المنشور

العسكرة هل هي قدر الحراك الشعبي العربي؟



هل هو طور تاريخي مرحلي فرضته الظروف الموضوعية والذاتية لا مناص أمام المجتمعات العربية سوى عبوره وتجرع آلام نتائجه الكارثية؟


بهذا
التساؤل المقلق كنا قد أنهينا مقال الأسبوع الماضي حول ظاهرة “ازدهار سوق”
العسكرة في صفوف عديد القوى الاجتماعية التي دفع بها إلى السطح تيار نزعة
الانتفاض الشبابي على الأوضاع التي ظلت راكدة في عالمنا العربي طوال ما
يقارب النصف قرن .


مع
انه سيناريو مرعب لمرئيات مستقبلنا في القريب المعجل أجله، إلا أن أحداً
لا يستطيع إغماض عينيه عن شواهده الشاخصة أمام الجميع حيثما ولوا أبصارهم .


فلكأنه
المآل الحتمي الذي لابد أن تصل إليه خواتيم تقيحات عوارض أمراضنا
المجتمعية المهملة طويلاً، مدفوعة بطبيعة الحال بعوامل هي أصلاً من صنيعة
النسيج الواقعي المعقد الذي شكلته تراكمياً التركيبة الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والنفسية للبيئات العربية .


نعم هنالك ظروف موضوعية وظروف ذاتية، يمكن وصفها بالبنيوية  هي
التي تُعَظم من فرص الارتداد إلى الوراء، وصولاً حتى للعصور الغابرة ذات
المستوى الخفيض للأنسنة، حيث لم يكن مستوى التحضر السائد آنذاك يتيح المجال
الحيوي للإعلاء من قيمة الكائن الإنساني، خصوصاً لأولئك الواقعين على هامش
السيادة الذكورية الكاسحة (الطفولة والمجتمع الأنثوي تحديداً) .


أبرز
هذه العوامل الموضوعية وأخطرها على الإطلاق هو السخط الاجتماعي العارم
الذي تركته أنظمة حكم الأمر الواقع يتراكم ويتسع نطاقه، وصولاً لدرجة
الغليان وانفجار فقاعته . ومقياس تراكم هذا السخط هو البون الشاسع كمياً
بين من يحوزون الثروة ومن هم على هامش وسائل العيش الأساسية وهي هنا المسكن
والمأكل والملبس . وفي مجتمع لم يحظ بجهود تأهيل معتبرة لترشيد فعاليات
معارضة أفراده واحتجاجاتهم ضد تدهور وسوء أحوالهم الحياتية في ظل افتقاد
“سيستم المؤسسة” لآليات تنفيس دورية للاحتقانات قبل تموجها واحتقانها،
فيكون المآل في هذه الحال النزوع للعنف المؤذن بالعسكرة .


وهنالك
العوامل الذاتية التي نزعم أن أبرزها وأخطرها، أيضاً، وعلى الإطلاق، وجود
بيئة حاضنة لثقافة الإقصاء المادي والمعنوي مستقرة في الوعي الجمعي، وإن
عملت التحولات الحضارية الكونية الكبرى على تدجينها، إلا أنها بقيت تقاوم
مثل هذه الإفرازات الطبيعية للعصرنة وإن اكتفت بدور “الخلايا النائمة”
سبيلاً لتأمين استمرار صراع بقائها . وهي بقيت محافظة على طبيعتها المسهدة،
نزولاً عند مقتضيات التكيف مع البيئة “الطاردة”، إلا أنها كانت دوماً،
وعبر كل العصور التي تعاقبت عليها، ترسل من الإشارات والتعابير اللفظية،
والحسية أحياناً، ما يدلل على ممانعتها الأصيلة لكل المستجدات الحياتية
المعاصرة . ولما وجدت أن المستجدات الحياتية الارتدادية أصبحت، بفضل بيئة
الوعي والثقافة الحاضنة إياها، أكثر إسعافاً لها، لم تتردد في التكشير عن
أنيابها الحادة والتعبير عن نواياها في غرس تلك الأنياب في أجساد كل من لا
يوافق هواها بعنف لا حدود له .


وبهذا
المعنى، فإن العنف المندس بكامل مكونه الخادع بين ثنايا لا وعينا والمؤهل
للتحول في اللحظة التاريخية التي تقررها شروط التطور أو الارتداد
الموضوعية، له جذوره الضاربة عميقاً في موروثات المكون الثقافي والنسق
الابستمولوجي المخزن في الذاكرة المعرفية الجمعية .


وتدليلاً
على هذا التداعي المنهجي لمآل العسكرة المحتوم، كنتيجة لكل ذلك العنف
الثقافي الإقصائي، يمكن الإحالة إلى الصور البشعة من العنف والجرائم التي
تسم الموجة الراهنة من العسكرة المندسة تحت عباءة “الربيع العربي” التي
تطغى عليها الحركات الإسلامية المتطرفة، التي شملت محاصرة بلدات وأحياء
بكاملها وارتكاب مجازر بحق ساكنيها الآمنين وتهجيرهم من ديارهم، فقط لأنهم
ينتمون للملل والنحل الأخرى . . حتى تحولت عسكرة التمرد إلى حروب دموية
وتدميرية شبيهة بحروب الوحشية الأولى التي تندلع في إفريقيا السمراء بين
فترة وأخرى بين القبائل الإفريقية المتناحرة والمتنازعة النفوذ في أوطانها .


كل
الظروف إذاً مهيأة لترجمة جهود العسكرة المحلية والإقليمية والدولية
الجبارة إلى حروب صغيرة ولكن جسورة ومتمددة، وقودها النفخ في غرائز الأحقاد
والكراهية والبغضاء، تعميقاً للفتن وإشعالاً لحرائقها .