المنشور

حساب الأرباح والخسائر في “الربيع العربي”



بجردة
حساب للعائد والتكاليف هل نملك حرية – وقبل الحرية – حق التساؤل عن الجدوى
من إطلاق (أو انطلاق) ما خلع عليه تسمية “الربيع العربي”، وذلك في ضوء ما
جنيناه، حتى الآن، من حصاد أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه حصاد لا يختلف
اثنان على أنه مخيب للآمال، على الأقل بحسبان حلول الفوضى العارمة محل
“النظام” الذي كان سائداً إلى ما قبل اندلاع الموجة، بعيداً من الجدل بشأن
كل سوءات الحالة الاستبدادية المطاحة؟


قد
يجادل البعض بأن من غير الحصافة بمكان استخدام أدوات القياس والتحليل
الخاصة بعمل الاقتصاد (حساب العائد والتكاليف، و”جدوى مشروع” التغيير على
سبيل التحديد)، في السياسة وعلم السكان ودراسة المجتمعات . وهو مذهب منهجي
محافظ وإن بدا منطقياً للوهلة الأولى، اعتباراً بأن للسياسة منطقها الخاص
الذي قد لا يتقاطع مع المناهج الدراسية والتحليلية للعلوم الاجتماعية
الأخرى، رغماً عن أنها – أي السياسة – تمثل أحد الأعمدة الأساسية للعلوم
الاجتماعية .


في
هذه الإشكالية، المحتاجة واقعاً إلى تفكيك لحل عقدتها، ربما انقسم
المتجادلون بشأنها إلى فريقين، وربما أكثر إذا ما خرج الجدل عن إطاره
المدرسي الجامد . خصوصاً أن السياسة كأداة إدارية كليّة هي أقرب إلى
الاستخدام الميكافيلي النفعي والبراغماتي المنتِج (بكسر التاء) والسريع
“المفعول” . ولأنها كذلك فهي تنطوي بالضرورة على حسابات الربح والخسارة
التي لابد لممارسيها الاعتياديين، وكذلك لمستخدميها الطارئين، أن يضعوها
نصب أعينهم .


ومع
ذلك قد يجادل البعض بأن مقاربة كهذه هي من جنس التدبير السلوكي الذي تختص
به خزانات الأفكار ومراكز الأبحاث والدراسات التي تقدم مشورتها لمختلف جهات
التسيير المجتمعية، وللأجهزة القيادية في التنظيمات والحركات العاملة في
الحقل الإداري السياسي الكلي للمجتمعات . أما هذا الذي حدث والمسمى بالربيع
العربي، فقد قام به شباب تحت وطء وضغط زفرة المخنوق ظلماً وتهميشاً! . .
ونرد ونقول إن حساب الأرباح والخسائر حساب ختامي يَجْرِدُ حصاد اليوم أو
الشهر أو  السنة (عادة سنة)، وهو
يختلف عن دراسة جدوى “المغامرة” الاستثمارية في الأعمال بجميع أنواعها
ومنها الأعمال الحربية التي هي استمرار للسياسة بأدوات أخرى . وبهذا المعنى
فإن في الوسع عمل كشف لحساب العائد والتكاليف (الأرباح والخسائر) يسجل
ويؤرخ للنتائج الإيجابية والسلبية المتحصلة عربياً، على الصعيدين الخاص
(الوطني) والعام (العربي الشامل)، قياساً لما كان قائماً قبل “انقلاب
الصورة”، وذلك على النحو الآتي:


(1)
في الجانب الإيجابي (العائد) من كشف الحساب سنجد اكتشاف الشباب العربي
لطاقته التغييرية وتعرفه إلى مكامنها ومصادرها المختلفة، وهو ما شكّل
العامل الحاسم في ضع حد للوضع الاستاتيكي (الجامد) لنظام الإدارة الكلية
الشمولي، وسمح بتبلور وبروز ثقافة الاحتجاج على الأوضاع الخاطئة والفاسدة .


(2)
ما حدث أرسل رسائل قوية مفادها أن لا مناص من مواكبة التحولات الاقتصادية
والاجتماعية بتحولات وتغييرات موازية في البنى الفوقية، لتفادي وصول التضاد
بين البنائين الفوقي والتحتي إلى نقطة الارتطام .


(3)
وقبل هذا، فإن ما حدث قد أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن العصر غير العصر،
أي أن عصر الحكومات الزجرية في إدارتها المجتمعية قد أفسح في المجال لعصر
الشعوب التي تريد أن ترى نفسها وترى مصالحها مُتجسّدة في كل ما يتعلق
بمصيرها .


بالمقابل سوف نجد في الجانب السلبي (التكاليف) من كشف الحساب ما يلي:


(1)
استغلال تنظيمات الإسلام السياسي هذه الفرصة التاريخية لقطف ثمارها والقفز
إلى السلطة، مستفيدة من أن القوى الاجتماعية التي صنعت التغيير لا تتوافر
على عنصر التنظيم والخبرة الإدارية السياسية . فكان أن حلت قوى في السلطة
هي أقرب إلى الشمولية الثيوقراطية، وإلى بعض منازل الفاشية .


(2) حلول الفوضى السياسية  الاقتصادية  الاجتماعية
والثقافية، محل حالة الهدوء والاستقرار والنظام التي كانت سائدة قبل
انقلاب الصورة، بعيداً من كل التوصيفات التي نعرفها عن الحالة .


(3)
انفجار الهويات، لاسيما الهويات المذهبية، على نحو مخيف، يهدد بردة حضارية
إلى مناخات العصور الغابرة، واستحضار وانفلات العصبيات على المجهول .


حتى ثقافة الاحتجاج على الأوضاع الخاطئة والفاسدة، تبدو غير منضبطة، بقدر ما هي عشوائية ومنفلتة .


بهذه
الجردة الملخصة لكشف حساب العائد والتكاليف لما صار يحمل مسمى “الربيع
العربي”، ربما خرج الواحد منا باستنتاج منها مفاده “رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه”، وذلك بالنظر إلى التكلفة الباهظة “لعملية” التغيير
.


إنما
بالمقابل، فإن تغييراً بهذا المستوى المرجو من العائد يتطلب – بحسب المنطق
الاقتصادي نفسه، “مخاطرة أكبر . . عوائد أجزى” – دفع ثمنه الذي قد يبدو
باهظاً . وبما أن هذا النوع من التغيير ينتمي إلى ذلك النوع من “الاستثمار
طويل الأجل”، فإن من المبكر عمل حساب دقيق لعوائده قبل استكمال مفعول
“عملية الاستثمار” دورتها .