المنشور

“الميديا” تُفكر بالنيابة عنا


“الميديا” المعاصرة لا تقول لنا، وهي تخاطبنا ليلاً ونهاراً، كيف يجب أن نفكر، وإنما تقول لنا تحديداً بماذا يجب علينا أن نفكر . هي تخترع لنا الموضوعات والاهتمامات، وهي قادرة بحكم ما لديها من سطوة على أفكارنا ومجمل نمط حياتنا أن تجعل هذه الموضوعات والاهتمامات شغلنا الشاغل، ليس بوسعنا أن نفرض نحن الحدث على هذه “الميديا”، بل بالعكس هي التي “تصنع” الحدث، ثم تجعله مقرراً علينا ولا فكاك لنا منه، لأننا حتى لو كنا في أبراج مشيدة فإن هذه الميديا قادرة على ملاحقتنا ونحن في غرف نومنا .

و”الميديا” لا تصنع ذلك لأنها تريده بالضبط، وإنما لأنها تشكل جزءاً من منظومة اختارت لها هذه المهمة، الإعلام حسب عالم الاجتماع الفرنسي بورديار، أصبح ضحية للنظام الإعلامي، فليس بوسع أداة إعلامية إذا أرادت أن تكون مغايرة أن تصبح كذلك بالسهولة التي يتوخاها القائمون عليها، لأنها لا يمكن أن تعمل خارج ال”سيستم” القائم الذي لايطيق أن يخرج أحد عن إجماعه .

مهمة هذا ال”سيستم” هو خلق الإجماع بين الأفراد والمؤسسات المنضوية تحته ثم فرض الإجماع على مجمل الفضاء العام الذي يغطي مساحة شاسعة هي مساحة المجتمع، أو مساحة ما يعرف بالرأي العام، لأن بوسع النظام الإعلامي أن يكيف هذا الرأي العام وفق ما يشتهي .

في مجتمعات هشّة مثل مجتمعنا العربي، تبدو فيها فكرة الرأي العام فكرة هلامية، رجراجة، على قدر كبير من السيولة والزئبقية، حيث لا يحتكم الرأي العام إلى مؤسسات حزبية حديثة، ولا إلى مؤسسات راسخة للمجتمع المدني قادرة على التأثير الذي يُعول عليه، يصبح هذا الرأي العام أسيراً للمتلاعبين به، خاصة مع هذا الالتباس الشديد في الولاءات التي ماتزال، في جوهرها، ولاءات تقليدية، تٌغلّب الانتساب إلى الطائفة والمذهب والعشيرة وسواها من “تنظيمات”، على أشكال التضامن الحديثة من نقابات وجمعيات وأحزاب وسواها .

لهذا السبب يبدو كثير من المفاهيم المتداولة كالمجتمع المدني مثلاً أو الرأي العام أو سواها في ظروفنا الملموسة مفاهيم مخاتلة، أو ملتبسة، أو فلنقل إنها لاتحمل المعنى نفسه الذي يمكن أن تعبر عنه عندما تستخدم في مجتمعات أخرى بلغت مدى أبعد وأعمق من الفرز السياسي والتبلور الاجتماعي، ومن شأن هذا أن يجعلنا، في تفكيرنا، رهناً للقوة السحرية ل”الميديا” التي تفكر بالنيابة عنا .