المنشور

وحش العسكرة الكاسر



لدقة
الموضوع وخطورته، سوف تبدو شروحات مقدماته ضرباً من السفسطة المذمومة .
وهذا ما يدعونا إلى الولوج فيه مباشرة، مبتدئين بالتحذير من أن شبح وحش
العسكرة الكاسر الذي طالما حذرنا من إطلالة رأسه المرعبة، يكاد اليوم يطبق
بالكامل على مصائر عديد مجتمعاتنا العربية بعد أن “نجح” في اجتياز “بوابات”
مدنها الآمنة، وراح يتنقل بحرية وفي رابعة النهار بين أحيائها وأزقتها
معلناً عن نفسه كحقيقة واقعة ليس ممكناً بعد اليوم، وإلى أمد غير معلوم،
تجاهلها حين التفكير في النفق المظلم الذي أُدخلت تلك المجتمعات العربية
فيه وكيفية إخراجها منه .


“بروفة”
العسكرة انطلقت من الجزائر على أيدي جبهة الإنقاذ الوطني الجزائرية (إخوان
مسلمين)، بزعامة عباسي مدني ونائبه علي بالحاج وحلفائها من الجماعات
الإسلامية السلفية التكفيرية، حيث تحولت الجزائر منذ عام 1992 وعلى مدى
أكثر من خمسة عشر عاماً إلى مسلخ لا يكاد يمر يوم منها من دون ذبح وقتل
همجي . ولكن الجيش الجزائري ظل متماسكاً خلال حربه ضد المجموعات الإرهابية،
وتمكن بفضل ريوع النفط والغاز من الصمود في حرب الاستنزاف التي أراد
الإرهابيون بواسطتها تدمير بنية البلاد الأساسية وكل ما ينتمي فيها إلى
الحضارة المعاصرة، وإعادتها إلى “أحضان” العصر الجاهلي الطالباني .


“سنعيد
العراق إلى العصر الحجري” عبارة تفوه بها جيمس بيكر وزير الخارجية
الأمريكية إبان ولاية جورج بوش الأب في تلك البرهة الزمنية القصيرة في
القاعة الضيقة لأحد فنادق جنيف حين التقى طارق عزيز وزير خارجية العراق
آنذاك، وسلّمه رسالة الإنذار الشهيرة التي تركها الوزير العراقي ملقاة على
الطاولة . وكان ذلك عشية انطلاق الطائرات والصواريخ الأمريكية والأطلسية
لتدمر العراق فجر السادس عشر من يناير/كانون ثاني 1991 . فكانت الفوضى
وكانت العسكرة أداتي تأمين هذا الهدف .


واليوم
فإن العسكرة هي الحقيقة الأكثر نصاعة والأكثر حضوراً – وطغياناً إن شئتم-
في المجتمعات التي أصابها “الربيع العربي”، من تونس إلى مصر . . إلى ليبيا .
. إلى سوريا . . إلى اليمن . فلقد تحول السلاح إلى أداة “القول الفصل” في
فض الاحتراب الذي نشب بين أفرقاء بقايا الأنظمة المُطاحة، التي عرفت كيف
“تبعثر تخندقها البديع” داخل مفاصل الدولة، وبين “العشوائيات” الحزبية التي
رفعها القدر فجأة إلى سدة الحكم، وأفرقاء عملية التغيير أنفسهم بالإجمال .
. بعد أن تم إسقاط كل الروادع الدينية والأخلاقية والإنسانية والمناقبيات
الوطنية والحضارية المتكرسة على مدى التاريخ .


والغريب
أن هذا الارتداد الحضاري المريع، بحسبان التدمير الهائل للنسل والحرث
والحجر الذي أحدثته وتحدثه العسكرة، يحظى برعاية كاملة وتشجيع ودعم قوى
الحضارة الغربية، ونواتها المركزية تحديداً، التي لم تجد غضاضة إطلاقاً في
الدفع المحموم والعلني بخيار العسكرة وتوفير السلاح والعتاد لقوى العسكرة .


وهنا
مكمن الخطورة، “فانفجار”الهويات والعصبيات على النحو المخيف وغير المسبوق
في التاريخ العربي الحديث، والذي وجد الطريق معبدةً أمامه في الداخل العربي
. . من بيئة حاضنة، وتشكيلات تحزبية مؤطرة وشبه مؤطرة مهيأة للتحول في أية
لحظة من فضائها التنظيري التكفيري والإلغائي إلى فضاء ترجمة هذا النظر إلى
واقع، عوضاً عن أن يجد في الفضاء الدولي ما يكبحه، فإنه وجد في هذا الفضاء
للأسف الشديد التشجيع والدعم السياسي والمادي . فلطالما كان الاقتتال
الأهلي مقاربةً مثالية للقوى الغربية للدخول على خطوط أزماتنا والتدخل في
شؤوننا بما يحقق مراميها ومصالحها .


ولما
كان انفجار- أو بالأحرى تفجير- الهويات والعصبيات عامّاً وشاملاً، فإن
العسكرة لم تقتصر على بلدان “الربيع العربي”، فها هو لبنان يتدحرج على
برميل بارود قابل للاشتعال في أية لحظة . ولعله النموذج الأسطع لملابسات
ظاهرة “النشوء والارتقاء” لحالة العسكرة من شكلها الجنيني البدائي إلى
شكلها الميليشياوي المجهز تسليحياً ومالياً وتدريباً رفيعاً . . وهي عسكرة
لا يبدو أن هناك من مخزون العقل والحكمة ما يكفي لتجنبها وتجنب الكارثة
اللائحة في الأفق المتلبد بغيومها السود، والتي تتحرق “إسرائيل” إلى لحظة
“كهربتها” وانجلاء غيثها عن حالة لا تُبقي حجراً على حجر في الوطن اللبناني
.


إنها
العسكرة المجنونة التي تبدو الرهانات فيها على العقل الوازن الذي تمثله
نسبة ال 50% من غير الأميين والجهلة، ساذجة إلى حد كبير، وذلك أخذاً بعين
الاعتبار أنها لا تعدو أن تكون كتلة صامتة متشظية ومتوزعة على طوائف
وقوميات وأعراق غير آمنة على مستقبلها في ضوء الاستهدافات الواضحة والفادحة
لها ولحرماتها الدينية وممتلكاتها من جانب العسكرة المتوحشة .


هل هو طور تاريخي مرحلي فرضته الظروف الموضوعية والذاتية لا مناص أمام المجتمعات العربية سوى عبوره وتجرع آلام نتائجه الكارثية؟