المنشور

مأساة وطني البحرين – يعقوب سيادي

مأساة الوطن، أنه كما الوجبة، حين يتنازعها الجياع، تتهشم قبل بلوغها
الأفواه، فلا هي سادّةً جوعاً، ولا هي سالمة من شر أيادي العبث، خصوصاً
حينما يتكشف الوطن، عبر ترهل الأجهزة الإدارية، على مختلف مستوياتها، فترى
المسئول، كبيراً أو صغيراً، محاطاً بمطأطئي الرؤوس، فيطرب بعلوه وشموخه،
إلى درجة أنه لو سمع حرفاً جريئاً، ضحك كل من حوله، واستجاب هو بالقهقهة،
وانتهى الأمر، بجعل ذاك الجريء مهرّجاً، مما يجعل ذاك النصوح، في محل
ازدراء الذات، فإما القطع بالخروج من دائرة عطف الحاكم، وإما الانغماس،
فيستحيل هو الآخر مطأطئ الرأس، وهكذا دواليك، فتتعاظم دائرة المسئول،
بأمثال هؤلاء، المقتاتين على فضلات الموائد، الأمر الذي يباعد ما بينه وما
بين عامة الناس.

وهكذا تترهل أجهزة الدولة، ليس ما بين ليلة وضحاها،
ولكن عبر عقود من سوء الإدارة، وعدم الاتعاظ من التجارب، ما يجعل دائرة
الترهل تتسع، وتنتشر في كل مفاصل إدارة الدولة، فيكون هناك المسئول ومطأطئي
الرؤوس، في كل وزارة وهيئة وتفرعاتها من الإدارات، فتتسع إدارة الدولة،
لقلةٍ من المتنفذين وكثرةٍ من التابعين.

فتعم فوضى إدارة الدولة،
ويقوم على مسئولياتها من هم دون مستواها العلمي والمهني والضميري، مقابل
معيار التبعية، فتبدأ التناقضات المجتمعية ما بين أفراد نظام الدولة، وهم
قلةٌ مقابل سواد الشعب، وما بين الجموع الشعبية المتضررة، جراء ترهل إدارة
الدولة، وهم بتعداد آلاف المرات من أفراد النظام.

وقد يتفوق أفراد
نظام الدولة إلى حين، من حيث التوافق على المنافع الآنية، وعبر هيمنتهم على
مقدرات الدولة المالية والهيكلية، والأجهزة، ولكن مع الوقت، تبدأ الرؤوس
في التنافس على الاستحواذ، وترتسم خريطة متجددة لواقع أصحاب النفوذ، ما
يجعل المتنفذين في خوف وهلع من بعضهم، ليبدأ كل منهم في بناء قلاعه بعيداً
عن الآخر، خصوصاً أن كلهم يعرفون عن كلِّهم مفاسدهم، سواءً مفاسد السرقات
أو المفاسد الأخرى، ومن حيث تعاظم المتضررين من الفئات الشعبية، وعبر توارث
الأجيال المظالم، بحيث لم يعد هناك متسع لاتكال السلطات عليهم، فيبدأ
استجلاب الغرباء ليوظفوهم في أجهزة الدولة، فتزيد الطامة طامات.

وتغدو
الحال غير قابلة للتراجع، وإصلاح ذات البين، فتَعْمَد السلطات إلى ما قبل
الأخير من أسلحتها، بزرع الفتنة بين مكونات المجتمع، سواءً الإثنية
الأصولية أو الدينية أو الطائفية الاجتماعية أو حتى الطبقية، من خلال
التحريض والتشويه والتخوين، ليتناول بعضها الآخر بالسوء اللفظي بالإعابة في
البدء، ومن ثم إطلاق العنان للموتورين والمأجورين وبعض من العاملين في
أجهزة الدولة، لارتكاب بعض الاعتداءات هنا وهناك، بقصد بث الرعب والخوف لدى
جميع الأطراف، الخوف من الطرف المعتدي بالفعل الجرمي، والخوف لدى جماعات
الأطراف المعتدية من احتمالات ردة الفعل من قبل الأطراف المعتدى عليها،
ليعيش الجميع في وجل من احتمالات العنف والعنف المقابل، في حين تنشر نقاط
التفتيش في شتى شوارع البلاد، وشن حملات الاعتقالات والتعذيب في السجون.
ولإشاعة الفزع الأكبر، تلجأ السلطات إلى القتل في الشوارع وداخل السجون،
لينكفئ عامة الناس، ضعاف النفوس في ديارهم، ويَشْجَع الموتورون من
المحسوبين على السلطات، في التمادي في جرمهم، وخصوصاً في ظل سياسة الإفلات
من العقاب.

هذه المرحلة المتقدمة من الانفصال عن الشعب، حين يواكبها
استمرار المطالب الشعبية، رغم كل إجراءات السلطات، تعيد رسم الخريطة
المجتمعية إلى فرز الجماعات ما بين موالين مستفيدين من استمرار الوضع
المتردي القائم، في أوجهه الأمنية والحقوقية والقانونية والاقتصادية، وإلى
الجماعات المعارضة والمطالبة بالتغيير، وإلى ما بينهما من جماعات متضررة من
استمرار الأوضاع المتدهورة، ولكنها في حيرة من أمرها إلى درجة الاندهاش
والجمود. ولكن تبات الخريطة الاجتماعية والسياسية واضحة المعالم، ما بين
جماعتين لا ثالث لهما، أقلية محسوبة على النظام، وغالبية شعبية معارضة
ناشطة وخاملة.

وعادةً، ببلوغ هذه المرحلة، تقود المعارضة إلى تغير
النهج الإستراتيجي، إلا أن السلطات استبقت ذلك بالتلميح إلى انشاء مليشيات
شعبية، تحمل بطاقات هوية تمنحها سلطة القبض والحبس ومن ثم التسليم إلى شرطة
الأمن، في محاولةٍ غير موفقة لجس الخريطة السياسية لتتبين مدى شعبيتها،
وفي حال اطمأنت لغلبتها، تفتح المجال لتابعيها أن يعيثوا في البلاد فساداً.
وقد خصت بهذه المحاولة مدينة المحرق (وما أدراك ما مدينة المحرق )، من بعد
تفريخ الجماعات الموالية، لظنّها وربما لخداعها من قِبلهم ومن قِبل
عناصرها في المجلس البلدي، أنهم قادرون على جمع أهالي المحرق في مثل هذه
المليشيات، وجاءهم الرد الوطني الواعي من قبل غالبية أهالي المحرق،
والمناطق الأخرى بمساحة كامل الوطن، وقد كان مرسوماً سلفاً، في حالة فشل
هذه المحاولة، أن تُسحب عبر البيانات الرسمية وغير الرسمية، على أن الناس
«فهمت غلط».

وهكذا تصل مأساة الوطن إلى مراحلها المتقدمة، فما هو
القادم من قبل المعارضة الوطنية، ومن قبل مؤسسات المجتمع المدني والجموع
الشعبية، ومن قبل منظمات الأمم المتحدة.