشرق الاستبدادية في التعامل مع السخط الشعبي
العارم الذي بات يحاصر سياسات حزبه المنحازة علانية إلى مصلحة القوى
المرتبطة بحكم حزب العدالة والتنمية الإخواني، تماماً كما فعلت مراكز القوى
السياسية والأمنية في إيران إبان الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اندلعت
على خلفية شبهة التزوير التي شابت إعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد لفترة
رئاسية ثانية في العام 2009 . 


وربما
حالفه الحظ، كما حالف الإيرانيين، في تجاوز هذا التهديد النوعي الخطر
لحكمه، إلا أن الأكيد أن حكم الإخوان في تركيا بدأ يترنح، وأن البيئة
السياسية والاجتماعية التركية المتغايرة عن البيئة الإيرانية، ستجعل من
الصعب على أردوغان تجاوز محنة المعارضة لاستمراره في الحكم، بسهولة، بغض
النظر عن الدعم السياسي والإعلامي الذي تلقته حكومته من حلفائها الأمريكيين
والأوروبيين الذين يرجحون أهمية دور تركيا في الملفات الإقليمية التي
يركزون عليها، على “سفسطات” برنارد لويس ونبوءاته بشأن ما اعتبره في العام
2004 خرافة مزاعم أردوغان عن الطريق الوسط الذي تسلكه تركيا حزب العدالة
والتنمية الإخواني .