المنشور

غطرسة التقدم



لو راقبنا رسوم طفل لم تشوهه بعد المدرسة الابتدائية التي تحد من ذكاء الأطفال عموماً، لرأينا أنها تشبه إلى حدٍ غريب لوحات “جان ميرو” أو “مارك شاغال”، والأول رسام إسباني سريالي توفي عام ،1983 والثاني رسام فرنسي ولد في روسيا، توفي عام 1985 وكان من أوائل من بشروا بالسريالية .


أما العبارة الساخرة أعلاه فتعود للروائي والرسام الأرجنتيني إرنستو ساباتو في معرض نفيه لفكرة أن الفن يتقدم التي يراها فكرة بائسة روجتها المدارس الفلسفية التفاؤلية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وظلت محتفظة بقوة الدفع التي كانت عليها حتى القرن العشرين .


يقول ساباتو إنه وجد في مجلة ألمانية فنية حديثة رسماً لديك، كان من رسمه يدعى مولر، ويبدو، حسب الكاتب، أنه انتحله من بيكاسو . إلى هنا يبدو الأمر منطقياً، لكن الرجل يذهب إلى ما هو أبعد حين يقول إن بيكاسو نفسه كان قد انتحله وادعاه لنفسه، بينما كان من إبداع أحد السود المساكين في إفريقيا الوسطى، وهو الوحيد الذي لم يكسب دولارات من المسألة .


ومن هذه الفكرة ينطلق ساباتو للقول إن جزءاً كبيراً من فن عصرنا هو عودة إلى فن الشعوب التي يدعونها بدائية وحتى “متوحشة”: “ما الذي يشبه رسم فنان كبير من هذا العصر أكثر من تلك الرسوم السحرية التي تظهر في كهوف “التاميرا” التي تقع في شمال إسبانيا واكتشفت في القرن التاسع عشر، وهي مزينة برسوم جدارية صخرية مزخرفة بألوان عدة، تمثل صوراً واقعية لحيوانات كالغزال والحصان” .


في الفكر الخالص وفي العلوم هناك دائماً تقدم . إن رياضيات “آينشتاين” تتفوق على رياضيات أرخميدس . لكن الشخصيات الروائية اليوم ليست بالضرورة متقدمة على شخصيات الملاحم القديمة . ليس الموسيقيون الذين أتوا بعد بيتهوفن هم بالضرورة أكثر تقدماً منه، لأنهم أتوا بعده . هذا الفهم، يرى أرنستو ساباتو نفسه، ينطبق على تمثال من عصر رمسيس الثاني، من تلك التماثيل الجامدة، الغامضة، الهائلة . 


وهو هنا يسخر من “الغطرسة الأوروبية التقدمية”، فالمصريون، مثلاً، وعلى خلاف ما يذهب الأوروبيون كانوا ينحتون فراعنتهم الأموات بهذا الشكل الهندسي والمجرد، لأن الواقع الحقيقي بالنسبة إليهم، لم يكن هذا العالم العابر، عالم الأنهار والأحصنة التي تجري، وأجسامنا التي تهرم وتموت، وإنما واقع ما بعد الموت، ولذا بلغ فنهم ذلك الشأو الذي بلغه والذي لا يتكرر .